06 من حديث (انكسرت إحدى زندي فسألت رسول الله ﷺ فأمرني أن أمسح على الجبائر)

س: إذا كانت الأرضُ مبلطةً ومفروشةً في البلد، لكن يستطيع أن يأتي بالتراب من خارج البلد؟

ج: من الشارع، ما هو كل شيء محكوم بنجاسته، أطراف الشارع إذا كان فيها تراب تكفي.

س: كل شيء مبلط.

ج: لا، السكك الصغيرة ليست مبلطةً.

س: ألم يرد أنَّ النبي ﷺ تيمم بجدار؟

ج: جاء أنه حكَّه وتيمم به، والجدران فيها تراب كثير، يعني: جدران المدينة كلها لبن.

س: إذا وجدت طبقةً من التراب في أي مكانٍ على بلاطٍ؟

ج: نعم يكفي، أو غبار.

س: أو على قطعة سجادٍ؟

ج: إذا كان فيه غبار واضح يتيمم.

س: إذا ضربها بيديه يخرج الغُبار؟

ج: نعم.

س: المريض في المستشفى يحضر معه تراب؟

ج: يجب، إذا كان ما يستطيع الماء يأخذ ترابًا في إناءٍ، أو في صحن، أو في ثوب، أو في كيس.

س: يُمنَع يا شيخ؟

ج: إذا مُنع فهو معذور، إذا يتيسر يفعل.

س: حُجَّة مَن قال أنه لا يجوز التَّيمم إلا بالتراب من خلال رواية: جُعلت تربتها لي طهورًا، يعني: يكون اللفظ هذا على أنه لا يجوز غير التراب بأي نوعٍ كان؟

ج: نعم، هذا مُراده؛ لنص رواية حذيفة وعلي. مَن يقول: إنَّ غيره يُجزئ عند عدمه، إذا عُدم تيمم بغيره، وأما ما دام موجودًا لأنه يحصل به البعضية؛ لقوله تعالى: مِنْهُ خلاف الرمل، فليس فيه غبار يحصل به البعضية، خلاف الصخر.

س: استعمال التراب لصلوات متعددة للمريض مثلًا؟

ج: الأرجح أنه يكفي، إذا كان على طهارةٍ يكفي.

س: يُقال أنه تراب مُستعمل فلا يُستعمل مرةً أخرى؟

ج: المستعمل الذي علق في اليدين وسقط منها ومسح به وجهه وكفَّيه، أما بقية التراب ما هو بمستعمل، مثل: الوضوء ببقية الماء في الإناء، ما هو بمستعمل، المستعمل ما سقط من يديه عند الغسل أو عند التيمم، أما البقية الفضلة ليست مستعملةً، لا من الماء، ولا من التراب.

س: ترتيب الوجه واليدين؟

ج: هذا هو الذي ينبغي.

س: ما جاء في حديث عمار، يقال: بما أنه حدث أكبر فالترتيب لا يُشترط؟

ج: جاء في رواية البخاري ذكر الوجه والكفَّين، أما كونه ما يُشترط هذا يُؤخذ من أدلةٍ أخرى؛ من أدلة الغسل يعني، لكن لعله في الغسل يبدأ بالوضوء، ثم يغتسل عليه الصلاة والسلام، فإذا تيسر أن يبدأ بوجهه وكفَّيه كما في الآية الكريمة هو الذي ينبغي حتى في الجنابة؛ لأنَّ الآية عامَّة للجنب والحدث، طهارتهما واحدة.

س: إذا قال: هذا حدث أصغر، فبدأ بيديه قبل وجهه، هل يُجزئ؟

ج: خلاف المشروع، والأولى أنه ييمم يديه بعد ذلك؛ حتى يخرج من الخلاف، وفي الجنابة فالأمر واسع، الأمر في الجنابة أسهل؛ لعدم الترتيب في الجنابة، لكن في الوضوء ينبغي أن يُلاحظ الوجه ثم اليدين، على ظاهر النص في رواية البخاري رحمه الله.

س: هل هناك دليل على الترتيب؛ لأنَّ الذي ورد بـ(الواو) ولم يرد بـ(ثم)؟

ج: إلحاقًا بالأصل، ثم حديث ابدأوا بما بدأ الله به في حديث جابرٍ في السَّعي، وإلحاقه بالوضوء.

س: إذا كان يرجو الماء آخر الوقت هل يتيمم أو ينتظر؟

ج: فيه الخلاف المشهور، والأفضل أن ينتظر كما قال أحمد وجماعة، كونه يتيمم في أول الوقت فيه فضل الوقت والمبادرة فيه أولى، ولعلَّ هذا أقرب للأصول: كونه يتيمم في أول الوقت ويُصلي الصلاة في وقتها، إلا في الوقت الذي يُشرع فيه التأخير: كالإبراد في الظهر من شدة الحرِّ، وكانتظار الجماعة في صلاة العشاء، وإلا فالأصل هو مُراعاة أول الوقت، هذا هو الأفضل، إذا كان التيممُ يُفضي إلى تأخيرها عن أول الوقت فالأفضل التيمم، هذه قاعدة، والأمر واسع: إذا أخَّر أو قدَّم الأمر واسع، ما دام في الوقت الأمر واسع، لكن هذا للأفضلية فقط: ولهذا قال: "والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى" يعني: للأولوية.

س: إذا تيمم ثم شرع في الصلاة ثم حضر الماء؟

ج: المشهور أنه تبطل الصلاة، الأصل وُجِد، التيمم إنما هو مقيد بعدم وجود الماء، إذا لم يجد الماء، وقد وجد الماء؛ فيستأنف الوضوء والصلاة، وقال قومٌ: بل يُتمّها إذا شرع فيها، يُجزئ، ولكن الأولى في مثل هذا هو استئنافها.

..............

شرع للعباد أن يُؤدوا هذا الشيء الذي به شعورهم بطاعة الله وامتثالهم لأمره بدلًا من الماء؛ طاعةً لله، وتعظيمًا له ، وليس المقصود توسيخ وجوههم وأيديهم بالتراب، فإنَّ المقصود إظهار شعورهم بطاعة الله، وخضوعهم لأمره، وامتثالهم لما شرع لهم ، فلما فقدوا ما شرع الله لهم من استعمال الماء فعلوا ما شرع الله لهم من التيمم، وإن كان فيه ما قد يكرهه الإنسانُ من توسيخ وجهه بالتراب أو يديه، ولكن ذلك في طاعة الله محبوب له ورضي به.

وتقدم الخلافُ في: هل هو يرفع الحدثَ أم لا يرفع الحدث؟

وتقدم أنَّ الصواب أنه يرفع الحدث إلى وجود الماء، كما هو حال الأقوال الثلاثة المعتبرة، وفي قولٍ رابع ليس بشيءٍ، باطل بالإجماع، وهو رفع الأحداث مطلقًا ولو وُجد الماء، وهذا عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف التابعي الجليل، ولكنه قول ضعيف كما تقدم، ليس بشيءٍ، والإجماع يُخالفه، والأدلة تُخالفه، بل متى وُجد الماء وجب عليه استعماله وإن كان على طهارة التيمم؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا قال: فَلَمْ تَجِدُوا [النساء:43]، وهنا ذكر حديث عليٍّ وجابر في المسح على الجبائر.

هنا ذكر حديث عليٍّ وجابرٍ في المسح على الجبائر: علي هو ابن أبي طالب، أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، إذا أُطلق عليٌّ فهو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب ابن عمِّ النبي عليه الصلاة والسلام، ورابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، رضي الله عنهم جميعًا، وزوج فاطمة الزهراء بنت النبي ﷺ، وأبو الحسن المعروف.

قال: "انكسرت إحدى زندي، فأمرني النبيُّ ﷺ أن أمسح على الجبائر". رواه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا؛ لأنَّ في إسناده رجلًا متروكًا؛ ولهذا قال فيه المؤلف أنَّ إسناده واهٍ جدًّا.

وحديث جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما فيه أنَّ جماعةً خرجوا في سفرٍ، وشُجَّ أحدُهم في رأسه، ثم احتلم، واستفتى أصحابه: هل يتيمم أو يغتسل؟ وخاف من جراء الشَّجة إذا اغتسل، فأفتوه أنه لا يتيمم، بل يغتسل؛ لأنه قادر على الماء، واغتسل فتأثر جرحه بذلك وصار سببًا لوفاته، فلما أخبروا النبيَّ ﷺ قال:  قتلوه! قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العيّ السؤال، ثم قال: إنما كان يكفيه .. واختصره المؤلفُ هنا رحمه الله: إنما كان يكفيه أن يعصب -أو قال: يعضد- على جرحه خرقةً ثم يمسح عليها، ثم يغسل سائر جسده.

هذا الحديث على ما فيه من الضَّعف مع حديث عليٍّ مع أحاديث المسح على الخفَّين تدل على شرعية المسح على الجبائر.

وقد اختلف على راويه: هل هو عطاء بن أبي رباح عن جابرٍ أو عن ابن عباسٍ؟

فالزبير بن خُريق الجزري الراوي عن عطاء جعله من رواية جابر، ورواه الأوزاعي بلاغًا عن عطاء، عن ابن عباس.

هذا هو الاختلاف على راويه وهو عطاء، فعطاء اختُلف عليه: هل الرواية عن جابرٍ أو عن ابن عباس؟ وشخص رواه عنه عن جابرٍ، وشخص رواه عنه عن ابن عباسٍ.

والزبير بن خريق ليَّنه أهلُ العلم.

والأوزاعي ثقة، ولكنه لم يسمعه من عطاء، بل رواه بلاغًا.

فمجموع الطريقين مع حديث عليٍّ قد يتقوى كلٌّ منهما بالآخر في إثبات المسح على الجبائر، ويتأيد ذلك ويتقوى ذلك بما شرع الله من المسح على الخفَّين، فإنَّ المسح على الخفَّين مسح لغير ضرورةٍ، بل للإرفاق والإحسان والتيسير على المسلم أن يرتفق بالخفَّين يومًا وليلةً في الحضر، وثلاثة أيام بلياليها في السفر؛ حتى لا يحتاج إلى غسل الرِّجْلين، هذا رحمة من الله وبسط منه وفضل منه وتيسير من غير ضرورةٍ.

إذا جاز المسحُ على الخفَّين من غير ضرورةٍ، بل لمجرد الإرفاق والحاجة؛ فالمسح على الجبائر الذي هو أمر ضروري لا يستغني عنه الإنسانُ أولى وأولى بالشرعية؛ ولكونه أمرًا ضروريًّا لم يُشرع فيه التَّوقيت، ليس بالاختيار؛ ولهذا لا توقيتَ في الجبائر، بل يمسح مدة الحاجة، ولو مكثت الجبيرةُ شهرًا أو أكثر أو أقلّ، بخلاف المسح على الخفَّين فإنَّه مُؤقت؛ لأنَّه اختياري، من باب الإرفاق والإحسان، فشُرِعَ مؤقَّتًا، أما الجبيرة فإنها لا توقت إلَّا بقدر الحاجة، ما دام يحتاج إليها فيمسح، فإذا برئ ما تحتها أُزيلت وغُسِل، ولا حاجة إلى التيمم مع الجبيرة، متى مسح كفى.

واختلف الرُّواة في حديث جابرٍ: هل فيه تيمم أم لا؟

فذكر أحد رواته التَّيمم –كالزبير- ولم يذكر مَن رواه عن عطاءٍ كالأوزاعي.

المقصود أن المحفوظ فيه المسح فقط، أما التيمم فاختُلِفَ فيه، والصَّواب إسقاطه، ليس بمحفوظٍ، وأنَّ المسح يكفي، إذا مسح على الجبيرة كفى عن التَّيمم، إلَّا إن عجز عن المسح بأن كان الجرحُ لا يتحمَّل المسح، وليس عليه جبيرة واقية، ويخشى من مسحه الضَّرر؛ فإنه يتيمم ويكتفي بالتيمم، ولا مسحَ، بل يكفي، أما الجمع بينهما فلا حاجةَ إليه، بل أحدهما يكفي.

والمسح: غسل خفيف يقوم مقام الغسل، فيكفي، فإذا لم يتيسّر المسح تيمم على الجرح عن العضو الذي لم يُغسَل؛ لأنَّ الله جعل التيمم بدل الماء عند العجز عن الماء.

س: أحسن الله إليك، تقول: المسح غسل خفيف؟

ج: يُسمَّى الغسل الخفيف: مسحًا.

س: ألا يُغطي يده ويمسح؟

ج: بلى، هو غسل خفيف لأنه مسح بالماء؛ ولهذا في قراءة: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ [المائدة:6]، قال العلماء: جاءت هذه القراءة على أنَّ غسل الرجلين يُسمَّى: مسحًا؛ لأنه غسل خفيف، ليس فيه تكلُّف.

فالحاصل أنَّ المسح يقوم مقام الغَسل ويُغني عن التيمم إذا كان الجرحُ عليه جبيرة من خِرَقٍ أو غيرها مما يقيه الماء، يقي ضرر الماء، فإذا لم يكن عليه ما يقي ضرر الماء تيمم واكتفى بالتيمم، وأما الجمع بينهما فلا دليلَ عليه إلا هذه الرِّواية الضَّعيفة.

س: هل لا بدَّ من أن يلبس الجبيرة على طهارةٍ؟

ج: ولا يُشترط لها الطَّهارة، هذا في الخفَّين اختياري، والجبيرة ليست اختياريةً؛ قد يمسح عليها وليس لها غطاء، ولا يحتاج إلى تيمم.

وقال بعضهم: إن كان على طهارةٍ فلا تيمم، وإن كان على غير طهارةٍ تيمم جبرًا لذلك.

وقال بعضهم: إن زادت الجبيرةُ على قدر الحاجة تيمم، كما في حديث أنسٍ، كما هو معروف في كتب متأخري الحنابلة رحمهم الله وآخرين.

والصواب أنه لا يحتاج إلى هذا؛ لأنَّ مسح الجبيرة ضروري، ليس اختياريًّا، بخلاف المسح على الخفَّين، فلا يحتاج إلى تقدم الطَّهارة، وأما الجبيرة الزائدة فإن كان بإمكانه التَّخفيف خفَّفها، وإلا مسح عليها كلها وكفى، والزائدة إن كان بالإمكان إزالتها أزالها، وإذا كان ما بالإمكان إزالتها ويحتاج إليها في الربط والضبط فإنَّ حكمها حكم المحتاج إليه؛ لأنَّ الحاجة مسَّت إليها لأجل ربط الجبيرة وضبطها، فيمسح على الجميع.

س: إذا كان الشراب فيه شقّ؟

ج: إذا كان الشقّ يسيرًا يُغتفر، أما إن كان واسعًا يُعيد الصلاة، أما إن كان الشقُّ يسيرًا عُرْفًا يُغتفر إن شاء الله.

والحديث الثاني: حديث ابن عباسٍ، وهو عبدالله بن عباس بن عبد الطلب، ابن عم النبي ﷺ، إذا أُطلق فهو عبدالله، والعباس له أولاد كثيرون، لكن عند الإطلاق فهو عبدالله، فله الفضل قُتِلَ في عهد الصديق أو في عهد عمر شهيدًا ، وله عبيدالله، وله كثير، والمشهور هو عبدالله إذا أُطلق.

قال: "من السنة"، إذا قال الصَّحابي: "من السنة" فهي سنة النبي ﷺ، وإذا قال التابعي كذلك، لكن يكون مرسلًا.

قال: "لا يُصلي الرجلُ بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى". خرجه الدارقطني بإسنادٍ ضعيفٍ جدًّا.

هذا الحديث احتجَّ به وتعلَّق به مَن يقول: أن التيمم مُبيح لا رافع، ولا يُصلي به إلا الصلاة التي تيمم لها، أو ما دونها، ولا يُصلي لما هو فوقها.

وتقدم لكم أنَّ هذا القول ضعيف، وهذا الحديث ضعيف؛ قال الشارحُ: وجاء في المعنى أثران عن ابن عمر وعن عليٍّ، وهما ضعيفان أيضًا.

والحاصل أنَّ ما في هذا الباب أنه مبيح لا رافع: إما ضعيف، وإما صحيح غير صريح في المقصود، فلا يتعلق به.

والصواب أن التيمم رافع وقائم مقام الماء إلى أن يُوجد الماء، هذا هو أرجح الأقوال الثلاثة فيه أو الأربعة؛ لأنَّ الله جعله يقوم مقام الماء، وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، واللفظ الآخر: وجُعل الترابُ لي طهورًا، والله يقول: وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6]، سمَّاه: طهورًا، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: الصعيد طهور المسلم، لكن الصواب أنه رافع، فإذا تيمم العصر وبقي على طهارةٍ صلَّى به المغرب والعشاء، وإذا تيمم للجنابة صلَّى به للجنابة مطلقًا حتى يُجنب جنابةً أخرى، ما دام لم يُجنب جنابةً أخرى فتيممه لها رافع إلى وجود الماء، أو إلى وجود جنابةٍ أخرى، كالماء سواء، لكن متى وُجد الماء بطل حكم التيمم، ووجب عليه استعمال الماء.

س: إذا أراد أن يستجمر هل يمسح على الجورب؟

ج: المسح بعد الفراغ من الوضوء، إذا فرغ من وضوئه ولم يبقَ إلا رجليه مسح على رجليه، وأما الاستنجاء ما له تعلق بها، يستنجي لأثر البول أو الغائط، هذا شيء آخر، طهارة أخرى، طهارة النَّجاسة، ثم يتوضأ للصلاة بعد ذلك، فإذا انتهى إلى رجليه مسح على رجليه.

س: حديث ابن عباسٍ ظاهر فيمَن قال أنَّ التيمم خاصٌّ بالصلاة، أو مبيحٌ للصلاة، لكنه قال: مبيح في الوقت .....؟

ج: الظاهر أنهم يحملونه على صلاة الفريضة، فإذا أتى بالفريضة فما دونها من باب أولى: نوافلها ورواتبها، يعني: لو صحَّ فالمراد به صلاة الفريضة، ما هو مراده إذا تيمم لصلاة الفريضة ما يُصلي نوافلها! المراد هي وتوابعها من باب أولى لو صحَّ.

س: مَن قال: إنه ما ينتقض إلا بخروج الوقت، مبيح إلى خروج الوقت، بماذا يستدل؟

ج: قد يحتجون بأنَّ الطَّهارة ضرورية عند فقد الماء؛ لتقيد الوقت، وقد يتعلق بعضهم بحديث جابرٍ: فمَن أدركته الصلاةُ فعنده مسجده وطهوره، وذكره المجد في "المنتقى"، قال: فالذي ما بعد دخل الوقت ما أدركته الصلاةُ، فإن أدركته الصلاةُ فليتيمم تيممًا آخر؛ لقوله: فعنده مسجده وطهوره، وهذا ليس بصريحٍ؛ لأنَّه إنما يُخاطب بعد إدراك الوقت، إذا خُوطب وهو على طهارةٍ ما يُؤمر بطهارةٍ أخرى، مثل: لو أدركه الوقتُ وهو على طهارةٍ ما يلزمه أن يتطهر طهارةً أخرى، فهكذا عنده مسجده وطهوره، يعني: يتطهر إذا احتاج إلى ذلك، أما إذا ما احتاج فليس هناك داعٍ إلا على سبيل التَّجديد، كما يُجدد بالماء، فهذا شيء آخر، لكن اللزوم لا يلزم، وليس الحديثُ واضحًا في هذا.

س: إذا حضر الماء وهو في الصَّلاة؟

ج: فيه خلاف، والأقرب أنه يبطل الصلاة؛ لأنه وُجد الماء ولم يُنْهِ الواجب؛ فيقطعها ويتوضأ ويُصلي، وليس في هذا مشقَّة.

س: ....................؟

ج: من باب أولى يعني.

س: ...................؟

ج: المسح على الجبائر، وفي عدم التوقيت الخفين مؤقتة؛ لأنها اختيارية، وهذا ليس بموقتٍ؛ لأنه ضروري، من باب القاعدة الشرعية: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

س: الحديث الضعيف كيف يُستدل به هنا؟

ج: لوجود ما يعضده من عمل الصحابة وأثر عليٍّ، والمسح على الخفَّين، وجود ما يعضده من عمل الصَّحابة، والحديث الضعيف إذا وجدنا ما يعضده من عمل الصحابة تقوى، ثم المعنى يعضده، إذ جاز في الخفَّين مع القُدرة على الغسل وتيسر الغسل، فجوازه في الجبائر من باب أولى؛ لعجزه عن الغسل.

س: هل يدخل في الجبائر اللَّواصق الخفيفة التي تُوضع على الجسم؟

ج: نعم، مثل: اللزقة على ظهره أو بطنه أو صدره من جنس الجبيرة سواء، يمسح عليها.

س: المسح على العمامة موقَّت؟

ج: موقت مثل الخفَّين.

س: ما يكفي مرور الماء عليها؟

ج: بلى يكفي، إذا مرّ أبلغ من المسح، اللَّزقة إذا مرّ عليها الماء هذا أعظم من المسح.

س: الشماغ يمسح عليها؟

ج: المعروف العمامة المحنَّكة التي تُدار تحت الحنك كورًا أو كورين، بحيث يشقّ حلّها وربطها، أما المطلقة هذه فالظاهر عدم المسح عليها؛ لأنَّ المسح على الرأس ما فيه مشقّة معها.

الدم المعتاد الذي قال فيه النبيُّ ﷺ: إنَّ الله كتب ذلك على بنات آدم، لما حاضت عائشةُ في الحجِّ واشتدَّ عليها الأمر وبكت قال: مَا لَكِ؟ أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي .. إلى آخره.

الله جلَّ وعلا كتب على بنات آدم الحيض كل شهر غالبًا، وجعله في الحمل غذاءً للطفل حتى تلد، وجعله أيضًا عونًا وسببًا لإبداء اللَّبن وقت الرضاع؛ فلهذا يغلب على المرأة ألا تحيض وقت الرضاع، ولله فيه حكم وأسرار جلَّ وعلا.

ووجوده علامة على براءة الرحم من الولد، وارتفاعه دلالة على شغله بالولد، فالحيض فيه حكم وأسرار يأتي كثير منها في هذا الباب، وهو من علامات البلوغ أيضًا؛ فإنَّ الجارية إذا حاضت بلغت، كما أنها إذا أكملت خمس عشرة سنة أو أنبتت شعر العانة أو أنزلت المني بشهوةٍ بلغت كالرجل، فتزيد هي هذا الأمر الرابع وهو الحيض.

وله أحكام، له أفعال؛ فلهذا عقد له الأئمةُ بابًا لبيان أحكامه وما ورد فيه، وهو يمنع الصلاة وجوبًا وفعلًا، ويمنع الصوم فعلًا لا وجوبًا، بل يبقى في الذمة، ويمنع الوطء حتى تطهر، ويمنع مسّ المصحف، ويمنع القراءة عند جمعٍ من أهل العلم، فله أحكام، وهذه منها.

عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنَّ النبي ﷺ قال لفاطمة بنت أبي حبيش لما اشتكت إليه استحاضتها: إنَّ دم الحيض دم أسود يُعْرِف بكسر الراء، هكذا رواه الجماعة، يعني: أنَّ له عَرفًا، وهو الرائحة المنتنة، ورواه آخرون بفتح الراء: يُعْرَف يعني: شيء معروف تعرفه النساء: فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضَّئي وصلِّي.

هذا الحديث رواه أبو داود والنَّسائي، وصححه ابنُ حبان والحاكم، ولا بأس بإسناده عند أبي داود.

أما استنكار أبي حاتم: زعم بعضُهم أنَّ ذلك لأجل أنه من رواية عدي بن ثابت، وليس بجيدٍ، فإنَّ الحديث ليس من رواية عدي بن ثابت، رواه أبو داود والنَّسائي من غير طريقه، ولعله استنكره لأسبابٍ أخرى، الحديث جيد الإسناد.

وهو يدل على أنَّ المرأة تنظر في الدم إذا اشتبه عليها الحيض، قال جماعةٌ من العلماء: هذا في المبتدَأة التي لم يستقر لها عادة تنظر؛ فإذا ميَّزت الدم جلست الأسود والثَّخين، وهذا هو حيضها، وتطهرت عند ذهابه ومجيء الأحمر، هذا في المستحاضة خاصَّة، أما التي ليس فيها استحاضة، بل يأتيها الدم في وقته كل شهر وينقطع؛ هذه حائض، ولا يشتبه أمرها، سواء كان دمها أسود أو أحمر أو أصفر أو مختلفًا تجلسه إذا كان يأتيها ويذهب كعادة النساء من كل شهرٍ خمسة أيام، ستة أيام، سبعة أيام، هذا حيض مطلقًا.

وإنما اختلف الأمر في التَّمييز وغيره في حقِّ المستحاضة، والمستحاضة هي التي يستمر معها الدم، يقال: استُحيضت إذا استمرَّ معها الدم ولم يقف عند حدٍّ، هذه يُقال لها: مستحاضة، بخلاف الحائض؛ وهي التي يأتيها دمٌ مؤقت كل شهر يقال لها: حائض، إذا جاء وقتُ حيضها فهي حائض، وإذا انقطع صارت طاهرًا؛ تغتسل وتُصلي وتصوم وتحلّ لزوجها، فعندنا حائض ومُستحاضة.

فالحائض: هي التي لها الأحكام المعروفة، وهي التي كتب الله عليها ما كتب على بنات آدم، وهي التي ترى الدم كل شهرٍ في أيام معلومةٍ، أو كل شهرين، أو أكثر من ذلك، هذه يُقال لها: حائض، وأحكامها كما تقدم: حيضها يمنع وجوب الصلاة، ويمنع أداءها، فلا تُصلي، لا تحلّ لها الصلاة، ولا تجب عليها الصلاة، ولا تقضيها.

ويَمنع فعل الصوم، فلا تصوم أيضًا، ولكنها تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، كما في حديث عائشة في "الصحيحين": "كنا نُؤمر بقضاء الصوم، ولا نُؤمر بقضاء الصَّلاة". وقد أجمع أهلُ العلم على ذلك.

أما المستحاضة لا، الحيض يمنع الوطء، ويمنع الصوم والصلاة، والمستحاضة لا، تُباح لزوجها، وتُصلي وتصوم؛ لأن هذا دم يستمر معها، فلو حرم عليها الصوم والصلاة لتعطلت الشَّرائع في حقِّها، ولو حرم عليها الوطء لتعطل زوجها وتضرر زوجها بذلك، فمن رحمة الله أن جعلها كالطَّاهرات في حلِّ الوطء، وفي وجوب الصلاة والصوم وغير ذلك، فهي تُشبه صاحب السلس الذي يستمر معه البول والرطوبة، أو صاحب الحدث الآخر الذي يستمر معه الريح دائمًا، ونحو ذلك، فهؤلاء أصحاب أحداثٍ لازمة، فعليهم أن يُعالجوا ما أمكن، أن يُعالجوا هذا الأمر بالدواء، ويستمروا فيما شرع الله من الأحكام حتى ينتهي هذا الدَّاء وهذا المرض.

فمن ذلك أنها تنظر في الأمر هذه المستحاضة؛ فإن كانت لها عادة -أيامًا معلومة- جلست عادتها كما تقدم في حديث فاطمة بنت أبي حبيش في نواقض الوضوء: أن النبي أمرها: إذا أقبلت حيضتُك فدعي الصلاةَ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي، ويأتي حديث أم حبيبة: امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتُك ثم اغتسلي، هذه المعتادة.

أما إن كانت غير معتادة فلا يخلو: إما أن تكون مبتدأةً، أو غير مبتدأة. فإن كانت مبتدأةً نظرت في الدم: إن كان أسود أو ثخينًا جلسته، والباقي استحاضة، وإن كان دمها غير متميز فهي ما وقع في حديث حمنة: تجلس ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، كعادة النساء؛ لأنَّ غالب النساء ستة، سبعة، فتعتد بستة أيام، سبعة أيام، تتحيَّضها، لا تُصلي، ولا تصوم، ثم تغتسل وتُصلي وتصوم، كما تحيض النساء، وكما يطهر النساء على حديث حمنة.

وهكذا لو كانت لها عادة ونسيت عادتها تنظر: إن كان لها تمييز ميَّزت الدم الأسود الثخين أو الأحمر مع الأصفر، وإن لم يكن لها تمييز جلست ستة أيام أو سبعة أيام ثم اغتسلت.

فصارت المستحاضات ثلاثة أقسام:

  1. مستحاضة لها عادة، تعمل بعادتها.
  2. مُستحاضة مبتدأة مميزة، تعمل بالتَّمييز، كما في حديث فاطمة هنا؛ لأنه دم معروف، والغالب من الحيض يكون دمه أسود أو ثخينًا أو أحمر شديدًا، دم الحيض أسود ثخين، أو أحمر شديد، ودم الاستحاضة تكون فيه الصُّفرة والحُمرة دون الثَّخانة.

فإن كانت لا تمييز لها فإنها تعمل بما في حديث حمنة: تتحيَّض ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، كما يحيض النساء، تتأسَّى بنسائها: أخواتها، وعمَّاتها، وقراباتها، إذا كانت عادتهن ستًّا تحيَّضت ستًّا، إذا كن سبعًا فسبعًا، يعني: تنظر فيما يُقاربها ويُدانيها، أو تتحيض كغالب النساء من ستٍّ أو سبعٍ، ثم تطهر ثلاثًا وعشرين أو أربعًا وعشرين، تُصلي فيها وتصوم ولو أنَّ الدم يمشي، وتحلّ لزوجها في هذه المدة، وهكذا تستمر على هذا حتى تشفى.

ولها أن تجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جمعًا صوريًّا؛ بأن تُؤخر الظهر إلى آخر الوقت، والعصر في أول الوقت، وتجمع بينهما بغسلٍ واحدٍ، وتُؤخر المغرب إلى آخر وقتها، والعشاء تُقدمها في أول وقتها، تجمع بينهما بغسلٍ واحدٍ، وتغتسل مع الصبح كما قال النبيُّ لحمنة، وكما في حديث أسماء بنت عميس.

وهذا والله أعلم لسرٍّ؛ وهو أنَّ الدماء تُضعف النساء وتضرهن كثيرًا، وهو نوع مرضٍ، وفي الغسل شيء من التَّنشيط والقوة والجبر لما يحصل لها من الضَّعف؛ ولأنَّ خروج الدماء قد يتسبب منه تنـزيف للبدن، فيكون في الغسل كمال النَّظافة، وكمال الطَّهارة من آثار هذا الدم.

واختلف العلماءُ فيما إذا اغتسلت لكل صلاةٍ ولم تجمع: هل ذلك واجب؟ وهل غسلها واجب عند الجمع أيضًا؟

على قولين:

الجمهور على أنه لا يجب، وإنما هو مستحب، واحتجوا على ذلك بحديث فاطمة بنت أبي حبيش المتقدم؛ فإنَّ الرسول ما أمرها بالاغتسال، وإنما أمرها بالوضوء، فدلَّ ذلك على أنَّ الواجب هو الوضوء، وأما الغسل في حديث حمنة وحديث أم حبيبة في بعض رواياته فهو من باب الاستحباب، في بعض الروايات أنه أمرها أن تغتسل –يعني: للحيض- عند الطهر، فكانت تغتسل هي لكل صلاةٍ -أم حبيبة- وكانت معتادةً.

وهذا القول أظهر القولين، وأولى القولين: أنه مستحب فقط، والواجب الغسل عند انتهاء الحيض، هذا الواجب، أما اغتسالها عند كل صلاةٍ إذا استطاعت ذلك، أو عند الصلاة إذا جمعت بينهما؛ فهذا مستحب فقط، وليس بواجبٍ، من باب النَّظافة، ومن باب القوة والنشاط، كما يغتسل الجنبُ بعد جنابته؛ لما في الغسل من القوة والنَّشاط بعد خروج المني والضَّعف الذي حصل منه للمُجنب.

وحديث المستحاضة جدير بأن يُجمع في رسالةٍ تجمع الأحاديث وتُؤلف بينها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: وعن أم عطية، وهي نُسيبة الأنصارية، من الأنصار، من حملة العلم رضي الله عنها ورحمها، قالت: "كنا لا نعدّ الكُدرة والصُّفرة بعد الطهر شيئًا". أخرجه البخاري، وأخرجه أبو داود، وهذا لفظه.

قال في رواية البخاري: "كنا لا نعدّ الكُدرة والصُّفرة شيئًا".

زاد أبو داود في روايته: "بعد الطُّهْر" فأوضح المعنى.

هذا يدل على أنَّ الكُدرة والصُّفرة لا تُعتبر حيضًا بعد الطهر، فإذا رأت المرأةُ الطهرَ فإنها لا تعتمد ما يقع بعدها من الكُدرة والصُّفرة شيئًا، بل تستمر في حكم الطَّهارة والصلاة وغيرها، ولا تلتفت إلى الكُدرة والصُّفرة التي وقعت بعد الطُّهر.

ومفهومه أنه إذا كان الموجود دمًا صحيحًا فإنه يُعدّ ويُعتبر، ويكون زيادةً في العادة، ويُعتبر حيضًا.

ومفهومه أيضًا أنَّ الكُدرة والصُّفرة قبل الطهر تُعتبر؛ لذلك لا ينبغي العجلة حتى تزول الكُدرة والصُّفرة ويحل محلها النَّقاء والطَّهارة، ثم تغتسل.

فالحائض والنُّفساء قد يكثر معها الدم وقد يقل، فهي لا تزال في حيضٍ وفي نفاسٍ مدة النفاس، سواء كان الدم ثخينًا أو ضعيفًا، أصفر أو أحمر، أو كُدرة، حتى يزول، فإذا زالت هذه الأشياء كلها وانتهت ورأت الطَّهارة الصَّافية بالماء الأبيض الذي يقع عند انتهاء الحيضة أو النِّفاس، أو بأن تحتشي بشيءٍ من البياض كالقطن، فإذا خرج نقيًّا من فرجها فهو علامة الطُّهر فتغتسل حينئذٍ وتُصلي وتصوم وتحلّ لزوجها، وتُعتبر انتهت من الحيضة، وانتهت من النفاس، ولو كان ذلك أقلّ من المدة، ولو كانت عادتها سبعًا فرأت الطَّهارة في ثلاثٍ أو أربعٍ تُعتبر طاهرةً.

وهكذا النُّفساء لو رأت الطَّهارة وهي بنت عشرين يومًا أو خمسٍ وعشرين يومًا أو شهر تُعتبر طهرت من النفاس، فليس من اللازم أن تستكمل الأربعين، إنما الأربعون نهاية، فإذا رأت الطهر قبل ذلك اعتبرته وعملت به وحلَّت لزوجها وصلَّت وصامت.

ويُروى عن عثمان بن أبي العاص أنه كان يكره قربانها قبل الأربعين، ولكن جاء عن ابن عباسٍ وغيره عدم الكراهة، وهو الأظهر، إذا هي رأت الطهرَ فلا كراهةَ في الأربعين، كما أنه لا كراهةَ إذا رأت الطهرَ في أثناء عادتها من الحيض، فأما الكُدرة والصُّفرة فلا، تُعتبر إذا كانت في وقت العادة لم ترَ الطهر فإنها تعمل بذلك.

وكانت عائشةُ رضي الله عنها يأتيها النساءُ يسألنها عن هذا، فتقول لهن: "لا تعجلنَ حتى ترين القصة البيضاء" يعني: حتى ترين الماء الأبيض.

أما إذا رأت الطهرَ وانفصل الحيضُ والنفاس، ثم جاءت كُدرة أو صُفرة فلا تُعتبر، تُعتبر كالبول والغائط، يعني: نجاسة فقط، لا تكون حيضًا ولا نفاسًا، فإن كانت دمًا فإنها ترجع إليه وتجلس ولا تُصلي ولا تصوم الحائض والنُّفساء، النُّفساء في مدة النِّفاس، والحائض في مدة حيضها، وهكذا لو زادت عن المدة؛ لأنَّ الحائض تزيد وتنقص عادتها؛ تكون عادتها خمسًا، وترى الدم ستًّا أو سبعًا، وقد تكون عادتها سبعًا فتراه ثمانيًا وتسعًا، فالحيضة قد تزيد وتنقص، والصواب في هذا أنها تجلس ما زاد ونقص من غير حاجةٍ إلى اعتبار التَّكرار، كما ذكره جماعةٌ من الفقهاء، قال بعضُهم: ولا يسع النساء العمل بغيره.

فالحاصل أنَّ هذا هو الصواب، وهو ظاهر الأدلة: أنَّ المرأة الحائض فهو دم حيض، والمرأة النفساء في مدة النفاس فهو دم نفاس، ولا يحتاج إلى أن يقال أنه لا بدَّ من التَّكرار.

والحديث الثاني: حديث أنسٍ ، أنس بن مالك الصَّحابي الجليل، خادم النبي عليه الصلاة والسلام، كان حين مقدم النبي ﷺ المدينة ابن عشر سنين أو تسع سنين، وخدمه ﷺ إلى أن تُوفي، وكان ربيبًا لأبي طلحة، ابن زوجته، وطال عمره حتى جاوز المئة رضي الله عنه ورحمه، وقد روى عن النبي ﷺ أحاديث كثيرة، فهو من المكثرين.

قال: أنه سمع النبيَّ ﷺ يقول: اصنعوا كل شيءٍ إلا النكاح، فيصنع مع الزوجة كل شيءٍ: من ضمِّها، والنوم معها، ومُضاجعتها، وتقبيلها، ومُباشرتها، وغير ذلك، هذا معنى كل شيءٍ إلا النكاح يعني: إلا الجماع.

وكان سبب ذلك أن اليهود كانوا إذا حاضت فيهم المرأةُ لم يُؤاكلوها، ولم يُشاربوها، ولم يجتمعوا معها في البيوت، بل يُخرجونها من البيت؛ استقذارًا وتعمُّقًا في البُعد من النَّجاسة؛ لأنَّ عندهم تكلف وغلو وتعمق.

وكان النصارى بضدِّهم؛ كان النصارى عندهم تساهل في النَّجاسات وعدم مبالاةٍ.

فجاءت الشريعةُ الإسلامية المحمدية في الوسط بين هذين الدينين، فلا يجوز التَّعنت والتَّكلف -كفعل اليهود- والتَّشدد، ولا التَّساهل كفعل النَّصارى، ولكن يجب التَّحرز من النَّجاسة بالطرق الشرعية التي شرعها الله لعباده.

والحائض نجاستها في حيضها، لا في بدنها، فعرقها وجسمها طاهر، إلا ما أصابه الدم منها؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ: اصنعوا كل شيءٍ إلا النكاح، يعني: خالفوهم، كان النبيُّ ﷺ يأمر عائشة أن تدخل المسجد فتأتي بالخُمرة من المسجد وهي حائض، فلما قالت له: يا رسول الله، إني حائض! قال لها: إنَّ حيضتك ليست في يدك.

وكانت تعرق العظم وهي حائض، فيتعرق بعدها، وتشرب الإناء وهي حائض، فيشرب بعدها.

كل ذلك لبيان طهارة المرأة، وأنَّ هذا لا بأس به، ومن باب المؤانسة للنساء، وعدم التَّكلف، وعدم التَّكبر عليهن.

وكان خير الناس لأهله عليه الصلاة والسلام؛ تلطفًا ومُداعبةً وأُنْسًا بهنَّ، وعدم التَّكبر عليهن، والمحادثة، والمؤانسة، والملاطفة عليه الصلاة والسلام.

ولما سمعت اليهودُ قولَ النبي ﷺ: اصنعوا كل شيءٍ إلا النكاح، قالوا: إنَّ هذا الرجل لا يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه.

كان النبيُّ ﷺ يُحب مُخالفتهم عليه الصلاة والسلام، ويأمر بمُخالفتهم عليه الصلاة والسلام، فلما سمع ذلك أُسيد بن الحضير وعباد بن بشر قالوا: "يا رسول الله، أفلا نُجامعهن؟" فتمعَّر وجهه عليه الصلاة والسلام. تغيَّر وجهه في ذلك إنكارًا للجماع.

فالمخالفة تكون بهذه الأشياء: المؤاكلة، والمشاربة، والبقاء في البيت، والنوم معها، كل هذا لا بأس به، أما الجماع فلا.

وسبق أنَّ عبادًا وبشرًا لما خرجا من عند النبي ﷺ في ليلةٍ ظلماء عندما سألاه عن مسألة الحيض، جعل الله لهما نورًا في سوطيهما حتى وصلا إلى بيوتهما.

وهذه من آيات الله وإكرامه لأوليائه وأهل طاعته، وهذا مما يُعدّ من كرامات الأولياء، وقد روى هذا البخاري في الصحيح، ورواه مسلم أيضًا.

وأهل السنة والجماعة يُؤمنون بكرامات الأولياء، وأنها حقّ، وأنها ليست من صنعهم، ولكنها من الله بتأييدهم على ما هم فيه من الحقِّ، ولإقامة الحجَّة، فليس لهم فيها صنع، بل هي من الله لهم، ليس لهم فيه اختيار ولا إرادة، وإنما هي من ربهم لهم، فضلًا منه .

وليست حُجَّة على أن يُعبَدوا من دون الله، لا، كما أنَّ معجزات الأنبياء ليست حجةً على أن يُعبَدوا، فكرامات الأولياء من باب أولى.

ومعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء فضل من الله، والمقصود منها إقامة الحجَّة، وبيان الحق، وتأييد الرسل والدعاة إلى الحقِّ، وليس المقصود منها أن يُعْبَدوا من دون الله، لا، كما يظنّه عبَّاد الأوثان، أهل التَّصوف الباطل، هذا من أبطل الباطل، بل يدل ذلك على أنهم على خيرٍ، وعلى هدى، إذا كانوا مُستقيمين على الشريعة تُعدّ كرامةً لهم، فإن كانوا مُنحرفين فهي من الشياطين، مما يُزين به الشيطانُ للناس الباطل، والشيطان قد يفعل بعض الشَّعوذة وبعض الخوارق على أيدي بعض الناس؛ للصدِّ عن الحقِّ وللتلبيس، فلا ينبغي أن يغترّ بذلك.

وعلى هذا أهل السنة والجماعة، والميزان في ذلك أن ينظر فيمَن وقع على يده الخارق: فإن كان مستقيمًا على الشريعة، محافظًا عليها، فهذا من الكرامة، وأما إن كان منحرفًا عن الشريعة، فليُعلم أنَّ ذلك من شعوذة الشياطين، ومن أباطيل الشياطين، ومن تلبيسهم، فلا ينبغي أن يغترّ بذلك.

ومن ذلك ما جرى للصديق : فإنه ذات يومٍ دعا ضيوفًا، وقد أمر بتقديم الطعام لهم، وطلبوا منه أن يأكل معهم، فحلف، ثم تراجع وأكل معهم، فصاروا لا يرفعون لقمةً إلا ربا تحتها مثلها، فأكلوا وشبعوا، وكانت القصعة كما كانت، فرفعها، فأكل منها أهلُ البيت، ثم رفعها إلى النبي ﷺ فأخبره بالقضية، فأكلوا منها في بيت النبي ﷺ، وأخبره النبيُّ أنها بركة من الله ساقها في هذا الطَّعام.

والكرامات لأولياء الله تقع كثيرًا في عهد الصحابة وبعدهم، ولكن لا ينبغي للعاقل أن يغترَّ بها، ولا أن يترفع بها ويتكبر، بل هي آية من آيات الله، ورحمة من الله، وإحسان من الله لأوليائه وأهل طاعته عند حاجتهم إليها، وإقامة للحجَّة، ولبيان الحقِّ والصواب.

وفي الحديث الثالث: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسولُ الله ﷺ يأمرني فأتَّزر فيُباشرني وأنا حائض".

هكذا كان النبيُّ ﷺ: يأمر نساءه أن يتزرنَ عند المباشرة، وهذا هو الأفضل، وهو سنة.

وقد جاء في أحاديث أخرى ما يدل على أنَّ هذا الاتِّزار وهذا الأمر على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الوجوب؛ ومن ذلك حديث أنسٍ المتقدم: اصنعوا كل شيءٍ إلا النكاح، فإنه يدل على أن الاتِّزار ليس واجبًا، ولكنه سنة وأقرب إلى السَّلامة.

فتتزر أو تلبس قميصًا أو سراويل؛ حتى يكون بعيدًا عن الفرج، فهو أسلم من النَّجاسة، وأسلم من وقوع المحذور من الجماع، وهو من الآداب الشَّرعية في مُضاجعة المرأة الحائض والنُّفساء والنوم معها ونحو ذلك؛ أن يكون عليها شيء من إزارٍ أو قميصٍ أو سراويل.

والحديث الرابع: حديث ابن عباسٍ، وهو عبدالله بن عباس بن عبد المطلب، الهاشمي، ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وأفضل أولاد العباس، وهو حبر الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنه ورحمه، كان من أفقه الصحابة وأعلمهم بكتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبكلام العرب: بلغاتهم وأشعارهم، وكانت الوفودُ ترد عليه من كل مكانٍ يسألونه عن العلم، ويروون عنه الأحاديث، ويسألونه عن معانيها، وعن معاني كلام الله ، رحمه الله ورضي عنه.

قال عن النبي ﷺ أنه قال في الرجل يأتي امرأته وهي حائض، قال: يتصدق بدينارٍ أو بنصف دينارٍ خرَّجه الخمسة.

والخمسة هم: الإمام أحمد بن حنبل -كما تقدم في المقدمة- وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. هؤلاء هم الخمسة، وقد يقول: الأربعة وأحمد كما تقدم.

وصححه الحاكم أبو عبدالله النيسابوري، وابن القطان في كتابه على كتاب عبد الحق الإشبيلي، ورجَّح غيرُهما وقفَه.

والصواب أنه مرفوع كما صحَّحه الحاكم وابن القطان؛ لأنَّ القاعدة عند أهل الحديث أنَّ الثقة إذا رفع الخبرَ ووقفه غيره، فالقول قول مَن رفع إذا كان ثقةً، قال الحافظُ العراقي في ألفيته: (واحكم بوصف ثقةٍ في الأظهر) يعني: في الأرجح.

المقصود أنَّ الأرجح والأظهر الحكم للواصل والرافع إذا كان ثقةً، وإن خالفه الأكثرون؛ لأنَّ عنده زيادةً فتُقبل.

ثم وقفه على ابن عباس لا يُنافي، فإنه يُؤيد المرفوع ولا يُنافيه، وليس هذا يقال من جهة الرأي؛ فابن عباسٍ ليس مُشَرِّعًا حتى يقول: يفعل كذا، ويفعل كذا! إنما هو ناقل، وليس للرأي مجال في هذا، فالموقوف يُؤيد المرفوع.

قال ابنُ القيم رحمه الله في هذا: إنَّ هذا هو الموافق للأصول، وهو الثابت نقلًا، وهو الثابت معنًى؛ فإنَّ قاعدة الشريعة: أن التحريم المؤقت يُوجب الكفَّارة، كما في الظِّهار، وكما في رمضان؛ فإنَّ الله حرَّم على الناس الوطء في رمضان، والوطء على المظاهر، فإذا وطئ المظاهر أو وطئ في رمضان وجبت الكفَّارة؛ لأنه تحريم مؤقت، وهكذا الوطء في الحيض من التَّحريم المؤقت والنفاس؛ فوجبت فيه الكفَّارة.

بخلاف التحريم المؤبد: كوطء الزنا، والوطء في الدبر، فإنَّ هذا الوطء تحريمه مُؤبد، ليس فيه إلا التوبة، ليس فيه كفَّارة، بل فيه التوبة والرجوع إلى الله والإنابة إليه، وفيه الحدود الشَّرعية، ما هذا التحريم المؤقت الذي حرَّمه الله على الزوج في حال الظِّهار وحال رمضان، وفي حال الحيض والنِّفاس، فهذا إذا وقع فيه عليه فيه الكفَّارة.

فهذا الحديث موافق للنَّقل، فهو ثابت نقلًا، وثابت معنًى في القياس على نظائره.

ولما روى أبو داود هذا الحديث قال: هكذا الرواية الصَّحيحة: يتصدق بدينارٍ أو بنصف دينارٍ يعني: بالتَّخيير، وقد جاء في المتن اختلاف، ولكن هذا هو أصح ما جاء.

والقاعدة: أنَّ الاضطراب إنما يثبت إذا تساوت الأسانيدُ والأدلةُ، أما إذا ترجح بعضُها زال الاضطرابُ، وهو بهذا اللفظ ليس بمضطربٍ، بل هو محفوظ.

والمجامع عليه التوبة إلى الله، وعليه أن يتصدق بدينارٍ، فهو أفضل، أو بنصف دينارٍ، مُخيَّر، والدينار: مثقال من الذهب، وهو يُعادل أربعة أسباع الجنيه اليوم، أربعة أسباع الجنيه دينار، والسُّبعان نصف دينار.

فعلى مَن جامع الحائض أن يتوب إلى الله ويُقلع ويندم، وعليه مع ذلك نصف دينار، أو دينار كامل، ومقداره أربعة أسباع الجنيه، وسُبعان من الجنيه.

الحديث الثالث: حديث أبي سعيدٍ ، وهو سعد بن مالك بن سنان الخدري وعن أبيه، هو صحابي، وأبوه صحابي كما تقدم.

يقول: عن النبي ﷺ أنه قال في المرأة الحائض: أليست إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تصم؟ متفق عليه في حديثٍ طويلٍ.

الحديث رواه الشَّيخان، وفيه: ما رأيتُ من ناقصات عقلٍ ودينٍ أذهب لذي لبٍّ من إحداكنَّ، وفي لفظٍ آخر: للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن، فسُئل عليه الصلاة والسلام: ما نُقصان دينها؟ قال: أليست إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تصم؟ وهذا من نقصان دينها.

وسُئل عن نقصان العقل، قال: إنَّ شهادتها على النصف من شهادة الرجل، والمقصود أنَّ هذا يدل على أنّ النساء فيهن نقص في العقل والدين، ومن نقص العقل أنَّ شهادتها ليست مثل الرجل، بل أقلّ، ومن نقصان الدِّين تركها الصلاة والصيام في وقت الحيض والنِّفاس.

والمقصود من هذا بيان أنها إذا حاضت لا تُصلي ولا تصوم، ولكن بينهما فرق؛ فالصلاة لا تُقضى، ولا تجب عليها في الحيض، وهكذا في النفاس، أسقط الله عن الحائض الصلاة أداءً وقضاءً، فلا تجب عليها، وهذا من رحمته لعباده ؛ لأنَّ المرأة قد كتب الله عليها الحيض، فلو قضت الصَّلوات كل شهرٍ لكان في هذا مشقة كبيرة؛ لأنَّها تبقي الأسبوع ونحو الأسبوع لا تُصلي، فيجتمع عليها صلوات كثيرة: أربعون صلاة أو ما يُقارب هذا، فيشقّ عليها ذلك، فمن رحمة الله أن أسقط عنها.

وهكذا في النِّفاس قد يستمر معها الدم أربعين يومًا، فلو فُرضت عليها الصَّلوات لكان عليها في الأربعين مئتا صلاةٍ، في كل يومٍ خمس صلوات، فالمقصود أنَّ هذا من تيسير الله وتسهيله ورحمته لعباده جلَّ وعلا.

أما الصوم فيسقط عنها فعلًا، لكن لا يسقط عنها قضاءً؛ لما كان في السنة شهر واحد لم يكن في قضائه مشقة، وكان في عدم قضائه تفويت لمصلحة الصوم التي فيها خيرٌ عظيم، فمن رحمة الله أن شرع لها الصيام وفرضه عليها، لكن في غير وقت الحيض والنِّفاس، بل في وقتٍ آخر، تقضيه بعد ذلك، إذا طهرت من حيضها قضت ما عليها بعد رمضان، وإذا طهرت من نفاسها قضت ما عليها من صيام رمضان في بقية السنة؛ فضلًا من الله .

والمرأة في الجملة فيها نقص؛ ولهذا في الحديث: خُلِقَتْ من ضلعٍ، وإن أعوج الضِّلع أعلاه، فإذا ذهبتَ تُقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل، ففيها نقصٌ في خُلُقها، وفي خَلقِها وصبرها؛ فإنها لا تتحمل ما يتحمله الرجال غالبًا، وهذا من جهة جنس الرجال مع جنس المرأة، أما الأفراد فلا يُنظر في الأفراد، إنما هذا في جنس المرأة؛ ولذلك قال جلَّ وعلا: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، فالله فضَّل الرجلَ بما أعطاه الله من القوة في بدنه وعقله أكثر مما أعطى المرأة غالبًا.

وقد تكون بعض النساء أحسن من بعض الرجال في عقله ودينه، وهو واقع، لكن كما قال النبيُّ ﷺ: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا كذا وكذا.

فالحاصل أنَّ جنس نقص العقل وجنس نقص الدين أمر واقع، وجنس فضل الرجل على المرأة أمر واقع بالنصِّ وبالواقع، فمن نقصان العقل ما بيَّنه النبيُّ ﷺ من شهادتها، ونقصان الدِّين ما بيَّنه من ترك الصلاة والصوم.

وإن كان هذا النَّقص لا يضرّها من جهة الدِّين؛ لأنَّه قد شرع لها ترك الصلاة والصوم، لكنه نقص في الجملة، وإن كانت لا إثمَ عليها فيه، لكن في الجملة هناك نقصٌ.

ومعلوم ما يحصل منها في الجملة من كفران العشير ومن السباب والشتائم لأتفه الأسباب، قال النبيُّ ﷺ: أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ؛ يَكْفُرْنَ، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ، وهذا واقع وملموس منهن، وكذلك تُكثر من اللَّعنة والسِّباب، وهذا واقع أيضًا في الجملة.

فالحاصل أنَّ هناك نقصًا في الجملة في الدِّين، ونقصًا في العقل في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن تكون كلُّ امرأةٍ ناقصةً بالنسبة إلى كل رجلٍ، لا، فليس المرادُ هذا في كلام النبي ﷺ، وإنما المراد في الجملة بالنسبة إلى الرجال، وبالنسبة إلى النساء، فضل الرجال بالنسبة للنساء فضلًا مجملًا من جهة الجنس، ونقص النساء عن الرجال من جهة الجنس، وقد يكون بعضُ الرجال أقلّ من بعض النساء من جهة عقله ودينه في الجملة، وقد تكون بعض النِّساء أكمل من بعض الرجال في دينها وعقلها ونشاطها في الخير، ودعوتها إلى الحقِّ، إلى غير ذلك، وهذا واقع أيضًا.

فأمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن لهن من الفضل والخير والعلم ما ليس لغيرهن، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خُويلد، وفاطمة بنت النبي ﷺ، وآسية امرأة فرعون؛ لهن فضل خاصٌّ بالنسبة إلى غيرهن من النِّساء.

وهكذا مَن تفقه في دين الله من النساء، وتعلم، وتصدر للتعليم والتدريس، لهن فضل على كثيرٍ من الرجال، وهكذا مَن يكون لهن بصيرة في تدبير البيت، وتدبير المنزل، وتربية الأولاد، قد تكون بعض النساء أفضل من زوجها بكثيرٍ في هذه المسائل.

والحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لما جئنا سرف"، سرِف: موضع قرب مكة معروف، "حضتُ"، فقال النبيُّ ﷺ: افعلي ما يفعل الحاجُّ غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري أخرجه الشيخان وغيرهما، وهو حديث صحيح، وهو طويل؛ لأنها أحرمت بعمرةٍ مع النبي ﷺ، وهكذا أزواج النبي ﷺ كلهنَّ أحرموا بالعمرة، فلما وصلن مكة أدَّينَ مناسك العمرة: طُفن وسعين وقصرن وتحللن ما عدا عائشة؛ فإنها منعها الحيض، فأمرها النبيُّ ﷺ أن تُلبي بالحجِّ مع عمرتها، فتكون قارنةً، فطهرت يوم النحر وطافت لعمرتها وحجّها وسعت، ثم قال لها النبيُّ ﷺ: طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجّك وعُمرتك، فصارت قارنةً بهذا.

ثم إنها طلبت من النبي ﷺ أن يعمرها عمرةً مستقلةً كصويحباتها، فأمر عبد الرحمن أخاها أن يعمرها من التَّنعيم، فاعتمرت بعد الحجِّ عمرةً ثانيةً.

والشاهد من هذا أنَّ الحائض تُمنع من الطواف، وأنَّ هذا مما يمنعه الحيض، كما يمنع الصلاة، ويمنع الصوم، ويمنع مسّ المصحف، ويمنع القراءة عند جمعٍ من أهل العلم، هكذا يمنع الطواف بالبيت بنصِّ هذا الحديث، أما السَّعي فليس كذلك؛ لأنه لا تُشترط له الطَّهارة، فإذا طافت سعت ولو نزل بها الحيض بعد الطواف صحَّ طوافها، وسعت وهي حائض أو نفساء، ولا يضرّها ذلك.

إنما الطَّهارة شرط للطواف؛ لأنَّ النبي ﷺ لما أراد أن يطوف توضأ وطاف، وقال في حقِّ عائشة: غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري، ولم يقل: هناك سعي، فدلَّ ذلك على أنَّ السعي لا تُشترط له الطَّهارة، وإنما هذا مما يتعلق بالطواف، وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "الطَّواف بالبيت صلاة إلا أنَّ الله أباح فيه الكلام".

وهكذا الأذكار: تذكر الله، تُسبح، وتُهلل، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، تدعو إلى الله، تُرشد الناس إلى الخير، كل هذا يعمّها ويعمّ غيرها من النساء، وإنما الذي تمنع منه الصلاة كما هو معروف، والصوم كما هو معروف، والطواف كما هو معروف.

فالأصل أنها تفعل ما يفعله الناس، ما عدا ما منعه الشرعُ من صلاتها وصومها وطوافها ومسّها المصحف: لا يمسّ القرآن إلا طاهر.

واختلف العلماءُ في القراءة: هل تقرأ من غير مسِّ المصحف؟

على قولين:

أحدهما: لها أن تقرأ؛ لأنَّ المحرمة تقرأ، النبي ما قال لها: لا تطوفي ولا تقرئي، بل قال: لا تطوفي واقتصر، فدلَّ على أنَّ لها القراءة، فهي غير ممنوعةٍ من القراءة؛ لأنه لم ينهَ في هذا، ومعلوم أنَّ المحرمين يقرأون، الرجال والنساء يقرأون القرآن، وهو من أفضل ما يتعاطونه من الأعمال القولية، فلما لم يقل لها: لا تقرئي، دلَّ على أنه تجوز لها القراءة.

ولا يجوز أن تُقاس على الجنب؛ لأنَّ الجنب له حال أخرى، الجنب مدته قصيرة؛ يغتسل إذا كان عنده ماء، أو يتيمم إذا كان فاقد الماء بسرعةٍ، ويتوضأ بعد ذلك بسرعة ..... وقت قصير، فلا مانع من منعه من ذلك كما جاء في الحديث حتى يتطهر.

لكن المرأة الحائض تطول مدتها: خمسة أيام، ستة أيام، سبعة أيام، أطول من ذلك، والنفساء كذلك تطول مدتها، فلو مُنعت من القراءة لربما شقَّ عليها، وقد تنسى ما حفظت، فكان من رحمة الله جلَّ وعلا أن ..... عليها ذلك في أصحِّ قولي العلماء، ولا سيما عند الحاجة إلى ذلك: خوف النسيان، أو عند اختبارها في دروسها، أو كونها تعلم، أو ما أشبه ذلك من الحاجات.

وجاء في حديث ابن عمر عند الترمذي: أن النبي ﷺ قال: لا تقرأ الحائضُ ولا الجنبُ شيئًا من القرآن، لكنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وإسماعيل عند أهل العلم ضعيف في روايته عن الحجازيين، وهذا الحديث من روايته عن الحجازيين؛ لأنَّ موسى بن عقبة حجازي مدني، وأهل العلم ضعَّفوه إذا روى عن الحجازيين، ووثَّقوه إذا روى عن الشَّاميين؛ لأنه ضبط روايته عنهم، ولكنه لم يحفظ ولم يضبط روايته عن الحجازيين، بل غلط فيها كثيرًا؛ ولهذا ضُعف فيها.

والحديث الثاني: حديث معاذ بن جبل : سأل النبيَّ ﷺ: ما يحلّ للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقال: ما فوق الإزار.

الحديث هذا ضعفه أهلُ العلم: كأبي داود وغيره؛ لعدم استقامة إسناده؛ ولأنه معارض لقوله ﷺ: اصنعوا كل شيءٍ إلا النكاح، وهو يدل على أنه يجوز للرجل أن يُباشرها في كل شيءٍ ما عدا النكاح، ما عدا الجماع، لكن يُستحب له أن يكون عليها إزار كما تقدم في حديث عائشة: "كان يأمرني فأتَّزر" .....، هذا هو السنة والأفضل، لكن ليس بواجبٍ، وليست مُباشرتها بحرامٍ فيما تحت الإزار، ولكنه مكروه كما تقدم في الحديث الصَّحيح.

أما هذا الحديث الذي فيه أنه لا يحلّ فهو ضعيف كما تقدم، ولا تقوم به الحُجَّة، ويبقى حديث عائشة على السنية، وأنه يُستحب للزوج أن يكون على الزوجة إزار أو سراويل أو قميص عند المباشرة، من باب حمايته عن الوقوع في المحرم، ومن باب التَّوقي من دمها، والتَّوقي عن رؤية الفرج ولمسه من دون حائلٍ، فإنَّ هذا قد يدعوه إلى عدم صبره عن جماعها، فإذا كان مستورًا كان أقرب إلى السَّلامة.

والشريعة معروفة بمجيئها بسدِّ الذرائع وإبعاد المسلم عن كل ما يضرّه: تارةً من طريق الوجوب، وتارة من طريق الاستحباب.

والحديث الرابع: حديث أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهي هند بنت أبي أمية المخزومية، طالت حياتها، وتُوفيت سنة اثنتين وستين على المشهور.

تقول رضي الله عنها: "كانت النفساء تقعد بعد نفاسها على عهد النبي ﷺ أربعين يومًا". خرجه الخمسة، وهم: أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه إلا النسائي، وصحَّحه الحاكم.

وهو حديث لا بأس به، جاء من طريقين: عن مُسَّة الأزدية، عن أم سلمة، وهو حديث لا بأس به، واحتجَّ به الجمهور على تحديد النفاس بأربعين يومًا فأقل.

وذهب قومٌ إلى أنه لا يتحدد بالأربعين، بل قد تبقى ستين يومًا، ولكن لا دليلَ على هذا القول، والصواب قول الجمهور أنه محدد بأربعين، والحديث لا بأس به، جيد الإسناد، له سندان، وهو يدور على مُسَّة الأزدية -ولا بأس بها- عن أم سلمة.

وله شاهد عند ابن ماجه من حديث أنسٍ، ولكن فيه ضعف: أن النبي ﷺ وقَّت للنفساء أربعين يومًا، إلا أن ترى الطهرَ قبل ذلك.

وله شاهد آخر من حديث عثمان بن أبي العاص عند الحاكم.

فالحاصل أنَّ الحديث لا بأس به، وهو من قبيل الحسن لذاته، أو الحسن لغيره؛ ولهذا احتجَّ به الجمهور، وأخذوا به في هذا الباب، وقالوا: إذا زاد الدمُ على الأربعين تعتبر نفسها مُستحاضة: تغتسل وتُصلي وتصوم، ولا تعتبر بهذا الدم الزائد؛ لأنه زاد على المدة المعروفة التي تعتادها النساء في نفاسهن.

وبيَّنت أم سلمة بهذا أنها كانت تقعد النفساء أربعين يومًا في عهد النبي ﷺ، وهذا بيان للأقصى، مُرادها أقصى ما تقعد، أقصى ما تقعد هذه المدة، وليس المراد أن تجلسها مطلقًا ولو لم ترَ الدم، لا، المراد هذا أقصى ما تقعد عند رؤية الدم، أما إذا رأت الطهرَ قبل ذلك فإنه يجب عليها أن تغتسل وتُصلي وتصوم، ويكون طهرها صحيحًا، ولو أنها بنت عشرة أيام أو عشرين يومًا من نفاسها، هذا هو الصواب، ولو عاد الدمُ إليها في الأربعين جلسته أيضًا كحال النفساء حتى تُكمل الأربعين.

..................

أما بعد:

لما فرغ المؤلفُ من أحاديث الطَّهارة وما يتعلق بالطهارة التي هي مفتاح الصلاة وشرط الصلاة؛ أتى بكتاب الصلاة وما يتعلق بأحكام الصلاة، وإنما قدمت الطهارة لأنها من شرط الصلاة، فتقديم الطَّهارة تقديم للصلاة، والصلاة أحقّ بأن تُقدم؛ لأنها الركن الثاني من أركان الإسلام.

أما ما يتعلق بالعقيدة فقد جرت عادة الكثير من أهل العلم عدم ذكرها في كتب الفقه، وفي كتب الحديث المتعلقة بالأحكام، وكانت عادةُ الكثيرين أن يُفردونها بالمؤلفات؛ العقيدة وما يتعلق بالشهادتين في مؤلفات مستقلة: تارة موجزة، وتارة مطولة، هذا هو الغالب، قد يذكر بعضُهم أحاديث العقيدة وما يتعلق بالعقيدة في مقدمة الكتاب، وإن كانت في الأحكام، وإن كانت في أحاديث الأحكام؛ جمعًا بين أقسام الدين كلها، وهذا شيء جيد؛ لأنَّ كتب العقيدة المفردة قد يتساهل بعضُ الناس لا يعتني بقراءتها، لكن إن كانت مع أحاديث الأحكام كان هذا أولى بأن يهتم بها ويدرسها مع ما يدرسه من أحاديث الأحكام ومسائل الأحكام.

والمقصود أن تقديم الطَّهارة من باب تقديم الصلاة؛ لأنَّ الطهارة مفتاحها وشرطها، كما في الحديث: مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، وفي الحديث: لا تُقبل صلاةٌ بغير طهورٍ رواه مسلم من حديث أبي هريرة: لا تُقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ متفق عليه.

من أجل هذا قدم العلماءُ أحاديث الطَّهارة ووسائل الطَّهارة على الصلاة؛ لأنه من تقديم الصَّلاة.

والصلاة أصلها في اللغة: الدعاء والضَّراعة إلى الله ، ومنها قوله جلَّ وعلا: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103].

فالمصلِّ داعٍ ضارعٍ إلى الله بفعله وقوله، والركوع والسجود دعاء بالفعل، الدعاء عبادة، والضراعة إلى الله وسؤاله بين السجدتين وفي السجود وفي ذلك دعاء مسألة، والصلاة مشتملة على الدعاء المعنوي والقولي: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.

وهي عمود الإسلام، وأعظم الأركان بعد الشَّهادتين كما في الحديث: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وكما في حديث ابن عمر عند الشيخين: أن النبي عليه السلام قال: بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، والآيات والأحاديث في الصَّلاة وعظم شأنها وفضلها ووجوبها والمحافظة عليها إلى غير ذلك كثيرة جدًّا معلومة.

ومن المحزن اليوم تساهل الكثير بها، والتهاون بها، وهي عمود الإسلام، مَن حفظها حفظ دينه، ومَن ضيَّعها فهو لما سواها أضيع، ويقول فيها جلَّ وعلا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، ويقول: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، ويقول: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5]، ويقول جلَّ وعلا: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1- 2]، إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:19- 23]، آيات كثيرات.

والنبي ﷺ أكثر فيها عليه الصلاة والسلام من الأحاديث، وبيَّن عظم شأنها، فوجب على أهل الإسلام أن يهتموا بها، وأن يُعنوا بها، وأن يتواصوا بها، ومَن ضيَّعها فقد ضيَّع دينه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، جعل إضاعة الصلاة واتباع الشَّهوات عنوان الهلاك، عنوان المصير إلى النار، نعوذ بالله.

والصلاة لها شروط مركبة من فرائض تُسمَّى: أركان، وفرائض تُسمَّى: واجبات عند جمعٍ من أهل العلم، ومن سنن قولية وفعلية، فينبغي للمؤمن أن يُحيط بها علًما، وأن يهتم بذلك؛ حتى يُؤديها كما شرع الله، وكما أوجب الله ، والطريق في ذلك هو تدبر الكتاب والسنة، والحفظ لما جاء في هذا المعنى؛ حتى يكون على بينةٍ، وعلى بصيرةٍ بهذه الفريضة العظيمة التي هي عمود الإسلام.

وهي أول شيءٍ يُحاسَب عليه يوم القيامة من عملٍ، فإن صلحت أفلح العبد وأنجح يوم القيامة، وإن فسدت خاب وخسر، نعوذ بالله.

في "مسند أحمد" بإسنادٍ جيدٍ عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر يومًا الصلاة بين أصحابه فقال: مَن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومَن لم يُحافظ عليها لم يكن له نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاةٌ، وحُشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأُبي بن خلف.

قال الذَّهبي وجماعة: إنما حُشر مضيع الصلاة مع هؤلاء لأنَّه إن ضيَّعها من أجل الرياسة شابَهَ فرعون فيُحشر معه يوم القيامة، وإن ضيَّعها من أجل الوزارة والوظيفة شابَهَ هامان -وزير فرعون- فيُحشر معه يوم القيامة إلى النار، وإن ضيَّعها بسبب الأموال والشَّهوات وإيثار العاجلة شابَه قارون الذي غرَّه ماله حتى خسف الله به وبداره الأرض، وإن ضيَّعها من أجل التِّجارات والبيع والشراء والمعاملات شابَه أُبي بن خلف -تاجر أهل مكة- فيُحشر معه يوم القيامة.

فوجب على المؤمن أن يحذر مُشابهة هؤلاء بالتَّساهل عن الصلاة، ووجب عليه أن يهتم بها ويُعنى بها ويُحافظ عليها في جماعةٍ في بيوت الله، كما أمر الله، وكما جرى على هذا رسوله عليه الصلاة والسلام وصحابته رضي الله عنهم وأرضاهم، ويأتي في هذا إن شاء الله أحاديث متعلقة بالمحافظة عليها، وبأدائها في جماعةٍ، إلى غير ذلك.

 

باب المواقيت

جمع ميقات، والمراد هنا: المواقيت الزمانية.

الميقات ميقاتان:

ميقات زماني: كمواقيت الصلاة، ومواقيت الحج الزمانية.

ومكاني: كمواقيت الإحرام.

وهنا المراد المواقيت الزمانية؛ فإنَّ الصلاة لها مواقيت زمانية محددة قد عُرف أولها وآخرها، والمؤلف أراد أن يذكر الواردة في ذلك، ومن أجمعها وأحسنها وأوضحها في المواقيت: حديث عبدالله بن عمرو الذي بدأ به المؤلفُ عن النبي ﷺ أنه قال: وقت الظهر إذا زالت الشمسُ، وكان ظلُّ الرجل كطوله، ما لم يحضر وقتُ العصر، هذا وقت الظهر: من زوال الشمس.

حديث أبي برزة: حين تدحض الشمس من قوله جلَّ وعلا: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] يعني: زوالها، إلى أن يصل ظلُّ الرجل كطوله، يعني: إلى هذا الحدِّ بعد فيء الزوال، نصب الشاخص، وصار ظلُّ الرجل كطوله بعد فيء الزوال انتهى وقتُ الظهر، وحضر وقت العصر.

ووقت العصر ما لم تصفر الشمسُ، يعني: بعد خروج وقت الظهر إلى أن يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله بعد فيء الزوال، بعد الزوال يدخل وقتُ العصر، ويستمر إلى أن تصفرَّ الشمسُ.

وجاء في حديث جبريل توقيت جبريل للنبي ﷺ للصلاة حتى يصير ظلُّ كل شيءٍ مثليه، يعني: بعد فيء الزوال، وهذا مقارب اصفرار الشمس، لكن اصفرارها أوسع، وهو الذي استقرَّ عليه التوقيتُ: إلى اصفرار الشمس، وإذا صار ظلُّ كل شيءٍ مثليه فيكون مقاربًا لهذا، لكن شيء واضح، يعني: علامة خاصَّة اصفرار الشمس، فينبغي أن تُقدم، بل يجب أن تُقدم قبل أن تصفر، ما دامت قويةً بيضاء نقيةً يكون هذا محلّ هذه الصَّلاة.

ووقت المغرب ما لم يغب الشَّفق، يعني: من غروب الشمس -كما في الرواية الأخرى- إلى أن يغيب الشَّفق، هذا وقت المغرب: صفرتها –الشمس- وغيبوبتها إلى أن يغيب الشَّفق، وهو الحمرة الذي في جهة المغرب، يقال له: الشَّفق، فإذا سقط هذا الشَّفق وزال انتهى وقتُ المغرب، ودخل وقتُ العشاء.

ثم يدخل وقتُ العشاء إلى نصف الليل الأوسط، يعني: توسط الزمان، فإذا كان الليلُ اثنا عشرة ساعة من غروب الشمس، فينتهي وقتُ العشاء في الساعة السادسة، وإذا كان الليلُ عشرًا انتهى وقتُ العشاء بالساعة الخامسة، وهكذا، ويكون وقت ضرورةٍ بعد ذلك، مثل: ما بعد اصفرار الشمس في العصر وقت ضرورةٍ، إن صلَّاها في هذا -وقت الضَّرورة- فقد صلَّاها في الوقت، لكن الوقت غير المختار، المختار إلى نصف الليل الأوسط، وإلى أن تصفرَّ الشمسُ.

ووقت الفجر من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمسُ، هذا وقت الفجر: طلوع الفجر الصَّادق؛ وهو البياض المعترض من جهة المشرق، المستطيل جنوبًا وشمالًا، هذا هو وقت الفجر، وهو الفجر الصَّادق الذي يستطير في الأفق، يمتد في الأفق، يعترض ويزداد نورًا شيئًا بعد شيءٍ، بخلاف الكاذب؛ وهو المرتفع في الأفق، الواقف في الأفق في نفس الحال، فهذا يُضيء ثم يُظلم ويزول.

وفي آخره عند مسلم: فإن طلعت الشمسُ فأمسك عن الصلاة؛ فإنها تطلع بين قرني شيطانٍ، يعني: يدخل وقتُ النهي إلى أن ترتفع.

هذا الحديث دلَّ على الأوقات الخمسة للصلاة، وهذه أوقاتها: وقت الظهر يدخل بزوال الشمس، ويستمر إلى أن يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله بعد فيء الزوال ..... الشمس، ثم يدخل وقتُ العصر، ويستمر إلى أن تصفرَّ الشمسُ، ثم يدخل وقت الضَّرورة بعد الاصفرار، أداؤها أداء في الوقت، لكن لا يجوز التَّأخير إليه، لكن مَن أدَّاها فيه فقد أدَّاها في الوقت مع إثمه إن كان تعمَّد التأخير.

ووقت المغرب ما لم يغب الشَّفق، إذا غابت الشمسُ دخل وقت المغرب، وهو طويل إلى أن يغيب الشَّفق.

وفيه الرد على مَن قال: إنه قصير، وإنه حين الإسفار فقط. هذا قول ضعيف، والصواب أنه مستمر، وأنه يمتد إلى أن يغيب الشَّفق، لكن أداءها في أوله أولى وأفضل وآكد، كان النبي يُؤديها في أوله كما يأتيكم إن شاء الله في حديث رافع بن خديج الذي بعد موقفكم.

ووقت العشاء عرفت أنه من حين يغيب الشَّفق يدخل وقت العشاء، وذلك ما يقارب الساعة الواحدة والنصف بعد غروب الشمس تقريبًا، ثم يستمر إلى نصف الليل، ثم يدخل وقت الضَّرورة؛ وهو ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر، ثم يدخل وقتُ الفجر؛ وهو من حين يطلع الفجر الأبيض الصَّادق إلى أن تطلع الشمسُ.

وفي حديث بريدة عند مسلم: "كان يُصلي العصر والشمس بيضاء نقية"، بُريدة بن الحصيب الأسلمي: "والشمس بيضاء نقية" ..... كما في رواية عائشة.

وفي حديث أبي موسى: "والشمس مرتفعة"، "يُصلي العصر والشمس مرتفعة".

وفي حديث أبي برزة الأسلمي: "كان يُصلي العصر ثم يرجع أحدُنا إلى رحله والشمس حيَّة"، فدلَّ ذلك على أنه كان يُبكر بها عليه الصلاة والسلام ولا يُؤخرها، هذا هو السنة: التَّبكير بها، ولكن لو أخَّرها بعض الشيء قبل أن تصفرَّ الشمسُ فلا حرج، ولا سيما إذا أخَّرها لعلةٍ؛ لأنَّ جماعته لهم شغل، أو لأجل أن يجتمعوا؛ لأنهم مشغولون بأشياء تمنعهم من التبكير، أو لأسبابٍ أخرى رآها شرعية، وإلا فالسنة التَّبكير بها.

وفي حديث أبي برزة الدلالة على التَّبكير بالعصر، وأنها تُصلى والشمس حيَّة، ويرجع الناسُ إلى بيوتهم ومساكنهم في أقصى المدينة والشمس لا تزال حيَّة لم يدخلها شيء من الصُّفرة.

وفي أول حديث أبي برزة: "كان يُصلي الظهر حين تدحض الشمس"، "كان يُصلي الأولى حين تدحض الشمس" أي: تزول، ودحضت: زالت، حذفها المؤلفُ، وكان ينبغي له أن يذكره من أوله رحمه الله.

وقال في المغرب، قال سيار بن سلمة الراوي عن أبي برزة: نسيتُ ما قال في المغرب. كما ذكر صاحب "العمدة"، وهو في "الصحيحين".

وقال: وكان يستحب أن يُؤخر العشاء، تقدم أنَّ المغرب يُصليها إذا وجبت، إذا غابت الشمسُ كما في حديث جابرٍ الذي يأتي طرفٌ منه: "كان يُصلي المغرب إذا وجبت الشمسُ"، وفي حديث رافع بن خديج: "كان يُصليها وإن أحدنا ليُبْصِر مواقع نبله" .....، فيُبَكِّر بالمغرب.

وكان يستحب أن يُؤخر العشاء عليه الصلاة والسلام، يستحب أن يُؤخر العشاء بعض الشيء، ما كان يُبادر بها عليه الصلاة والسلام، من حين يغيب الشَّفق، لا، بل كان يُؤخرها بعض الشيء، وربما أخَّرها إلى ثلث الليل الأول، وقال: إنه لوقتها لولا أن أشقَّ على أمتي عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أن تأخيرها أفضل إذا اصطلح على ذلك جماعةٌ ورأوا ذلك فهو أفضل، وإن شقَّ على الناس ذلك بكَّر بها كما فعله النبيُّ ﷺ؛ في الغالب كان يُبكِّر بها؛ حتى يتَّسع وقتُ الليل للنَّائمين، وبعد تعب الأعمال، فالسنة أن تُصلي في أول الوقت، لكن بعد تأخيرها شيئًا، لا يُبادر بها مبادرةً، بل يُؤخرها بعض الشَّيء.

وكان يكره النومَ قبلها، والحديثَ بعدها: النوم قبلها مكروه، ولعلَّ العلة والحكمة في ذلك أنه وسيلة إلى إضاعتها في الوقت، أو إضاعتها في الجماعة، فإذا غلبه النومُ قد يصعب عليه القيام لها وحضور الجماعة، فلعلَّ هذا هو السر في كراهة النوم قبلها؛ لأنه وقت قصير، كما أنَّ الإنسان قد يثقل فلا يحضر الجماعة، أو لا يُصليها في الوقت؛ فيكون بهذا قد فعل منكرًا ومعصيةً؛ فلهذا كُرهت له الوسيلة التي قد تُفضي إلى هذا الشيء.

والحديث بعدها أي: السمر، وما ذاك إلا لأنه قد يُفضي إلى إضاعة التَّهجد بالليل في آخر الليل، وإلى إضاعة الفريضة أيضًا في وقتها، أو في الجماعة؛ ولهذا كره التَّحدث بعدها والسَّمر؛ لأنه قد يُفضي إلى أن يضيع حزبُه من الليل، أو يضيع صلاة الفجر في الجماعة، أو أشد من ذلك يضيع صلاتها في الوقت، وهذا واقع، فمَن اعتاد السَّهر فإنه في الغالب لا يحضرها في الجماعة، وقد يُضيعها حتى في وقتها فلا يُصليها إلا بعد الشمس، وهذا من أعمال المنافقين، ومن صفات المنافقين، نعوذ بالله من ذلك.

وقد جاء في حديث ابن مسعودٍ: أن النبي زجر عن السَّمر في الليل، لا ينبغي للإنسان السَّمر في الليل إلا لحاجةٍ ومصلحةٍ إسلاميةٍ: كدراسة القرآن والأحاديث، والاستعداد للدروس صباحًا، ونحو ذلك على وجهٍ لا يضرّه ولا يشغله عن الصلاة في الجماعة، فلا بأس أن يسهر يسمر قليلًا لمصالح المسلمين: كالإمام، وهيئة الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والشُّرَط، وأشباه ذلك في المصالح العامَّة للمسلمين، وكطالب العلم: يدرس الحديث، يدرس القرآن، يتذاكر مع إخوانه، أو مع شيوخه العلم وقتًا لا يضرّ ولا يُسبب ما خافه النبيُّ ﷺ من إضاعة الصلاة.

وقد سمر النبيُّ ﷺ في بعض الليالي في مصالح المسلمين، ويسمر شيئًا مع الصديق ومع عمر في مصالح المسلمين، فلا بأس بذلك عند الحاجة، وإلا فينبغي ترك ذلك، وأقلّ أحواله الكراهة، فإذا كان السَّمر في المعاصي صار الأمرُ أعظم وأقبح؛ إذا كان السمر على الأغاني وآلات الملاهي كان ذلك أكبر، وكان مُحرَّمًا، وكان شنيعًا؛ لأنه معصية تُفضي إلى معاصٍ: تُفضي إلى إضاعة الصلاة أو تركها في الجماعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وفي حديث أبي برزة: "وكان ينفتل من صلاة الغداة" ينفتل يعني: ينصرف منها "حين يعرف الرجلُ جليسه" يعني: عند إضاءة الفجر وانتشار الفجر في المسجد، وهو ليس فيه مصابيح، فإذا انصرفوا يعرف الرجلُ وجه جليسه من ضياء الصبح، وكان يقرأ بالستين، من الستين آية إلى المئة، يعني: غالبًا، فهذا يدل على أنه يُطول في صلاة الفجر عليه الصلاة والسلام، ما كان يُخففها، بل كان يُطول فيها لأمرين:

أحدهما: أنها خفيفة، ركعتان، شُرع فيها إطالة القراءة.

والأمر الثاني: أنَّ الناس عندهم نشاط، عندهم قوة في الغالب ورغبة في سماع القرآن؛ فإنهم بعد راحة الليل، بعد راحة النوم ناسب أن يسمعوا كلام الله.

وأمر ثالث: وهو أنها صلاة جهرية، يسمع الناسُ كتابَ الله، فهم نشيطون، فيحصل لهم طول الصلاة، والعناية بالتسبيح والدعاء، التسبيح في ركوعها، والدعاء في سجودها، فإطالتها فيه مصالح أول النهار وحال النشاط.

ثم في ذلك إسماعهم كتاب الله ، فيُطال في ذلك حتى يستفيدوا في هذا الوقت المناسب الذي هو وقت الراحة ووقت استقبال النهار، وربما قرأ بأقلّ من ذلك، كما جاء في الأحاديث الصَّحيحة: ربما قرأ بـق ووالطور، وربما قرأ بأقلّ من ذلك: كالتكوير، فهو ﷺ قد يقصر بعض الشيء، لكن الغالب عليه أنه يُطول فيها أكثر من بقية الصَّلوات.

وفي حديث جابرٍ في الظهر قال: "وكان يُصلي الظهر في الهاجرة"، اختصره المؤلفُ، في "الصحيحين": "كان يُصلي الظهر في الهاجرة"، يعني: يُبَكِّر بها ما لم تقتضي الحال الإبراد بها عند شدة الحرِّ، والعصر والشمس بيضاء نقية، والمغرب إذا وجبت الشمسُ: سقطت. قال: والعشاء أحيانًا وأحياًنا؛ أحيانًا ُيقدمها، وأحيانًا يُؤخِّرها؛ إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطأوا أخَّرها، هذا يدل على أنه يخصّ هذه الفريضة بهذا المعنى، ما كان يفعل هذا في الأربع، في الصلوات الأخرى، بل كان يخصّها العشاء بهذه العناية: إذا رآهم اجتمعوا عجَّل، وإذا رآهم أبطأوا أخَّر.

ولعلَّ السر في ذلك أنَّ المغرب قصير، وقد يعرض للناس ضيوف أو حاجات أخرى فيتأخَّرون فينتظرهم عليه الصلاة والسلام، وقد يجتمعون لعدم وجود موانع فيُعجل عليه الصلاة والسلام.

فينبغي للإمام أن يتحرى ما تحراه النبيُّ ﷺ في العشاء؛ فلا يعجل إذا رآهم لم يجتمعوا، وإن رآهم اجتمعوا عجَّلها وصلَّاها في الوقت المعتاد.

أما بقية الصَّلوات فيكون له فيها راتب واضح يعرفه الناسُ؛ حتى يحضروا، فالمغرب يُبَكِّر فيها، والعصر يُبَكِّر بها، لكن لعله يُؤخر شيئًا ليتمكن الناسُ من الوضوء والحضور وصلاة أربع ركعات: رحم الله امرأً صلَّى أربعًا قبل العصر، كان ﷺ لا يعجل بها، بل يُصليها والشمس مرتفعة، لكن بعد شيءٍ من الوقت بعد الأذان؛ ليتمكن فيه الناس من الوضوء والصلاة، وهكذا الظهر، وهكذا الفجر، أما المغرب فكان يُبكر بها أكثر من غيرها عليه الصلاة والسلام، ليس بين الإقامة والأذان إلا شيء قليل، كما جاء في الروايات الكثيرة، ما كان بين الأذان والإقامة إلا شيء قليل، كان الصحابةُ يُصلون بعد الأذان ركعتين ثم تُقام الصَّلاة.

وفي حديث جابرٍ: "والصبح يُصليها بغلسٍ"، كان الصبح يغلس بها بعد انشقاق الفجر، وبعد وضوح الفجر، لا يُؤخِّرها حتى يُسفر جدًّا، حتى تزول الظلمة، لا، كان يُصليها بغلسٍ، والغلس: اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل، هو صبح واضح، ولكن فيه بقية من ظلمة الليل، هذا هو الغلس، هذا هو الغالب من فعله عليه الصلاة والسلام، وهذا معنى حديث رافع بن خديج: أصبحوا بالصبح؛ فإنه أعظم للأجر يعني: أصبحوا به، لا تُبَكِّروا به في وقتٍ قد يظنّ أنَّ الصبح لم يطلع، أو من حين يطلع، لا، بل يُؤخَّر بعض الشيء، يُصبح به ..... حتى يتلاحق الناسُ، وحتى يحضر الناسُ، وحتى يتأكد من طلوع الفجر وبروزه وظهوره؛ ولهذا كان في مُزدلفة يُبكر بها أكثر من عادتها، يُصليها قبل ميعادها إذا طلع الفجر، فدلَّ على أنه في غير مُزدلفة يُؤخرها بعض الشيء حتى يتلاحق الناسُ، وحتى يتَّضح الفجر ..... إذا تلاحق الناس ..... فيقوم ويُصلي ركعتين، ثم يُصلي عليه الصلاة والسلام.

فالحاصل أنه كان لا يعجل في الفجر حتى ينشق الفجر، وحتى يتضح الفجر، ولا يكون فيه شبهة، وحتى يتلاحق الناسُ للصلاة، لكن من غير إسفارٍ كثيرٍ، بل يبقى هناك غلس.

وأما ما حمله الأحنافُ، ما قاله الأحنافُ من الإسفار بها كثيرًا حتى تزول الظلمة، فليس بجيدٍ، وليس لهم حُجَّة في قوله: أسفروا بالفجر؛ لأنَّ الأحاديث يُفسر بعضُها بعضًا، ويُبين بعضُها بعضًا، معنى الإسفار بالصبح يعني: أن يتأكَّد من ظهور الصبح وانشقاقه وبيانه، وليس المراد تأخير الصبح حتى يزول الظلام بالكلية، وحتى لا تبقى ظلمة، لا، ليس المراد هذا؛ لأنَّ هذا يُقارب الأحاديث الأخرى الكثيرة الصَّحيحة التي فيها التَّغليس، والجمع بين الأحاديث واجب.

وهذا قول الجمهور، قول الأكثرين: أن السنة التَّغليس بعد التَّأكد من ضياء الفجر وانشقاقه وظهوره؛ ولهذا في حديث أبي موسى: "فقام للفجر حين انشقَّ الفجرُ، والناس ما كان يعرف بعضُهم بعضًا" يعني: عند إقامة الصلاة، وعند الفراغ منها، كما في حديث أبي برزة: "يعرف الناسُ بعضهم بعضًا"، ولكن عند إقامتها لا يعرف بعضُهم بعضًا إذا كان ما في سرج.

وبهذا كله يبين لنا أنه كان يتأخر قليلًا حتى ينفجر الفجر ويتضح ويُسفر وينشق، ولكن لا يكون الانشقاقُ كاملًا بحيث يتعارف الناسُ، في الوقت الذي ليس فيه سراج المصابيح، في الأوقات التي ليس فيها سراج، والله أعلم.

س: الظهر باقٍ إلى العصر؟

ج: نعم، ليس بينهما فاصل.

س: والمسافر مُخيَّر؟

ج: إن شاء جمع تقديمٍ، وإن شاء جمع تأخيرٍ.