09 من حديث (إذا جاء أحدكم المسجد, فلينظر, فإن رأى في نعليه أذى..)

في معناه عدة أحاديث: منها ما رواه الشيخان عن أنسٍ : أنه سُئل: أكان النبي يُصلي في نعليه؟ فقال: نعم.

وأحاديث أخرى دلَّت على ذلك، منها حديث: خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يُصلون في نعالهم، ولا في خفافهم.

الحاصل أنَّ الصلاة في النِّعال والخِفاف سنة مُستحبة، وخلاف لليهود، ولا حرج فيها، ولكن بعد العناية؛ يجب أن يعتني بها؛ حتى لا يكون فيها أذى، إذا أراد الدّخول ينظرها ويعتني بها ويقلبها، فإن رأى فيها شيئًا أزاله، وإلا صلَّى فيها، هكذا جاءت السنةُ عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهكذا حديث أبي هريرة في المعنى: طهورهما التراب يعني: إذا حكَّها بالتراب وأزال ما فيها من التراب أو نحو التراب: كالحجر أو اللبن أو العظم والأعواد، إذا حكَّ ما فيها وأزال ما فيها جاز؛ لأنَّ المقصود الحذر أن يُصلي فيها وفيها القذر.

وأصل هذا الحديث -أصل حديث أبي سعيدٍ- أن النبي ﷺ صلَّى ذات يومٍ بنعليه، فجاءه جبرائيل ونبَّهه أنَّ فيهما قذرًا، فخلعهما وأتمَّ صلاته، فخلع الناسُ نعالهم، فلما سلَّم سألهم، وقالوا: إنا رأيناك خلعتَ نعليك فخلعنا نعالنا. قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أنَّ فيها قذرًا فخلعتُهما، فإذا أتى أحدُكم المسجدَ فلينظر: فإن رأى في نعليه قذرًا فليمسحهما، ثم يُصلي فيهما هذا صريح بأنه يجب العناية بالنَّعلين؛ حتى لا تُقذر المساجد، وحتى لا تدخل بالأشياء القذرة من نجاسةٍ ونحوها، وإذا كانت سليمةً صلَّى فيها.

بقي ما يتعلق بهذه الفرش التي استُجدت أخيرًا، كانت المساجد تُفرش بالحصباء والرمل ونحو ذلك، والناس يُصلون فيها بالنِّعال ولا تتأثر، والناس أيضًا كان عندهم دين، كان عندهم عناية بالنعال وتنظيفها، ثم مع طول الزمان وغلبة الجهل صار كثيرٌ من الناس لا يُبالي؛ يأتي ويدخل المسجد ولا ينظر في نعليه، فربما لطَّخ المسجدَ بالنَّجاسة، ووقع في المحذور الذي حذَّر منه النبيُّ عليه الصلاة والسلام.

والآن زاد الأمرُ في هذا بفرش المساجد من فرشٍ حسنةٍ؛ لترغيب المصلين للصلاة، وللوقاية من الغبار الذي قد يخشاه بعضُ الناس ويتخلَّف عن الجماعة لأجل ذلك، فقد يقال حينئذٍ: إنَّ مراعاة شعور الناس وتنظيف فرشهم يقتضي أن تُوضع النِّعال في مواضع تحفظها، ولا يُدخل بها وإن كانت نظيفةً لأمرين:

أحدهما: أن بعض الناس مع العناية قد يكون فيها من الغبار والأذى والأتربة ما يُقذر الفرش ويُنفر من الصلاة عليها ومن حضور الجماعة.

والأمر الثاني: أن أكثر الناس عندهم من الجهل، وعندهم من الغفلة وعدم العناية ما يُسبب دخولهم المساجد بالأقذار والأوساخ؛ فيحصل بذلك تقذير الفرش وإفسادها وتقذيرها على المصلين، وتنفير الناس من الصلاة.

فالأولى عندي والله أعلم في هذه الحال أن تُجعل في مكانٍ حتى لا يحصل هذا المحذور في هذه الحالة، والسنة باقية بحالها، لكن عند تغير الأحوال وتغير الزمان ..... يُراعى شعور الناس، ويراعى عدم تنفيرهم من المساجد بالفرش التي فيها الغبار والأوساخ التي غير النَّجاسة، قد تكون الأوساخُ غير النَّجاسة، والله أعلم.

س: الجدار -جدار المقبرة وجدار الحمام- كافٍ، يكون حائلًا كافيًا؟

ج: كثير من أهل العلم يرى أنه كافٍ؛ لأنه ما صلَّى في الحمام، ولا صلَّى في المقبرة، لكن لو تيسر شيء آخر، فاصل آخر من بُعدٍ أو جدارٍ آخر قد يكون أسلم؛ لأنَّ هذا الجدار قد يُقال: جدارها منها، ولكن عدم التَّشديد أولى إذا كان خارجها.

س: الصلاة في جوف الكعبة، صلاة الفريضة؟

ج: الصحيح صحَّتها، لكن الأفضل خارجها، الأفضل أن يستقبلها كلها.

س: والفقهاء حجَّتهم في المنع؟

ج: أقول: ما أعلم لهم حُجَّةً في هذا، الصحيح الذي قاله جمعٌ من أهل العلم أنه لا حرج في هذا، لكن ليس له أن يُصلي فيها، بل يُصلي مع الناس في الصفوف، لكن لو قُدِّر أنه صلَّى ..... فائتة، أو فاتته الصلاة فلا حرج، لو صلَّى فيها فلا حرج، مثل: صلاة النافلة، الأصل أنهما سواء، هذا الأصل؛ إن صحَّت النافلةُ صحَّت الفريضةُ إلا بمخصصٍ.

س: ...............؟

ج: ليس بشيءٍ، النعال من قديم الزمان، وهي من الجلد.

أما بعد: فهذا حديث معاوية بن الحكم، وهو السّلمي : أنَّ النبي قال له: إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التَّسبيح والتَّكبير وقراءة القرآن رواه مسلم.

أصل هذا الحديث أنَّ معاوية سمع رجلًا عطس وحمد الله فشمَّته معاوية قال: يرحمك الله، فرأى الناسَ أشاروا إليه يُسكتونه، فلما سلَّم أتى النبيَّ ﷺ وأخبره أنه فعل كذا وكذا، فقال له النبيُّ: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، وبيَّن له النبيُّ ﷺ أن التَّشميت من كلام الناس العادي الذي لا يكون في الصلاة، فالمصلي لا يُشمت، ولا يردّ السلام، ولا يبدأ بالسلام؛ لأنَّ السلام من كلام الناس المعروف: السلام عليكم، وعليكم السلام، يرحمك الله، يرحمكم الله، من كلام الناس، ومن خطابهم، فلا يجوز الكلامُ بهذا في الصلاة، بعدما نسخ الله الكلام في الصلاة.

وكان الناسُ في أول الإسلام يتكلمون في الصلاة في حاجاتهم، في الحاجات المهمة، ليس المراد أنهم يتكلمون في كل شيءٍ، بل كانوا في أول الأمر يتكلمون في حاجاتهم في الصلاة، ثم نُسخ ذلك، كما دلَّ على هذا حديثُ زيد بن أرقم، قال: "كنا نتكلم في الصلاة على عهد النبي ﷺ، يُكلم أحدُنا صاحبَه في حاجته، حتى نزل قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فأُمرنا بالسُّكوت، ونُهينا عن الكلام".

القنوت له معانٍ، من معانيه: السُّكوت وعدم الكلام، كما في هذه الآية.

فاستقرت الشريعةُ الكاملةُ على أنَّ الإنسان إذا دخل في الصلاة لا يتكلم، بل يشتغل بها، ويعتني بها، ويخشع فيها، ويُقبل عليها بقلبه وقالبه حتى يُسلم، لكن لا بأس أن يرد السلام بالإشارة، لا بأس أن يُشير إلى شيءٍ إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك، لا بأس أن يُسبح إذا سهى الإمامُ، وتُصفق المرأةُ إذا سهى الإمامُ، كل هذا بقي، لما زال الكلامُ بقي ما يقوم مقام الكلام؛ فضلًا من الله؛ ولأنَّ الناس في حاجةٍ إلى هذا الشيء، فبقي هذا الشيء الذي لا يضرّ المصلي، ولا يشغله، وتُقضى به الحاجة.

ومن هذا ما جاء في حديث جابرٍ: أنه سلَّم على النبي ﷺ وهو على ناقته، فلم يرد عليه، فلما سلَّم قال: إنَّك سلمتَ عليَّ وأنا في الصلاة، وفي حديث ابن مسعودٍ: إنَّ الله يُحدث من أمره ما شاء، وإنَّ مما أحدث ألا نتكلم في الصلاة.

المقصود أنها استقرت الشريعةُ على أنه لا يتكلم في الصلاة، بل يرد بالإشارة إذا سُلِّم عليه، وإذا دعت الحاجةُ يُشير، كما يأتي في حديث عليٍّ وفي غيره، فإذا ضُرب عليه البابُ أشار بسبحان الله، أو بالنحنحة، كما يأتي في حديث عليٍّ، وإذا سهى إمامُه يُسبح الرجالُ، وتُصفق النساء ..... حديث أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال: التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء متفق عليه، زاد مسلم: في الصلاة.

ومن هذا ما جاء في الحديث الصحيح: قصة أبي بكر لما تخلَّف النبيُّ ﷺ في بني عمرو بن عوف يُصلح بينهم، فجاء بلال إلى أبي بكر لصلاة الظهر، فقال: هل لك أن تُصلي بالناس؛ فإنَّ الرسول قد حُبس عند بني عمرو بن عوف؟ فقال له أبو بكر: إن شئتَ. فأقام بالناس الصلاة، ودخل الصديقُ في الصلاة وكبَّر، فلما كبَّر جاء النبيُّ ﷺ في الحال، فجعل يشقّ الصفوف عليه الصلاة والسلام حتى قام في الصف الأول خلف أبي بكر، فجعل الناسُ يُصفقون لينتبه أبو بكر، فلما أكثروا التفت، وكان لا يلتفت في الصلاة، فلما التفت رأى النبيَّ ﷺ، فأشار إليه النبيُّ ﷺ أن مكانك، يعني: صلِّ بالناس، فرفع يديه أبو بكر وحمد الله وأثنى عليه، ثم تأخَّر القهقرى حتى قام في الصلاة، وتقدم وصلَّى بالناس عليه الصلاة والسلام، ولما سلَّم قال: ما لك يا أبا بكر لم تُصلِّ بالناس لما أشرتُ لك أن تُصلي بالناس؟ فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قُحافة أن يُصلي بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ثم قال: ما لكم أخذتم بالتصفيق؟! مَن نابه شيءٌ في صلاته فليُسبح الرجال، ولتُصفق النساء هذه السنة، مَن نابه شيءٌ في الصلاة، أو ناب الإمامَ شيءٌ أو المأمومين فالتَّسبيح، يُسبح المأمومُ للإمام حتى ينتبه إذا سهى في صلاته؛ حتى ينتبه لسهوه، وإن كنَّ نساء صفَّقْنَ باليد على الأخرى لينتبه؛ لأنَّ أصواتهن قد يفتنَّ بها بعض الناس، فناسب في حقهن التَّصفيق، وإن كانت لا بأس أن تتكلم بالصوت في غير الصلاة في حاجاتها: كسؤالها، وخصومتها، ونحو ذلك، لكن ما أمكن أن تخفض صوتها، وما أمكن أن تكتفي بغير الصوت من التَّصفيق، فهو أولى بحقِّها؛ لئلا يُفتن بها أحدٌ.

ومن ذلك: إذا طُلب منه حاجة وهو يُصلي؛ قيل له: هل جاء فلان؟ هل سافر فلان؟ ودعت الحاجةُ إلى الجواب يُشير بما يُفهم منه: لا أو نعم، ولا بأس بذلك، كما يُشير إذا سُلم عليه، كما يأتي إن شاء الله في حديث ابن عمر، إذا سُلم عليه يُشير، يردّ بالإشارة، فهذا من جنس هذا، من جنس ما ذُكر في حديث أبي هريرة: أنه لما نُسخ الكلام أبقى الله ما يقوم مقام الكلام مما ينتفع به وتحصل به الحاجة.

وهكذا الحديث الرابع: حديث مطرف بن عبدالله بن الشخير، التابعي الجليل، عن أبيه عبدالله بن الشخير العامري، صحابي جليل، قال: "رأيتُ النبيَّ ﷺ يُصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء".

الأزيز: الحركة والصوت بخشونةٍ.

وكان ﷺ يخشع في الصلاة، ويبكي في الصلاة بعض الأحيان عليه الصلاة والسلام، فهذا يدل على أنَّ البكاء فيها والخشوع فيها وما يحصل من الباكي من صوت الحزن والعبرة كل هذا لا يضرّ الصلاة.

وكان الصديقُ إذا دخل في الصلاة لا يكاد يُسْمَع من البكاء رضي الله عنه وأرضاه، وكان عمر ربما بكى حتى يُسمع نشيجه من وراء الصُّفوف.

فهذا يدل على أنَّ الخشوع في الصلاة وما يعتري الإنسان من البكاء فيها عند قراءة الآيات وسماع الآيات لا يضرّه بالصلاة، وليس من الكلام، بل هذا من آثار الخشوع؛ فيُغتفر في الصلاة، ولا يضرّ الصلاة، والله أعلم.

س: إذا عطس يحمد الله سرًّا؟

ج: يحمد في الصلاة لا بأس، إذا عطس يحمد الله ولو في الصلاة؛ لأنه جاء في حديثٍ صحيحٍ رواه البخاري ما يدل على هذا؛ لأنَّ الحمد لله ما هو كلام للناس، من جنس ما يُقال في الصلاة: "الحمد لله" من جنس ما يُقال في الصلاة، فلا بأس.

س: طرق عليه الباب وهو يُصلي، ولم يكن في الدَّاخل سواه؟

ج: يتنحنح، أو يقول: سبحان الله؛ حتى يسمعه.

س: ولو خارج البيت نساء يدققن على الباب، وهو قريب من الباب؟

ج: ما يضرّ، إذا كان عرف الضاربَ، ما يخشى منه شيئًا، وعرف أنَّ الضارب مأمون وفتح له لا بأس، كما فتح النبيُّ البابَ لعائشة، تقدم أنَّ النبي ﷺ في صلاة الكسوف لما عُرضت عليه الجنة تقدم، وتقدمت الصفوف، وأراد أن يأخذ قطفًا من العنب، فلم يتيسر له ذلك، ولما رأى النارَ في صلاة الكسوف تأخَّر وتأخَّرت الصفوف، كل هذا يدل على جواز مثل هذا للمصلحة والحاجة.

........ قال: كان لي من رسول الله مدخلان ..... تنحنح لي. كأنه  قد رتَّب مع النبي ﷺ وقتين في الليل والنهار يدخل فيهما عليه عليه الصلاة والسلام، وكان له خاصية من جهة قرباته في الدنيا، ومن جهة كونه زوج ابنته فاطمة ، وكان إذا أتاه يُصلي تنحنح؛ إشارةً إلى أنه يُصلي، فدلَّ ذلك على أنه لا بأس بهذا؛ أنه لا حرجَ في أن يتنحنح الإنسانُ؛ ليعلم مَن على الباب أنه يُصلي فينتظر، أو يدخل إذا كانت العلامة الدخول، كما لو ..... ادخل.

الحاصل أنه لا بأس ..... يدل على الشخص أو مَن أتى لزياته يكون بينه وبينهم علامة إذا كان يُصلي: بالتسبيح، بالتَّنحنح؛ حتى لا يشقَّ عليه بالمكوث، أو حتى يدخلوا، أو حتى ينصرفوا، على حسب ما جعل بينه وبينهم من العلامة، قد تكون العلامة أنه في الصلاة فينصرفوا، قد تكون العلامةُ أنه في الصلاة فيدخلوا، قد تكون العلامةُ أنه في الصلاة فينتظروا، على حسب ما بينه وبينهم.

وهذه الحركة وإن كانت في الصلاة لكنها قليلة لمصلحةٍ عارضةٍ فلا بأس، لا بأس بهذا فيما يقول: سبحان الله، سبحان الله، مَن نابه شيء، وتُصفق النساء إذا نابهنَّ شيء في الصلاة .....، بل تغتفر في الصلاة ..... العارض الشيء القليل الذي يُحتاج إليه معفوٌّ عنه في الصلاة، وسبحان الله والتَّصفيق للنساء والتَّنحنح للرجال بأنهم في الصلاة، وكالإشارة بالرأس أو باليد للحاجة، وما أشبه ذلك.

وفي هذا حديث ابن عمر ..... يُصلي، أشار إليه بيده ..... قال هكذا، يعني المصافحة كما صرَّح بذلك في روايةٍ أخرى، فإذا سُلِّم عليه وهو يُصلي أشار رادًّا هكذا، بدلًا من النطق، فإنَّ الصلاة لا يصلح فيها من كلام الناس شيء، كانوا فيما سبق ينطقون بالأشياء التي يُحتاج إليها كما تقدم، ثم نُسخ ذلك، ووجب عليهم الإنصات عن الكلام، حتى ردّ السلام فيرد بالإشارة.

وهذه الإشارة لا تقدح في الصلاة، ولا تُؤثر فيها؛ لأنها قليلة خفيفة .....

وفي هذا الباب تقدمه ﷺ في صلاة الكسوف وتأخُّره ..... جهر في الصلاة، ومن هذا صعوده المنبر ونزوله، وقال: إني فعلتُ ذلك لتأتمُّوا بي وتعلموا صلاتي.

ومنها ما ذُكر في حديث أبي قتادة: أنه كان يُصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، وهي بنت ابنته زينب، هذه ابنته ﷺ زوجة أبي العاص ابن الربيع، ولما أسلم ردَّها عليه، فهذه أمامة بنت زينب بنت أبي العاص ابن الربيع ..... ليعلم الناسُ سماحةَ الشريعة، وعدم التَّشديد والتنطع والتَّكلف، وأنه لا حرجَ لو صلَّى الإمامُ وهو حامل بعض أطفاله، فإن سجد وضعه في الأرض؛ ليتمكن من السجود، وإذا قام حمله ولا حرج في ذلك.

وهذا من العمل مُغتفر إذا دعت له الحاجة؛ ليعلم الناسُ أنَّ في الدِّين فسحةً، وفيه تيسير، وليس فيه التشديد والأغلال.

ومثل هذا لو كانت حوله دابَّة، كما في حديث أبي برزة: كان يُصلي وخطام فرسه في يده، وكان يُسايرها وهو يُصلي، وكلما مشت قليلًا مشى معها قليلًا ُيسايرها، حتى أنهى صلاته، فإذا كان حبلُ فرسه أو ناقته أو بغلته في يده وهو يُصلي فلا مانع أن يُسايرها ..... حتى يُكمل صلاته، فهذا جائز، قد يحتاج إليه الإنسانُ، قد يُبتلى به الإنسان.

الرابع: حديث أبي هريرة مرفوعًا: اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب، أمر النبيُّ ﷺ بقتل الأسودين في الصلاة، الأسودان من باب التَّغليب: العقرب سوداء، والحية قد تكون سوداء، وقد تكون غير ذلك، فهذا من باب التَّغليب، المقصود من ذلك أنهما عدوان حقيران، فلا يُمهلان، إذا رآهما ولو في الصلاة يقتلهما؛ لئلا يضرَّا أحدًا، فلا ..... العقرب والحية حتى تموت، لا يضرّ ذلك في الصلاة، هذا عمل يسير في جنب المصلحة العظمى، أو لتوقِّي شرّ هذا الحيوان الذي يلدغ ويضرّ، أما لو كانت بعيدةً ويخشى على نائمٍ أو على طفلٍ وهي بعيدة، فالذي يظهر على قواعد الشَّريعة أنه في هذه الحال يقطع، مثل: لو كان حريقًا أو غرقًا أو عدوًّا هاجم؛ يقطع الصلاة .....

.........

هذا الباب في سُترة المصلي.

سترة المصلي: ما يُوضع أمامه، وهي سنة وليست بواجبةٍ، لكنها سنة أن يُصلي إلى سترةٍ المنفرد والإمام، وكان النبيُّ ﷺ يُصلي إلى السترة، تُنصب له العنزة غالبًا، وهي ليست واجبةً، فقد ثبت أنه صلَّى في بعض الأحيان في الصَّحراء وليس أمامه شيء، وهذا والله أعلم لبيان الجواز، وأن السترة هي السنة، وهذا ظاهر من فعله عليه الصلاة والسلام ..........

الحديث السابع: عن ..... حديث أبي سعيدٍ الخدري، وهو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، من بني خُدرة، صحابي، وأبوه صحابي، كلاهما صحابي.

عن النبي قال: إذا صلَّى أحدُكم إلى شيءٍ يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه يعني: يمرّ بين يديه فليدفعه وفي لفظٍ: فليَدْرَأْه ما استطاع، فإن أبى فليُقاتله يعني: فليدفعه بشدةٍ، قاتل الرجل يُقاتله: إذا دافعه وضربه ونحو ذلك، وليس المراد القتل الذي هو ضربه بالسيف ونحو ذلك، المراد المدافعة الشَّديدة، كما قال أهل العلم.

فإنما هو شيطانٌ يعني: متمرد شيطان، كل جنسٍ متمرده وعاتيه فإنه شيطانٌ: من بني آدم قد تعدَّى وعتى؛ فلهذا أطلق عليه "شيطان"، كما يُقال في فسقة الجنِّ ومردتهم ومُضليهم: إنهم شياطين؛ لتمردهم وعدوانهم، ويُقال للحيوان المتعدي والمتمرد، يقال له: شيطان.

وفي روايةٍ أخرى: فإنه قرين، أي: معه الشيطان يؤزُّه إلى هذه الأشياء ويسوقه إليها؛ لأنَّ الشيطان من دُعاة النار، وكل إنسانٍ معه قرين من الشياطين، كما جاء في الحديث الصحيح: ما منكم من أحدٍ إلا ومعه قرينٌ من الملائكة، وقرينٌ من الشياطين، وفي روايةٍ: قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أنَّ الله أعانني عليه فأسلم.

وهذه الرواية التي ذكرها المؤلفُ ليست من رواية أبي سعيدٍ كما يُوهمه عمل المؤلف، بل هي من رواية ابن عمر في "صحيح مسلم"، من رواية ابن عمر: فإنَّ معه القرين، فليُقاتله فإنَّ معه قرينًا، والشارح رحمه الله عزى هذه الرواية لأبي هريرة في مسلم، وليس الأمر كذلك، بل هي لابن عمر، لا لأبي هريرة، هكذا في مسلم، وهكذا في "المسند" أيضًا.

فهذا يدل على أنه يُشرع للمصلي إذا صلَّى إلى شيءٍ يستره من الناس -إلى سترةٍ- فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه؛ أن يدفعه بما استطاع، ويرده ما استطاع؛ لأنَّ مروره يُشوش عليه صلاته، ويقع المارُّ في الإثم جميعًا، فينبغي له أن يردّ، وهكذا فعل النبيُّ ﷺ: كان يردّ المارَّ بين يديه عليه الصلاة والسلام.

وقوله: إلى شيءٍ يستره من الناس الظاهر لا مفهومَ له، وإنما ساقه عليه الصلاة والسلام لأنه الغالب، الغالب أنَّ الإنسان يُصلي إلى شيءٍ يستره من الناس؛ لأنه مأمور بذلك، وليس له مفهوم أنه إذا صلَّى بغير سترةٍ أنه لا يمنع، بل حتى ولو صلَّى إلى غير سترةٍ يردّ المار إذا دنا منه؛ حتى يكون بعيدًا عنه، والشارع ..... التخصيص.

المقصود أنه إذا صلَّى إلى غير شيءٍ أنه لا يردّ المار، وليس بجيدٍ، وظاهر إطلاق النصوص الأخرى الدلالة على أنه يمنع حتى ولو كان ليس له سترة.

وتقدم حديث أبي .....: لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرًا له من المرور بين يديه، وهو ممنوع من المرور بين يدي المصلي مطلقًا؛ إن كان له سترة فهو ممنوع من المرور بينه وبين السترة، وإن كان ما له سترة فهو ممنوع من المرور، وقريبًا منه ..... بين يديه، أما إذا كان ليس بين يديه، بل بعيدًا، فلا منع ولا كراهةَ.

قال العلماء: يُستفاد من ذلك أنه يردّ الأسهل فالأسهل، كما يردّ الصائل، فلا يدفعه بالشدة، بل يبدأ باللين، يردّه من دون شدةٍ، فإذا عاند وأبى دفعه بشدةٍ، قالوا: ولو سقط في هذه الحالة وأصابه شيء فإنه غير مضمونٍ؛ لأنه متعدٍّ، إذا دفعه بشدةٍ وسقط فانكسر أو جُرح فهو غير مضمونٍ، كما أنَّ الذي يعضّ يدَ أخيه لو نزع يده من فمه فقلع ضرسه أو نحوه غير مضمونٍ؛ لأنه متعدٍّ بالعضِّ، فهكذا الذي يمر بين يدي المصلي يكون متعديًا، لكن يدفعه بالأسهل، فإذا عاند وأبى إلا المرور دفعه بالشدة.

قال بعضهم: ولعلَّ هذا فيما إذا كانت هناك مسافة، يعني: يستطيع أن يمر من ورائه، أو من جهةٍ أخرى أمام السترة، أما إذا كان ما هناك مسافة فإن كان المصلي متعديًا واتَّخذ مقامًا في طريق الناس وسدَّ عليهم الطريق؛ فليس لهم مندوحة عن المرور بين يديه؛ فهذا يكون هو المتعدي، وهو الظالم، فلا يضرّهم المرور.

وهذا محل نظرٍ؛ حيث يمكن للمارِّ أن يمشي خلفه، وأن يُقدمه فيمشي من ورائه، إذا كان المكانُ ضيقًا يستطيع المارُّ أن يأتي من خلفه فيدفعه قليلًا ليتقدم قليلًا، ثم يمرّ من ورائه؛ فيزول المحذور، ويحصل المقصود.

والحديث الثاني -وهو الثامن- حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ قال: إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا.

هذا يدل على تأكيد السترة، تقدم حديثُ سبرة: إذا صلى أحدُكم فليستتر بسترةٍ ولو بسهمٍ، وحديث أبي سعيدٍ عند أبي داود وغيره بسندٍ صحيحٍ: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا صلَّى أحدكم فليُصلِّ إلى سترةٍ، وليدنُ منها.

وحديث سبرة تقدم أيضًا أنه رواه أحمد في "المسند" بإسنادٍ جيدٍ، كما رواه الحاكم، وكلاهما يدل على تأكد الصلاة إلى سترةٍ، وحديث أبي هريرة يُؤيد ذلك، وأنه سنة أن يُصلي الإنسانُ إلى سترةٍ، الإمام والمنفرد، أما المأموم فهو تبع لإمامه، فهذا في حقِّ الإمام والمنفرد، كلٌّ منهما يتأكد في حقِّه أن يُصلي إلى سترةٍ.

وليدنُ منها حتى لا تُقطع صلاته، وحتى لا تُشوش عليه صلاته، فإن لم يجد -يعني- شيئًا قائمًا: كالعمود والجدار ونحوه؛ فليأخذ عصا، يعني السنة أولًا أن ينظر: فإن وجد شيئًا قائمًا كعمودٍ أو ساريةٍ أو جدارٍ، أو أشباه ذلك كشجرةٍ أو ما أشبه ذلك؛ صلَّى إليها، فإن لم يجد فلينصب عصًا، كما كان يُركز للنبي حربةٌ في الصلاة، تُركز أمامه عنزة فيُصلي إليها عليه الصلاة والسلام، هذه السنة.

تقدم أنَّ الجمهور على أنها سنة، وأنها ليست بواجبٍ؛ لما ورد أنه صلى إلى غير سترةٍ عليه الصلاة والسلام، وهذا كله لتأكيده، وأن الذي ينبغي فعلها وعدم تركها؛ لأنَّ الرسول حافظ عليها في الأغلب عليه الصلاة والسلام؛ ولما فيها من توقي المرور، والحيلولة بين المارِّ وبين التَّشويش على المصلي؛ ولأنَّ السترة تُشير إلى أنه يُصلي، حتى يجتنب المرور بين يديه.

فإن لم يكن فليخطَّ خطًّا، ثم لا يضرّه مَن مرَّ بين يديه إذا تقدم المارُّ أمام السترة لا يضرّ المصلي، سواء كان المارُّ رجلًا أو امرأةً أو حيوانًا لا يضرّه، وإنما يضره إذا مرَّ بينه وبين السترة، أما إذا كان وضع السترةَ فلا يضره، فقد كانت تُنصب العنزة للنبي ﷺ في السفر، وفي الأبطح يوم حجة الوداع، فيمرّ أمامها الكلبُ والحمارُ وغير ذلك، فلا يضرّ صلاته.

قال المؤلفُ: رواه أحمد -يعني في "المسند"- وابن ماجه -يعني في "السنن"- وصحَّحه ابن حبان في "صحيحه".

ولم يُصب مَن زعم أنه مضطرب، بل هو حسن، هذا ذكره ابنُ الصلاح في "علوم الحديث"، وكذلك العراقي في "ألفيته": أن هذا الحديثَ مضطرب، ومثَّلا به في قسم المضطرب، وضعَّفه الكثير من الناس لهذا، فنقل جماعةٌ عن أحمد رحمه الله تضعيفه، ذكر الخطابي والطَّحاوي والخلال وجماعةٌ تضعيفَ هذا الحديث عن أحمد رحمه الله.

وذكر جماعةٌ آخرون أنَّ في رواته مَن هو مجهول لا تقوم به حُجَّة، وذكروا أنه لا يُجزئ الخطّ إلا إذا ثبت الحديثُ، ومَن نصَّ على هذا الشَّافعي رحمه الله وجماعة؛ وذلك لأنه من رواية شخصٍ يقال له: أبو عمرو، وهو محمد بن الحريث، عن جده حريث، عن أبي هريرة. قال الحافظُ في أبي عمرو هذا: أنه مجهول. وقال جماعةٌ كالطحاوي: إنه مجهول أيضًا. قاله الدَّارقطني، وقال: لا يصح.

فجماعة من أهل العلم وصفوه بهذا -بأنه مجهول- لأنه من رواية مجاهيل، وأنهم اضطربوا في روايته.

وروي عن أبي عمرو محمد بن حريث، عن جده، وهو ممن روى عن أبي محمد بالعكس، عن أبي محمد ابن عمرو بن حريث .....، وهو ممن روى عن أبي عمرو ابن محمد بن عمرو بن حريث ..... آخر، وهو عمرو بن حريث، فهو قد جاء على ثلاث روايات من طريقه، فلا أدري لماذا قال المؤلفُ هذا الكلام؟ .....

ولعله رحمه الله قال ذلك لأنَّ الثِّقات رووه عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن حريث، عن جده، عن أبي هريرة، قالوا: فلما رووه -الثِّقات- بهذا، جماعة ثقات رووه بهذا، وصحَّحه ابن حبان، فظاهر تصحيح ابن حبان على توثيق الشَّخصين: أبي محمد وجده، ولعله اعتمد على هذا لأنَّ الراوي إذا روى عنه ثقة ووثق زالت جهالته العينية والحالية، كما ذكر المؤلف في "النخبة"، قال في "النخبة": فإن سُمِّي ..... صار مجهول العين. قال في الشرح: فإن زُكي زالت الجهالة، ولو كان الراوي واحدًا.

فعلى هذا القول لعله اعتمد توثيق ابن حبان .....؛ ولهذا قال المؤلفُ: ولم يُصب مَن قال أنه مضطرب؛ لأنه رواية جماعة من الثِّقات غير مضطربة؛ رووه من طريق أبي عمر محمد بن حريث، عن جده قال: سمعتُ أبا هريرة. هذا هو وجه ..... مَن زعم أنه مضطرب، وهو شيخه العراقي؛ فإنه قال في "الألفية" أنه مضطرب .....

وأحمد رحمه الله احتجَّ به، قال: يخطّ خطًّا كالهلال، ليس له عصا ويستقبله ..... عن أحمد رحمه الله، وعن ابن المديني أنهما صحَّحا هذا الحديث، فلعلَّ هذا مستند المؤلف حيث قال: ولم يُصب.

ونقل ابن عبد البر عن أحمد وابن المديني في تصحيح هذا الحديث ..... ابن حبان أيضًا.

فيكون اجتمع للمؤلف ما نقله ابنُ عبد البر من تصحيح أحمد له، وابن المديني وابن حبان؛ ولهذا جزم بقوله هنا: ولم يُصب مَن زعم أنه مضطرب، بل هو حسن؛ لهذه الأشياء: روى عنه ثقةٌ معروف -سهل بن أمية- وصححه هؤلاء؛ ولهذا قال فيه: ولم يُصب مَن زعم أنه مضطرب، بل هو حسن.

وبكل حالٍ إذا لم يجد عصًا ولم يجد شيئًا شاخصًا فوضع خطًّا، أو طرح عصًا، أو عباءة، أو عمامة، أو ما أشبه ذلك؛ فهي خير من الخطِّ، وهي تُشعر المصلي بأنَّ هناك شيئًا بينه وبين الناس، تُشعر المارّ بأنَّ هذا الرجل يُصلي، فهي خير من العدم، الخط ونحوه خير من العدم، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: محل نظرٍ؛ لأنَّ المقصود هو أن يُصلي ..... السترة ..... المارّ محل نظرٍ؛ قد يُقال أنَّ المسلم أخو المسلم، أي: يقوم مقامه إذا قصَّر، فإذا قصَّر المصلي ناب عنه أخوه؛ وضع خطًّا أمامه، أو عصًا، ثم مرَّ، فيقوم مقامه، قد يُقال هذا أولى، ولعلَّ هذا أقرب إن شاء الله، والمسلم أخو المسلم إذا ناب عنه، والنية ليست شرطًا، ولو صلَّى إلى جدارٍ ولم ينوِ السترةَ فهو سترة، ولو صلَّى إلى عمودٍ ما جعل ذلك سترةً سار سترةً، والنية ليست شرطًا، فإذا صلَّى إلى شيءٍ يستره من الناس فهو سترة ولو ما نوى هذا لا يضرّ، وهكذا إذا وُضع له ........

قال المؤلف رحمه الله: هذا بيان الأحاديث الدالة على العناية بالخشوع، وأنه ينبغي للمُصلي أن يهتم بالخشوع في صلاته، وإن الإقبال على الصلاة والطُّمأنينة فيها ..... هو روحها ولبُّها، فإنَّ المؤمن إذا دخل في الصلاة -فرضًا كانت أو نفلًا- أن يُعنى بها، وأن يُقبل عليها بقلبه وقالبه، وأن يجمع قلبه عليها؛ حتى يحصل له من الأجر والفضل والعاقبة الحميدة والتأثر بالصلاة ما لا يُحصيه إلا الله ، فإنه كلما أقبل الإنسانُ على الصلاة وأجمع عليها قلبه واستحضر فيها عظمة الله فإنها تُؤثر في قلبه ما لا يُؤثر لو كان الأمرُ خلاف ذلك.

والصلاة دخولٌ على الله ووقوفٌ بين يديه ..... ، فهي صلة العبد بربه، وهي إقبال عليه، ووقوف بين يديه، ومناجاة له ..... وضراعة بين يديه، وتعظيم له ركوعها وسجودها ..... يُقبل عليها بقلبه وقالبه، ويحذر ما يشغل قلبه من إحضاره بين يدي الله ، سواء كان الشَّاغل أمرًا قلبيًّا -وهو الوسواس- أو ما يتعلق بالبدن من الحركات والعبث بأشياء من بدنه -كلحيته وثيابه- أو غير ذلك مما قد يشغله، أو النظر إلى ما حوله من هنا أو هنا أو أمامه، فينبغي له أن يُقبل على صلاته بقلبه، والله يقول جلَّ وعلا: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1- 2].

والخشوع فيها يشمل الأمرين: خشوع الجوارح، وخشوع القلب.

وقد قال بعضُ السلف: استعيذوا بالله من خشوع النِّفاق. قيل: وما خشوع النِّفاق؟ قال: أن يُرى البدن خاشعًا، والبدن ليس بخاشعٍ، ..... خشوع القلب أولًا ثم خشوع الجوارح، فخشوع القلب من أسباب خشوع الجوارح، كما قال بعضُ السلف: إذا خشع قلبُ هذا لخشعت جوارحه. ويُروى مرفوعًا، لكنه ضعيف معروف من كلام بعض السلف: إذا خشع قلبُ هذا لخشعت جوارحه.

فالحاصل أنَّ خشوع القلب وإقباله على الله واستحضاره عظمة الله من أسباب خشوع الجوارح .....، وكثير من الناس إذا دخل في الصلاة جعلها فرصةً للعبث بثيابه أو لحيته أو أنفه أو نظره، هاهنا وهاهنا، وهذا لا ينبغي، بل يُخشى عليه من بطلان صلاته؛ إذا تكاثرت عليه هذه الحركات وهذا العبث المتوالي أجمع العلماءُ على بطلان الصلاة بهذا.

فينبغي للمؤمن أن يحذر من هذه الأشياء، وأن يُقبل على صلاته ويخشع فيها عند ربِّه قلبًا وقالبًا.

ثم ذكر المؤلفُ عدةَ أحاديث: منها حديث أبي هريرة : أن النبي ﷺ نهى أن يُصلي الرجلُ مُختصرًا. أخرجه الشيخان.

مُختصرًا يعني: واضعًا يده على خاصرته هكذا، بل السنة أن يكون هكذا، يضع يمينه على شماله، خاضعًا لربه حال قيامه في الصلاة، لا يضع على خاصرته، وهذا فعل اليهود في صلاتهم، وهذا يدل على النَّهي عن الاختصار في الصلاة، وأنه تشبه باليهود، فينبغي الحذر منه.

ثم هو يُفضي إلى عدم الخشوع، إذا وضع يده على خاصرته فهو إنما يُفضي إلى عدم الخشوع، بخلاف ما لو وضع اليمنى على اليسرى ووضعهما على صدره؛ فإنَّ هذا أقرب للخشوع وترك العبث، بخلاف وضعها على الخصر؛ فقد يملّ، وقد يرفعها وينزلها، أو يردّها هاهنا أو هاهنا، بخلاف ما لو ضع هذه على هذه وأقبل على ربه؛ فإنَّ هذا من أعظم الأسباب في الخشوع.

والحديث الثالث: حديث أنسٍ : أن النبي ﷺ قال: إذا قُدِّم العشاء فابدؤوا به قبل أن تُصلوا المغربَ.

يظهر من الأحاديث الكثيرة أنَّ عادتهم في المدينة تناول العشاء قرب المغرب ..... إلا آخر النهار قبل المغرب، فيتناولون العشاء في المغرب، وكانت هذه عادة أهل نجدٍ قديمًا؛ أنهم يتعاطون هذا، كانوا يأكلون العشاء قرب المغرب، والغداء الضُّحى قبل الظهر، والظهر ليس فيه طعام مضبوط، إنما يتناولون ما تيسر من تمرٍ أو غيره.

والحاصل أنَّ عادتهم في المدينة ذاك الوقت مثل عادة أهل نجدٍ من وقتٍ قريبٍ مضى؛ ولهذا قال: إذا قُدِّم العشاء فابدؤوا به قبل أن تُصلوا المغرب. وفي لفظٍ آخر: إذا حضر العِشَاءُ والعَشَاءُ فابدؤوا بالعَشَاءِ، كانوا يتأخَّرون فلا يأتون العشاء إلا بعد المغرب، فأمر بتقديم العشاء في الحالين، وما ذاك إلا لأنه إذا حضر العشاء قبل صلاة المغرب أو العشاء، ثم ذهب وتركه قد يتشوش قلبه ولا يحضر الصلاة، ولا سيما إذا كان جائعًا بعد الأعمال والتَّعب، فأمر النبي بالبداءة بالطعام حتى يأتي الصلاةَ وهو فارغ القلب من التَّشاغل بالطعام والهواجس التي تتعلق به، ويُقبل على صلاته ويُتمها ويُكملها بخشوعٍ وطمأنينةٍ.

فالأمر بتقديم العَشاء لا للتَّهاون بالصلاة، ولكن لتعظيمها؛ حتى يُقبل عليها بقلبه وقالبه، وحتى يأتيها وقد فرغ قلبه بسواها، فيفرغ لها ويُعطيها ما يلزم من الطُّمأنينة والخشوع والإقبال وترك الوسواس.

ومن هذا الباب حديث عائشة الذي رواه مسلم في الصحيح: لا صلاةَ بحضرة طعامٍ، ولا وهو يُدافعه الأخبثان هذا أيضًا مما له صلة بهذا الباب؛ لأنه يؤثر في خشوع الإنسان مُدافعة الأخبثين.

الحديث الرابع: حديث أبي ذرٍّ .

ويقال في شأن الطعام: لا يجوز أن يتّخذ عادةً حضور الطعام عند حضور الصلاة، إنما هذا فيما إذا صادف حضور الطعام وقت الصلاة، أما كونه يتّخذ عادةً: إذا جاء المغربُ أو جاء العِشاءُ أو جاء الظهرُ قُدِّم الطعام، هذا لا يجوز؛ لأنَّ معناه التَّخلف عن الصلاة في الجماعة، والتَّحيل على هذا بطعامٍ، فتعمد هذا الشيء -كونه يتّخذ عادةً- الظاهر أنه لا يجوز، ولا يكون عذرًا، بل يجب أن يُقدَّم أو يُؤخر؛ حتى تُؤدَّى الصلاة في وقتها مع الجماعة، لكن إذا صادف أن حضر الطعامُ فقُدِّم والصلاة حاضرة، أو قُدِّم بين يديه من غير طلبه، أو ما أشبه ذلك، المقصود لا عن عادةٍ تتّخذ، ولكن صادف ذلك؛ فإنه يُقدِّم الطعام.

الحديث الرابع: حديث أبي ذرٍّ: أنَّ النبي ﷺ قال: إذا قام أحدُكم في الصلاة فلا يمسح الحصا ...... وفي لفظٍ: فإنه يُناجي ربَّه، ولا يمسح الحصا ..... وفي الصحيح عن ..... الدَّوسي، عن أبي ذرٍّ يقول فيه: فإن كنتَ فاعلًا فواحدة يعني: ماسحًا، ولكن ليس فيه التعليل ..... فيه فإنه يُناجي ربَّه فلا يمسح الحصا من دون التعليل وهو قوله ..... ولكن قال: فإن كنتَ فاعلًا فواحدة .....

هذا يدل على أنَّ المؤمن في صلاته ينبغي عليه أن يُقبل عليها، ولا يمسح الحصا، ولا يمسح موضع سجوده، بل يُقبل على صلاته ويخشع فيها ويسجد من دون مسحٍ، لكن إذا كان هناك حاجة فلتكن واحدةً، إذا كانت هناك حاجة للمسح، يعني: موضع الجبهة والأنف غير مناسبٍ، ويخشى أن يمنعه من الخشوع؛ فيكون واحدةً ..... يعني: يقول بيده هكذا لإزالة شوكة أو حجرٍ أو ما أشبه ذلك عن موضع سجوده؛ حتى يتم له الخشوع والإقبال على صلاته في سجوده، والله أعلم.

أما بعد: يقول المؤلفُ رحمه الله: وعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبيَّ ﷺ عن الالتفات في الصلاة، فقال: هو اختلاسٌ يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد أخرجه البخاري.

عائشة رضي الله عنها سألت النبيَّ ﷺ عن الالتفات؛ لأنَّ هذا يقع من الناس فسألته عنه .....، هذا يدل على حرصها على العلم، ورغبتها في التَّفقه في الدِّين؛ ولذلك بتوفيق الله أدركت خيرًا كثيرًا، حصَّلت علمًا عظيمًا على صغر سنِّها، فقد تُوفي النبيُّ ﷺ وهي بنت ثمان عشرة سنة، وأدركت علمًا جمًّا، ..... كثيرًا، وفقهًا في الدِّين، وحفظت عن النبي ﷺ كثيرًا من الأحاديث رضي الله عنها وأرضاها.

والالتفات: هو الميل بالرأس يمينًا وشمالًا. هذا هو الالتفات، فقال: هو اختلاسٌ يختلسه الشيطانُ من صلاة العبد يعني: انتقاص ينتقصه الشيطانُ على طريقة الخفية والسرعة، فالمختلس يأخذ بشيءٍ بطريقةٍ خاصةٍ وخفية؛ لئلا يُفطن له، والسرعة، فهو يكيد للناس ويجتهد في انتقاص صلاتهم بالطرق التي تمكنه، وما ذاك إلا لأنه عدو مبين يريد أن يكونوا معه في السَّعير، فإن لم يحصل له ذلك أراد إنقاص أعمالهم وإضعافها؛ حتى تضعف أجورهم، وحتى تقلّ حسناتهم، كما قال : إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168]، فعداوته قديمة، عداوته قديمة مع أبينا آدم، وهكذا مع الذُّرية.

دلَّ على كراهة الالتفات ما دام اختلاسًا من الشيطان، فهو يدل على كراهة ذلك، وأنه ينبغي للمؤمن أن يخشع في صلاته، وأن يصمد بوجهه إلى موضع سجوده، كما قال السلفُ ، وكما جاء بذلك بعضُ الأحاديث المرسلة، ولا يتلفت هكذا وهكذا؛ لأنه ينقص صلاته؛ ولئلا يُحقق مقاصد الشَّيطان.

لكن إذا كانت هناك حاجة فلا بأس إذا دعت الحاجةُ إلى الالتفات، لكن إذا وقع حدثٌ يخشى منه والتفت لينظر فلا بأس؛ ولهذا التفت الصديقُ كما في "الصحيحين" لما أكثر الناسُ بالتصفيق، لما تقدم يُصلي بهم، وجاء النبي ﷺ وقد كبَّر؛ أكثر الناسُ بالتصفيق، فلما رآهم أكثروا التفت فرأى النبي ﷺ، فأشار إليه أن يبقى وأن يستمرَّ، فرفع يديه وحمد الله ثم تقهقر، وتقدم النبيُّ عليه الصلاة والسلام، ثم قال لهم النبيُّ ﷺ بعد ذلك: مَن نابه شيءٌ في صلاته فليُسبح الرجال، ولتُصفق النساء.

وفي الترمذي من حديث أنسٍ : أنه عليه الصلاة والسلام قال: إياك والالتفات في الصلاة؛ فإنه هلكة، وقال: ..... هذا يدل على أنَّ الالتفات لا يجوز، فقد سماه النبيُّ: "هلكة"، فدلَّ على أنه لا يجوز إلا من حاجةٍ، إن جاءت حاجة، مثل: سمع هدَّةً خاف منها فالتفت، أو حريقًا، أو عدوًّا ينتظر، كما يُروى عن النبي ﷺ: بعث شخصًا طليعةً في الشّعاب، فكان ينظر إليه وهو في الصلاة، ينظر: هل أقبل؟ إلى غير ذلك من المسائل التي قد يحتاجها الناسُ.

فإذا كان الالتفاتُ لحاجةٍ واضحةٍ فلا بأس، وإلا فالواجب تركه؛ ولهذا سُمي "هلكة"، فإن كان ولا بدَّ إن دعت الحاجةُ إلى ذلك، فليكن في التَّطوع، لا في الفريضة، فالحاجات تنقسم: عند شدة الحاجة جائز في الفريضة والنافلة، وإن كانت الحاجةُ خفيفةً فلا بأس أن يلتفت في النافلة، لا في الفريضة؛ فأمر النافلة أخفّ وأيسر من أمر الفريضة.

وهذا كله يدل على أنه ينبغي الخشوع في الصلاة، هذا الشاهد، الخاشع يُقبل على صلاته، لا يلتفت، والذي يلتفت يدل على نوعٍ من التقصير وعدم الخشوع الكامل، والله أثنى على المؤمنين فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1- 2].

فالخشوع خشوعان: خشوع القلب، وهو الضَّراعة إلى الله والإقبال عليه والأُنس به ..... بين يدي الله، وخشوع الجوارح بالسكون وعدم الحركة، فالمؤمن هكذا: خاشع بقلبه، وخاشع بجوارحه، والمنافق قد يخشع بالجوارح، ولكن لا يخشع بالقلب، قال بعضُ السلف: استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل: وما خشوع النِّفاق؟ قال: أن يُرى البدن خاشعًا، والقلب ليس بخاشعٍ.

فالمؤمن فيه خشوعان:

خشوع القلب بين يدي الله بالاستحضار والطُّمأنينة والرجاء والشوق إلى الله ، وتذكر عظمته ، والبكاء من خشيته، إلى غير ذلك مما يتأثر به القلب.

والخشوع الثاني: خشوع الجوارح بسكونها وحفظها في مواضعها وعدم العبث بها، كثير من الناس إذا دخل في الصلاة شُغل بالعبث، وكأنه تفرَّغ للعبث، وهذا من الجهل وقلة حضور القلب، لو حضر القلبُ لما كان هكذا، لكن للغفلة والجهل وقلة التعظيم للصلاة يُبتلى بالعبث.

والحديث الثاني: حديث أنسٍ أيضًا: أن النبي ﷺ قال: إذا قام أحدُكم في الصلاة فإنه يُناجي ربَّه. قالوا: يُناجي ربه بالذكر والدعاء، فاللائق به الخشوع والإقبال على الله ، فإنه قائم يُناجي ربه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يسأله اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:5- 6]، يقرأ، يخشع في ركوعه، يخشع في سجوده بين السَّجدتين، فهو بين قراءةٍ وخشوعٍ ودعاءٍ ومناجاةٍ، فاللائق به الإقبال على ربِّه، والاشتغال بذلك عمَّا لا ينبغي من العبث، أو الانبساط عن يمينه أو قدامه، بل يُقبل على صلاته ويترك ما سوى ذلك، فإن بدره بُصاق -نزل به بصاق- فليكن ذلك عن شماله تحت قدمه اليسرى، كما جاء في الرواية الأخرى: ولا يبصق قدامه، ولا عن يمينه، وفي اللفظ الآخر: فإنَّ الله قِبَل وجهه، ولا عن يمينه؛ فإنَّ عن يمينه ملكًا، ولكن عن شماله أو تحت قدمه.

هذه السنة، إذا عرض له بُصاق، يعني: في غير المسجد؛ كأن يُصلي في الصحراء، أو في بيته في أرضٍ ليس بها ما يُحترم من البُصاق عليه؛ يبصق عن يساره تحت قدمه، أما في المسجد لا يبصق؛ لأنَّ المسجد يجب أن يُنزَّه عن القذر، ولا شكَّ أن البُصاق من القذر، فأمر النبي بتطهير المساجد وتنظيفها وتطييبها، وأخبر أنَّ من أجور أمته: إخراج القذاة من المسجد، فلا يجوز أن يبصق في المسجد، ولكن يبصق عن شماله تحت قدمه في خارج المسجد، والمسجد في ثوبه، في منديله، لا في المسجد؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: البصاق في المسجد خطيئة، وكفَّارتها دفنها، فلا يجوز أن يأتي الخطيئةَ، ولكن إذا وقعت منه هذه الخطيئة غفلةً أو جهلًا فليدفنها بتراب المسجد وحصبائه حيث أمكن، فإن لم يمكن ذلك فلينقلها وليُزلها كما أزالها النبيُّ ﷺ لما رأى نخاعةً في المسجد حكَّها عليه الصلاة والسلام وأزالها، وغضب وأنكر على مَن فعل ذلك.

والمقصود من هذا الحثّ على الخشوع، والخاشع لا يبصق أمامه، ولا عن يمينه، بل يجتهد في التَّشاغل عن هذا الشيء، فإذا بُلي فليكن عن يساره، أو في منديله؛ ولهذا في الرواية الأخرى: أو يقول هكذا ثم أخذ النبيُّ طرف ثوبه وبصق فيه، وضمَّ بعضه إلى بعضٍ، يعني: إذا حصل هذا أو هذا كفى.

والحديث الرابع: حديث أنسٍ أيضًا: أنَّ عائشة وضعت قرامًا على جانب بيتها -وهو ستر ليس .....- فقال لها: أزيلي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي.

وجاء عنها أيضًا نفسها أنها قالت: وضعتُ سترًا على سهوةٍ لنا، فرآها النبيُّ ﷺ وتغيَّر وجهه وهتكه، وقال: إنَّ أصحاب هذه الصور يُعذَّبون يوم القيامة ويُقال لهم: أحيوا ما خلقتُم.

فالنبي هتكه وأمر بإزالته لأمرين:

الأمر الأول: ما في الصور من الكراهة، وأنكرها، وأنه لا يجوز تعليقها.

والأمر الثاني: أنها تُشوش على المصلي إذا كانت أمامه، النبي يُصلي في بيته -يُصلي النَّوافل في بيته- إذا كانت أمامه تُشوش على المصلي؛ قد ينظر إليها، قد يشتغل بها، فما ينبغي أن يكون أمام المصلي شيء يشغله في صلاته من نقوشٍ وتصاوير، أو أشياء من شأنها أن تشغل المصلي.

والتصاوير منهي عنها لأمرين: لما فيها من الشغل؛ ولأنَّ تعليقها لا يجوز؛ لأنه يُشبه عمل عباد الأصنام؛ ولهذا غضب النبيُّ وتغير وجهه وهتكها وأنكر على عائشة فعل ذلك، حتى قطعته وجعلته وسائد يرتفق بها النبيُّ عليه الصلاة والسلام في منزله.

وفيه من الفوائد: الحثّ على الخشوع في الصلاة، والبُعد عمَّا يُشوش على الإنسان صلاته من تعليق قراءات في الجدران: كتابات، صور في الجدران، نقوش، ينبغي ألا يكون أمامه شيء يُشوش عليه صلاته، وهكذا في الفرش؛ فتكون الفُرش التي في المساجد سادة قليلة النُّقوش؛ حتى لا تُشوش على المصلين.

وفيه من الفوائد أيضًا: أنه لا يجوز تعليق الصور، بل يجب هتكها، ولا يجوز تعليقها على الأبواب، أو على الجدران، سواء كانت صور بني آدم، أو صور الحيوانات الأخرى من الطيور والسباع، فيجب هتكها وإزالتها، وهكذا لا تُعلق في المكاتب، يحط صورةً في مكتبه: صورته أو صورة أميره أو صورة ملكه أو صورة أبيه أو جده أو ما أشبه ذلك؛ لأنَّ هذه الصور أولًا فيها مُشابهة لعباد الأصنام، ثانيًا: قد يُفضي ذلك إلى عبادتها من دون الله كما وقع لليهود والنصارى؛ لأنه كان من سنتهم نصب الصور على القبور، ثم تُعبد من دون الله بعد ذلك، كما جرى لأصحاب نوح لما صوَّروا صور ودّ وسواع عُبدت بعد ذلك.

فنصب الصور في المجالس أو في الطُّرقات والشَّوارع من أسباب عبادتها من دون الله، من أسباب تعظيمها، ومن التَّشبه بأعداء الله من اليهود والنَّصارى، فيجب إزالة ذلك، ويجب ألا يفعل ذلك على كل مَن استطاع ذلك، والله المستعان.

..............

عائشة لها حديث آخر، وهو أنَّ النبي ﷺ صلَّى في خميصةٍ لها أعلام، كساء مُعلَّم، الأعلام: نقوش تجملها، فنظر إلى أعلامها نظرةً، ولما صلَّى نزعها، قال: اذهبوا بها إلى أبي جهم، وَأْتُوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني عن صلاتي، أنبجانية ليس فيها نقوش.

احتجَّ بهذا على كراهة الصلاة بما يشغل من نقوشٍ .....، والنبي ﷺ استمر فيها ولم ينزعها إلا بعد الصلاة، دلَّ على أنَّ الصلاة .....، وأنه لا حرجَ فيها، ثم أرسل إلى أبي جهم، ولم يقل له: لا تُصلِّ فيها، دلَّ على أنه لا حرج في ذلك، لكن الأولى بالمؤمن أن يبتعد عن هذا الشيء، وإذا بُلي به فلا يشغل قلبه، وليطرح بصره ولا يشغل بكلها أو بشيءٍ منها أو ما أشبه ذلك، يطرح بصره إلى موضع سجوده؛ حتى لا يُشغل بقميصٍ أو غيره.

وقوله: ألهتني عن صلاتي ونزعه إياها يدل على أنَّ هذا هو الأفضل والأولى بالمؤمن: أن يبتعد عن الشيء الذي قد يشغله، وكونه صلَّى فيها وأكمل الصلاة وأرسلها إلى أبي جهم ولم يقل: لا يلبسها؛ يدل على جواز ذلك، وأنه لا حرج في لبسها، لكن مع الحرص على عدم الشّغل بها، والله أعلم.

س: جبَّة؟

ج: جبَّة من صوفٍ، لكن بعض الجبب تكون فيها أعلام وزينات ونقوش، وبعض الجبب سادة .....

س: رفعُ أبي بكر يديه لما جاء النبيُّ ﷺ ودعاؤه هنا، ما يقال: هذا قد يُنافي الخشوع، أو أنَّ هذا داخل في الصَّلاة؟

ج: لا، هذا مما يتعلق بالصلاة، يشرع فيها عند وجود أسبابه، فإنَّ إقرار النبي ﷺ له أن يبقى من أعظم النعمة، كونه ما غضب عليه، ولا أنكر عليه، كونه تقدم ولم ينتظر هذه نعمة من نِعَم الله، فلما أشار له النبيُّ ﷺ أن يبقى فرح بهذا الصديق، ورفع يديه، ولم يُنكر عليه النبيُّ ﷺ، فدلَّ ذلك على أنه إذا حدثت نعمةٌ في الصلاة جاز أن يرفع يديه ويحمد ربَّه في الصلاة على أنه ..... جاءت بشارة بقتل العدو ..... فرفع يديه وحمد الله بينه وبين ربِّه، ما في بأس، مثل هذه النعمة العارضة فالصديق اعتبرها نعمة عظيمة، وهي كذلك؛ ولهذا حمد ربَّه ثم تقهقر.

............. يُقبل عليها بقلبه كما ينبغي.

فهذا الحديث وما جاء في معناه يدل على أنَّ الواجب أن ..... حالة في الصلاة غير حالاته التي يعتادها في خارج الصلاة، يكون عنده إقبال، عنده عناية وخضوع وإقبال على الصلاة بقلبه وقالبه، وتأمل القيام بين يديه، وأنه واقف بين يدي الله، يُناجي بين يدي ملك الملوك في أعظم مقامٍ، فلا يليق به أن يتشاغل عن ذلك بشيءٍ آخر، وبهذا الاستحضار تزول الوساوس أو تقلّ الوساوس، فإنَّ الغفلة عن هذا الاستحضار تُكثر الوساوس، ويكثر العبث، ويُشغل القلب بأشياء جانبية تتعلق ببيته أو تجارته أو غير ذلك، فيفرغ من الصلاة وهم لم ..... بها ولم يعقلها، وليس له منها إلا ما عقل منها.

والحديث الثاني في حديث عائشة.

وإذا كان هذا في طرح البصر فيظهر أنَّ ما كان أشدّ منه يكون أولى بالعقوبة، فينبغي جمع القلب على الصلاة، وعدم التَّشاغل بغيرها، وهكذا الجوارح ..... البصر، مع خفَّة النظر ..... أخرى، كذلك ينبغي العناية ..... خاشعًا خاضعًا ساكنًا في صلاته.

والحديث الثاني: حديث عائشة رضي الله عنها، أم المؤمنين: أنَّ النبي ﷺ قال: لا صلاةَ بحضرة الطعام، ولا وهو يُدافعه الأخبثان.

هذا أيضًا يتعلق بالخشوع؛ لأنه إذا حضر للصلاة وقلبه مُعلَّق بالطعام أو مشغول بمُدافعة الأخبثين لم يُعطها حقَّها من الخشوع والعناية، وصار مشغولًا بالطعام والحرص على الفراغ من الصلاة حتى يتوجه إلى الطعام، مشغولًا بالأخبثين حتى ينتهي فيفرغ منها، فينبغي البداءة بها -بهذه الأشياء- حتى يكون أخشعَ لقلبه، وأجمع لقلبه على الصلاة، وهذا النفي يحتمل أنه نفي ذات الصلاة، وتكون باطلةً، ويحتمل أنه نفي لكمالها: أنها لا تكون كاملةً إلا بالتفرغ وعدم التَّعلق بالطعام أو بالأخبثين ..... أظهر أنه نفي للكمال، فلا ينبغي له أن يفعل ذلك.

وهذا له شواهد، مثل: مَن سمع النِّداء فلم يأتِ فلا صلاةَ له، جمهور أهل العلم على أنها تصحّ صلاته إذا صلى وحده، لكنه يأثم، فلا تبطل صلاته.

ومثل: لا إيمانَ لمن لا صبرَ له، فجمهور أهل السنة والجماعة جميعًا على أنَّ ترك الصبر لا ينقص من الإيمان، ولا ينافي الإيمان.

كذلك والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، مَن لا يأمن جاره بوائقَه نقص هذا أيضًا في الإيمان، فلا يُزيله.

وكذلك لا يؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبّ لنفسه إذا لم يفعل ذلك فهذا نقصٌ في إيمانه، ولا يزول الإيمان، خلافًا للخوارج.

وهذا يدل على تأكد شرعية فراغ قلبه مما يشغله في الصلاة، وإذا حضر الطعامُ وهو يحتاج إليه ويُريده فيبدأ بالطعام، تقدم حديث أنسٍ: إذا حضر العَشاءُ فابدؤوا به قبل أن تُصلوا المغرب، وفي اللفظ الآخر: إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤوا بالعشاء؛ لأنَّ المقصود من هذا استحضار القلب في الصلاة؛ حتى لا يأتيها وهو مشغول.

ولو أنَّ المؤلف ضمَّ هذا إلى ذاك، أو ذاك إلى هناك ..... الواحد كان أنسبَ، أما إذا كان حضر الطعام وهو لا يشتهيه فإنه لا يضرّه، فيذهب إلى الصلاة ولا يُبالي، إنما هذا فيمَن حضر الطعام وهو يشتهيه، وهكذا لو لم يحضر الطَّعام، لكن قد حان وقت العشاء، لكن ما حضر، فيبدأ بالصلاة، إنما هذا فيما إذا حضر، قُدِّم له الطعام وهو يشتهيه ويُريده فيبدأ به، أما إن كان لم يُقدم له، أو قُدِّم له لكن لا يشتهيه، قد تعشَّى، أو هناك مانع: لا يشتهي هذا الطعام، ما يُريده؛ فإنه يتقدم إلى الصلاة.

وهكذا مُدافعة الأخبثين: يُدافعهما، يُؤذيانه، أما إذا كان شيئًا يسيرًا لا يُؤذيه ولا يشغله عن صلاته فإنه يبدأ بالصلاة، والمدافعة تقتضي أنَّ هناك شدةً، إذا كان البول يؤذيه تأخيره، أو حاجة أخرى -غائط يُؤذيه تأخيره يُدافعه- فهذا لا يتمكن من الخشوع، ولا يُؤدي الصلاة كما ينبغي، بل يبدأ بهما، ويتخلص منهما، ولو فاتته الجماعةُ، صلاته وحده مع الخشوع أولى من صلاته مع الجماعة وهو يُدافع الأخبثين، ولو صلاة الجمعة، حتى صلاة الجمعة، لكن ينبغي له أن يتأهب قبل ذلك، ويعتني قبل ضيق الوقت.

والحديث الثاني: حديث أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدُكم فليكظم ما استطاع أخرجه مسلم والترمذي، وزاد: في الصلاة، التَّثاؤب من الشيطان في الصلاة.

وفي الأحاديث الأخرى: التَّثاؤب من الشيطان مطلقًا؛ لأنه ينشأ عن الكسل والضَّعف، ويدل على الامتلاء والشبع الكثير، فيحصل التَّثاؤب، ينشأ عن الضَّعف والتَّعب، والشيطان يُعين على كلِّ ما يُثبط عن الخير، فنُسب إليه التثاؤب، أنَّ التثاؤب يُنبئ عن كسلٍ، وعن ضعفٍ، وعن خورٍ في العزيمة وفي الآراء.

فإذا أحسَّ بهذا فليكظم ما استطاع، وفي اللفظ الآخر: فليرده ما استطاع يعني: التثاؤب؛ لأنَّ فغر الفم يُستقبح، وفيه نوعٌ من الاستجابة للشيطان، فينبغي له أن يردّه ما استطاع، يكظم ما استطاع، وفي لفظٍ آخر: وليضع يده على فيه، وفي لفظٍ آخر: ولا يقل: هاء؛ فإنَّ الشيطان يضحك منه إذا قال: هاء.

فالمشروع هنا حينئذٍ ثلاثة أمور:

الأمر الأول: ردّه ما استطاع.

الشيء الثاني: وضع يده على فمه؛ لأنَّ فغر الفم فيه شيء من الاستقباح، وربما وقع في فمه شيء من ذبابٍ أو غيره، فيضع يده عليه لتغطيته وللوقاية.

السنة الثالثة: أنه لا يقول: هاء، صوت، فيكظم ولا يكون له صوت؛ حتى لا يضحك منه الشيطان؛ ولأنَّ صوته يكون ما هو بطيبٍ، صوت مختلط، وليس بواضحٍ، يُستقبح، فالسنة له أن لا يتكلم في حال التَّثاؤب حتى يصحو ويمتثل ثم يتكلم.

أما بعد: فهذا الباب في المساجد، يعني: في أحكامها وما ورد فيها.

المساجد هي أفضل بقاع الأرض كما قال في الحديث الصحيح، ورواه مسلم عن النبي ﷺ: أنه قال: خير البلاد مساجدها، وشرها أسواقها.

والمساجد هي خير البلاد، وأفضل البلاد، وأفضل الأرض؛ لما يُقام فيها من ذكر الله، وتعليم دينه، وإقامة الصَّلوات؛ ولما فيها أيضًا من الخطب والتَّذكير وغير هذا من وجوه الخير.

وأفضل هذه المساجد: المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى، هي أعظم المساجد.

والله شرع في المساجد أن يُقام فيها ذكره، كما قال : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، فهي أمر الله ببنائها ووضع بناءها ليُقام فيها ذكره، وليُعبد فيها وحده ، ولتكون مجمعًا للمسلمين، ومنبعًا للتعليم والإرشاد والخطب والتذكير، وغير هذا من مصالح المسلمين.

كان النبي ﷺ يعمرها بالصلاة والخطب والتذكير، وتوجيه الناس إلى الخير، وبعث البعوث، إلى غير ذلك، ويأوي إليها الغريب والفقير، والصُّفَّة معروفة في مسجد النبي ﷺ: يأوي إليها الفقراء والمحاويج والغُرباء، ولها أحكام كثيرة معروفة.

ذكر المؤلفُ رحمه الله جملةً من الأحاديث المتعلقة بذلك: ومنها حديث عائشة أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظَّف وتُطيب. خرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وصحح إرساله.

القاعدة أنَّ ..... والإرسال أن يُقدم مَن يُوصل والأكثر ولو في الإرسال والقطع، منهم الترمذي رحمه الله، ولكن الصواب من حيث الأصول ومن حيث القواعد -وهو الذي رجَّحه أئمةُ الحديث- أنَّ المقدم هو الوصل؛ لأنَّ الواصل أتى بزيادةٍ خفيت على مَن أرسل فتُقبل، وزيادة الراوي الثقة مقبولة في الوصل وغيره؛ ولهذا الصواب في مثل هذا قول مَن قال بوصله وعدم إرساله.

والإرسال: حذف الصحابي، وأن يكون عن التابعي، عن النبي ﷺ.

وفي هذا دلالة على شرعية بناء المساجد في الدور، والمراد "بالدور" هنا الحارات والقبائل؛ لأنَّ الأنصار وغيرهم كانت لهم دور: دار بني ساعدة، ودار بني الحارث، ودار بني الخزرج، ودار بني النَّجار، لهم دور يجتمع فيها جماعات، يكون لهم فيها نخيلهم، وحارات يجتمعون فيها، وبيوت مجتمعة، يكون بنو فلان وبنو فلان، تُسمَّى: الحارة، تُسمَّى: محلة، وأسماء غير ذلك، في العهد الأول تُسمَّى: الدور: دار بني فلان، ودار بني فلان، يعني: مساكنهم.

فأمرهم ببناء المساجد في دورهم، يعني: في مساكنهم التي يجتمعون فيها؛ حتى يُصلوا فيها جميعًا، وحتى يجتمعوا فيها من أرجاء الحارة والدار التي يجتمعون فيها، فالدور هناك بمعنى الحارات، هنا البيوت المجتمعة وأشباه ذلك يُقال لها: حارة، ويُقال لها: حي، ويقال له: محلة، وأشباه ذلك عرف الناس.

والمقصود أنه يكون لكل جماعةٍ مسجد يُصلون فيه ويجتمعون فيه، الجماعة المتقاربة يبنون لهم مسجدًا؛ حتى يُصلوا فيه، وحتى يجتمعوا فيه للتعاون على البرِّ والتقوى، ولإقامة حلقات العلم، ولغير هذا من المصالح التي تُقام في المسجد.

"وأن تُنَظَّف وتُطَيَّب" أمر بأن تُنظف من الأذى، فلا يكون بها الأذى: لا بول، ولا بُصاق، ولا أشباه ذلك مما يُؤذي المصلين، حتى القذاة.

وكان في عهد النبي ﷺ أناسٌ يقمون المسجد: يلتقطون ما قد يقع فيه من أشياء قد تُؤذي، وكانت فيه امرأة سوداء تقمّ المسجد، فلما ماتت ليلًا صلَّى عليها الصحابةُ ودفنوها ليلًا، ولم يُشعروا النبيَّ ﷺ بأمرها، فلما بلغه ذلك قال: أفلا كنتم آذنتُموني؟! دلُّوني على قبرها، فدلُّوه على قبرها، فصلَّى عليها.

هذا يدل على عنايته ﷺ بالضُّعفاء من المسلمين، وتقديره لأعمال العاملين في سبيل الحقِّ، ومن ذلك التَّطييب، يجعل فيها الطيب .....؛ لما في التَّطييب من تحسين رائحتها، وتسهيل الإقامة فيها، والتَّشجيع على زيارتها، والمجيء إليها، والتَّرداد إليها لطيب الرائحة، فطيب الرائحة يُشجع على المقام فيها للقراءة، والذكر، وتعليم العلم، والاعتكاف، وغير ذلك.