34 من حديث (من حفر بئرا فله أربعون ذراعا عطنا لماشيته..)

927- وَعَنْ عبدِالله بْنِ مُغَفَّلٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

928- وَعَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقْطَعَهُ أَرْضًا بِحَضْرَمَوْتَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

929- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَقْطَعَ الزُّبَيْرَ حُضْرَ فَرَسِهِ، فَأَجْرَى الْفَرَسَ حَتَّى قَامَ، ثُمَّ رَمَى سَوْطَهُ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ حَيْثُ بَلَغَ السَّوْطُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِيهِ ضَعْفٌ.

930- وَعَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَأ، وَالْمَاءِ، وَالنَّارِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث الأربعة بقية أحاديث إحياء الموات، وسبق لنا الكلام على الموات وصفة الإحياء، وهذا الحديث السادس يتعلق بما يتبع البئر إذا حُفرت، حديث عبدالله بن مغفل الهذلي، يقول ﷺ: مَن حفر بئرًا فله أربعون ذراعًا عطنًا لماشيته.

هذا الحديث مثلما قال المؤلفُ: أخرجه ابن ماجه بإسنادٍ ضعيفٍ؛ لأنَّ في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي المعروف، وهو ضعيف عند أهل العلم، وقد وقع في الشرح عندنا في "السبل": ابن سلم، أو ابن سليم، وهو غلط، والصواب: ابن مسلم المكي، وقد ضعَّفه الأئمةُ، فلا تقوم به الحجَّة.

وثبت من حديث سعيد بن المسيب مرسلًا: أنَّ حجم البئر العادية خمسون ذراعًا، وحجم البئر البديء خمسة وعشرون، رُوي متَّصلًا مرفوعًا عن أبي هريرة ، وهذا أحسن ما قيل في هذا الباب: أن البئر المحفورة يكون لها حريم خمسون ذراعًا، البئر العادية القديمة إذا رممها وأصلحها وأحياها، وإذا كانت بديئةً لها خمس وعشرون ذراعًا، وليس في الباب ما يُخالف حديث سعيد، ومراسيله جيدة، وقد جاءت متصلةً أيضًا، وهذا كله فيما يتعلق بالبئر.

أما إذا أحيا ما حولها بالزراعة أو بالغرس أو بإقامة القصور والمباني فله ما أحيا؛ ولهذا في حديث: مَن أحاط، وفي حديث سمرة بن جندب المتقدم وجابر: مَن أحاط حيطًا على أرضٍ فقد أحياه، فإذا أحاطها فقد أحياها بذلك، أو زرعها فقد أحياها بذلك، إذا أجرى إليها الماء؛ لأنَّ هذا يُعدّ إحياءً عند أئمة اللغة، وعند الفقهاء.

ويختلف الإحياء اختلافًا كثيرًا: فتارة يُحييها لتكون موردًا للإبل، هذا هو .....، خمسون ذراعًا في .....، وخمس وعشرون في البديء، وتارة يُحييها ليزرع عليها أو ليغرس عليها، فيكون له ما قدر له من جهة ولاة الأمور، وله ما يصل إليه ماؤه إذا أحيا، وتارةً يُحييها -أي البئر- لحاجة البيت والسكن، فهذه أسهل وأيسر، وأمرها أوسع، فإنها تبع الخطة التي خُطت له في بناء بيته، داخلة في الخطة التي خُطت له، والتي أحيا وأحاطها بدارٍ، أو أقام عليها البناء، هذه تابعة لما يحيي، وتارة يُحييها للزراعة، فله ما أحيا بالزراعة.

وإذا تنازع الناسُ تدخلت الجهة المسؤولة وحددت لكلٍّ ما يُناسبه، فالمزارعون يختلفون: فهذا يستطيع أن يزرع كثيرًا، وهذا يستطيع أن يزرع قليلًا، قد يكثرون، وقد يقلون، فيتوسط ولاةُ الأمور فيما ينبغي عند كثرتهم وعند قلتهم، وعلى حسب اختلاف قوتهم في الزراعة وضعفهم؛ لأنَّ الأمر عُرفي، فولي الأمر ينظر في المصالح العامَّة ويُقدرها بقدرها بواسطة أهل الخبرة والمعرفة.

الحديث الثاني حديث وائل: أنَّ النبي أقطعه أرضًا بحضرموت، النبي أقطع جمًّا غفيرًا من الناس، ولولي الأمر أن يقطع: فأقطع بلالًا، وأقطع وائلًا، وأقطع عبدالرحمن بن عوف، وأقطع غيرهم، وأقطع الزبير، فولي الأمر له أن يُقطع من الأراضي الميتة ما يرى، وله أن يُقطع من الأرض الحية التي ملكها من بيت المال بالإحياء إذا رأى ذلك مصلحةً للمسلمين.

المقصود أنَّ ولي الأمر له أن يُحيي إحياء تمليكٍ، وله أن يقطع إقطاع تمليكٍ، وله أن يُقطع إقطاع انتفاعٍ وإحياءٍ، وله أن يُقطع المنافع دون غيرها، فيقول لك: تزرعها سنةً أو سنتين أو ثلاثًا، وما أشبه ذلك .....، هذا شيء إليه، وهو ينظر في مصالح المسلمين.

والحديث الثالث حديث ابن عمر: أنَّ النبي ﷺ أقطع الزبير بن العوام الأسدي -أسد قريش- ابن عمّة النبي ﷺ صفية، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم جميعًا، وهو الزبير بن العوام بن حويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، يجتمع مع النبي في قصي جد النبي الرابع، فإنه محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فهو جد النبي الرابع، وهو جد الزبير أيضًا الرابع: الزبير بن العوام بن حويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأمه صفية بنت عبد المطلب.

أقطعه النبيُّ ﷺ أرضًا في بلاد بني النضير لما أجلاهم النبيُّ ﷺ، ثبت في "الصحيحين" من حديث أسماء، وفي "المسند" أيضًا بإسناد "الصحيحين" عن أسماء: أنها كانت تنقل النَّوى من أرض الزبير، وكانت [تبعد] عن المدينة كما قالت أسماء: ثلثي فرسخ، يعني ميلين تقريبًا، قريب ثلاثة كيلو عن المدينة، وهي معروفة الآن، وهي تُقارب هذه المسافة عن المدينة، وكانت تنقل النَّوى منها -من المدينة- لدقه وإعداده للفرس.

قالت: فكنتُ أسوس فرسه، وأخرج ..... وأعجن، ولكني لا أعرف الخبز، وكان عندي نسوةٌ من الأنصار يخبزن لي. وكن نسوة صدقٍ رضي الله عنهن وأرضاهن.

قالت: ثم أعطاني أبو بكر خادمًا، فكأنما أعتقني، فجعلتها تسوس الفرس؛ لأنها كانت الفرس تشقّ عليها كثيرًا، فجاءت الخادم تسوس الفرس، وأسماء تقوم بالبقية.

وفي هذا الدلالة على أنَّ من شأن نساء قريش ونساء العرب الخدمة لأزواجهن، وعلى القيام بما يلزم من حاجة البيت: كالطبخ، وكنس البيت، والأكل للفرس والبقرة، ونحو ذلك .....، وغير ذلك مما يحتاجه زوجها إذا كان حرَّاثًا فلَّاحًا، وغير هذا مما يحتاجه البيت، كن يقمن بذلك، فإذا وسَّع الله ساعدهن الخدم على أمور البيت.

وهكذا فاطمة كانت تقوم برعاية بيت زوجها عليّ: كانت تطحن، وتخبز، وتكنس البيت، وتقوم بكل مهمات البيت، حتى يسَّر الله لها خادمًا بعد ذلك ساعدتها على هذا.

وهو حُجَّة على أنَّ الزوجة تقوم على ما جرت العادةُ به، كما عُرف في البلاد، كانت تخدم زوجها بما يقتضيه العرف.

وأرض الزبير هذه ثابت في "الصحيحين" من حديث أسماء أنَّ النبي أقطعه إياها، أما هنا فذكر المؤلفُ أن في إسناده ضعفًا؛ لأنه من رواية عبدالله بن عمر العمري الزاهد المعروف، وهو ضعيف من أجل حفظه، لكن الإقطاع ثابت في "الصحيحين" ..... من حديث أسماء.

وفيه دلالة كما تقدم على الإقطاع، وأنَّ ولي الأمر يُقطع من الأراضي ما يُقطع للمصلحة لخواص المسلمين الذين يحتاجون إلى الإقطاع: لبيوتٍ وسكنٍ، أو للحرث والزراعة، أو لأشياء أخرى يحتاجونها.

واختلف الناسُ: هل المقطَع يملك، أو يكون كالمتحجر يكون أولى بها، فإن أحياها وإلا رُفعت يده؟

المشهور هو الثاني عند العلماء، وهو مذهب أحمد وجمع من أهل العلم: أنه يكون كالمتحجر، ويكون أخصَّ بها من غيره، فإن أحياها وإلا أُمهل ما يراه الإمام، فإن قام بالمطلوب وإلا نُزعت منه إلى غيره ممن يُحييها وينتفع بها.

وقال آخرون: يملك، فله التَّصرف في البيع والشراء ونحو ذلك. وهو قول قوي في أنَّ الإقطاع يملك به الأرض، وإن قلنا بالملك كما يقوله جمعٌ من أهل العلم فلولي الأمر أن يأخذ منه ما عجز عن إحيائه، فيكون الرجوعُ لولي الأمر في هذا جائزًا؛ لأنه في مصالح المسلمين؛ ولهذا أخذ عمرُ من بلال ما عجز عن إحيائه وأقطعه غيره.

والحديث الرابع: حديث رجلٍ من أصحاب النبي ﷺ، عند أهل العلم لا يضرّ جهل الصَّحابي ولا إبهامه؛ لأنهم عدول كلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، صرَّحوا بهذا في كتب المصطلح.

يقول: أنه سمع النبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول: الناس شركاء في ثلاثة: في الماء، والكلأ، والنار رواه أحمد وأبو داود، ورجاله ثقات.

وفي لفظٍ: ثلاث لا تُمنع: الكلأ والماء والنار.

هذه الثلاث اشترك بها المسلمون، ليس لأحدٍ منعها.

والحديث ثابت، وله شواهد، من بعضها ما جاء في الصحيح: لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ، والنبي نهى عن بيع فضل الماء.

المقصود أنَّ هذه الثلاث مُشتركة، فليس للإنسان إلا ما يحتاجه، وليس له أن يمنع الزيادة، فإذا كان في أرضٍ فيها عشب كثير، فله أن يرعى ما عنده، وليس له أن يمنع الفضلَ، كذلك الماء: له بئر أو غدير أو شبه ذلك، ليس له أن يمنع، الناس شركاء في هذه الأمور، وما حفره واستنبطه فهو أولى به، لكن ليس له أن يمنع الفضل، وما كان من فضل الله فهو أحقّ به إن يرضى، أو يسقيه ثم يأذن لغيره ..... الناس شُركاء في هذه الأمور.

وهكذا النار: ليس له أن يمنع مَن يستضيء بها، أو يأخذ منها ليستضيء، اختلف الناسُ في المراد: هل المراد الحطب الذي تُوقد به النار، أو المراد الحجر الذي هو الزناد، أو المراد نفس النار إذا أُضرمت؟

والأقرب هو الأخير: المراد هو نفس النار إذا أُوقدت، إذا كان عنده نار ليس له أن يمنع مَن يأخذ حاجته منها في سعفةٍ أو في شيءٍ آخر حتى يستضيء بذلك، أو حتى يُعلقه في حطبه الذي عنده، أو ما أشبه ذلك مما يحتاجه الناس، وهذا لا يضرّه، وينفع غيره، لا يضره السماح لأخيه والمشاركة في الكلأ والنار وفضل الماء، ويضرّ غيره منعه؛ فلهذا جاءت الشريعةُ بعدم منع ذلك، وأنه لا يجوز منع هذه الأمور، والناس فيها شركاء، لكن مَن سبق إلى شيءٍ منها فهو أحقّ به بقدر حاجته، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: نعم، ما في حدّ، على حسب ما يرى وليُّ الأمر: قد يُقطعه أشياء ..... وينتفع بها ويزرعها، وقد يُقطعه شيئًا لينتفع ببعضٍ ويرجع ببعضٍ؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك.

س: ...............؟

ج: إن دعت الحاجةُ للمُساواة تلزم، إن دعت الحاجةُ بأن صاروا كلهم مُتكافئين، كلهم محتاجين، فالعدل أصله واجب، لكن قلَّ أن يتكافأ الناس .....

س: هل يُقاس على هذه الأشياء غيرها .....؟

ج: إذا دعت الضَّرورة، مثل: إذا أصابتهم مجاعةٌ، وبعض الناس عندهم حبوب يحتاجها الناس، أو تمر، لولي الأمر أن يأخذ ذلك ويُوزع على الناس بالقيمة المعتادة.

 

بَابُ الْوَقْفِ

931- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

932- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا، وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يُوهَبُ، فَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مَالًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ، لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ.

933- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَةِ ... الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: باب الوقف.

الوقف من القربات التي جاء بها الإسلام، ورحم الله بها عباده، وجعل لهم فيها خيرًا كثيرًا يتبعهم بعد وفاتهم، ويستمر لهم ثوابه وأجره بعد وفاتهم، وهو مصدر: وقف يقف وقفًا، بمعنى: حبس هذا الشيء لا يُباع ولا يُتصرف فيه مما .....، فيُقال: حبّس، ويقال: وقف، ويقال: وقّف، ويقال: أوقف، بلغةٍ ضعيفةٍ: أوقف بالهمزة، ويقال: سبّل، ويقال: تصدَّق صدقةً مُؤبدةً، صدقة مُستمرة، صدقة باقية.

والمقصود من هذا هو المال الذي يحبسه الإنسانُ مما يبقى أصله، ويُنتفع بغلته وثمرته، فالوقف: عين يحبسها مالكها في وجوه البرِّ، يُنتفع بغلتها وثمرتها ونمائها، ويبقى أصلها، سواء كانت عقارًا أو منقولًا، فالعقار كالأراضي والبيوت، والمنقولات كالحيوانات والأواني وأشباه ذلك مما يمكن الانتفاعُ به مع بقاء عينه، وهو سنة وقُربة، وليس بواجبٍ، ولكنه سنة وقُربة.

مما يدل عليه الحديثُ الأول: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: إذا مات ابنُ آدم انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له، وهذا بالنسبة إلى عموم الناس، وجاءت استثناءات خارجة عن هذا:

فمنها المجاهد والمرابط أنَّ الله يُجري عليه عمله، الشهيد يُجري عليه عمله، كما جاء في الصحيح.

ومنها مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله، وأن الرسل لهم مثل أجور أتباعهم، والدُّعاة إلى الله لهم مثل أجور أتباعهم إلى يوم القيامة، هذا لا ينقطع، يبقى لهم، هذا من فضل الله ورحمته ، وقد يكون هذا داخلًا في قوله: علم يُنتفع به؛ لأنَّ الدلالة على الخير والإرشاد إليه علم يُنتفع به: إذا دعاه إلى الإسلام وهداه الله على يديه، أو دعاه إلى طاعة الله فهداه الله على يديه، فهو داخلٌ في علم يُنتفع به، ولكن جاء به النص صريحًا، فهو باقٍ للعبد، سواء دخل في علم يُنتفع به أو كان مُستقلًّا: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله، مَن دعا إلى هدًى كان له مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص من أجورهم شيئًا، وهذا يشمل الحيَّ والميت.

وأما ما يُروى من لحوق الإنسان بعد وفاته ما يحفره من نهرٍ، أو يبنيه من مسجدٍ، أو يُسبله من المصحف أو غيره داخلٌ في قوله: صدقة جارية، وإنما هو تفصيل لو صحَّ.

فالحاصل أنَّ كلَّ ما يفعله الإنسانُ من القُربات، سواء مساجد يبنيها، أو مدارس، أو ربط، أو قنوات يسير معها الماء إلى مدنٍ أو قرى أو مساجد، أو ما أشبه ذلك، أو كتب يسبلها؛ داخلٌ في علم يُنتفع به، وفي صدقة جارية، ولا ينحصر هذا في شيءٍ معينٍ، بل يعمّ جميع ما يفعله الإنسانُ يرجو به ما عند الله ، فهو ينفعه حيًّا وميتًا، وإن كان يتعلق بالعلم دخل في علم يُنتفع به، وإن كان لا يتعلق بالعلم دخل في صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له.

هذا أيضًا يدل على فضل الذرية، وأن دعواتهم لها خصوصية؛ دعوات الأولاد الصَّالحين بلحوقها الآباء لها خصوصية، وإلا فدعاء المسلمين يلحق أيضًا حتى غير الولد، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الآية [الحشر:10].

فالدعوات بإجماع المسلمين تلحق وتنفع الميت بعد وفاته، ولو كان غير ولدٍ، لكن إذا كان ولدًا صارت له مزية، وله خصوصية؛ لهذا الحديث، وأن دعواته لها مزية اللحوق لوالده، ونافعة لوالده أكثر من غيره؛ ولأنَّ ولده من كسبه، فله خصوصية، في الحديث الصحيح: إنَّ أولادكم من كسبكم، فالأولاد الصَّالحون من ذكورٍ وإناثٍ لهم نفع كبير في دعائهم للوالدين، وصدقاتهم عن والديهم، وغير ذلك مما قد يقع منهم من الخير.

والحديث الثاني: حديث ابن عمر في قصة عمر وتوقيفه سهمه الذي بخيبر: كان له نصيبه في خيبر، فإن النبي قسم خيبر بين الغارمين، وعمر منهم، روى النَّسائي أيضًا أنه اشترى سهامًا من خيبر بأرؤوس.

فالحاصل أنَّ عمر رأى تسبيل نصيبه من خيبر، وأنه أنفس ماله كما قال : إني أصبتُ أرضًا بخيبر هو أنفس عندي من غيرها. وأخبره أنه ليس عنده مال أنفس منه؛ فلهذا أراد أن يتقرب به إلى الله من بعد قوله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [الإنسان:8].

فتقرب الإنسانُ بما يُحب، أو بما هو أحبَّ إليه من غيره يدل على كمال الرغبة فيما عند الله، فعمر أراد هذا المعنى حين قال: ما عندي شيء أنفس منه. فأذن له النبيُّ ﷺ أن يُوقفه، وبيَّن له وجه ذلك: أن يتصدق بأصله، لا يُباع، ولا يُوهب، ولكن يُنفق ثمره، فتصدق عمر بذلك، تصدَّق بهذا المال من خيبر: لا يُباع، ولا يُوهب، ولا يُورث، ولكن يُنفق في القربى، وفي الفقراء، وفي الرقاب -يعني: عتق الرقاب- وفي سبيل الله -في الجهاد- أو ابن السبيل، وفي الضيف الذي ينزل بهم.

هذه جهات ستّ كلها من جهات البرِّ، جهات الخير، كلها جامعة، الفقراء معروف أنهم صنف واسع في كل مكانٍ، والقربى قراباته، سواء فقراء أو غير فقراء، وفي الرقاب: عتق الرقاب، وفك الأسارى، كله داخل في الرقاب، وفي سبيل الله: الجهاد، ويحتمل أنه أراد أنواع الخير في سبيل الله: من بناء المساجد، ومن إيجاد ما ينفع المسلمين من أنواع القربات، وابن السبيل معروف: وهو مَن ينقطع به السير من أي بلدٍ، ويحتاج إلى المساعدة، والضيف معروف: مَن ينزل بآل عمر أو بوكيل الوقف فيُعطى من هذا قراه، ويُحسَن إليه، وإذا كان فقيرًا يُعطى أيضًا، هذه جهات برٍّ كلها مما جاء الإسلامُ باعتبارها والإحسان إلى أهلها.

واحتجَّ بهذا العلماء على أنَّ الوقف لا يُباع، ولا حظَّ فيه للورثة، لا يُباع، ولا يُوهب، ولا يُورث، وهو كالإجماع من أهل العلم، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله.

المقصود أنَّ الذي عليه جمهور أهل العلم -وهو كالإجماع منهم- أنَّ الأوقاف يجب أن تبقى ولا تُباع إلا بالعلة: كتعطل منافعها، أو قلة منافعها، أو صرفها فيما هو أصلح عند قومٍ آخرين.

المقصود أنها تبقى، وإذا بِيعت لا تُباع للأكل أو للورث، لا، تُباع لصرفها فيما هو أصلح، وهذا هو الصواب، إذا تعطلت منافعها أو قلَّت منافعها جاز بيعها، هذا هو المختار من أقوال أهل العلم، وهو الصواب؛ لأنَّ المقصود من الأوقاف نفعها، واستمرار الخير للميت -للواقف- فإذا تعطلت منافعها وأيش الفائدة؟ ما في فائدة في بقائها، أو قلَّ نفعها، لا فائدةَ منها حينئذٍ، فإذا أمكن أن تُباع وتُجعل في شيءٍ أكثر نفعًا للميت والحي كان هذا موافقًا للشريعة ولقواعدها العظيمة.

واختار شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما هو أوسع من هذا، وأنَّ بيعها للمصلحة أيضًا جائز، فإذا كانت تغلّ كل سنة مثلًا ألف درهم، وبإمكان الولي أن يبيعها أو يبدلها بشيءٍ يغلّ ألفين أو ثلاثة؛ كان هذا جائزًا للمصلحة على رأي الشيخ تقي الدين، وبعض أهل العلم صنَّفوا في هذا مصنفات من الحنابلة وغيرهم.

فالحاصل أن بيعها إذا تعطلت منافعها لا شكَّ فيه، أو قلَّت منافعها لا شكَّ فيه، إنما الخلاف الذي له أهمية: بيعها إذا كان بيعها أصلح وأكثر ريعًا هل يجوز أم لا يجوز؟ هذا محل خلاف قوي، والتثبت في هذا متعين، لكن متى ظهرت المصالح وظهرت الفائدة التي تنفع الميت والحي، فالقول بجواز ذلك قول قوي موافق للقواعد؛ لأنَّ القاعدة في الشريعة: تحصيل أعلى المصلحتين ولو بتفويت دنياهما، وتفويت كبرى المفسدتين أو المفاسد ولو بارتكاب أدناهما أو أدناها، هذا قاعدة معروفة ...

والحديث الثالث حديث أبي هريرة في قصة خالد: أن النبي بعث عمر على الصَّدقة، فقيل: منع ابن جميل، ومنع العباس عمّ النبي ﷺ، ومنع خالد، فقال النبيُّ ﷺ: إنَّكم تظلمون خالدًا؛ فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، قالوا: معناه أنه ما عنده شيء، أنه فقير ليس عنده مال، فكيف يُتَّهم بأنه يمنع الصَّدقة؟! وقيل: معناه أنه حبسها، أي: سبلها وجعلها وقفًا، والوقف لا زكاةَ فيه؛ ولهذا أدخله المؤلفُ هنا على هذا المعنى: سبل أدراعه وأعتاده -يعني سلاحه- في سبيل الله، جعله وقفًا في سبيل الله، وما كان بهذه المثابة لا زكاةَ فيه، إنما الزكاة في المملوك.

ثم الأدرع والعتاد لا تكون محل زكاةٍ إلا إذا كانت للتجارة: للبيع والشراء، فإدخال المؤلف له في هذا الباب على أحد أقوال أهل العلم الذين يقولون: إن المراد بذلك أنه سبلها، فلا تكون فيها زكاة، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: ظاهر السياق أنه اختارها هو، هذا ظاهر الواقع، ولا يمنع من كون الرسول وجَّهه إلى شيءٍ منها.

س: ..............؟

ج: أقرها النبي ﷺ وأمضاها.

س: ..............؟

ج: لأنَّ فيها صلة رحم مطلقًا، نعم.

س: ..............؟

ج: جزء منها نعم، يعني: يعطوا منها ولو جهة، يُعطى منها القريب صدقة أو هدية، يُعطى منها الفقير، يفكّ منها الأسارى، الأمر إلى الولي.

س: ...............؟

ج: ثم الفائدة في قوله: "لا جناح على ولي" أيضًا أنَّ الوالي يأكل منها بالمعروف، وهو الوكيل، في مقابل تعبه إذا شاء، إذا أحبَّ ذلك، قال العلماء: ولا بأس أن يفرض له الحاكم شيئًا إذا خاف المشرف أو تورع وأبى أن يأخذ، لا بأس أن يفرض له الحاكم شيئًا معلومًا في مقابل عمله، وإن أخذ ما يُقابل عمله بالمعروف: من أكلٍ وشربٍ ولبسٍ ونحوها فلا بأس كما قال عمر.

س: .............؟

ج: هذا يرجع إلى ولي الوقف، ينظر الأصلح: قد يكون بعض الأحيان محلّه ليس فيه فقراء، قد يكون بعض الأحيان ما يجيئه ضيف، قد يكون ما فيه رقاب، ولي الأمر ينظر المصالح، ينظر ما هو الأفضل فالأفضل.

س: ..............؟

ج: لا شكَّ؛ لأنها قرب كثيرة، قرب متنوعة، قد يكون المسجد من القربات التي يضطر الناسُ إليها، وقد يوجد من المحسنين مَن يكفي عن هذا الوقف ..... المساجد أو من الدَّولة.

س: ..............؟

ج: التنويع أولى لا شكَّ.

س: ...............؟

ج: هذا محل خلافٍ بين أهل العلم، المشهور أنه لا يصلح إلا [أن] ينتفع به ويبقى أصله، هذا الأصل.

س: ..............؟

ج: كذلك الطريق؛ لأنه ينتفع به مع بقائها إذا سبل الطريق للناس، إذا سبل طريقًا من بيته، أو من أرضه إلى بلدٍ من البلدان، أو إلى قريةٍ من القرى، أو إلى مسجدٍ؛ فهو عمل صالح.

س: ..............؟

ج: يُصرف في مسجدٍ آخر، يُعمر في مسجدٍ آخر.

س: ...............؟

ج: تُؤخذ القيمة وتُصرف في مسجدٍ آخر، هذا هو الأحسن .....

..........

 

بَابُ الْهِبَةِ

934- عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَكُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَارْجِعْهُ.

وَفِي لَفْظٍ: فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ ﷺ لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ: أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي، ثُمَّ قَالَ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَلَا إِذًا.

935- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ.

936 و937- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا، إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ.

938- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

939- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: وَهَبَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ نَاقَةً، فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، فَقَالَ: رَضِيتَ؟ قَالَ: لَا. فَزَادَهُ، فَقَالَ: رَضِيتَ؟ قَالَ: لَا. فَزَادَهُ، قَالَ: رَضِيتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

 

الشيخ: هذه الأحاديث وما جاء في معناها تتعلق بالهبة، ويأتي ما يتعلق بالعمرى والرُّقبى إن شاء الله.

الهبة دلَّت النصوصُ من الكتاب والسنة على جوازها، وأنه لا حرجَ في الهبة والعطية والصَّدقة، فالهبة تكون لمقاصد دنيوية، وقد تكون لمقاصد شرعية وقُربة، ويكون لها حكم الصَّدقة، أو حكم صلة الرحم، أو حكم التَّبرر وطلب المواساة والإحسان، وقد تكون عطيةً بمعنى: أنها في محل مرضٍ عند قومٍ يُسمونها: عطية، إذا كانت في مرضٍ قد تكون صدقةً؛ لأنَّ الدافع لها والحامل عليها هو طلب الأجر، إذا كانت في حقِّ الفقراء والمساكين وأبناء السَّبيل.

فالحاصل أنَّ الهبة بأنواعها تُعتبر صدقةً أو عطيةً أو هبةً أو بأي نوعٍ من الأسماء، فإنها جائزة، وضابطها أنها تكون على غير عوضٍ، أي: عن غير مقابلٍ، فإن كانت لأجل طلب الأجر غلب عليها اسم الصَّدقة، وإن كان لغير ذلك غلب عليها اسم: الهبة والعطية والمنحة، وأشباه ذلك.

وهي جائزة بالنص والإجماع ما لم يقترن بها ما يجعلها منكرةً: كالهبة التي تُدفع للقُضاة والعُمَّال على سبيل الرشوة، فتكون ممنوعةً لأجل ما يحتفّ بها من القصد السَّيئ، وهو حمل العامل أو القاضي أو الأمير على الحيف.

فالحاصل أنها جائزة، وأمرها ماضٍ ما لم يقترن بها ما يجعلها ممنوعةً؛ لكونها في حكم الرشوة، أو لأسبابٍ أخرى تقتضي منعها: كهبة بعض الأولاد دون بعضٍ، وشبه ذلك مما يحفّ به شيء يمنعه.

ومن جملة ذلك: عطية الأولاد، وقد بدأها المؤلفُ في حديث النعمان، والنعمان بن بشير صحابي صغير، ممن عقل عن النبي ﷺ وحمل عنه، وأبوه صحابي، فهو صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما، فيه أنَّ أباه وهبه غلامًا، وجاء في الروايات أنَّ أم النعمان هي التي ألحت على أبيه ليُعطيه غلامًا له؛ ليخصّه بمنحه، وكان له أولاد من غير بنت رواحة، من غير عمرة، وقد ماطل بها بعض الوقت، فلم تزل تُلحُّ عليه حتى تقدم إلى النبي ﷺ وأخبره بعطيَّته للنُّعمان الغلام، وكانت أمه طلبت من بشير أن يُشهد على ذلك النبي ﷺ، وأن يكون النبيُّ شاهدًا على هذه العطية؛ لتثبيتها وإقرارها.

فبين له النبيُّ ﷺ الحكم، وسأله: هل أعطيتَ لولدك كلهم؟ أكل ولدك نحلتهم مثل هذا؟ قال: لا، قال: فارجعه يعني: فرده. وفي اللفظ الآخر: فاردده، وقال: اتَّقوا الله واعدلوا بين أولادكم.

وجاء في هذا عدة روايات في "الصحيحين" وغيرهما، كلها تدل على منع هذا العمل، وأنه جور، والنبي قال: لا أشهد على جورٍ كما في "الصحيحين" أيضًا.

وبيَّن أيضًا أنه يُسبب عدم برهم له، إذا جار عليهم وفاوت بينهم قد يُسبب أيضًا اختلافهم وعدم برهم إياه؛ لأنه لم يعدل بينهم؛ ولهذا قال: أيسرك أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟ قال: نعم، قال: فلا إذًا يعني: فلا تخصّ أحدًا حتى تكون وجهتهم إليك سواء، وبرهم لك سواء.

والخلاصة من هذا: أنه يحرم أن يخصَّ بعض الأولاد بشيءٍ، أو يُفضل بعضهم على بعضٍ، مما قاله النبيُّ ﷺ: اتَّقوا الله واعدلوا بين أولادكم، هذا هو الصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم.

وذهب الأكثرون إلى حمله على الكراهة، وليس بجيدٍ، والصواب أنه على ظاهره، وأنه منكر، وأنه لا يجوز، بل يجب التَّعديل أو عدم العطاء: إما أن يعدل بينهم ويُشاور بينهم، وإما أن يدع، أما أن يخصَّ بعضهم أو يُفضِّل بعضهم على بعضٍ فهذا هو المنكر والمخالف لقوله ﷺ: واعدلوا بين أولادكم، يقول الله: اعْدِلُوا [المائدة:8]، فجعل هذا خلاف التَّقوى، وخلاف العدل، وجعله من الجور.

واختلف أهلُ العلم في كيفية التَّعديل: هل هو على حسب الميراث، أم يُساوي بين الذكر والأنثى؟ على قولين: والأرجح أنه كالميراث؛ لأنه لو لم يُعطهم لأخذوا كذا وورثوه كما قال الله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]، فإذا عدل فليكن ذلك على حسب الميراث؛ لئلا يتوصل بهذا إلى خلاف أمر الله، ويحيد على ما شرع الله.

وذهب قومٌ إلى أنه يجعلهم سواء: الذكر والأنثى سواء، ..... ظاهر الإطلاق: اعدلوا بين أولادكم، سووا بين أولادكم، قالوا: هذا يدل على التَّسوية وعدم التَّفضيل. واستأنسوا أيضًا بما روى سعيد بن منصور والبيهقي من حديث ابن عباسٍ: سووا بين أولادكم، فلو كنت مُفضِّلًا أحدًا لفضلتُ النساء.

قال الحافظ: إسناده حسن. الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهكذا الشارح صاحب "السبل" قال: إنه بإسنادٍ حسن. وقد راجعتُ هذا الحديث من رواية ابن عباسٍ في "سنن البيهقي" من طريق سعيد بن منصور، عن إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، فوجدتُه ليس كما قالا، وليس بحسنٍ.

والعجب من الحافظ رحمه الله: كيف أطلق حسنه؟! وهكذا تبعه صاحب "السبل"، ولكن العجب من الحافظ أكثر! فإن سعيد بن يوسف هذا ذكر صاحب "التهذيب" وصاحب "التقريب" أنه ضعيف؛ ضعَّفه أحمد وابن معين والنَّسائي وغيرهم، ورمز له بعلامة أبي داود في "المراسيل": "مد" في "التقريب"، ومَن كان بهذه المثابة فكيف يكون حسنًا وفيه هذا الرجل الذي ضعَّفه أهلُ العلم؟!

قال ابن عدي وأنكر ما رُوي له؛ لأنه قال: له مناكير. قال: وأنكرها ما رواه عن ابن عباسٍ: أن النبي ﷺ قال: سووا بين أولادكم، فلو كنتُ مُفضِّلًا أحدًا لفضَّلْتُ النساء، فنصّ على هذا الحديث كما في "التهذيب".

وفيه علة أخرى أيضًا: وهي أن يحيى بن أبي كثير رواه عن عكرمة بالعنعنة، ويحيى من المدلسين المعروفين، وهو مدلس إذا لم يُصرح بالسماع، فلا يُحتج بروايته عند أهل العلم، فكان هذا الحديثُ فيه علتان قادحتان:

إحداهما: ضعف سعيد.

والثانية: تدليس يحيى وعنعنته.

وبذلك يتبين أنَّ القول الصواب والأرجح أنه يعدل بينهم كالميراث، هذا هو التعديل، وهذا هو العدل فيهم، كما جعله الله عدلًا؛ فإنَّ الله سبحانه أوصى بأن يُعطوا هكذا: للذكر مثل حظِّ الأُنثيين، وهذا هو العدل من الله، وهذا هو العدل الذي أراده رسوله عليه الصلاة والسلام: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم.

والحديث الثاني: حديث ابن عباسٍ في التحذير من العود في الهبة، وأنه ليس له مثل السَّوء، الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه، هذا يدل على تحريم الرجوع في الهبة.

وهكذا حديث ابن عباسٍ وابن عمر أيضًا: لا يحلّ للرجل أن يُعطي العطيةَ ثم يرجع فيها، إلا الوالد يُعطي ولده، وهو حديث صحيح.

كلاهما يدل على تحريم الرجوع في الهبة، وأنه لا يجوز الرجوع في الهبة إلا لعلةٍ شرعيةٍ مثلما تقدم في عود الرجل، إذا أعطى بعض أولاده يعود: إما أن يُساوي بينهم، وإما أن يرجع؛ لأنَّ رجوعه لازم.

كذلك الهبة التي لا تجوز شرعًا: كالهبة للوارث في مرض الموت، يجب أن يرجع فيها، وكالهبة التي بمعنى الرشوة للقاضي والعامل، يجب أن يرجع فيها، ويجب أن يردَّها مَن أخذها، كذلك الهبة التي بمعنى البيع، في حكم البيع: كالهبة التي يُعطيها المفضول للفاضل، كما يُهدى للملوك والأمراء والأغنياء لطلب الرفد، فهذه هبة ليس مقصودها التَّبرر، وإنما مقصودها العوض، كما في حديث ابن عباسٍ في قصة الناقة .....؛ لأنه ﷺ لم يزل يُعطيه حتى أرضاه؛ لأنه أهداها لقصد العوض، فلم يزل يُعطيه حتى رضي في الثانية، فهذا يدل على أنَّ الهبة التي للمال والعِوض ليست مثل الهبة الأخرى للتَّبرر والمودة أو الصَّدقة، فهذه لا بدَّ فيها من العوض؛ لأنَّ صاحبها أراد العوض، فإما أن يرضى، وإما أن تُردّ عليه هبته.

وألحق بعضُ أهل العلم بذلك هبة المرأة لزوجها، والرجل لامرأته، إذا كان المقصودُ من هبتها له لئلا يُطلقها، أو من هبته لها أن تعدل سيرتها وأن تستقيم في عشرتها له، قالوا: فإذا أعطاها ولم تستقم فله الرجوع، وإذا أعطته ولم يستقم، بل طلَّقها فلها الرجوع.

وهذا له وجهه، وهو جيد، والمعاني المعروفة والمقاصد تُؤيد ذلك، فليس للزوج أن يظلمها ويتعدى عليها لتعطيه المال ثم يُطلقها أو يُسيئ عشرتها، بل يجب عليه أن يقوم بالواجب، وأن يُحسن إليها، ويُحسن عشرتها ولو لم تُعطه شيئًا، فإذا أعطته شيئًا لقصد الاستقامة فليس له أن يتملكه إلا بهذا العمل الطيب، وعلى هذا قوله جلَّ وعلا: فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]، إذا طابت النفوسُ بذلك فلا بأس، أما إذا كانت النفسُ لم تطب، وإنما دفع له كالعِوض ليستقيم، ليدع ظلمها وأذاها، أو ليُمسكها، فهي عطية مشروطة في المعنى.

كان النبي ﷺ -كما في حديث عائشة- كان يقبل الهدية ويُثيب عليها. هذا يدل على أنَّ المعطى يُشرع له أن يُثيب تأسِّيًا بالنبي ﷺ، فإن كان يُثيب المهدي فينبغي للمُعطى أن يُثيب، وهذا والله أعلم فيما يتعلق بالهدية التي ليس فيها قصد الصدقة، وليست لمن لا يرضى بأن يُقابل، يُقابل بالمثل القريب وشبه ذلك، أما إذا كانت الهديةُ ممن لا يرضى بالمقابل، وليس من العُرف أن يُعطى مقابلًا فليس داخلًا في هذا، فإنَّ هدية السُّلطان إلى غيره والراعي للرعية ليس لها مقابل إلا الدعاء بالهداية والتَّوفيق، وكذلك الصَّدقة للفقراء والمساكين وأبناء السبيل ليس لها مقابل إلا الدعاء.

فالمراد بهذا والله أعلم: الهدية التي مثلها يُقابل بين الأقران والأصحاب والأقارب، فالنبي كان يقبلها ويُثيب عليها عليه الصلاة والسلام، وهذا هو السنة، وهذه هي المروءة، وهذا الذي ينبغي؛ حتى تسود المحبَّة بين الجميع.

وفي الحديث: تهادوا تحابُّوا كما يأتي، فهذا التَّهادي فيه تقريب للقلوب، وتأليف للقلوب، وتعاون على الخير، ونوع من أسباب الصفا والأنس بما يجري بينهم من المهاداة والتَّعاون بما جرت به العادة.

وهكذا بين الجيران: التَّهادي بين الجيران أمر مطلوب؛ لصفاء القلوب، والتعاون على الخير والتَّأليف.

والله أعلم.

س: ...............؟

ج: لا أعلم مانعًا من تسميتها هدية، لكن الصَّدقة تُعرف من جهة القصد، وقد يُوصلها بشكل هديةٍ، ولا يُسميها: صدقة؛ لئلا يُؤثر على نفس المعطى؛ أو لئلا يكدر على المعطى، أو ما أشبه ذلك، المقصود من ذلك: لا مانع من تسميتها: هدية؛ لأنها مال مبذول على سبيل التَّبرع، تكون هديةً بظاهر الأمر، وصدقةً بالنسبة إلى ما في قلبه وما أراده، ومحلها الذي دُفعت إليه.

س: ...............؟

ج: إذا أراد بذلك ألا يُكدر أخاه فلا بأس، ما يقول: زكاة، يُعطيها إياه على طريقة الهدية، ولا يقل له: هي زكاة ......

س: ................؟

ج: نعم، الهدية التي تُعطى للإنسان على سبيل التَّودد والمحبَّة والصَّدقة للفقير والمسكين، لكن يجوز أن يُسمِّي الهدية لما دفع للفقير؛ لئلا يتشوش، أو لأنه لا يرضى أن يُعطى له صدقة.

س: ...............؟

ج: ما أدري، ما يظهر لي، النبي كان يقبلها ولا يردّها، لكن إن استطاع المقابل وإلا لا يردّها إلا إذا كان المهدي يُريد المقابل، فإذا كان المهدي يُريد المقابل يردّها عليه ويتعذر بعذرٍ مناسبٍ.

س: ...............؟

ج: الأظهر والله أعلم أنه لا ينبغي ردّها إلا لعلةٍ؛ لأنَّ ردَّها خلاف السنة إلا لعلةٍ: إذا كان الرادُّ يرى أن المهدي يريد مالًا كثيرًا، ويريد زائدًا، ولا يستطيع [أن] يأتي به، ويقول: سامحني؛ لأني لا حاجةَ لي بهذا الشيء، أو عبارة أنسب ..... كأن يقول له: ما عندي مال، أو كان المهدي يُريدها رشوةً، فيتعذر يقول: ليس من عادتي هذا الشيء، وأنا مثلي لا يقبل الهدايا، ولا يحسُن أن يقبل الهدايا، وما أشبه ذلك؛ لئلا يتكدر كثيرًا، يُبين له العذر.

س: .............؟

ج: هذا ما فيه بأس، وجيه، أقول: لا أعلم فيه بأسًا؛ لأنه قد يلتمس إنسانًا محتاجًا له، وقد يكون أقوى من هذا المهدى إليه في التماس مَن ينتفعون به .....؛ لأنَّ هذا متعب له، معناه مشقة عليه.

س: ..............؟

ج: هذا عُرفي، هذه أمور عرفية، ما هي هدايا، من باب العُرف، كلٌّ يُعطى، الولد الصغير له نفقته الخاصَّة، والبنت لها نفقة خاصة، كلٌّ له ما يُناسبه.

س: ...............؟

ج: تقدم الكلام عليه، العمَّال والقضاة ما يقبلون هدايا؛ لأنها رشوة، هي رشوة، إذا كان ما هي بعادة سابقة هي رشوة، ما يقبلونها.

س: ...............؟

ج: العموم: اعدلوا بين أولادكم، سووا بين أولادكم .......

س: ..............؟

ج: لا؛ لأنها مطلقة، وقد دلَّ الشرعُ على التَّعديل بالميراث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11].

س: ..............؟

ج: هذا يجعل له أجرة، يجعل له أجرة مستقبلة، كالعامل يجعل له أجرة على قدر عمله.

س: ..............؟

ج: إذا عرفوا أنها رشوة لا يأخذونها، وإذا ما أعطاهم ما عليهم.

..............

940- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ: أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ.

وَفِي لَفْظٍ: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ، فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا.

وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: لَا تُرْقِبُوا، وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ شَيْئًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ.

941- وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ صَاحِبُهُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا تَبْتَعْهُ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ ... الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

942- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: تَهَادُوْا تَحَابُّوا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "الأَدَبِ الْمُفْرَدِ"، وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

943- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَهَادوا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تَسُلُّ السَّخِيمَةَ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ.

944- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

945- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْمَحْفُوظُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَوْلُهُ.

الشيخ: هذه الأحاديث بقية باب الهبة والعُمرى والرقبى.

الحديث الأول: حديث جابر بن عبدالله الأنصاري، عن النبي ﷺ أنه قال: العُمرى لمن وُهبت له متفق عليه.

وفي رواية مسلم: أمسكوا عليكم أموالَكم ولا تُفسدوها، فإنَّ مَن أعمر عُمرى فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه.

وفي روايةٍ لمسلم من حديث جابر: إنما العُمرى التي أجاز رسولُ الله ﷺ أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشتَ، فإنها ترجع إلى صاحبها.

وفي رواية أبي داود والنَّسائي: لا تعمروا، ولا ترقبوا، فمَن أرقب شيئًا أو أعمر شيئًا فهو لورثته.

هذه الروايات تدل على أنَّ العُمرى والرُّقبى لمن أُعطيها .....، فإنَّ الإنسان ..... الحياة، فإذا مات ذهب ملكه وصار إلى غيره ..... المال مدة حياته، فإنه يكون لورثته ولا يرجع للذي أعطى، هذا هو الصواب في هذه المسألة، وقد وقع في ذلك خلافٌ بين أهل العلم، والصواب ما دلَّ عليه حديث جابر: العُمرى لمن وُهبت له، كذلك رواية: ..... ولعقبه.

وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة: العُمرى لمن وُهبت له، وفي اللفظ الآخر: العُمرى جائزة، أو قال: ..... لأهلها، فأما قول جابر: ..... ولعقبه ..... يعني: ترجع إلى صاحبها، هذا مما استنبطه واجتهد فيه، والأمر ليس كذلك، بل ظاهر النص أنَّ العُمرى مطلقًا لمن وُهبت له، وإذا قال .....، أو هي لك حياتك، أو هي لك عمرتك، أو ما دامت رقبتك حية، أو ما دمت حيًّا. فهذا كله بمعنى واحدٍ، وهي تكون له ولعقبه، ولا ترجع لمن أعطاها؛ لأنَّ هذا ..... حياته، فإذا زالت حياتُه انتقل المالُ إلى الورثة، بخلاف ما إذا قال: لك السُّكنى تسكنها فقط مدةً معلومةً، أو لك السُّكنى حياتك فقط. فهذا لم يعمره رقبةً، وإنما أعمره السُّكنى والمنفعة، فهذا شيء، وذاك شيء.

والحاصل من هذا أنَّ الصواب أن العُمرى يملكها المعمر وورثته، ولا ترجع إلى المعمر المرقب، هذا هو الصواب في هذه المسألة، وهو مقتضى الأحاديث الصَّحيحة، خلافًا للجاهلية، فالجاهلية يرونها ترجع إلى صاحبها، فيكثر النزاع والفتن، ويذهب أجيال، ويأتي أجيال، وتغير الأحوال.

فالحاصل أنَّ الرسول ﷺ قضى فيها بخلاف قضاء الجاهلية من رجوعها إلى صاحبها، بل متى أعمره إياها صارت لورثته بعده، ولا ترجع للذي أعطاها، فهي .....

والحديث الثاني حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنه حمل على فرسٍ في سبيل الله، يعني: تصدق به لمن يُجاهد عليه، فأضاعه صاحبُه، يعني: أهمله، ما قام عليه كما ينبغي من النَّفقة اللازمة، فظننتُ أنه بائع برخصٍ. أراد عمرُ أن يشتريه منه؛ ليُكرمه ويعدّه للجهاد، فقال النبيُّ ﷺ: لا تبتعه ولو أعطاكه بدرهمٍ .. الحديث، تمامه: فإنَّ العائد في هبته كالعائد في قيئه، وفي لفظٍ: فإنَّ الرجل العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه.

فدلَّ ذلك على أنَّ مَن تصدَّق بشيءٍ أو سبله أو حبسه لا يرجع فيه، بل مضى وصار إلى الله، وليس له الرجوع فيه، فإن كان أعطاه فقيرًا صار للفقير وملكه الفقير، فليس له الرجوع في ذلك، ولا شراؤه أيضًا، حتى الشِّراء ليس له أن يشتريه؛ لأنه إذا اشتراه فقد يُسامحه صاحبُه فيكون فيه معنى الرجوع في بعض الشيء؛ لأنه يستحي ولا يُتاجره ولا يُشدد عليه ويبيعه .....، فسدَّ الباب عليه الصلاة والسلام، ومنع الشراء؛ لأنه وسيلة إلى العودة في المتصدّق به من جهة بعض الشيء؛ لأنه إذا كان الحيوانُ مثلًا يُساوي ألفًا، وأراد المتصدق له أو الواهبُ له أن يشتريه، فإنَّ المتصدق عليه قد يتساهل ولا يبيعه عليه بالسعر المناسب، بل يستحي فيبيعه بأقلّ، فيكون راجعًا في جزءٍ مما تصدق به .....

وتقدم حديث: لا يحلّ للرجل أن يُعطي عطيةً ثم يرجع فيها، إلا الوالد، فالصدقة عطية وهبة لا يجوز الرجوع فيها، فما أخرجه لله لا يرجع فيه.

والحديث الآخر حديث أبي هريرة: تهادوا تحابُّوا رواه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى.

البخاري في "الأدب" كتابٌ له مفرد، أفرده عن كتاب "الأدب" في "الجامع الصحيح"، وهو كتاب جيد مفيد، لكن ليس على شرط الصحيح، فيه الصحيح والضَّعيف.

وأبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، الإمام المشهور الحافظ، كان ممن عمر، وتُوفي سنة 306، أو سبع بعد النَّسائي، وله مسند معروف فيه أحاديث كثيرة، وفيه الصحيح والضَّعيف أيضًا كـ"مسند أحمد" و"مسند البزار" وأشباههم.

وقد روى الترمذي في الباب منها حديث أنسٍ: تهادوا، فإنَّ الهدية تسلّ السَّخيمة رواه البزار بإسنادٍ ضعيفٍ، ورواه الترمذي عن أبي هريرة بلفظ: تهادوا، فإنَّ الهدية تُذهب وحر الصَّدر، أو قال: تُزيل وحر الصدر، وفي إسناده ضعف عند الترمذي؛ ولهذا عدل عن الترمذي المؤلفُ، أو نسيه حين كتب هذا؛ لأنه ذكر حديثَ البزار.

والمقصود أنَّ هذه الروايات وما جاء في معناها تدل على قبول الهدية: تهادوا، وأن الهدية فيها فوائد ومصالح: من إزالة ما في النفوس من الكدر؛ حتى تصفو القلوب، ويحصل التَّزاور والمحبَّة، فقد يكون هناك وحشة بسبب عدم الهدية، فإذا تهادوا وتواصلوا وتعاطفوا زالت الوحشةُ، وحصل الصفا، وهو مطلوب بين المسلمين، والتَّهادي من أسباب ذلك، وبذل السلام من أسباب ذلك، والزيارات من أسباب ذلك، وعيادة المريض من أسباب ذلك، والدعوة إلى الوليمة من أسباب ذلك.

المقصود أنَّ المؤمن ينبغي له أن يتعاطى أسباب الألفة مع أخيه بالطرق الشرعية: منها الهدية، والزيارة، وعيادة المريض، وبذل السلام، وردّ السلام، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس، وغيرها من أسباب الألفة.

وتقدم حديث عائشة: كان يقبل الهديةَ ويُثيب عليها عليه الصلاة والسلام. وتقدم أنَّ الهدية مقبولة، السنة قبولها والإثابة عليها ما لم تكن رشوةً أو فيها رشوة .....

وحديث أبي هريرة فيه الحثُّ على التَّهادي بين الجيران، فالجيران قد يقع بينهم شيء من الأذى والوحشة بأسباب الصبيان، أو بأسباب الخدم، أو بأسباب أخرى، قد يُثيرون مشاكل الصبيان والخدم بين الجيران، فينبغي للجيران ألا ..... بهذا، وألا تُؤثر عليهم هذه الأشياء التي قد تقع من الصبيان، أو من الخدم، من أسباب الوحشة، بل ينبغي أن يتهادوا، وأن يتزاوروا ولو بالقليل، ولو فرسن شاةٍ: الظلف المعروف، يعني: ولو بالشيء القليل؛ لأنَّ الهدايا والتَّزاور من أسباب الأُلفة بين الجيران وبين الأقارب والأصدقاء.

وقد يُحتج به أيضًا على أنَّ .....، ولا يحتاج إلى مشاورةٍ، الشيء الذي جرت العادةُ به، فإنه خاطب النساء والمرأة، قد يكون لها أب أو زوج، خاطب الجميع، فدلَّ ذلك على أنَّ مثل هذا مشروع للجميع في الأمور التي العادة السَّماح فيها وعدم منع زوجها ..... في ذلك.

وإذا كانت المرأةُ هي صاحبة المال فلا إشكالَ فيه ..... الهدية لجيرانها؛ لأنها هي المسؤولة، وقد يكون فوقها أحدٌ من أبٍ أو زوجٍ أو نحو ذلك، فتُهدي ما جرت العادةُ بإهدائه بالمشاورة أو بغير المشاورة.

والحديث الأخير حديث ابن عمر: مَن وهب هبةً فهو أحقّ بها ما لم يُثب عليها، رُوي مرفوعًا، والمحفوظ أنه موقوف من حديث عمر: كان عمر يقول: "مَن وهب هبةً فهو أحقُّ بها ما لم يُثب عليها" أي: ما لم يُجاز عليها.

والمراد الهبة التي يُراد بها العوض، فلا بدَّ من إعطائه العِوض، أو ردّ هبته إليه ولا يتملَّكها هكذا، وهذا يُعرف بالقرائن والعُرف والعادة، فإنَّ الناس يهدون للأمراء والكُبراء والأغنياء يُريدون الرفد والزيادة، وليس من عادتهم أن يأتوا إلى الأمراء والكُبراء، أو الأعرابي يأتي إلى الحاضرة، ليس من عادتهم أن يُعطوا بدون شيءٍ، إنما يُهدون من إبلٍ أو بقرٍ أو غنمٍ أو سمنٍ أو أقطٍ، أو يأتي غير البدوي فيهدي لولاة الأمور ما يُناسبهم من الحُلي، أو من الخيل المجربة المعروفة، أو الإبل، إنما يُريدون المقابلة والعِوض.

فالحاصل أنه متى كانت الهديةُ في العُرف يُراد منها المقابلة، يراد منها العِوض، فليس لمن أخذها أن يترك العوض، بل إما أن يُعوض، وإما أن يُعيد الهبة؛ لأنه بيع في المعنى، فالبيع كما يكون بالمال يكون بالمعاطاة وبالعُرف السَّائد بين الناس؛ ولهذا تقدم حديث أبي هريرة في الرجل الذي أعطى النبيَّ ناقةً فأثابه عليها، قال: رضيتَ؟ قال: لا، ثم أعطاه فقال: أرضيتَ؟ قال: لا، ثم أعطاه فقال: أرضيتَ؟ قال: نعم.

فالنبي راعى في ذلك مقصد الواهب حتى أرضاه، وهذا من كرم الأخلاق، أو الأحسن من ردِّه ما دام تقدم بالهبة والهدية، كونه يرضى أولى من كونه ..... يُعطى حتى يرضى إذا استطاع ذلك، وإذا كان الواهبُ جشعًا لا يُرضيه إلا شيء يضرّ المعطى فلا بأس بردِّها، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: له المطالبة نعم؛ لأنه ما أهداها محبةً له، إنما يريد المال، العُرف محكم.

س: يكون هذا مخصصًا لحديث: العائد في هبته ..؟

ج: نعم، مُخصص له.

س: .............؟

ج: نعم، نعم، مملوكة، تملك.

...............

بَابُ اللُّقَطَةِ

946- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِتَمْرَةٍ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

947- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ اللُّقَطَةِ، فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُكَ بِهَا.

قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟

قَالَ: هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ، أَوْ لِلذِّئْبِ.

قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟

قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا؟! مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

948- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ آوَى ضَالَّةً فَهُوَ ضَالٌّ، مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

949- وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلْيَحْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ لَا يَكْتُمْ، وَلَا يُغَيِّبْ، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ الْجَارُودِ، وَابْنُ حِبَّانَ.

950- وَعَنْ عبدالرحمن بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجِّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

951- وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلَا لَا يَحِلُّ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا الْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ، وَلَا اللُّقَطَةُ مِنْ مَالِ مُعَاهَدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

الشيخ: هذه الأحاديث الستة في هذا الباب تتعلق باللقطة.

واللقطة: هي المال الضَّائع الذي يجده الإنسانُ في الحضر أو في البرِّ، يقال له: لقطة إذا كان من غير الأنعام، فإن كان من الأنعام يقال: ضالة، أما إن كان مالًا من النُّقود أو من الأمتعة الأخرى تُسمَّى: لُقطة، والمال الآخر من الأنعام يغلب عليه اسم الضَّالة من الإبل والبقر والغنم والخيل ونحو ذلك.

وفي الحديث الأول: ذكر فيه النبيُّ ﷺ لما وجد تمرةً في الطريق ذكر: لولا أنه خشي أن تكون من الصَّدقة لأكلها. هذا يُبين لنا أن الشيء الحقير لا بأس بأخذه والانتفاع به؛ لأنَّ الرسول ﷺ علل عدم أخذه لها وعدم أكله لها خشية أن تكون من الصَّدقة، والصدقة حُرمت على النبي ﷺ؛ فلهذا ترك أكلها، فدلَّ ذلك على أنَّ غيره لا بأس أن يأكلها ممن لا تحرم عليه الصَّدقة، فيُؤخذ من هذا أنَّ الشيء الحقير الذي من العادة الرغبة عنه مما يطرحه الناسُ مثل: العصا، مثل: شسع النَّعل، مثل: الحبل، ومثل أشباه ذلك من الأمور التي يطرحها الناسُ، ويشتغل عنها الناس: بقايا التمر التي تحت النخل، بقايا السنابل التي تقع في الحصائد، أو تقع في المزارع بعدما ينقلون الزروع، وما أشبه هذا مما تقع بين الناس؛ الصحيح فيها أنها عفو، ما عُرف بالعادة -بالتَّجارب- أنه مُعرض عنه، وأنَّ أهله لا يطلبونه فلا بأس بأخذه.

وقد جاء عن جابرٍ في هذا المعنى ما يدل على جواز الحبل والعصا ونحوه مما يلتقطه الإنسانُ ينتفع به، كذلك حديث المقدام بن معدي كرب الأخير: ولا اللقطة من مال معاهدٍ، إلا أن يستغني عنها. يعني: يستغني عنها بكونها مما تجري العادةُ بالإعراض عنه وعدم طلبه، فهذه يُعفا عنها، ويأخذها مَن وجدها، أما ما سوى ذلك فلا بدَّ فيه من التعريف إن كان مما يُعرَّف، أما إن كان من الضَّوال التي لا تُعرف فإنه يُترك ويُجتنب كالإبل.

فاللقطة التي من غير الإبل ..... تُؤخذ ويعرف الإنسانُ عفاصها ووكاءها. الوكاء: الرباط، والعفاص: الخرقة التي فيها الوعاء التي فيها النقود. وفي اللفظ الآخر في حديث زيدٍ، وفي حديث أبي بن كعب وزيد بن ثابت: وعددها. وفي اللفظ الآخر: وعفاصها وعددها ووكاءها ..... يعتني بهذه الأمور: يعرف العفاص والوكاء والعدد إن كانت شيئًا معدودًا، حتى إذا جاء طالبُها يومًا من الدهر وذكر هذه الصِّفات دُفعت له، وهكذا إن كانت فيها علامات أخرى، مثل: بساط، مثل: مزود، مثل أشياء فيها علامات، يضبط العلامات ويكتبها ويُقيدها عنده، كما في حديث عياض بن حمار، ثم إذا جاء صاحبُها وطابقت دعواه الصِّفات الدَّقيقة، أو أقام البينةَ عليها؛ دفعها إليه.

وظاهر السنة أنه لا يحتاج إلى بينةٍ، متى وصف هذه الصِّفات المطابقة دُفعت إليه، أما إن أقام البينةَ فمن باب أولى.

والتعريف سنة كاملة، هذا هو الواجب، وقد قضى في حديث أُبي أكثر من سنةٍ، ولكن استقرت السنةُ على السنة، فإذا عرفها سنةً ولم تعرف صارت من ملكه وسائر ماله، كما في حديث .....، وفي اللفظ الآخر: استمتع بها كسائر مالك، فسبيلها سبيل مالك، فهي حكمها حكم ماله الذي عنده: يستنفقها ويأكلها ويتصدق بها، يفعل ما يشاء، فإذا جاء طالبُها يومًا من الدهر سلَّمها إليه، ولو بعد السنة، لكن في حال السنة لا تكون مالًا له، وإنما تكون من ماله بعد السنة، أما في الحول الأول لا، تبع مالكها.

والتعريف عُرفي، ذكر العلماء أنه عُرفي، حسبما يحصل من العُرف ويتعارفه الناس، إذا عرَّفها في الشهر مرتين، ثلاثًا، أربعًا حصل المقصود، وينبغي الإكثار من التعريف أول ما يجدها؛ لأنَّ صاحبها ..... ذاك الوقت ويجتهد، فينبغي أن يُكثر التعريف في أول الأمر أكثر مما يكون في وسط السنة أو آخر السنة، فإنَّ طلبه في أول السنة يكون أكثر في الغالب، فلعلَّ صاحبها يسمعه ويستفيد .....، ولو في البادية ..... على مياههم، وفي المدن على الذي حولهم ..... في الإحساء والدمام ..... الحائل والقصيم ..... الحجاز: مكة والمدينة وجدة ..... بلاد نجد في المحلات التي يغلب على الظن أنَّ صاحب اللُّقطة يرد تلك البلاد وإلا الظن .....

أما الحيوان ففيه تفصيل: أما الإبل ونحوها فهذه معها سقاؤها وحذاؤها: ترد الماء، وتأكل الشجر، فلا يأخذها، ولكن يدعها، لكن ذكر بعضُ أهل العلم أنها إذا كانت في محلٍّ مُهلكةٍ -في محلٍّ يأكل أهله الضَّوال- فإنه يُبعدها من ذاك المحلِّ إلى المحلِّ الآمن، فيكون من باب الإحسان، والمسلم أخو المسلم، فيطردها من ذاك المحلِّ الذي فيه الهلكة إلى محلات آمنة؛ حتى لا يمكن أولئك الظَّلمة من أكلها.

أو كانت في جدبٍ عليها خطر يأخذها ويُسلمها لولي الأمر؛ حتى لا تهلك، إلى أمير البلد، أو محكمة البلد، السلطان، وهذا .....، ولا شكَّ أنَّ إطلاق السنة يُقيد بما تقتضيه المصلحة العامَّة.

وقوله: دعها يعني: حيث أمكن أنها ترد الماء وتأكل الشجر، أما إذا كانت في محلٍّ لا شجرَ فيه ولا ماء، وليس فيه إلا المهلكة؛ فإنه ينقلها إلى محلِّ السلامة والخصب، أو يُسلمها لولي الأمر حتى تُباع وتحفظ صفاتها وثمنها إلى أن يأتي ربُّها عند وجود أسباب الهلكة.

أما الغنم وأشباهها مما لا يمتنع عن السباع كالذئب، فهذه قد تُؤخذ؛ ولهذا قال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب، فيأخذها ويُعرفها سنةً، فإن عُرفت وإلا فهي ماله كسائر اللُّقطة، وله أن يذبحها ويأكلها، ويعرف قيمتها، وله أن يبيعها في الحال ويحفظ صفاتها، يعمل ما هو الأصلح، فإنها قد تكون في وقت الخصب فيجعلها مع غنمه، ولا يضرّه ذلك، أو مع غنم أخيه، وقد تكون في وقت جدبٍ فيبيعها؛ لئلا تهلك، وقد يكون العلفُ صعبًا عليه، فلو علفها لكلف صاحبها مؤنةً كبيرةً، فيعمل الأصلح: المسلم أخو المسلم، فإذا كان الأصلحُ بيعها باعها، أكلها أكلها، إن كان في السفر ونقلها شاقٌّ عليه وأكلها أسهل عليه، كانوا على إبلٍ ونقلها يُتعبهم فيذبحها ويحفظ صفاتها، ويُقدر ثمنها، كان هذا أصلح لربها، فهو يفعل ما هو الأصلح.

وقوله: فهو ضالٌّ ما لم يُعرِّفها يدل على أنَّ الضَّالة تُعرَّف التي تُؤخذ كالغنم، أما الإبل فلا، لا تُؤخذ، بل يجب تركها؛ لأنَّ الغالب أنَّ أهلها يجدونها، وهي في الغالب تسلم.

والحديث الرابع: حديث عياض بن حمار المجاشعي، الحمار اسم الحيوان، والعرب تُسمِّي بأسماء الحيوانات، تُسمي: تيسًا، وتُسمي: جحشًا، وتُسمي: أسدًا، وتُسمي: ضبعًا، من عادة العرب [أنهم] يُسمون بهذه الأسماء؛ ولهذا وقع في والد عياض: حمار، وهو من بني تميم.

أن النبي ﷺ قال: مَن وجد لقطةً فليحفظ عفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم ولا يغيب، فإن جاء صاحبُها يومًا من الدهر، وإلا فهو مال الله يُؤتيه مَن يشاء.

المقصود أنَّ حديث عياض بن حمار هذا يدل على أنه يحفظ صفاتها، ولا يكتم شيئًا، ولا يُغير شيئًا، ويشهد شاهدي عدلٍ على ذلك، ثم إذا وجد صاحبها أعطاه إياها، وإلا فهو مال الله يُؤتيه مَن يشاء، كما تقدم في هذا زيادة في الإشهاد، وأنه يضبطها بالشُّهود؛ حتى لا يُتهم، الشُّهود الثقات المعروفون الذين لا يُتَّهمون بأنهم يُخفونها ويُبَيِّنونها للناس الذين ليسوا أهلًا لها.

وحديث عبدالرحمن بن عفان التَّيمي فيه النَّهي عن لقطة الحاجِّ، قيل: المراد أنها لقطة الحرم. وقيل: المراد بالحاجِّ مطلقًا، ولو كان من غير الحرم؛ لأنَّ الحُجَّاجَ يترددون على طرقٍ معروفةٍ، فلا يأخذها؛ لأنهم إذا ذكروها رجعوا، أو وصوا عليها، فعدم أخذها أولى؛ حتى ولو كانت في غير الحرم: من طريق المدينة، طريق ما بين جدة ومكة في وقت الحجِّ؛ لأنها إذا تُركت جاء صاحبُها فأخذها.

هذا ظاهر الحديث، وتقييده بالحرم محل نظرٍ، فالأولى إطلاقه كما أطلقه النبيُّ ﷺ، ووجه ذلك أن الحاجَّ يرجع أو يُوصي مَن يرجع يلتمسها إذا سقطت منه.

..........

وحديث المقدام بن معدي كرب يدل على تحريم السباع: كل ذي نابٍ من السباع، وتحريم الحمار الأهلي، وهذا أمر معروف عند جمهور أهل العلم، وهو الحق .....، هو كالإجماع، أما ..... من السباع فيه خلاف، والصواب أنه محرم كما يأتي في كتاب "الأطعمة"، يأتي البحثُ في هذا في كتاب "الأطعمة".

أما اللُّقطة من مال مُعاهَدٍ: فالمعنى أنه مثل المسلم، المعاهد مثل المسلم معصوم، فلا تُؤخذ لقطته، بل تُعرف، إلا أن يستغني عنها: كالحبل وشسع النَّعل والأشياء التي العادة [أن] يُستغنى عنها، وعدم طلبها، فهي مثلما تقدم، فهذه لا تُعرَّف، سواء كانت من مال مسلمٍ، أو من مال مُعاهدٍ، والله أعلم.

س: ..............؟

ج: يُعطيه إياه إن كان موسرًا، وإلا يُنظره: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، يُنظره إياه كسائر الدَّين؛ لأنه أخذها بحقٍّ، استنفقها بحقٍّ.

س: ..............؟

ج: ظاهر الأمر للوجوب، الحديث صحيح، الظاهر الإشهاد؛ حتى لا تخونه نفسه، أو ينسى، أو يموت ولا يعرف حالها، فالإشهاد مهم، والكتابة كذلك.

س: ..............؟

ج: نعم مطلق ومقيد، من باب المطلق والمقيد.

س: ..............؟

ج: من ناحية الأكل والبيع جميعًا .....؛ لأنه معه حمار أهلي يستعمله المسلمون حتى في المدينة.

س: ..............؟

ج: الذي يظهر أنه ما يجوز: لا بيع الكلب، ولا بيع الذئب، النبي نهى عن ثمن السنور، ونهى عن الكلب، وهذا من جنسه؛ لأنه حرام، ولا يُستفاد منه شيء.

............