11 - إخراج أهل المكر والحيل المحرمة الباطلَ في قوالب شرعية

القسم الخامس من الحيل: أن يقصد حِلَّ ما حرّمه الشارع، أو سقوط ما أوجبه، بأن يأتي بسبب نَصَبه الشارع سببًا إلى أمرٍ مباح مقصود، فيجعله المحتال المخادع سببًا إلى أمر محرم مقصودٍ اجتنابُه.

فهذه هي الحيلُ المحرمة التي ذَمَّها السلف، وحَرّموا فعلها وتعليمها.

وهذا حرام من وجهين: من جهة غايته، ومن جهة سببه:

أما غايته: فإن المقصود به إباحة ما حرّمه الله ورسوله، وإسقاط ما أوجبه.

وأما من جهة سببه: فإنه اتخذ آيات الله هُزُوًا، وقصد بالسبب ما لم يُشْرَعْ لأجله، ولا قصده به الشارعُ، بل قصد ضدَّه، فقد ضادّ الشارع في الغاية، والحكمة، والسبب جميعًا.

وقد يكون أصحابُ القسم الأول من الحيل أحسنَ حالًا من كثير من أصحاب هذا القسم؛ فإنهم يقولون: إن ما نفعله حرام وإثم ومعصية، ونحن أصحاب تحيُّل بالباطل، عُصاة لله ورسوله، مخالفون لدينه. وكثير من هؤلاء يجعلون هذا القسم من الدِّين الذي جاءت به الشريعة، وأن الشارع جَوّز لهم التحيُّل بالطرق المتنوعة على إباحة ما حرّمه، وإسقاط ما أوجبه.

فأين حال هؤلاء من حال أولئك؟

ثم إن هذا النوع من الحيل يتضمن نسبةَ الشارع إلى العبث، وشرع ما لا فائدة فيه إلا زيادة الكلفة والعناء، فإن حقيقة الأمر عند أرباب الحيل الباطلة: أن تصير العقود الشرعية عبثًا لا فائدة فيها؛ فإنها لم يقصد بها المحتالُ مقاصدها التي شرعت لها، بل لا غَرض له في مقاصدها وحقائقها البتة، وإنما غرضُه التوصُّلُ بها إلى ما هو ممنوع منه، فجعلها سُترةً وجُنّةً يتستَّر بها من ارتكاب ما نُهي عنه صِرْفًا، فأخرجه في قالب الشرع.

كما أخرجَت الجهمية التعطيلَ: في قالب التنزيه.

وأخرج المنافقون النفاق: في قالب الإحسان والتوفيق والعقل المعيشي.

وأخرج الظَّلمةُ الفَجَرة الظلم والعدوان: في قالب السياسة، وعقوبة الجُناة.

وأخرج المكّاسُون أكلَ المكوس: في قالب إعانة المجاهدين، وسَدّ الثغور، وعمارة الحصون.

وأخرج الروافضُ الإلحاد والكفر، والقدح في سادات الصحابة وحزب رسول الله ﷺ، وأوليائه وأنصاره: في قالب محبة أهل البيت، والتعصب لهم، وموالاتهم.

وأخرجت الإباحية وفَسَقةُ المنتسبين إلى الفقر والتَصوُّف بدَعهم وشَطْحَهم: في قالب الفقر، والزهد، والأحوال، والمعارف، ومحبة الله، ونحو ذلك.

وأخرجت الاتحادية أعظمَ الكفر والإلحاد: في قالب التوحيد، وأن الوجود واحد لا اثنان، وهو الله وحده، فليس هاهنا وجودان: خالق ومخلوق، ولا رب وعبد، بل الوجود كُلُّه واحد، وهو حقيقة الرب.

الشيخ: وهذا كله من أعظم الإلحاد في دين الله والتحيل على شرع الله بأنواع الحيل هذا مسخ للشريعة وإبطال لها وتلاعب بالدين نسأل الله العافية، ولهذا وقعوا فيما وقعوا فيه من الباطل، فالجهمية جعلوا نفي الصفات والأسماء توحيدًا ودينًا، وهكذا أهل وحدة الوجود جعلوا التوحيد بين الخالق والمخلوق وأن الموجود شيء واحد دينًا وقربة، وأصحاب التحليل جعلوا النكاح الصوري سببًا لحل ما حرم الله من المطلقة ثلاثًا.

وأهل الربا جعلوا صورًا لأكل الربا بالحيل والحقيقة واحدة فباعوا السلع بكذا بيعًا صوريًا حتى يستحلوا ما حرم الله من التفاضل إلى غير هذا من أنواع الحيل، والله جل وعلا حرم على عباده ما حرم لما في المحرم من الشر والفساد والضرر، فلا يجوز التحيل عليه، بل يجب الحذر منه فهو لم يحرم لمجرد الصورة ولكن حرم لأجل ما فيه من المضار والشرور فلا يجوز التحيل على وجود تلك الشرور وأنواع الباطل بأنواع الحيل، بل يجب الكف عما حرم الله والحذر عما حرم الله من جميع الطرق، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه ابن بطة ... رحمه الله بإسناد جيد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل وأصحاب القرية معروف قصتهم، القرية التي كانت حاضرة البحر استحلوا محارم الله فمسخهم قردة نسأل الله العافية.

السؤال: بالنسبة للحيل الشرعية لها ضابط.

الشيخ: ... ما شرع الله، الحيلة إذا كنت داخل بيت فلان تشتري منه، تأخذ أرضه تشتري بالبيع الشرعي، تأخذ بنته نكاح شرعي، تأخذ بساطه بالبيع الشرعي، تأخذ سيارته بالبيع الشرعي، في المسائل الشرعية هذه الحيلة.

وأخرجت القَدَريةُ إنكار عموم قدرة الله تعالى على جميع الموجودات أفعالها وأعيانها: في قالب العَدْل، وقالوا: لو كان الربّ قادرَا على أفعال عباده لزم أن يكون ظالمَا لهم، فأخرجوا تكذيبهم بالقَدَر: في قالب العدل.

وأخرجت الجهمية جَحْدهم لصفات كماله سبحانه: في قالب التوحيد، وقالوا: لو كان له سبحانه سَمْع وبصرٌ، وقدرة، وحياة، وإرادة، وكلام يقوم به، لم يكن واحدًا، وكان آلهة متعددة.

الشيخ: وهذا هو الجهل.

ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه

وبعضهم ليس بجاهل، ولكنه يتحيل مثل الرافضة وأشباههم وكثير من الباطنية وكثير من المتحيلين على ما حرم الله من الربا والزنا يتعمدون الباطل، فالرافضة يسبون أصحاب الرسول ﷺ ويغلون في أهل البيت ويقولون هذا من محبة أهل البيت، وقد كذبوا هذا من الشرك الأكبر، هذا من الباطل الذي حرمه الله، وهكذا من يأكل الربا بالحيل يكذبون ويتعمدون الباطل ويزعمون أنها شرع نسأل الله العافية، ولهذا عظم شرهم على الناس وصاح بهم أهل السنة وألفوا في الرد عليهم الجهمية والمعتزلة والرافضة وأصحاب الحيل جميعًا لعظم شرهم وخطرهم وعظم باطلهم، وهذه دار الامتحان، الدنيا دار الامتحان، هذا ابتلاء ابتلى الله أهل الحق بأهل الباطل حتى يقوم سوق الجهاد وحتى يتبين أهل الجد في طاعة الله والنصر لدين الله من أهل الباطل والغفلة والإعراض والحيل.

وأخرجت الفسقة والذين يتبعون الشهوات الفسوقَ والمعاصي: في قالب الرّجاء وحُسْن الظنّ بالله تعالى، وعدم إساءة الظن بعفوه، وقالوا: تجنُّب المعاصي والشهوات إزراءٌ بعفو الله تعالى، وإساءة للظنّ به.

الشيخ: وهذا من حيل الشيطان، وهذا من غروره يتعاطى الزنا والربا واللواط والخمر، ويقول: الله غفور رحيم، الله غفور رحيم ورحمته واسعة حتى يبيح لنفسه المعاصي، وهذا من الغرور، وهذا من الجرأة على الله نسأل الله العافية.

 

وقالوا: تجنب المعاصي والشهوات إزراء بعفو الله تعالى، وإساءة للظن به، ونسبة له إلى خلاف الجود والكرم والعفو.

 

الشيخ: وقد رد الله عليهم بقوله: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ۝ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49، 50]، وقال تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] نبههم سبحانه على الباطل وأهل الحيل، وكما أنه الغفور الرحيم والتواب وهو أيضًا شديد العقاب لمن عصى وخالفه أمره.

وأخرجت الخوارج قتال الأئمة، والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.

الشيخ: هكذا الخوارج جعلوا الخروج على الأئمة بقالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أفسدوا في الدين وأقاموا الفتن، ولهذا قال النبي ﷺ: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، وقال: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم لبسوا على الناس وعظمت بهم الفتنة حتى قاتلهم علي والمسلمون.

وأخرج أرباب البدع جميعهم بدعهم في قوالب متنوعة، بحسب تلك البدع.

وأخرج المشركون شركهم في قالب التعظيم لله، وأنه أجل من أن يتقرب إليه بغير وسائط وشفعاء، وآلهة تقربهم إليه.

الشيخ: وهذا من لعب الشيطان، قالوا إنا قاصرون وضعفاء وعصاة لا يليق بنا أن نتقدم إلى الله، لكن نجعل وسائط، نجعل أصحاب القبور والأشجار والأصنام نتوسط بهم لأنا جهال وعصاة، نجعل لنا واسطة، هذا من لعب الشيطان بهم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] أبطل الله ذلك قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:3] فأمرهم بالتوبة، حكم عليهم بالكفر، فالواجب عبادته وحده والتقرب إليه وحده دون وسائط، تدعوه وحده، تستغيث به، تصلي له، تصوم له، تسجد له، تدعو له، ما يحتاج وسائط، يجب أن تخصه بالعبادة من دون واسطة، هكذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب.

السؤال: .....؟

الشيخ: إذا قامت الدولة الإسلامية عليهم، أما الأفراد لا، فتنة، الأفراد يقومون بالنصيحة والتوجيه، أما إذا كان الدولة قائمة، الشرعية تقوم عليهم وتقول لهم: احكموا بشرع الله وإلا قاتلناكم واجب هذا.

السؤال: .....؟

الشيخ: تقوم عليهم الدولة الإسلامية تنصحهم وإلا تقاتلهم إذا أبوا، أما الأفراد يعبثون في الأرض لا.

السؤال: .....؟

الشيخ: المشهور عند العلماء أنهم فساق ولكن الصحيح أنهم كفار؛ لأن الرسول ﷺ قال: يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه نسأل الله العافية، كفر أكبر، ولكن الجمهور يقولون أنهم فساق كما قال علي: (من الكفر فروا) ولكن أعمالهم واعتقاداتهم الخبيثة تقتضي كفرهم، ولهذا قال ﷺ: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وعاد كفار، وقال عليه الصلاة والسلام: يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية.

السؤال: بماذا كفروا؟

الشيخ: استحلال قتل المسلمين، استحلوا قتل المسلمين بغير حق.

السؤال: ومن كان له شبهة؟

الشيخ: ولو شبهة، قاتلوا علي وقاتلوا الصحابة استحلوا قتال الصحابة، ما هو من دون الصحابة.

فكل صاحب باطل لا يتمكن من ترويج باطله إلا بإخراجه في قالب حق.

والمقصود: أن أهل المكر والحيل المحرمة يخرجون الباطل في القوالب الشرعية، ويأتون بصور العقود دون حقائقها ومقاصدها.

فصل

وهذا القسم من أقسام الحيل أنواع:

أحدها: الاحتيال لحل ما هو حرام في الحال، كالحيل الربوية، وحيلة التحليل.

الثاني: الاحتيال على حل ما انعقد سبب تحريمه، فهو صائر إلى التحريم ولا بد، كما إذا علق طلاقها بشرط محقق، تعليقًا يقع به، ثم أراد منع وقوع الطلاق عند الشرط فخالعها خلع الحيلة، حتى بانت، ثم تزوجها بعد ذلك.

الثالث: الاحتيال على إسقاط ما هو واجب في الحال، كالاحتيال على إسقاط الإنفاق الواجب عليه، وأداء الدين الواجب، بأن يملك ماله لزوجته أو ولده، فيصير معسرًا، فلا يجب عليه الإنفاق والأداء، وكمن يدخل عليه رمضان ولا يريد صومه، فيسافر ولا غرض له سوى الفطر، ونحو ذلك.

الرابع: الاحتيال على إسقاط ما انعقد سبب وجوبه ولم يجب، لكنه صائر إلى الوجوب. فيحتال حتى يمنع الوجوب، كالاحتيال على إسقاط الزكاة، بتمليكه ماله قبل مضي الحول لبعض أهله، ثم استرجاعه بعد ذلك. وهذا النوع ضربان:

أحدهما: إسقاط حق الله تعالى بعد وجوبه، أو انعقاد سببه.

والثاني: إسقاط حق المسلم بعد وجوبه، أو انعقاد سببه. كالاحتيال على إسقاط الشفعة التي شرعت دفعًا للضرر عن الشريك، قبل وجوبها أو بعده.

الخامس: الاحتيال على أخذ حقه أو بعضه أو بدله بخيانة كما تقدم. وله صور كثيرة.

منها: أن يجحده دينه، كما جحده.

ومنها: أن يخونه في وديعته، كما خانه.

ومنها: أن يغشه في بيع معيب، كما غشه هو في بيع معيب.

ومنها: أن يسرق ماله كما سرق ماله.

ومنها: أن يستعمله بأجرة دون أجرة مثله ظلما وعدوانًا، أو غرورًا وخداعًا أو غبنا، فيقدر المستأجر له على مال فيأخذ تمام أجرته.

وهذا النوع يستعمله كثير من أرباب الديوان، ونظار الوقوف، والعمال، وجباة الفيء والخراج والجزية والصدقة، وأمثالهم. فإن كان المال مشتركًا بين المسلمين رتعوا وربعوا، ورأى أحدهم أن من الغبن أن يفوته شيء منه، ويرى إن عدل أن له نصف ذلك المال، ويسعى في السدس، تكملة للثلثين كما قيل في بعضهم:

لَهُ نِصْفُ بَيْتِ المالِ فَرْضٌ مُقَرَّرٌ وَفى سُدُسِ التَّكْمِيلِ يَسْعَى لِيَخْلُصَا
مِنَ القَوْمِ لا تُثْنِيهُمُ عَنْ مُرَادِهِمْ عُقُوَبةُ سُلْطَانٍ بِسَوْطٍ وَلا عَصَا

السؤال: .....؟

الشيخ: ظاهر النصوص أنه لا يأخذ، يشكوه إذا فتح له الباب قد يستكثر وهو مؤتمن على هذا الشيء فإذا كان ماطله يشكوه حتى يعطى حقه، اللهم إلا في حالة ما فيها حيلة، ما في من يوصله ولا في من يحكم له، هذا عند الضرورة لا بأس بها، أما إذا كان في محل يمكن أن ينصف ويمكن أن يعطى حقه فيشكوه.

فصل

وقد عرف بما ذكرنا الفرق بين الحيل التي تخلص من الظلم والبغي والعدوان، والحيل التي يحتال بها على إباحة الحرام، وإسقاط الواجبات، وإن جمعهما اسم الحيلة والوسيلة، وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام، وإنما يتوسل بها إليه.

الشيخ: من ذلك لو قال إذا خرج فأنتِ طالق، ثم تندم فخالعها خلعًا ما له حقيقة، قال أعطيك كذا من المال قبل خروج رمضان، ثم بعد خروج رمضان يعود فيتزوجها، هذا خلع ما هو بمراد، هذا خلع ما له حقيقة، كله لأجل منع وقوع الطلاق.

وعرف بذلك أن العينة لا تخلص من الحرام، وإنما يتوسل بها إليه، وهو المقصود الذى اتفقا عليه، ويعلمه الله تعالى من نفوسهما وهما يعلمانه، ومن شاهدهما يعلمه.

وكذلك تمليك ماله لولده عند قرب الحول، فرارًا من الزكاة، لا يخلص من الإثم، بل يغمسه فيه، لأنه قصد إلى إسقاط فرض قد انعقد سببه، ولكن عذر من جوز ذلك أنه لم يسقط الواجب، وإنما أسقط الوجوب وفرق بين الأمرين، فإن له أن يمنع الوجوب، وليس له أن يمنع الواجب.

وهكذا القول في التحيل على إسقاط الشفعة قبل البيع، فإنه يمنع وجوب الاستحقاق.

ولا يمنع الحق الذى وجب بالبيع فذلك لا يجوز، وهو نظير منع الزكاة بعد وجوبها فذلك لا يجوز بحيلة ولا غيرها.

وكذلك التحيل على منع وجوب الجمعة عليه، بأن يسكن في مكان لا يبلغه النداءن أو لا يمكنه الذهاب منه إلى الجمعة والرجوع في يومه، أو السفر قبل دخول وقتها، ولا يجوز له التحيل على تركها بعد وجوبها عليه.

وكذلك التحيل على منع وجوب الإنفاق على القريب، بأن لا يكتسب ما لا يجب فيه الإنفاق، ولا يجوز له التحيل على إسقاط ما وجب من ذلك.

فهذا سر الفرق اعتمده أصحاب الحيل.

وأما المانعون فيجيبون عن ذلك:

بأن هذا لو أجدى على المتحيلين لم يعاقب الله أصحاب الجنة الذين عزموا على صرامها ليلا، لئلا يحضرهم المساكين، فهؤلاء قصدوا دفع الوجوب بعد انعقاد سببه، وهو نظير التحيل لإسقاط الزكاة بعد ثبوت سببها. وبأن هذا يبطل حكمة الإيجاب، فإن الله سبحانه إنما أوجبها في أموال الأغنياء طهرة لهم وزكاة، ورحمة للمساكين، وسدا لفاقتهم. فالتحيل على منع وجوبها يعود على ذلك كله بالإبطال.

وبأن الشارع لو جوّز التحيل على منع الإيجاب بعد انعقاد سببه، لم يكن في الإيجاب فائدة، إذ ما من أحد إلا ويمكنه التحيل بأدنى حيلة على الدفع، فيكون الإيجاب عديم الفائدة، فإنه إذا أوجبه وجوز إسقاطه بعد انعقاد سبب الإيجاب عاد ذلك بنقض ما قصده.

وبأنه إذا انعقد سبب الوجوب فقد تعلق الوجوب بالمكلف، فلا يمكنه الشارع من قطع هذا التعليق، ولا سيما إذا شارف وقت الوجوب وحضر، حتى كأنه داخل فيه، كما إذا بقى من الحول يوم، أو ساعة، فالإسقاط هاهنا في حكم الإسقاط بعد الحول سواء، ومفسدته كمفسدته، فإن المصلحة الفائتة بالمنع بعد تلك الساعة كالمفسدة الحاصلة بالتسبب إلى المنع قبلها من كل وجه.

وبأن الحكم بعد انعقاد سببه كالثابت الذى قد صح ووجد.

وبأن الوجوب قد تحقق بانعقاد سببه، وإنما جوز له التأخير إلى تمام الحول توسعة عليه، ولهذا يجوز له أداء الواجب قبل الحول، ويكون واقعًا موقعه، ولأن الفرار من الإيجاب إنما يقصد به الفرار من أداء الواجب، وأن يسقط ما فرضه الله عليه عند مضي الحول، وليس هذا كمن ترك اكتساب المال الذى يجب فيه الزكاة، فرارا من وجوبها عليه، أو ترك بيع الشْقص فرارًا من أخذ الشفيع له، أو ترك التزوج فرار أمن وجوب الإنفاق ونحو ذلك، فإن هذا لم ينعقد في حقه السبب، بل ترك ما يفضي إلى الإيجاب، ولم يتسبب إليه، وهذا تحيل بعد السبب على إسقاط ما تعلق به من أداء الواجب. واحتال على قطع سببيته بعد ثبوتها.

وأيضًا، فإن قطع سببية السبب تغيير لحكم الله، وإسقاط للسببية بالتحيل، وليس ذلك للمكلف، فإن الله سبحانه هو الذى جعل هذا سببا بحكمه وحكمته، فليس له أن يبطل هذا الجعل بالحيلة والمخادعة، وهذا بخلاف ما إذا وهبه ظاهرًا وباطنا، أو أنفقه فإنه لم يحتل بإظهار أمر وإبطان خلافه على منع الإيجاب، وأداء الواجب.

وأيضًا، فإنه إذا احتال على منع الإيجاب تضمن ذلك الحيلة على منع أداء الواجب. ومعلوم أن منعه أداء الواجب فقط أيسر من تحيله على الأمرين جميعًا.

وأيضًا فإنه لا يصح فراره من الوجوب مع إتيانه بسببه، فإن الفارّ من الشيء فار من أسبابه، وهذا أحرص شيء على الملك الذى هو سبب وجوب الحق عليه، ومن حرصه عليه تحيلَ على ترك الإخراج حرصًا وشحًا، فهو فار من أداء الواجب، ظانًا أنه يفر من وجوبه عليه، والأول حاصل له دون الثاني.

ونكتة الفرق من جهة الوسيلة والمقصود، فإن المحتال على المحرمات، وإسقاط الواجبات، مقصوده فاسد، ووسيلته باطلة، فإنه توسل بالشيء إلى غير مقصوده، وتوسل به إلى مقصود محرم.

فإن الله سبحانه إنما جعل النكاح وسيلة إلى المودة والرحمة، والمصاهرة والنسل، وغض البصر، وحفظ الفرج، والتمتع والإيواء، وغير ذلك من مقاصد النكاح، والمحلل لم يتوسل به إلى شيء من ذلك بل إلى تحليل ما حرمه الله تعالى، فإنه سبحانه حرمها على المطلق ثلاثا عقوبة له، فتوسل هذا بنكاحها إلى تحليل ما حرمه الله تعالى له، ولم يتوسل به إلى ما شرع له. فكان القصد محرمًا، والوسيلة باطلة.

وكذلك شرع الله البيع وسيلة إلى انتفاع المشترى بالعين والبائع بالثمن، فتوسل به المرابى إلى محض الربا، وأتى به لغير مقصوده، فإنه لا غرض له في تملك تلك العين، ولا الانتفاع بها، وإنما غرضه الربا، فتوسل إليه بالبيع.

وكذلك شرع سبحانه الأخذ بالشفعة دفعًا للضرر عن الشريك، فتوسل المبطل لها بإظهار الصرف الذى لا حقيقة له إلى إبطالها، فكانت وسيلته باطلة، ومقصوده محرمًا.

وكذلك الزكاة: فرضها رحمة منه بالمساكين، وطهرة للأغنياء، فتوسل المسقط لها إلى إبطال هذا المقصود بإظهار عقد لا حقيقة له، من بيع، أو هبة.

وكذلك القرض: شرع الله سبحانه فيه العدل، وأن لا يزداد على مثل ما أقرضه، فإذا احتال المقرض على الزيادة فقد احتال على مقصود محرم بطريق باطلة.

وكذلك بيع الثمر قبل بُدُوّ صلاحها باطل، لما يفضى إليه من أكل المال بالباطل، فإذا احتال عليه بأن شرط القطع ثم تركه حتى يكمل، كان قد احتال على مقصود محرم بشرط غير مقصود، بل قد علم المتعاقدان وغيرهما أنه لا يقطعه، ولا سيما إن كان مما لا ينتفع به قبل الصلاح بوجه كالتوت والفرسك وغيرهما، فاشتراط قطعه خداع محض.

وكذلك سائر الحيل التي تعود على مقصود الشارع وشرعه بالنقض والإبطال، غاياتها محرمة، ووسائلها باطلة لا حقيقة لها.

الشيخ: المقصود من هذا كله أن جميع الحيل التي يتوصل بها إلى إسقاط الواجبات أو ركوب المحرمات كلها باطلة، لما ثبت في الحديث يقول ﷺ: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ولأن الشارع قصد أداء الواجبات وترك المحرمات، فالتوسل إليها بأي وسيلة بإسقاط واجب أو فعل محرم محاولة لتغيير حكم الله والمناقضة لما أراده الله ..... وهذه أمثلة ذكرها المؤلف وما أشبهها، ولكن يدل على ..... وظلمه لنفسه وسوء تصرفه، فكونه يتعاطى أشياء غريبة من أجل هواه ومخالفة أمر ربه فيكون عنده المال، فإذا دنا الحول الذي فيه الزكاة تحيل في إسقاطه بأن يعطيه ولده لأنه عارف بأنه يرجع عليه، يعطيه ولده فإذا مضى الحول رجع إليه وأخذ منه فالزكاة باقية وهذه حيلة باطلة، أو يبيعه على إنسان يتفق هو وإياه أنه يرده عليه بعد ذلك، شيء لا زكاة فيه، حيلة على إسقاط الزكاة ثم يأخذه أو يطلقها طلاقًا مقصودًا لإسقاط الطلاق المعلق وما أشبه ذلك، الحيل كثيرة في هذا.

السؤال: الخلع ما يقع فيه طلاق؟

الشيخ: يقع فيه طلاق أو نوى الطلاق، النبي ﷺ قال لثابت: طلقها تطليقة.

السؤال: .....؟

الشيخ: خالعها لئلا يقع الطلاق، إذا خرج رمضان فيقع، خالعها قبل رمضان ثم يعيدها بعد رمضان.

السؤال: الخلع نفسه الذي خالعها أليس طلاقًا؟

الشيخ: هو طلقها ليسلم من الطلاق المحرم، طلقها طلاقًا لا يحرمها طلقة واحدة، أو خالعها على القول الثاني بغير لفظ الطلاق حتى لا يقع الطلاق ليسلم من الطلاق المعلق، فالطلاق المعلق لا يسلم منه بل يقع، وهذا الخلع وجوده كعدمه لأنه ما هو بمقصود حيلة.

السؤال: .....؟

الشيخ: على حسب، طلق طلقة واحدة والمكرر لا يقع لأنها تبين بالأولى، وإن كان بالثلاثة، إن كان اللفظ واحد تعتبر واحدة، أما إذا خالعها قال: خالعتك، فسختك، عند جميع من أهل العلم يقولون فسخ ما يكون فيه طلاق لأنه كالمعاوضة، والقول الثاني: أنه طلاق مطلقًا لحديث ثابت وأن المرأة عند الزوج لا تخرج من عصمته إلا بالطلاق ..... الفسخ هذا في ولي الأمر في الحاكم، فالزوج ليس له إلا الطلاق فإذا خالعها فهو طلقة.

السؤال: والأقرب؟

الشيخ: الأظهر أنه طلقة مطلقًا؛ لأن هذا الذي يملكه الزوج ولا يملك غير ذلك.

وكذلك الفدية والخلع التي شرعها الله ليخلص كلا من الزوجين من الآخر إذا وقع الشقاق بينهما، فجعلوه حيلة للحنث في اليمين، وبقاء النكاح، والله سبحانه إنما شرعه لقطع النكاح، حيث يكون قطعه مصلحة لهما.

وبهذا يتبين لك الفرق بين الحيل التي يتوصل بها إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله وإقامة دينه، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ونصر المحق، وكسر المبطل. والحيل التي يتوصل بها إلى خلاف ذلك. فتحصيل المقاصد المشروعة بالطرق التي جعلت موصلة إليها شيء، وتحصيل المقاصد الفاسدة بالطرق التي جعلت لغيرها شيء آخر.

الشيخ: وهذا لا شك أنه باطل وهذه حيلة، أهل السبت والعياذ بالله الذين احتالوا على صيد السمك في السبت، فهكذا هؤلاء كونه يخالعها حتى يسلم من طلاق معلق وليس له قصد في الخلع، الخلع شرع لإراحة الجميع من الشقاق الذي بينهما، فإذا فعل الخلع لإسقاط شر حصل من الزوج فهذه حيلة باطلة؛ لأن المقصود من الخلع ليس هو الفراق، المقصود منه هو البقاء ضد المقصود من الخلع، وذلك مثل أن يقول: إذا انسلخ رمضان فأنتِ طالق، وقد تكون هذه آخر طلقة، ثم يندم فما الحيلة؟ يخالعها في رمضان على أنها تعطيه كذا ألف ريال أو مائتي ريال أو كذا، ويوافق على المخالعة حتى إذا انسلخ رمضان لأنها أجنبية إذا انسلخ رمضان لأنها أجنبية ما يقع الطلاق، ثم يعود إليها فيتزوجها، وهذه حيلة باطلة وغير مقصود خلع غير مقصود، المقصود من التحيل في بقائها وعدم وقوع الطلاق المعلق، والحيل التي تحل ما حرم الله وتبطل ما أوجب الله باطلة نسأل الله العافية

فالفرق بين النوعين ثابت من جهة الوسيلة والمقصود، اللذين هما: المحتال به والمحتال عليه.

فالطرق الموصلة إلى الحلال المشروع هي الطرق التي لا خداع في وسائلها، ولا تحريم في مقاصدها، وبالله التوفيق.

الشيخ: ومن هذا الباب يقول ﷺ: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل رواه ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة.

فصل

وأما قولكم: إن من حلف بطلاق زوجته: ليشربن هذا الخمر، أو ليقتلن هذا الرجل، أو نحو ذلك،  كان في الحيلة تخليصه من هذه المفسدة، ومن مفسدة وقوع الطلاق.

فيقال: نعم والله، قد شرع الله له ما يتخلص به، ولخلاصه طرق عديدة، فلا تتعين الحيلة التي هي خداع ومكر لتخليصه، بل هاهنا طرق عدة قد سلك كل طريق منها طائفة من الفقهاء من سلف الأمة وخلفها.

الطريق الأولى: طريقة من قال: لا تنعقد هذه اليمين بحال، ولا يحنث فيها بشيء سواء كانت بصيغة الحلف، كقوله "الطلاق يلزمني لأفعلن" أو بصيغة التعليق المقصود كقوله "إن طلعت الشمس، أو إن حضت، أو إن جاء رأس الشهر، فأنت طالق" أو التعليق المقصود به اليمين، من الحض والمنع، والتصديق والتكذيب، كقوله "إن لم أفعل كذا، وإن فعلت كذا، فامرأتي طالق" وهذا اختيار أجل أصحاب الشافعي، الذين جالسوه، أو من هو من أجلهم: أبى عبدالرحمن. وهو أجل من أصحاب الوجوه المنتسبين إلى الشافعي، وهذا مذهب أكثر أهل الظاهر. فعندهم أن الطلاق لا يقبل التعليق كالنكاح، ولم يرد مخالفوا هؤلاء عليهم بحجة تشفي.

الطريق الثانية: طريق من يقول: لا يقع الطلاق المحلوف به، ولا العتق المحلوف به، ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه، وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأبى هريرة، وعائشة، وزينب بنت أم سلمة، وحفصة، في الحلف بالعتق الذى هو قربة إلى الله تعالى، بل من أحب القرب إلى الله، ويسرى في ملك الغير، فما يقول هؤلاء في الحلف بالطلاق الذى هو أبغض الحلال إلى الله تعالى، وأحب الأشياء إلى الشيطان؟

والسائل لهؤلاء الصحابة إنما كان امرأة حلفت بأن كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته.

فقالوا لها: كفري عن يمينك، وخلي بين الرجل وبين امرأته، وهؤلاء الصحابة أفقه في دين الله وأعلم من أن يفتوا بالكفارة في الحلف بالعتق ويرونه يمينا، ولا يرون الحلف بالطلاق يمينا، ويلزمون الحانث بوقوعه، فإنه لا يجد فقيه شم رائحة العلم بين البابين والتعليقين فرقًا بوجه من الوجوه.

وإنما لم يأخذ به أحمد، لأنه لم يصلح عنده إلا من طريق سليمان التيمى، واعتقد أنه تفرد به، وقد تابعه عليه محمد بن عبدالله الأنصاري، وأشعث الحمراني، ولهذا لما ثبت عند أبى ثور قال به، وظن الإجماع في الحلف بالطلاق على لزومه، فلم يقل به.

الشيخ: الجواب الثاني هو الأصح، إذا علق الطلاق أو العتق على أمر يقصد منه الحث أو المنع أو التصديق أو الكذب يكون كفارة يمين لقصة التي استفتت الصحابة قالت: إن ممالكها أحرار إن لم تفرق بين عبد وزوجته، فإذا مملوك له وزوجته، فأفتاها جماعة من الصحابة بأن عليها كفارة يمين ولا تفرق بين المملوك وزوجته وإذا كان هذا في العتق فالطلاق من باب أولى. 

فإذا قال: إذا لم أضرب فلانًا فعبدي حر، إن لم أضرب فلانًا فزوجتي طالق، قصده حث نفسه على ضرب فلان، أو إن لم أسافر فزوجتي طالق، أو إن لم أكلم فلانًا فزوجتي طالق، قصده الحث ما قصده الطلاق، أو قال: إن سافرت اليوم فزوجتي طالق أو فعبدي حر، قصده منع نفسه من السفر، كل هذا حكمه حكم اليمين، على الصحيح يكون فيه كفارة يمين خلاف قول الجمهور، الجمهور يرون أنه يقع، والصواب أنه لا يقع ما دام قصده الحث أو المنع .....

وهذا مثل ما قال المؤلف فيه فرج عظيم، ولهذا أفتى الصحابة به لهذه المرأة التي حلفت أن تفرق بين مملوك وزوجته؛ لأن المقصود من الطلاق الفرقة والراحة من الزوجة، وهذا ما قصد ذلك إنما قصد منع نفسه من شيء، أو حث نفسه على شيء، والرسول ﷺ يقول: إنما الأعمال بالنيات، وهذا لا نية له، وإنما أراد منع نفسه من كذا أو حث نفسه على كذا.

الطريق الثالثة: طريق من يقول: ليس الحلف بالطلاق شيئًا، وهذا صحيح عن طاوس، وعكرمة.

أما طاوس فقال عبدالرزاق: أخبرنا معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان لا يرى الحلف بالطلاق شيئًا.

وقد رد بعض المتعصبين لتقليدهم ومذاهبهم هذا النقل بأن عبدالرزاق ذكره في باب يمين المكره، فحمله على الحلف بالطلاق مكرها، وهذا فاسد، فإن الحجة ليست في الترجمة، وإنما الاعتبار بما يروى في أثناء الترجمة، ولا سيما المتقدمين، كابن أبى شيبة، وعبدالرزاق ووكيع وغيرهم، فإنهم يذكرون في أثناء الترجمة آثارًا لا تطابق الترجمة، وإن كان لها بها نوع تعلق، وهذا في كتبهم -لمن تأمله- أكثر وأشهر من أن يخفى، وهو في صحيح البخاري وغيره، وفى كتب الفقهاء وسائر المصنفين.

ثم لو فهم عبدالرزاق هذا، وأنه في يمين المكره، لم تكن الحجة في فهمه، بل الأخذ بروايته، وأي فائدة في تخصيص الحلف بالطلاق بذلك؟ بل كل مكره حلف بأي يمين كانت، فيمينه ليست بشيء.

وأما عكرمة، فقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول عن عكرمة: في رجل قال لغلامه: إن لم أجلدك مائة سوط فامرأتي طالق، قال "لا يجلد غلامه، ولا يطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان".

فإذا ضممت هذا الأثر إلى أثر ابن طاوس عن أبيه، إلى أثر ابن عباس، فيمن قالت لمملوكها: إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي حر، إلى الآثار المستفيضة عن ابن عباس في الحلف بتحريم الزوجة: أنها يمين يكفرها، تبين لك ما كان عليه ابن عباس وأصحابه في هذا الباب.

فإذا ضممت ذلك إلى آثار الصحابة في الحلف بالتعليقات كالحج، والصوم، والصدقة، والهدى، والمشي إلى مكة حافيًا، ونحو ذلك: أنها أيمان مكفرة، تبين لك حقيقة ما كان عليه الصحابة في ذلك.

فإذا ضممت ذلك إلى القياس الصحيح الذي يستوفي فيه حكم الأصل والفرع: تبين لك توافق القياس وهذه الآثار.

فإذا ارتفعت درجة أخرى، ووزنت ذلك بالنصوص من القرآن والسنة، تبين لك الراجح من المرجوح.

ومع هذا كله فلا يدان لك بمقاومة السلطان، ومن يقول: حكمت وثبت عندي، فالله المستعان.

الشيخ: وهذا هو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله شيخ الإسلام، وهو اختيار المؤلف ابن القيم رحمه الله، وجماعة من السلف والخلف، وهو اعتبار المقاصد في التعليقات فإن الشيطان له نزغات، وقد يقع بين الرجل وزوجته وبين الرجل ومماليكه فيقول: إن لم أضربك كذا، إن لم أسفرك، إن لم كذا، زوجتي طالق، عبيدي أحرار علي كذا وكذا.

وهكذا يفعل الناس اليوم كثيرًا إن لم أضرب فلان أو إن لم تضرب فلان فعلي صوم شهر، فعلي صوم سنة إن لم أفعل كذا، قصده الحث أو المنع، كل هذا حكمه اليمين كفارة يمين، ولا يلزم بخلاف التعليق المحض، فإذا كان التعليق المحض ما فيه قصد مثل إذا دخل رمضان فعبدي حر، إن دخل رمضان فزوجي طالق، هذا لا بأس يقع، أو إذا دخل رمضان فعليّ لله كذا وكذا، أو إذا رزقني الله مولودًا ذكرًا فلله عليّ أن أحج أو أن أصوم كذا وكذا، هذا كله قربات، نذر قربة تلزم لقوله ﷺ: من نذر أن يطيع الله فليطعه.

الطريق الرابعة: طريق من يفرق بين أن يحلف على فعل امرأته أو فعل نفسه، أو على غير الزوجة، فيقول: إن قال لامرأته "إن خرجت من الدار، أو كلمت رجلًا، أو فعلت كذا فأنت طالق" فلا يقع عليه الطلاق بفعلها ذلك، وإن حلف على فعل نفسه، أو غير امرأته، وحنث لزمه الطلاق.

وهذا قول أفقه أصحاب مالك على الإطلاق، وهو أشهبُ بن عبدالعزيز، ومحله من الفقه والعلم غير خاف.

ومأخذُ هذا: أن المرأة إذا فعلت ذلك لتطلق نفسها، لم يقع به الطلاق، معاقبة لها بنقيض قصدها، وهذا جار على أصول مالك وأحمد، ومن وافقهما في معاقبة الفار من التوريث والزكاة، وقاتل مورثه، والموصي له، ومن دبَّره بنقيض قصده، وهذا هو الفقه، لا سيما وهو لم يرد طلاقها، إنما أراد حضها، أو منعها، وأن لا تتعرض لما يؤذيه، فكيف يكون فعلها سببا لأعظم أذاه؟ وهو لم يملكها ذلك بالتوكيل والخيار، ولا ملكها الله إياه بالفسخ، فكيف تكون الفرقة إليها، إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته بمجرد حضها ومنعها؟ وأي شيء أحسن من هذا الفقه، وأطرد على قواعد الشريعة؟.

الشيخ: وهذا القول جيد، قول أشهب صاحب مالك راعى المعنى يقول: إن كان التعليق على فعلها لم يقع لأن الطلاق ليس بيدها، فإذا قال: إن خرجتِ فأنت طالق أو كلمتِ فلان فأنتِ طالق لم يقع، لأن الطلاق ليس بيدها، فإذا فعلت هي أرادت أن تطلق نفسها فلا يقع فتمنع، بخلاف ما إذا قال: إن خرجت أنا فأنت طالق، أو إن سافرت فأنت طالق لأن الطلاق بيده، هذا القول مثل ما قال المؤلف له قوته من حيث الأصول، ولكن الأول الذي أفتى به الصحابة أولى، وهو إذا كان قصده المنع أو الحث فهذا يكون حكمه حكم اليمين، أما إذا كان القصد إيقاع الشر وليس الحث فهذا يقع إن قال: إن كلمتِ فلانة فأنت طالق، وقصده إيقاع الطلاق، ما قصده منعها، قصده منعها وإيقاع الطلاق أيضًا يقع، أو إن سافرت فأنتِ طالق قصده منع السفر والوقوع أيضًا إيقاع الطلاق، أو إذا دخل رمضان فأنت طالق يقع لأنه معلق، والمسلمون على شروطهم.

س: هل يجوز أن يضع الرجل العصمة بيده زوجته؟

الشيخ: إذا وكلها لا بأس.

الطريق الخامسة: طريق من يُفصّل بين الحلف بصيغة الشرط والجزاء، والحلف بصيغه الالتزام.

فالأول: كقوله: إن فعلتُ كذا، أو إن لم أفعله، فأنت طالق.

والثاني: كقوله: الطلاق يلزمني أوْ لي لازم، أو علي الطلاق إن فعلت، أو إن لم أفعل؛ فلا يلزمه الطلاق في هذا القسم، إذا حنث دون الأول.

وهذا أحد الوجوه الثلاثة لأصحاب الشافعي، وهو المنقول عن أبى حنيفة وقدماء أصحابه، ذكره صاحب الذخيرة، وأبو الليث في فتاويه.

قال أبو الليث: ولو قال: طلاقُك علي واجب، أو لازم، أو فرض، أو ثابت فمن المتأخرين من أصحابنا من قال: يقع واحدة رجعية، نواه أو لم يَنْوِه، ومنهم من قال: لا يقع وإن نوى، والفارق: العرف.

قال صاحب الذخيرة: وعلى هذا الخلاف: إذا قال: إن فعلت كذا فطلاقك علي واجب، أو قال: لازم، ففعلت.

وذكر القُدوري في شرحه: أن على قول أبى حنيفة: لا يقعُ الطلاق في الكل، وعند أبى يوسف: إن نوى الطلاق يقع في الكل، وعن محمد: أنه يقع في قوله: لازم، ولا يقع في: واجب.

واختار الصدرُ الشهيدُ الوقوع في الكل، وكان ظهيرُ الدين المْرِغينانُّي يُفتي بعدم الوقوع في الكل، هذا كله لفظ صاحب الذخيرة.

وأما الشافعية: فقال ابن يونس، في شرح التنبيه: وإن قال: الطلاق والعتاق لازم لي، ونواه لزمه لأنهما يقعان بالكناية مع النية، وهذا اللفظ محتمل، فجعل كناية، وقال الروياني: الطلاق لازم لي: صريح، وعدَّ ذلك في صرائح الطلاق، ولعل وجهه غلبة استعماله لإرادة الطلاق، وقال القفال في فتاويه: ليس بصريح ولا كناية، حتى لا يقع به الطلاق وإن نواه، لأن الطلاق لا بد فيه من الإضافة إلى المرأة، ولم يتحقق، هذا لفظه.

وحكى شيخنا هذا القول عن بعض أصحاب أحمد.

فقد صار الخلاف في هذا الباب في المذاهب الأربعة بنقل أصحابها في كتبهم.

ولهذا التفريق مأخذ آخر من هذا الذي ذكره الشارح، وهو أن الطلاق لا يصح التزامه، وإنما يلزم التطليق، فإن الطلاق هو الواقع بالمرأة، وهو اللازم لها، وإنما الذى يلتزمه الرجل: هو التطليق، فالطلاق لازم لها إذا وقع.

إذا تبين هذا فالتزام التطليق لا يوجب وقوع الطلاق، فإنه لو قال: إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك، أو فالله علي أن أطلقك، أو فتطليقك لازم لي، أو واجب علي، وحنث لم يقع عليه الطلاق، فهكذا إذا قال: إن فعلت كذا فالطلاق يلزمني، لأنه إنما التزم التطليق، ولا يقع بالتزامه.

والموقعون يقولون: هو قد التزم حكم الطلاق، وهو خروج البضع من ملكه، وإنما يلزمه حكمه إذا وقع، فصار هذا الالتزام مستلزما لوقوعه.

فقال لهم الآخرون: إنما يلزمه حكمه إذا أتى بسببه، وهو التطليق، فحينئذ يلزمه حكمه، وهو لم يأت بالتطليق منجزا بلا ريب، وإنما أتى به معلقًا له، والتزام التطليق بالتنجيز لا يلزم، فكيف يلزم بالتعليق؟

والمنصف المتبصر لا يخفى عليه الصحيح، وبالله التوفيق.

الشيخ: هذه مسائل مهمة، والصواب فيها التفصيل، فإنه إذا قال الطلاق يلزمني وعلي كذا أو سأطلقك وسوف أفعل كذا وكذا ما يتعلق بالطلاق، هذا من باب الوعيد، ليس من باب إيقاع الطلاق، من باب الوعيد عليّ الطلاق إن فعلت كذا فسوف أطلقك، والله إن فعلت كذا لأطلقنك، وما أشبه ذلك، هذا من باب الوعيد.

أما إذا فعلت كذا فأنت طالق، قصده طلاقها يقع، إن كلمت فلان فأنت طالق، وقد أراد هذا، يقع إيقاع معلق مثل لو قال: إذا دخل رمضان فأنت طالق يقع، أو إذا دخل شوال فأنت طالق، أما إذا كان من باب الوعيد والتحذير وليس قصده إيقاع الطلاق إن كلمت فلان قصده تحذيرها وليس قصده الطلاق، أو إن فعلت كذا مما يغضبه فأنت طالق قصده تحذيرها هذا له حكم اليمين، كفارة اليمين كما اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم رحمة الله عليهم، فرق بين الطلاق المعلق وبين ما ليس فيه حث ولا منع هذا يقع، والطلاق الذي فيه حث ومنع هذا حكمه حكم اليمين، أما الوعيد سأطلقك أو سوف أطلقك هذا من باب الوعيد، إذا فعلت كذا سوف أطلقك، سوف أفعل كذا، سوف أخرجك من بيتي هذا من باب الوعيد.

س: إذا علق الطلاق على شرط وأراد أن يرجع؟

الشيخ: على نيته، إذا قال إن كلمت فلان وقصده بغير إذني له شرطه، أو قصده المنع فله نيته، أما إذا قال إن كلمت فلان وقصده إيقاع الطلاق فالأعمال بالنيات.

س: .....؟

فصل

وممن ذكر الفرق بين الطلاق، وبين الحلف بالطلاق: القاضي أبو الوليد هشام بن عبدالله بن هشام الأزدي القرطبي في كتابه "مفيد الحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام".

فقال في كتاب الطلاق من ديوانه، وقد ذكر اختلاف أصحاب مالك في الأيمان اللازمة، ثم قال: ولا ينبغي أن تتلقى هذه المسألة هكذا تلقيا تقليديًا إلا أن يشمها نور الفهم ويوضحها لسان البرهان، وأنا أشير لك إلى نكتة تسعد بالغرض فيها إن شاء الله تعالى.

منها: الفرق بين الطلاق إيقاعًا، وبين اليمين بالطلاق، وفى المدونة كتابان موضوعان: أحدهما لنفس الطلاق، والثاني للأيمان بالطلاق، ووراء هذا الفن فقه على الجملة؛ وذلك أن الطلاق صورته في الشرع حل وارد على عقد، واليمين بالطلاق عَقد فليفهم هذا.

وإذا كان عقدا لم يحصل منه حل إلا أن تنقله من موضع العقد إلى موضع الحل بنية، ليخرج بها اللفظ من حقيقته إلى كنايته، فقد نجمت هذه المسألة في أيام الحجاج بعد أن استقل الشرع بأصوله وفروعه، وحقائقه ومجازاته، في أيمان البيعة، وليس في أيمان الطلاق إلا ما أذكره لك، وذلك أن الطلاق على ضربين: صريح، وكناية.

فالصريح: كل لفظ استقل بنفسه في إثبات حكمه تحديدًا.

والكناية: على ضربين، كناية غالبة، وكناية غير غالبة.

فالغالبة: كل ما أشعر بثبوت الطلاق في موضوع اللغة، أو الشرع، كقوله: الحقي بأهلك، واعتدّى.

وغير الغالبة: كل مالا يشعر بثبوت الطلاق في وضع اللغة والشرع، كقوله: ناوليني الثوب، وقال: أردت بذلك الطلاق.

فإذا عرضنا لفظ الأيمان يلزمني على صريح الطلاق لم تكن من قسمه، وإن عرضناها على الكناية، لم تكن من قسيمها إلا بقرينة، من شاهد حال، أو جارى عرف، أو نية تقارن اللفظ، فإن اضطرب شاهد الحال، أو جارى العرف باحتمال يحتمله، فقد تعذر الوقوف على النية، ولا ينبغي لحاكم ولا لغيره أن يمد القلم في فتوى حتى يتأمل مثل هذه المعاني، فإن الحكم إن لم يقع مستوضحًا عن نور فكري مشعر بالمعنى المربوط اضمحل.

ثم قال: وأنا ذاكر لك ما بلغني في هذه اليمين من كلام العلماء، ورأيته من أقوال الفقهاء، وهي يمين محدثة، لم تقع في الصدر الأول.

ثم ذكر اختلاف أهل العلم في الحلف بالأيمان اللازمة.

والمقصود: أنه ذكر الفرق الفطري العقلي الشرعي بين إيقاع الطلاق، والحلف بالطلاق، وأنهما بابان مفترقان بحقائقهما، ومقاصدهما، وألفاظهما، فيجب افتراقهما حكمًا.

أما افتراقهما بالحقيقة، فما ذكره من أن الطلاق حل وفسخ، واليمين عقد والتزام فهما إذن حقيقتان مختلفتان، قال تعالى: وَلكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيَمانَ [المائدة:89]. ثم أشار إلى الافتراق في الحكم بقوله: وإذا كانت اليمين عقدًا لم يحصل بها حل، إلا أن ينقل من موضع العقد إلى موضع الحل، ومن البين أن الشارع لم ينقلها من العقد إلى الحل. فيجب إبقاؤها على ما وضعت عليه، نعم لو قصد الحالف بها إيقاع الطلاق عند الحنث فقد استعملها في العقد والحل، فتصير كناية في الوقوع، وقد نواه فيقع به الطلاق، لأن هذا العقد صالح للكناية، وقد اقترنت به النية، فيقع الطلاق. أما إذا نوى مجرد العقد، ولم ينو الطلاق البتة، بل هو أكره شيء إليه، فلم يأت بما ينقل اليمين من موضوعها الشرعي، ولا نقلها عنه الشارع. فلا يلزمه غير موجب الأيمان.

فليتأمل المنصف العالم هذا الفرق، ويخرج قلبه ساعة من التعصب والتقليد، واتباع غير الدليل.

والمقصود: أن باب اليمين وباب الإيقاع مختلفان في الحقيقة والقصد واللفظ، فيجب اختلافهما في الحكم. أما الحقيقة فما تقدم.

وأما القصد: فلأن الحالف مقصوده الحض والمنع، أو التصديق أو التكذيب، والمطلق مقصوده التخلص من الزوجة من غير أن يخطر بباله حض ولا منع، ولا تصديق ولا تكذيب. فالتسوية بينهما لا يخفى حالها.

وأما اختلافهما لفظًا، فإن لفظ اليمين لا بد فيها من التزام قَسَمِي يأتي فيه بجواب القسم، أو تعليق شرطي يقصد فيه انتفاء الشرط والجزاء، أو وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، وإن كان يكرهه، ويقصد انتفاءه، فالمقدم في الصورة الأولى مؤخر في الثانية، والمنفي في الأولى ثابت في الثانية، ولفظ الإيقاع لا يتضمن شيئًا من ذلك، ومن تصور هذا حق التصور جزم بالحق في هذه المسألة، والله الموفق.

الشيخ: والمقصود أن باب الطلاق باب عظيم باب خطير يجب على المفتي أن يتحرى وأن يتثبت ويعرف كلام أهل العلم في هذا الباب؛ لأنه حل قيد النكاح وتفريق بين الزوجين فهو أمر عظيم فلا بدّ من التبصر والتثبت، وأن لا يوقع الطلاق إلا على بصيرة.

وإذا درس أحوال الناس في ذلك وتأمل مقاصدهم وما ذكره أهل العلم وأصلح الله نيته وفقه للصواب؛ فالأمر في هذا يتنوع ويختلف، والناس في الطلاق لهم أحوال ولهم رغوب مع زوجاتهم، كذلك في حال الغضب وحال الرضا، فالطلاق الواضح إذا قال: أنت طالق أو فلانة طالق وهو عاقل لا مانع من تصرفاته وقع الطلاق؛ لأن الله جل وعلا جعله حلا لقيد النكاح فَرَجًا للمرأة قد تكون مظلومة قال الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]، وقال: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فبين الطلاق سبحانه. 

أما إذا كان عن شدة غضب لا يعقله كالمضاربة بينهم والمسابة والمضاربة فيشتد غضبه هذا ما قصد الطلاق، إنما أراد التخلص من هذا البلاء بسبب ما وقع بينهما فلا يقع لشدة الغضب إذا اتضحت الأسباب، وقد صنف ابن القيم رحمه الله رسالة في هذا سماها "إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان" رسالة صغيرة وضح فيها هذا الأمر وأجاد رحمه الله، ويتبين شدة الغضب بما يقع بينهما من المضاربات والسب والشتم وشدة الأمر قد تكون كناية أراد بها التخويف، أنت في ذمتي، أنت زوجتي، قصده من هذا أنت ما تطعيني ما قصده الطلاق فلا يقع الطلاق، أو إن كلمت فلان فأنت طالق، إن ذهبت إلى بيت آل فلان فأنت طالق، ما قصده الطلاق قصده التخويف وتحذيرها، فهذا حكمه حكم اليمين لأنه ما قصده إيقاع الطلاق، وهو أعلم بينته، إنما قصده التخويف والتحذير. 

أما المعلق الذي ما فيه تحذير ولا تخويف بل تعليق مجرد فهذا يقع، كأن يقول إن دخل رمضان فأنت طالق، هذا ما فيه تخويف ولا تحذير هذا شرط مجرد، أو قال: إن كلمت فلان وهو قصده الطلاق فأنت طالق وقع الطلاق ..... المقصود أن هذه الأمور مهمة لها شأنها.

.....

السؤال: له التراجع، الرجل الذي شرط؟

الشيخ: لا ما له التراجع لزم الشرط، إذا دخل رمضان فأنت طالق ما لها تراجع، أو إن طهرت فأنت طالق لزم.

السؤال: ولا يرجع .....؟

الشيخ: ما في نية هذا شرط مجرد، إذا طهرت فأنت طالق انتهى الأمر، أو إن دخل رمضان، بخلاف إن قال إن كلمت فلان فيحتمل أن قصده وعيدها وتحذيرها وله نيته إذا صدق.

السؤال: الصحيح من طلاق الحائض؟

الشيخ: الصحيح أنه لا يقع إذا اعترف به الزوجان، إذا كان يعلم أنها حائض أو نفساء لا يقع هذا الصحيح، وعليه التوبة لأنه ما يجوز يأثم، والجمهور يرى أنه يقع، والصحيح أنه لا يقع لحديث ابن عمر أن النبي ﷺ أنكر عليه وغضب وأخبره أنه قال له: أمسكها، ثم إذا طهرت فطلقها إن شئت.

السؤال: إذا تزوجها بعد أن طلقها وهي حائض رجل آخر يفرق بينهما؟

الشيخ: الجمهور إذا أفتي بهذا أو احتسبه طلاق مضى، الجمهور على أنه يقع.

السؤال: قول الجمهور أنه يقع مع الإثم؟

الشيخ: مع الإثم نعم.

الطريقة السادسة: أن يزول المعنى الذي كانت اليمين لأجله، فإذا فعل المحلوف عليه بعد ذلك لم يحنث، لأن امتناعه باليمين إنما كان لعلة، فيزول بزوالها، وهذا مطرد على أصول الشرع، وقواعد مذهب أحمد وغيره ممن يعتبر النية والقصد في اليمين، تعميما وتخصيصًا وإطلاقًا وتقييدًا.
فإذا حلف: لا أكلم فلانة، وكان سبب اليمين الذي هيجها كونها أجنبية، يخاف الوقوع في عرضه بكلامها، فتزوجها، لم يحنث بكلامها، إعمالا لسبب اليمين وما هيجها في التقييد بكونها أجنبية، هذا إذا لم يكن له نية مادامت كذلك، أما إذا كانت له نية فلا إشكال في تقييد اليمين بها.

الشيخ: وهذا واضح لقوله عليه الصلاة والسلام: الأعمال بالنيات فإذا عرفت النية أو الأسباب تعلق الحكم بها، فإذا قال: والله لا أكلم فلانًا: المقصود من أجل بدعته ..... ثم تاب، إن كلمه لا بأس زالت العلة، أو قال: والله ما أكلم فلانة لأنها أجنبية ويخشى أن يتهم ثم تزوجها زالت العلة ويكلمها، زالت العلة التي من أجلها حلف، أو قال: والله لا أكلم فلانًا، ناوي ما دام في المحل الفلاني ثم ذهب عنه فلا بأس، لأن النية أيدت كلامه، فالكلام يقيد بالنية ويقيد بالأسباب التي هيجت الحلف.

السؤال: لو قال رجل لزوجته أنت طالق ثم طالق ثم طالق قصده بالثلاث تقع؟

الشيخ: ولو ما قصد، ما دام قال: ثم طالق ثم طالق ثم طالق تقع الطلاق.

السؤال: وإن قال أنت طالق ثلاث تقع واحدة؟

الشيخ: أنت طالق مرة واحدة إذا قال أنت طالق أنت طالق ثنتين إلا أن ينوي التأكيد أو الإفهام.

السؤال: .....؟

الشيخ: إذا فعل واحدًا منهم حنث، ما دام ينوي الواحدة كفارة واحدة، أما إذا قال: والله لا أكلمه، والله لا أجالسه صار ثنتين، أما إذا ما كرر اليمين شيء واحد إذا فعل شيئًا منه حنث.

السؤال: .....؟

الشيخ: واحدة، أما إذا قال: والله لا أكلم فلان، والله لا أجالسه، والله لا آكل طعامه صار ثلاث، والله لا أسافر معه أربع.

السؤال: لو قال والله لا أكلم فلانًا ولا أجلس معه؟

الشيخ: هذا الصواب أنها واحدة لأنه ما كرر اليمين

السؤال: .....؟

الشيخ: نعم لكن إذا فعل واحدة منهما حنث، أو فعلهما جميعًا حنث، ولا عليه إلا كفارة واحدة.

ونظيره: أن يحلف: لا يكلم فلانًا، ولا يعاشره. لكونه صبيا، فصار رجلًا، وكانت نيته وسبب يمينه لأجل صباه.

ونظيره: أن يحلف: لا دخلت هذه الدار لأجل من يَظُن به التهمة لدخولها، فمات أو سافر، فدخلها، لم يحنث.

وبذلك أفتى أبو حنيفة وأبو يوسف: من حلف: لا دخلت دار فلان هذه، ولا كلمت عبده هذا. فباع العبد والدار.

ونظير هذا: أن يحلف لا يكلم فلانا، والحامل له على اليمين كونه تاركًا للصلاة، أو مرابيًا أو خمارًا، أو واليا، فتاب من ذلك كله، وزالت الصفة التي حلف لأجلها، لم يحنث بكلامه.

الشيخ: هذه قاعدة مهمة، الحكم مناط بسبب اليمين وما هيجها، وبالنية أيضًا له معان عظيمة في واقع الناس.

وكذلك إذا حلف: لا تزوجت فلانة، والحامل له على اليمين صفة فيها، مثل كونها بغيًا أو غير ذلك، فزالت تلك الصفة لم يحنث بتزوجها.

كل هذا مراعاة للمقاصد التي الألفاظ دالة عليها، فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر. ولهذا لو حلف: ليقضينه حقه في غد، وقصده، أو السبب: أن لا يجاوزه، فقضاه قبله لم يحنث.

الشيخ: لأنه فعل خير، والله لأقضيتك غدًا ثم يسر الله وقضاه اليوم فلا يحنث؛ لأن المقصود المسارعة والحث على قضاء دينه.

ولو حلف: لا يبيع عبده إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث.

ولو حلف أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالي، والنية أو السبب: يقتضى التقييد مادام كذلك فعزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه.

وكذلك لو حلف على زوجته، أو عبده، أو أمته: أن لا تخرج إلا بإذنه، فطلق أو أعتق أو باع، لم يحنث بخروجهم بغير إذنه؛ لأن اقتضاء السبب والقصد التقييد في غاية الظهور.

ونظائر ذلك كثيرة جدًا، وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك وإن خالفوه في كثير من المواضع.

وهذا هو الصواب، لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلالتها على المقاصد، فإذا ظهر القصد كان الاعتبار له، وتقيد اللفظ به، ولهذا لو دعي إلى غداء، فحلف لا يتغذى تقيدت يمينه بذلك الغداء وحده، لأن النية والسبب ومناط اليمين لا يقتضي غيره.

وقد أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى وما لم ينوه بيمينه، أو كان السبب لا يقتضيه، لا يجوز أن يلزم به، مع القطع بأنه لم يرده، ولا خطر على باله.

وقد أفتى غير واحد من الفقهاء، منهم ابن عقيل وشيخنا، وغيرهما: فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك، أو قد زنت بفلان، فقال هي طالق، ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت، وأن الذى رميت به في بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها، أو أنه حين رميت به كان ميتا، ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن، فإنه لا يقع عليه الطلاق، لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب، فهو كالشرط في طلاقها.

الشيخ: كأنه قال: هي طالق إن كانت فعلت هذا الشيء، يقال له ترى زوجتك خرجت لدار فلان، أو زنت بفلان أو شبت في بيتك، فقال: هي طالق، يعني لأجل هذا العمل ثم صار كذبًا، لا يقع لأنه كأنه معلق بشرط فبان كذب القائل.

السؤال: لو قال والله لا أبيعه إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث؟

الشيخ: لم يحنث لأن قصده ألا يبيعه بأقل ..... مقصوده ما أنا بائعه بأقل، فإذا يسر الله الزيادة ما يحنث.

السؤال: إذا كان قصده الألف فقط؟

الشيخ: إذا كان قصده لا يزيد يحنث، لكن عرف الناس أنه إذا قال: ما أبيع إلا بألف، يعني ما أبيع بأنقص وإلا وده الزيادة هذا عرف الناس.

وهذا الذى قالوه هو الذى لا يقتضي المذهب وقواعد الفقه غيره، فإنهم قد قالوا: لو قال لها: أنت طالق، وقال: أردت إن قمت، دُيِّنَ، ولم يقع به الطلاق، فهذا مثله سواء.

ونظير هذا: ما قالوه: إن المكاتب لو أدى إلى سيده المال، فقال: أنت حر، فبان أن المال الذى أعطاه مستحق، أو زيوف، لم يقع العتق، وإن كان قد صرح به. ذكره أصحاب أحمد والشافعي، لأنه إنما أعتقه بناء على سلامة العوض، ولم يسلم له.

الشيخ العبرة بالمقاصد، قال: أنت حر لما أدى له المال صار المال زيوف ما هو بماله، أو صار مال مسروق أخذه صاحبه أعطاه إياه وهو مغصوب فهو على رقة حتى يؤدي المال.

.....

وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها.

الشيخ: هذه هي القاعدة الشرعية الأحكام تدور مع عللها.

وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصر.

فهذه الطريقة تخلص من كثير من الحنث.

وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيتها سلكت أحسن من طرق الحيل التي يتحيلون بها على عدم الحنث، وهى أنواع:

السؤال: أن لا يقال أن هذا الذي طلق امرأته لما بلغه فيها ما بلغه أنه استعجل .....؟

الشيخ: نعم.

أحدها: التسريج.

......

الثاني: خلع اليمين.

الثالث: التحيل لفساد النكاح، إما بكون الولي كان قد فعل ما يفسق به، أو الشهود كانوا جلوسًا على مقعد حرير، ونحو ذلك، فيكون النكاح باطلًا، فلا يقع فيه الطلاق.

الرابع: الاحتيال على فعل المحلوف عليه، بتغيير اسمه، أو صفته، أو نقله من ملك إلى ملك، ونحو ذلك.

فإذا غلبوا عن شيء من هذه الحيل الأربعة فزعوا إلى التيس المستعار، فاستأجروه ليسفد، ويأخذ على سفاده أجرا.

فليوازن من يعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى ومسئول، بين هذه الطرق وتلك الطرق التي قبلها، وليقم لله ناظرًا ومناظرًا، متجردًا من العصبية والحمية، فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب، والله ولى التوفيق.

الشيخ: ومقصوده من هذا رحمه الله التحذير من الحيل الباطلة، وأن الواجب على أهل العلم بيان الحق للناس وتحذيرهم من محارم الله، والتحيل على معاصي الله، ومن نصر الله وصبر وثبت أعانه الله ويسر أمره، والناس لهم أهواء ولهم حيل ولهم مقاصد سيئة لضعف الإيمان أو عدم الإيمان، فالواجب على أهل العلم بيان الحق والتوجيه إليه والتحذير من الباطل هذه وظيفتهم وهذا واجبهم.