54 من حديث (من أحب أن يبسط عليه في رزقه وأن ينسأ له في أثره، فليصل رحمه)

بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ

1468- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1469- وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ، يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِمٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1470- وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ. وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1471- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عمرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

1472- وَعَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ -أَوْ لِأَخِيهِ- مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1473- وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1474- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: يقول المؤلفُ رحمه الله: باب البر والصلة.

البر: برُّ الوالدين. والصلة: صلة الأرحام. وبر الوالدين داخل في صلة الرحم أيضًا؛ لأنهما أقرب الرحم، وأعظم الرحم، وبرهما من أهم الواجبات، وعقوقهما من أقبح الكبائر، فقد قرن الله حقَّهما بحقِّه في آيات كثيرات، كما في قوله سبحانه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وقوله جلَّ وعلا: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، في آيات كثيرات.

وقد قرن العقوق بالشرك كما في "الصحيحين" من حديث أبي بكرة الثقفي ، عن النبي ﷺ أنه قال: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، فقرن العقوق مع الشرك، فدل ذلك على أنَّ برهما من أهم الواجبات، وهو قرين التوحيد، وعلى أن عقوقهما من أقبح السيئات، وهو قرين الشرك.

وأما الصلة فهي صلة الرحم، وشأنها عظيم أيضًا، قال تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22- 23]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25]، يبين لنا عظم القطيعة، وأنها من أقبح القبائح، وأن صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب من أهم الواجبات.

وفي الحديث الأول يقول ﷺ: مَن أحبَّ أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه.

هذا يدل على أنَّ صلة الرحم من أسباب بسط الرزق، ومن أسباب البركة في العمر وطوله، فينبغي للمؤمن أن يتحرى ذلك، وأن يحسن إلى أقاربه، وأن يقصد وجه الله بذلك، فهذا من أسباب أنَّ الله يبسط له في الرزق، وينزل له البركة، وينسأ في أثره، ويفسح في أجله على خيرٍ وهدى.

والحديث الثاني: حديث جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، المعروف، الصحابي الجليل، يقول: عن النبي ﷺ أنه قال: لا يدخل الجنةَ قاطعٌ، قال الشارح: يعني قاطع رحم.

وروى مسلم في "صحيحه" هذا اللفظ عن النبي مرفوعًا: أنه لا يدخل الجنة قاطع رحمٍ.

فهذا يدل على أنَّ قطيعة الرحم من أسباب الحرمان من دخول الجنة، نسأل الله العافية، فيجب على المؤمن أن يحذر ذلك، وقد سمعت قول الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22- 23].

وفي البخاري رضي الله عنه ورحمه، عن النبي ﷺ أنه قال: ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها، فالواصل على الحقيقة والكمال هو الذي يصلهم وإن قطعوه، أما إن وصلهم إذا وصلوه وقطعهم إذا قطعوه فهذا مُكافئ، وهذا يكون مع الرحم ومع غير الرحم، لكن الواصل على الحقيقة والكمال هو الذي يصلهم وإن أساءوا إليه؛ ولهذا في الصحيح أيضًا: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إنَّ لي قرابةً أصلهم ويقطعونني، وأحلم عنهم ويجهلون عليَّ، وأُحسن إليهم ويُسيئون إليَّ. قال: إن كنت كما قلتَ فكأنما تُسفُّهم الملَّ يعني: الرماد الحامي، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك.

فهذا يدل على أنَّ الواصل يُعينه الله ويُسدده ويُظهره على خصومه من أقاربه؛ لأنه أحسن إليهم، وأدَّى واجبه في صلة الرحم، فينبغي للمؤمن أن يكون عنده صبرٌ، وعنده تحمل في إحسانه إلى أقاربه، وإساءتهم له وإن أساءوا، وإن جفوا، وإن قصَّروا، فينصحهم، ويُحسن إليهم، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويُواسي فقيرهم، ويُحسن إليهم مهما استطاع من الخير، وإن أساءوا، وإن جفوا، يرجو ما عند الله في ذلك.

وهكذا الحديث الثالث: حديث المغيرة بن شعبة الثَّقفي ، يقول: إنه سمع النبيَّ يقول: إنَّ الله حرَّم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعًا وهات. وكره لكم: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.

وفي اللفظ الآخر: ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال.

هذا حديث جليل عظيم يدل على أنَّ عقوق الأمهات من أقبح المحرَّمات، أنَّ الله حرَّم على الأمة عقوق أمهاتهم، وسبق لنا في حديث أبي بكرة: أنَّ الرسول قرنه بالشرك، وأنَّ العقوقَ من أكبر الكبائر، فيجب على المؤمن أن يحذر ذلك.

والعقوق: القطيعة، عقَّ: قطع، فالقاطع هو العاقّ، هو الذي يُسيئ إلى والديه، أو إلى أمه، وحقُّ الأمهات أكبر من حقِّ الآباء، وعقوقهم جميعًا من أكبر الكبائر.

فيجب على المؤمن أن يصل الوالدين، وأن يبرَّهما، وأن تكون عنايته بأمِّه أكثر؛ لأنَّ حقَّها أعظم، كما في الحديث الصحيح: قيل: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بحُسن صُحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أبوك.

وفي اللفظ الآخر: يا رسول الله، مَن أبرُّ؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب، فدلَّ ذلك على أنَّ حقَّها مُقدَّم ثلاث مرات، وهو في الرابعة: الأب، وما ذاك إلا لما تُعانيه في صغره، وفي حمله من الأذى؛ فلهذا شرع الله مُكافأتها بأن جعل حقَّها أكبر، والإحسان إليها أهم، وعقوقهما جميعًا من الكبائر والقبائح.

أما وأد البنات: فهذا كان من عادة بعض الجاهلية، كان من عادة بعض الجاهلية؛ إمعانًا في الخوف من العار، كانوا يأدون البنات، ويخافون أنها إذا كبرت تزني، فتكون سبَّةً عليهم، وهذا من جهلهم، بالغوا وزادوا حتى قتلوهنَّ حيَّات، ودفنوهن حيات، وهذا من مُنكراتهم وخُبثهم الذي نهى الله عنه ورسوله، فلا يجوز قتلها، بل يجب صيانتها، والإحسان إليها، والقيام عليها، وصيانتها عمَّا يُخاف منه، أما قتلها حيَّة بالدفن أو بالضَّرب أو بغير هذا من أنواع القتل كله لا يجوز، وهو من صفات الجاهلية.

وكان بعضُهم يقتل الأولاد أيضًا خوف الفقر، كما قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ يعني: الفقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151].

فالجاهلية لهم عادات سيئة: من قتل البنات خوف العار، وقتل الأولاد خوف الفقر، والله ينهى عن هذا كله ، وأوجب على الآباء الإحسان إلى الأولاد، والتربية الصالحة للأولاد، والله هو الذي يتولى رزقهم .

ومنعًا وهاتِ هذا ذنب ثالث، وهو أنَّ بعض الناس كان من سجيته الحرص على جمع المال بكل وسيلةٍ: من حلالٍ وحرامٍ، ثم مع الجمع يمنع الواجبَ، فهو يمنع ويطلب، معنى "هات" يطلب، "منع" يمنع الواجب، هذا من عادة الأشحاء والبخلاء، إذا زاد بخلُه وزاد شحُّه صار يطلب المالَ من كل وسيلةٍ، ومن كل طريقٍ: من حِلٍّ وحُرمةٍ، ثم يجمعه ولا يُخرج حقَّه، فيكون بخيلًا شحيحًا يمنع ويطلب؛ فلهذا حرَّم الله ذلك ونهى عنه على يد نبيه عليه الصلاة والسلام: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

وأما قوله ﷺ: ويكره لكم قيل وقال، وفي اللفظ الآخر: ويسخط لكم قيل وقال معناه الحثّ على قلة الكلام، والحرص على عدم التَّوسع؛ لأنَّ التوسع في الكلام يُفضي إلى الكذب، ويُفضي إلى الغلط.

فينبغي للمؤمن أن يكون قليلَ الكلام إلا في الخير؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، وفي حديث أم سلمة: الإنسان في عافيةٍ ما لم يتكلم، فإن تكلم فله أو عليه أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فالحاصل أنَّ الإنسان في عافيةٍ ما لم ينطق، فإن نطق فقد تعرض للخطر، فينبغي له أن ينطق بالخير، ويسكت عمَّا سواه: إما خيرًا، وإما الصمت، هكذا ينبغي للمؤمن، والصمت يكون عن الشرِّ، لا عن الخير.

وفي الحديث الآخر: بئس مطية الرجل: زعموا، وفي الحديث الآخر: كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمع، فينبغي للمؤمن أن يختار الكلام الطيب ويتكلم به، وأن يكفَّ عن الكلام السيئ، وألا يأخذ مما يسمع إلا الطيب، لا يُحدث بكل ما سمع، بل يختار وينظر، فينظر الطيب الذي ينفع الناس، ويدع ما سواه.

أما إضاعة المال معناه: عدم حفظه، بل يضيعه في الحرام، أو في اللعب واللهو، أو في أشباه ذلك مما ليس فيه فائدة، والمال له شأن، وله فائدة كبيرة في أمر الدين والدنيا، فالواجب حفظه وصرفه فيما ينفع، أما إضاعته فلا تجوز؛ لأن إضاعته تُعتبر سرفًا وتبذيرًا باطلًا لا يجوز، والله يقول: وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:26].

فالمؤمن يصون المال، ويصرفه في وجهه، ويقتنيه من وجهه، ويكسبه من وجهه .....، وهو مسؤول عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ فعليه أن يتَّقي الله في كسب المال؛ حتى لا يكسبه إلا من الطريق الحلال، وعليه أن يتَّقي الله في صرفه، فلا يُضيعه في الملاهي، وفي الخمور، وفي المعاصي، أو في اللعب واللهو الذي لا خيرَ فيه، أو ما أشبه ذلك مما يُعدُّ باطلًا، ويُعدُّ تبذيرًا، ويُعدُّ سفهًا وفسادًا، فالمال له شأن، وهو يعين على الخير لمن أحسن التَّصرف فيه.

أما كثرة السؤال: فهذا فسره أهلُ العلم على وجهين:

أحدهما: كثرة السؤال في الدنيا في طلب المال، وهذا لا ينبغي، ينبغي للإنسان ألا يسأل إلا عند الضَّرورة؛ ولهذا يقول ﷺ: لا يزال الرجلُ يسأل الناسَ حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحمٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ويقول ﷺ: مَن سأل الناس أموالهم تكثُّرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثر رواه مسلم.

فالواجب الحذر، وفي حديث قبيصة: إنَّ المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثةٍ: رجل تحمل حمالةً فحلت له المسألة حتى يُصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحةٌ اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يُصيب قوامًا من عيشٍ، ورجل أصابته فاقةٌ حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحجى من قومه يقولون: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ، قال: وما سواهن يا قبيصة فهو سحت، يأكله صاحبه سحتًا رواه مسلم.

هذا يُبين لنا أنَّ المسألة إنما تحل في هذه الوجوه الثلاثة، أما أن يسأل تكثُّرًا وحرصًا على الدنيا فهذا لا يجوز؛ ولهذا قال: وكثرة السؤال يعني: زيادة على الحاجة.

المعنى الثاني: كثرة السؤال في العلم، وهذا محمول عند أهل العلم على مَن يسأل تعنُّتًا، ويتطلب الأغلوطات وإيذاء المسؤولين وإيقاعهم في المشاكل والغلط، فهذا هو المذموم، أما مَن يسأل لطلب العلم، وللفائدة، وليستفيد وليعلم الحقَّ، ويقتصد في السؤال، ولا يطلب الأغلوطات، ولا يقصد إظهار الاستفادة على الناس، أو جودة فهمه، أو الرياء، فهذا لا حرجَ عليه، لكن يقتصد، ويكون سؤاله اقتصاديًّا، يتحرى الشيء المهم ويسأل، ولا يُؤذي المسؤولين بالأغلوطات والمشاكل التي قد تخفى عليهم أو تُعطلهم عمَّا هو أهم، ولا يقصد الرياء وإظهار أنه أحسن من غيره، أو أنه أعرف من غيره، أو ما أشبه ذلك، بل يكون له قصد صالح، ونية صالحة، ويتحرى المسائل التي يحتاج إليها، هذا هو الذي ينبغي له، أما كثرة السؤال من غير نظرٍ ولا عنايةٍ فهو شيء مذموم.

والرابع: حديث عبدالله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين، هذا كالذي قبله في الحثِّ على العناية بالوالدين، واكتساب رضاهما بالكلام الطيب، والفعل الطيب، والسيرة الحميدة، وليحذر سخطهما؛ فإنَّ إسخاطهما داخلٌ في العقوق فيجب الحذر.

والحديث الخامس: حديث أنسٍ عن النبي ﷺ أنه قال: لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لجاره -أو قال: لأخيه- ما يُحبُّ لنفسه.

وفي "الصحيحين" من حديث أنسٍ الجزم: لا يُؤمن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه.

فالمؤمن يُحب لجيرانه ويُحب لإخوانه المسلمين ما يُحب لنفسه، ليس في قلبه شكٌّ، ولا غلٌّ على إخوانه، ولا كراهة، ولا حسد، بل يحب لهم الخير، ويكره لهم الشر، فإذا كان في قلبه عليهم غلٌّ فهذا دليلٌ على ضعف الإيمان، ليس إيمانه كاملًا، بل يكون إيمانه ضعيفًا؛ ولهذا قال: لا يؤمن أحدُكم يعني: الإيمان الواجب الكامل، فالمؤمن الكامل هو الذي يُحب لإخوانه ويُحب لجيرانه ويُحب لأقربائه ويُحب للمسلمين كلَّ خيرٍ، ويكره لهم كلَّ شرٍّ، هكذا المؤمن، وهكذا الإيمان يحمل أصحابه على ذلك.

فإذا رأيتَ من نفسك شيئًا خلاف هذا فاعرف أنه ضعف في الإيمان، إذا رأيت من نفسك حسدًا أو غشًّا لإخوانك أو ظلمًا لهم فاعرف أنه نقص في إيمانك، وضعف في إيمانك، فتب إلى الله منه، وسارع إلى الرجوع من ذلك.

والحديث السادس: حديث ابن مسعود ، يقول النبيُّ ﷺ لما سأله ابنُ مسعودٍ: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قال: قلتُ: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تُزاني حليلة جارك.

هذا يدل على أنَّ هذه الخصال الثلاثة أعظم الذنوب، أعظمها الشرك، وهو أعظم الذنوب وأقبحها، وأعظم الجرائم؛ لأنه ..... بالله، وسُوء ظنٍّ به، وهضم لجنابه؛ فلهذا صار أعظم الذنوب، نسأل الله العافية، وهو صرف بعض العبادة لغير الله، أو اعتقاد تشريكٍ للمخلوق مع الله في تصرفه في العبادة، فهذا كله من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يُغفر، سواء كان شركًا في الربوبية، أو شركًا في الإلهية، أو في الأسماء والصِّفات، نسأل الله العافية، وهو أعظم الذُّنوب، فيجب الحذر من ذلك.

ثم يلي ذلك: القتل؛ قتل النفوس بغير حقٍّ من أقبح الظلم، وإذا كان القتلُ للأولاد أو الوالدين صار أقبح وأعظم في الجريمة، يكون جامعًا بين القتل، وبين قطيعة الرحم، نسأل الله العافية.

ثم يلي ذلك: الزنا، وتقدم في حديث أبي بكرة جعل العقوق مكان القتل مما يلي الشرك، فالعقوق والقتل كلاهما من أقبح الجرائم، وكلاهما قرين الشرك، نسأل الله العافية.

وهكذا الزنا فهو من أقبح الفواحش، وإذا كان بزوجة الجار أو بالمحارم صار أقبح وأقبح، نسأل الله العافية: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وهنا جعله الله مع القتل، وجعله الله مع الشرك؛ تنفيرًا منه، وتحذيرًا منه، وإذا كان مع زوجة الجار الذي يجب الإحسانُ إليه، وكفُّ الأذى عنه؛ صار أعظم في القبح، وأعظم في الإثم.

وقد أنزل الله في ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ۝ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ۝ إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:68- 70]، من رحمة الله أنَّ مَن تاب من الشرك أو العقوق أو القتل أو الزنا أو غيرها تاب الله عليه، إذا كانت التوبةُ صادقةً؛ فيها الندم على ما مضى، وفيها الإقلاع من الذنوب، وفيها العزم الصادق، ثم أتبعها بالإيمان والعمل الصالح، كان هذا من أسباب محو الله لذنوبه، وإبدال سيئاته حسنات؛ فضلًا منه وإحسانًا .

فينبغي للمؤمن أن يُحاسب نفسه، وأن يتحرى التوبة الصادقة، وأن يلزمها، وأن يتبعها بالإيمان الصادق والعمل الصالح، والله يتوب على التائبين، سواء كان الذنبُ شركًا -وهو أعظم الذنوب- أو كان غير ذلك: من قتل، أو عقوق، أو زنا، أو قطيعة رحم، أو شرب مسكر، أو غير هذا من أنواع الذنوب.

وهكذا الحديث السابع: حديث عبدالله بن عمرو، يقول ﷺ: من الكبائر شتمُ الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، هل يسبُّ الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمَّه فيسب أمه.

هذا يُبين لنا أنَّ لعن الوالدين قسمان: لعن مباشر، وهذا أقبح، كأن يقول: والله لعن الله فلانًا أو فلانة، يعني: أباه وأمه، هذا هو اللعن المباشر، وهو أقبح في الإثم، وأشدّ في الجريمة.

السب الثاني: سبّ الناس، يسبّ آباء الناس، ويسب أمهات الناس، فمن أجل هذا يسبون أباه، ويسبون أمَّه، فيكون مُتسببًا في ذلك، فيكون أيضًا آثمًا؛ لأنه سبَّ آباء الناس حتى توصل الناسُ إلى سبِّ أبيه وسبِّ أمه بأسبابه.

رزق الله الجميع العافية والسلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

س: ..............؟

ج: ما أدري، ما أعرف صحة سنده.

س: بالنسبة لضابط العقوق: الذي هو يُؤثر في نفس الوالدين، أو المخالفة بدون تأثيرٍ؟

ج: العقوق في كل شيءٍ يُؤذيهما ويضرّهما: مقال، أو فعال، أما الشيء الذي لا يضرّهم ولا يُؤذيهم، لكن لهم هوى في شيءٍ، لا يُسمَّى: عقوقًا.

يقول الشيخُ تقي الدين رحمه الله وجماعة: ضابط العقوق أنه الشيء الذي يضرّ، ويُدخل عليهم الأذى، أما شيء لا يضرّهم، وهو ينفع الولد، فهذا ليس عقوقًا.

فلو بقي على زوجةٍ صالحةٍ، وهما لم يرضيا عنها، ولكنها لم تُؤذِهما، ولم تسبَّهما، ولم تفعل معهما شرًّا، ولكنهما ما يُحبونها، فلا يُسمَّى: عاقًّا إلا إذا كانت تُؤذيهما بشيءٍ، أو هو يُؤذيهما بشيءٍ، أما ما دامت سليمةً وطيبةً، ولكنَّهما يأمرانه بطلاقها من دون علةٍ، ما يُسمَّى: عقوقًا، كذلك لو منعوه من طلب العلم، أو منعوه من مجالسة الأخيار، لا يُطيعهما، إنما الطاعة في المعروف، فالضابط أن يكون ما طلبوه شيئًا ينفعهم ويضرّهم تركه، أما إذا طلبوا شيئًا يضرّه هو ولا ينفعهم فهذا عدوان منهم، ولا يُسمَّى عقوقًا.

..........

الطالب: قال الإمامُ أبو داود في "سننه": كتاب الأدب، باب ما جاء في ردِّ الواحد عن الجماعة.

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا عَبْدُالْمَلِكِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجُدِّيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ.

الشيخ: هذا هو سعيد بن خالد، هو علة الحديث.

الطالب: قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُفَضَّلِ.

الشيخ: عبدالله بن الفضل.

الطالب: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .

قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ. قَالَ: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ.

قول أبو داود في آخر السند: "رفعه الحسنُ بن عليٍّ" معناه: أنَّ هذا الحديث يرويه الشيوخُ موقوفًا من كلام عليِّ بن أبي طالبٍ، ورفعه شيخُ أبي داود: الحسن بن عليٍّ إلى النبي ﷺ بمعنى جعله منسوبًا إليه من كلامه، فيكون مرفوعًا في اصطلاح المحدثين، ولا يضرّ رفع الحسن بن علي .....؛ لأنه ثقة، فيكون ذلك من باب زيادة الثقة، سيما ..... على الذين خالفوه ووقفوه على عليِّ بن أبي طالبٍ حتى يعتبر حاله معهم، وضبطهم لضبطه.

ولم ينفرد الحسنُ بن عليٍّ برفعه، بل رفعه جماعةٌ: ومنهم أبو يعلى، وأبو شيبة داود بن إبراهيم، قال: حدثنا عبدالأعلى بن حماد، قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، عن سعيد بن خالد، به. كما هو عند ابن السني في "عمل اليوم والليلة".

والحديث في إسناده سعيد بن خالد الخزاعي، قال في "التقريب": المدني، ضعيف. وقال الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" بعد ذكره لحديث عليٍّ هذا: حسن، رواه أبو داود ..... في "الأماني"، وأبو بكر الشَّافعي في "الفوائد"، وأبو يعلى في "مسنده"، وأبو سعيد النَّيسابوري في "الأربعين".

الحديث الرابع ......

1475- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1476- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1477- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ.

1478- وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ.

1479- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1480- وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1481- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

الشيخ: هذه الأحاديث السبعة كلها تتعلق بالبر والصلة كما ترجم المؤلفُ:

الحديث الأول: حديث أبي أيوب الأنصاري، وهو خالد بن ..... ، صحابي جليل مشهور، نزل عنده النبيُّ ﷺ لما هاجر إلى المدينة.

يقول : عن النبي ﷺ أنه قال: لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام متفق على صحته.

هذا الحديث الجليل وما جاء في معناه يدل على تحريم التَّهاجر بين المسلمين، وقد استفاضت الأحاديثُ في هذا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في تحريم التَّهاجر والتَّحاسد والتَّباعد والتَّباغض، وأنَّ الواجب على المسلمين أن يكونوا بناءً واحدًا، وجسدًا واحدًا، إخوةً مُتحابين في الله، كما قال : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، وقال ﷺ: لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضُكم على بيع بعضٍ، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يكذبه، ولا يخذله الحديث رواه مسلم.

وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه ﷺ قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه، مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، مَن نفَّس عن مسلمٍ كربةً، نفَّس الله عنه بها كربةً من كُرب يوم القيامة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة، الأحاديث في هذا المعنى كثيرة.

وروى مسلم عن أنسٍ، وابن عمر، وأبي هريرة نحو حديث أبي أيوب في تحريم الهجر فوق ثلاثٍ، في بعض لفظها: لا هجرةَ فوق ثلاثٍ، وفي بعضها: لا هجرةَ فوق ثلاثة أيام.

كل هذا يدل على أنَّ الواجب على المسلم ألا يزيد في الهجر على ثلاثٍ، أما الثلاث فلا بأس؛ لأنَّ النفوس قد يعتريها ما يعتريها من الغلظ والشدة والكراهة للشَّخص بسبب الخصومة، أو مضاربة، أو أي عدوانٍ؛ فيصعب عليه أن يُكلمه، فمن رحمة الله أن أباح الهجر ثلاثة أيام؛ حتى يخفَّ ما في النفوس من التَّأثر: من خصومةٍ، أو مُضاربةٍ، أو مسابَّةٍ، أو نحو ذلك، ثم خيرهما وأفضلهما الذي يبدأ بالسلام.

وهذا كله يدل على أنَّ الواجب على المؤمنين أن يترفعوا فوق أسباب الفرقة والاختلاف، وأن يتحمَّلوا ما يقع بينهم من الخصومات، وأن يُنصف بعضُهم بعضًا من حقوقٍ؛ حتى تبقى المودة والمحبَّة والأخوة والتَّعاون على البرِّ والتقوى، وإذا دعت الحاجةُ إلى الهجر فليكن ثلاثة أيامٍ فأقلّ؛ حتى يخفَّ ما في النفوس، وخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام.

الحديث الثاني حديث جابرٍ: يقول ﷺ: كل معروفٍ صدقة، هذا عامّ، كل شيءٍ يُعدّ معروفًا في العُرف: من كلمةٍ طيبةٍ، من شفاعةٍ حسنةٍ، من مُواساةٍ، من غير ذلك من وجوه الخير كله يُعتبر صدقةً على أخيك؛ لما فيه من جمع القلوب وتأليفها وتقاربها.

هكذا رواه البخاري من حديث جابرٍ، وروى مسلم مثله من حديث حذيفة، وفي لفظٍ: كل معروفٍ صدقة، فالمتن متَّفق عليه، والصحابي مختلف: فعند مسلمٍ صحابيه حذيفة، وعند البخاري صحابيه جابر.

وهكذا حديث أبي ذرٍّ: يقول ﷺ: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلقٍ بإسكان اللام، يعني: منبسط.

وجاء في روايةٍ أخرى: "طليق" بزيادة ياء، طليق: منبسط، ليس معبسٍ.

هكذا ينبغي للمؤمن عند اللِّقاء لأخيه، وعند المقابلة، يكون وجهه طلقًا مُنبسطًا، لا مُكْفَهِرًّا، ولا مُعبِّسًا.

والحديث الثالث: إذا طبخت مرقةً فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك.

هذان الحديثان كلاهما فيهما من البرِّ والصلة ما يجمع القلوب؛ فانطلاق الوجه، وبساطة الوجه، وتعاهد الجيران بالصلة، كل هذا من أسباب التألف، ومن أسباب تقارب القلوب وتعاونها على الخير.

هكذا حديث ابن مسعودٍ -وهو الحديث الخامس- يقول ﷺ: مَن نفَّس عن مسلمٍ، وفي اللفظ الآخر: عن مؤمنٍ، كربةً من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كُرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسرِ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه رواه مسلم.

تقدم قول ابن عمر في "الصحيحين" عن النبي ﷺ أنه قال: المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يُسلمه، مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.

فهذان الحديثان وما جاء في معناهما من الأحاديث الكثيرة تدل على شرعية التَّعاون بين المسلمين على البرِّ والتَّقوى، وأن كل مسلمٍ يرفق بأخيه، ويعطف عليه، ويرحمه، ولا يظلمه، ولا يُسلمه لظالميه، بل يُعينه على دفع الظلم، لا يظلمه، ولا يُسلمه، وهو معنى "لا يخذله"، يعني: يكون ناصرًا له في الحقِّ، مُعينًا له في الحقِّ في حاجته: في رفع ظلامةٍ عنه، في [أن] يشفع شفاعةً حسنةً تنفعه، في قضاء دَينه، في إخراجه من السجن إذا كان سُجن بغير حقٍّ، في الزواج ..... مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته هذا عامّ، والحاجات متنوعة.

وهكذا حديث أبي هريرة : والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه، فلو عمل المسلمون بهذه الأحاديث وما في معناها لزال كلُّ شرٍّ، ولحصل كلُّ خيرٍ، ولاتَّحد جمعُهم، ونصرهم الله على عدوهم.

فنسأل الله أن يُصلح أحوالهم، وأن يجمعهم على الهدى.

والحديث السادس حديث أبي مسعودٍ: وهو عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، في بعض النسخ: ابن مسعود، وهو غلط، الصواب: أبو مسعود. هذا من رواية أبي مسعودٍ البدري الأنصاري، وهو عقبة بن عمرو.

يقول ﷺ: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله رواه مسلم.

وهذا حديث عظيم من جوامع الكلم، فينبغي للمؤمن وطالب العلم ولغيره من المسلمين أن يحرص على الدلالة على الخير، يدل إخوته على الخير في دينهم ودنياهم، يدلهم على ما ينفعهم، وأعظم ذلك ما ينفعهم في الدِّين.

مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله أرشدته إلى معروفٍ فعمل به: من برِّ والدين، من صلة رحمٍ، من بدء سلامٍ وردّ سلامٍ، من تشميت عاطسٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، إلى غير هذا، إذا انتفع بقولك يكون لك مثل أجره، ولو نهيته عن منكرٍ فامتثل وترك المنكر يكون لك مثل أجره، هذا شيء لا يُحصر، أبوابه كثيرة.

فينبغي للمؤمن ألا يحقر نفسه، ولا سيما طالب العلم، بل يبذل المعروف، ويدل على الخير، ولا ييأس، ولا يقول: هذا لا يسمع، أو لا يستجيب، أو هؤلاء لا يستجيبون، يبذل والله الموفق والهادي .

هكذا الحديث السابع: حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ أنه قال: مَن سألكم بالله فأعطوه، ومَن استعاذكم بالله فأعيذوه، ومَن أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له.

اختصره المؤلف رحمه الله، وتمامه: فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه، وفي روايةٍ أخرى: حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه، وفي روايةٍ أخرى: ..... ومَن دعاكم فأجيبوه.

وذكره الشيخُ محمد رحمه الله في كتاب "التوحيد"، وعزاه لأبي داود والنَّسائي.

المقصود أنه حديث جليل جيد عظيم، يدل على أنه ينبغي لأهل الإيمان فيما بينهم هكذا: مَن سأل بالله فأعطوه تعظيمًا لله ، ولا ينبغي السؤال لله، كما جاء النَّهي عن ذلك، لكن لو فعل فينبغي أن يُعطى إن تيسر ذلك، إن كان فقيرًا يُعطى ما تيسر، فيُعطوه من الزكاة إن كان من أهلها، وإن كان يطلب الإنظار وهو يستحقّ الإنظار أُنظر.

أما إذا طلب ما لا يستحق فلا حقَّ لهم في هذا؛ فلو سأل بالله ألا تُؤخذ منه الزكاة، فلا يُطاع، أو سأل بالله ألا يُوفى الدَّين الذي عليه، لا يُطاع؛ لأنه سأل شيئًا لا حقَّ له فيه، ولا وجهَ، فسؤاله خطأ.

كذلك إذا استعاذ بالله يُعاذ، إلا إذا كان يستعيذ من شيءٍ لازمٍ له، فلما استعاذت ..... من النبيِّ ﷺ قال: لقد عُذْتِ بمعاذٍ، الحقي بأهلك، فإن قال: أعوذ بالله أن تُلزموني بكذا، شيء ليس لازمًا له، أو أعوذ بالله أن تأخذوا مني [ما] لا حقَّ لكم فيه، يُعاذ، وما أشبه ذلك من الأشياء التي له فيها حقٌّ، وليست لازمةً له.

أما أن يستعيذ بشيءٍ لازمٍ، كأن يقول: أعوذ بالله أن تأخذوا الدَّين الذي عليَّ، أو أعوذ بالله أن تأمروني بالمعروف وتنهوني عن المنكر، لا يُطاع؛ لأنه استعاذ بالله من شيءٍ الله أمر .....، وأمر بإلزامه به.

وهكذا إذا دعا يُجاب، إلا إذا دعا إلى منكرٍ، أو دعا إلى وليمةٍ فيها منكر فلا يُجاب، إلا إذا كان المدعو يستطيع إزالة المنكر، هكذا يقول ﷺ: مَن أتى إليكم معروفًا فكافئوه، صنع إليكم صنيعةً طيبةً يُكافأ على معروفه .....

وكان النبيُّ ﷺ يقبل الهديةَ، ويُثيب عليها، فإذا صنع معروفًا من شيءٍ ينفعه: من إصلاح جدارٍ، إصلاح سيارة، قضاء دَين عنه، إلى غير هذا من الوجوه التي تستطيع أن تُكافئه فيها تُكافئه، فإن عجزت تدعو له حتى ترى، أي: تعلم، وضبطها بعضُهم: "تروا" بالضم، بمعنى: تظنوا، ولكن جاء في الرواية الصحيحة: "تعلموا"، وهو يدل على أنَّ المعنى: تروا، بفتح التاء، تعلموا، يعني: يجتهد ويحرص حتى يدعو له دعوات كثيرة يعلم معها أنه كافأه على معروفه الذي لم يستطع أن يُكافئه عليه بالعمل.

وهذا من مكارم الأخلاق، ومن محاسن الأعمال، ومن طيب الشِّيَم، أما الإعراض عمَّن أحسن إليك وكأنه ما فعل ذلك فليس من مكارم الأخلاق.

وفَّق الله الجميع.

س: الهجر يزول بمجرد السلام وإن كان في القلوب شيء؟

ج: يزول بالسلام نعم، أما القلوب إلى الله، يجتهد كل واحدٍ بزوال ما في قلبه، لكن إذا بدأ بالسلام وردَّ زال الهجر، لكن عودهما على حالهما الأولى أكمل إذا تيسر.

س: ..............؟

ج: ما يجوز، لا بدَّ من السلام.

...............

بَابُ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ

1482- عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ- إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1483- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1484- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِك، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

1485- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.

1486- وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

الشيخ: هذا الباب في الزهد والورع، يقصد أهلُ العلم بالزهد أي: الزهد فيما يشغل عن الآخرة من الدنيا وشؤونها، والرغبة في الآخرة والإعداد لها، ويدخل في ذلك: الزهد في الحرام والمكروهات وبعض المباحات التي قد تشغل عن الآخرة، وقد تُسبب عقبات ضدّ العمل الصَّالح.

فينبغي للمؤمن أن يكون عنده زهادة في كلِّ ما يُضعف همَّته ورغبته في الآخرة من مشاغل الدنيا وشؤونها، أن يكون قوي الاستعداد للآخرة، قوي الرغبة فيما عند الله ، ولكن لا يمنعه ذلك من العمل للدنيا، والاستغناء عمَّا في أيدي الناس من البيع والشِّراء، والزراعة، والصناعة، ونحو ذلك؛ حتى يستغني عمَّا في أيدي الناس، لكن لا تشغله هذه الرغبة، ولا تشغله هذه الأعمال عن الإعداد للآخرة، بل قلبه زاهد فيها، راغب فيما عند الله، وإنما يعمل ما يعمل ليستعين بذلك على طاعة الله ورسوله، ويستغني عمَّا في أيدي الناس.

وهكذا الورع، وهو الورع عن المشتبهات التي قد يكون فيها حرام أو مكروه، فيتورع عن ذلك، ويكتفي بما اتَّضح له، وبان له وجهه، ويتورع عمَّا قد تكون فيه شبهة أو كراهة؛ حرصًا على سلامة دينه، وإبراء دينه مما قد يعتريه من محرَّمٍ أو مكروهٍ أو مُشتبهٍ؛ ولهذا بدأ بالحديث الأول -حديث النعمان- لأنه يتضمن هذا المعنى، وحديث النعمان هذا حديث عظيم جليل، حتى جعله بعضُ أهل العلم ربع الدِّين، كما قال بعضُهم:

عمدة الدِّين عندنا كلمات أربع من كلام خير البريه
اتَّقِ الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيه

فبدأ بقوله: "اتَّقِ الشبهات".

وهو حديث جليل عظيم؛ ولهذا لما حدَّث به النعمان أهوى بيديه إلى أذنيه، يعني: أني سمعتُه من رسول الله بأذني، أو المعنى: صُمَّتا إذا لم أكن سمعتُهما من رسول الله عليه الصلاة والسلام: إنَّ الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مُشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، ومَن اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشُّبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يُوشك أن يقع فيه، ألا وإنَّ لكل ملكٍ حمى، ألا وإنَّ حمى الله محارمه، ألا وإنَّ في الجسد مُضغةً إذا صلحت صلح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله، ألا وهي القلب متَّفق عليه.

هذا الحديث العظيم من أصحِّ الأحاديث وأثبتها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو مشتمل على معانٍ عظيمةٍ:

أولها: بيَّن ﷺ أنَّ الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، يعني: في كتاب الله، وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والمعنى: فيجب الأخذ بالحلال واعتقاده، وترك الحرام والحذر منه؛ لأنه شيء بيِّن، فيجب على المسلمين اعتقاد الحلال والالتزام به، واعتقاد الحرام والالتزام به.

ثم قال: وبينهما مُشتبهات يعني: أمورًا قد تشتبه على بعض الناس؛ ولهذا قال: لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس يعني: كثير من الناس ضعف علمه، فلا يعلم بعض الأشياء، فينبغي في مثل هذه الحال التوقف عنها وتركها حتى يبين أمرها؛ ولهذا قال: لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس؛ تارة في الأوامر، وتارة في النَّواهي.

فينبغي للمؤمن أن يتحرى ولا يعجل حتى يتَّضح له الأمر: إما بالدِّراسة أو المطالعة والمذاكرة، وإما بسؤال أهل العلم عمَّا اشتبه عليه، فلا يقدم على المشتبهات التي قد تكون محرمةً فيرتكبها، أو تكون واجبةً فيضيعها، بل ينبغي له التَّثبت والعناية والصبر حتى يتَّضح له الأمر بطلب العلم والاجتهاد في الفحص عن هذا المشتبه، أو بسؤال أهل العلم، إن كان لا يستطيع تخليص ذلك بنفسه واجتهاده.

ثم قال: فمَن اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه يعني: اتَّقاها وحذرها حتى يتبين أمرها، فقد أخذ بالبراءة لدينه ولعرضه؛ حتى لا يُسبَّ عرضه ولا يُمتهن، واستبرأ لدينه حتى لا يقع في الحرام، أو في تضييع الواجب.

ومَن وقع في الشبهات بأن ترك بعض الأوامر، أو ارتكب بعض النَّواهي التي اشتبه أمرها عليه؛ جرَّه هذا إلى الوقوع في الحرام؛ ولهذا قال: وقع في الحرام، وفي اللفظ الآخر: يُوشك أن يقع في الحرام، والمثال يدل على هذا المعنى: فإنَّ ارتكاب الشُّبهات وسيلة إلى الوقوع في الحرام؛ لأنه يُضعف القلب، ويُضعف الإيمان، فيتساهل حينئذٍ فيقع في الحرام؛ لأنه إذا أخذ بالشُّبهات ضعفت القوة التي في قلبه بارتكاب الحرام؛ لأنَّ الشبهات حاجز، والمنكرات حاجز، فإذا ارتكبها وتساهل بها تساهل بعد ذلك في ركوب الحرام، وضعفت الغيرة، وضعف الامتناع الذي في قلبه، أضعفه تعاطيه المشتبهات.

كالراعي يرعى حول الحمى يُوشِك أن يقع فيه فالراعي إذا أبعد رعيته عن الحمى سهل عليه أمر السلامة، وخفَّ عليه الخطر، لو نام أو غفل بإمكانه أن ينتبه قبل أن تصل إلى الحمى؛ لبُعدها عنه، لكن متى رعاها حول الحمى عند أقلّ غفلةٍ أو نعسةٍ ربما تقع في حمى الناس وفي زروع الناس فتُفسدها عليهم.

فالحيطة أن يبتعد [عن] الحمى بماشيته حتى لا يقع فيه، هكذا المؤمن بابتعاده عن المشتبهات هو قريب من السلامة، فإذا وقع في المشتبهات قرب من الخطر.

وفي حديث الحسن بن علي: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك هو بهذا المعنى.

وفي حديث ابن عمر: لا يبلغ عبدٌ درجةَ المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.

فالمقصود أنَّ المؤمن يكون عنده من الحيطة والعناية والبُعد عن المشتبهات التي يقف فيها فكره وقلبه، لا يجزم في احتياطه وفي بُعده عنها؛ سلامةً لدينه، وسلامةً لعِرضه، وبُعْدًا له عن الوقوع في الحرام، ومتى وقع في التَّساهل بهذه الأمور صار يُشبه حال الراعي الذي يرعى إبله أو بقره أو غنمه حول مزارع الناس.

ثم ذكر أمرًا آخر، وهو أنَّ المحارم هي حمى الله ، وهذا يُبين تحريمها، والخطر في ارتكابها، وأنَّ الواجب على المؤمن أن يبتعد عن هذا الحمى الذي هو حمى الله ، وذلك بالحذر من السيئات، والحذر من المشتبهات جميعًا.

ألا وإنَّ لكل ملكٍ حمى، ألا وإنَّ حمى الله محارمه فإذا كان الملوكُ يغضبون إذا انتُهك حماهم، وربما عاقبوا وسجنوا، فالله جلَّ وعلا أولى وأولى وأولى بأن يُبتعد عن حماه ولا يُنتهك، وحماه هو المعاصي، فحمى الله هو محارمه التي حرَّم على عباده، فيجب أن يحذر من انتهاكها وارتكابها والتَّساهل فيها.

ثم التَّساهل بها يجرُّ إلى قسوة القلب ومرضه حتى يقع فيما هو أكبر من الشرك بالله ؛ لأنَّ المعاصي بريد الكفر، كما أنَّ المرض بريد الموت.

ثم ذكر القلب وشأنه، وأنَّ شأنه عظيم، وأنه محور النَّجاة، ومدار السلامة، فمتى صلح صلح الجسد، ومتى فسد فسد الجسد: ألا وإنَّ في الجسد مُضغة سمَّاه: مُضغةً؛ لأنه يُشبه المضغة: اللَّحمة التي قد مُضغت بعض المضغ، فهذه المضغة -وهي القلب- متى عمرها بالتوحيد والإيمان والخشية لله والتَّعظيم لحُرماته والمراقبة له صلح الجسد، واستقام أمره، وانقادت جوارحه لكل خيرٍ، ومتى فسدت هذه المضغة بالشُّكوك والأوهام والنِّفاق واستيلاء سواد الذنوب عليه انقادت الجوارح بالشَّر والفساد.

فالواجب على المؤمن أن يسعى جاهدًا في إصلاح قلبه بالإكثار من ذكر الله وطاعته، والحذر من المعاصي، ومُراقبة الله وخشيته سبحانه؛ حتى يبقى هذا القلبُ نقيًّا سليمًا بعيدًا عن سواد الذنوب، والله المستعان.

والحديث الثاني حديث أبي هريرة : أنَّ النبي ﷺ قال: تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبدُ القطيفة؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ لم يرضَ.

المؤلف اختصره، وتمامه: تعس عبدُ القطيفة، تعس عبد الخميلة؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط، تعس وانتكس، وإذا شيكَ فلا انتقش، طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث، أغبر، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السَّاقة كان في السَّاقة، إن استأذن لم يُؤذن له، وإن شفع لم يُشفع.

فالمؤلف يُبين بهذا أنَّ العبد إذا كانت همَّته تبع الدنيا صار عبدًا لها، وإن كانت همَّته تبع الآخرة صار عبدًا لله ؛ ولهذا قال: تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبدُ القطيفة وهي كساء جميل له نقوش، تعس عبدُ الخميلة كساء ليس له نقوش، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط فهو عبدٌ لها: يرضى لها، ويغضب لها، هكذا عبد السوء.

أما المؤمن فهو عبد الله؛ يُرضيه ما يُرضي الله، ويُسخطه ما يُسخط الله جلَّ وعلا، ويستعين بهذه النِّعَم من الدَّراهم والدَّنانير والملابس وغيرها، يستعين بها على طاعة الله، ولا يعبدها، وإنما يعبد الله وحده جلَّ وعلا، ويستعين بما يسَّر الله له من الدنيا على طاعته سبحانه، ولا تستعبده هذه الدنيا وتجعله عبدًا لها؛ لكمال إخلاصه، وكمال إيمانه، وكمال يقينه.

فعلى العبد أن يجتهد في ذلك، وأن يحذر أن تستعبده هذه الدنيا؛ لئلا يقع في أسباب الهلاك، فإنَّ مَن استعبدته صار عبدًا لها: يرضى لها، ويغضب لها، وثقلت عليه أعمالُ الآخرة، وشقَّت عليه أعماله، وخفَّت عليه أعمالُ الدنيا وشهواتها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

يقول: تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انتقش هذا وعيد ودُعاء عليه بالتَّعاسة؛ لكونه عبد الدنيا وغفل عن الآخرة ولم يجتهد في عبادة الله : تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش دعاء له بالتَّعاسة في أموره، وعدم تيسير أموره؛ حتى فيما يُصيبه من الشَّوكة، إذا أصابته لا يستطيع نقشها وأخذها وإخراجها.

وهذا كله من باب الوعيد، والتَّحذير للمؤمن أن يقع في هذه الأخلاق الذَّميمة، ووصية له، وتحريض له على أن يستقيم على عبادة الله والإخلاص له ، والحذر مما يميل قلبه إلى الدنيا حتى تستعبده، وحتى يكون عبدًا لها، وحتى يذهب عنه الإعداد للآخرة، أو يضعف هذا الإعداد للآخرة بسبب ما وقع في قلبه من رغبته في الدنيا وشهواتها وحظِّها العاجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

أما ما يتعلق بالمجاهدين والجهاد والرغبة في الآخرة فهذا شأنٌ آخر، لكن مقصود المؤلف هو أول الحديث.

والحديث الثالث حديث ابن عمر: أخذ رسولُ الله بمنكبه عليه الصلاة والسلام، وقال: كن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابر سبيلٍ.

هذا يدل أيضًا على الرغبة في الآخرة، وأنه لا يركن للدنيا؛ لأنه إذا ركن إليها عمل لها، واجتهد فيها، ونسي الآخرة، أما إذا أعدها دار غربةٍ فإنه يأخذ منها ما يحتاج إليه، ويستعد للآخرة بكل جهده، كالغريب في الوطن يمره؛ يأخذ حاجته منه: كالزاد، أو استئجار المطية أو السيارة، أو ما أشبه ذلك؛ حتى ينتقل إلى بلده.

فهكذا المؤمنُ في هذه الدار هو غريب فيها، فينبغي له أن يعدّ العدة لآخرته، وألا تشغله عن الآخرة، وألا يركن إليها حتى تميل به، وحتى تضعف قلبه عن إعداده للآخرة، بل يكون فيها كالغريب الذي يعدّ العدّة للانتقال والسَّفر، لا للبقاء فيها، والثبات فيها، والركون إليها.

وهكذا المؤمن ينبغي له أن يكون هكذا في دنياه، ليس راكنًا إليها، ولا راغبًا فيها، ولا مُعتبرًا لها وطنًا، وإنما هي دار سفرٍ، دار غربةٍ، يعمل فيها -في زراعته، أو تجارته، أو صناعته- عمل مَن يعدّ للآخرة، عمل مَن يستعين بهذه الآلات على طاعة الله ورسوله، وعلى نفع العباد وتوجيههم إلى الخير، لا عمل مَن هو راكن لها، راغب فيها، مُطمئن إليها، ضعيف الإعداد للآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولهذا كان ابنُ عمر يقول: "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"، هذا من كلام ابن عمر، يستفيد من هذا الحديث أن يعدَّ العدة، وأن يقصر الأجل، لا يطول الآمال؛ فإنه إذا طول الآمال ضعفت مسألة الإعداد، ولكن متى قصر الأمل عظم الإعداد للآخرة.

"إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح" وهذا معناه الإعداد للآخرة، والتَّأهب دائمًا دائمًا؛ لأنه لا يدري إذا أصبح هل يُمسي أم لا؟ وإذا أمسى لا يدري هل يُصبح أم لا؟ والواقع شاهدٌ بهذا، الواقع بين الناس شاهد بهذا، فكم من مُصبحٍ لم يُمسِ، وكم من مُمْسٍ لم يُصبح، فالواجب أن يعدَّ العدة دائمًا، وأن يحذر الغفلةَ؛ حتى إذا هجم عليه الأجلُ فإذا هو على استعدادٍ لآخرته، وعلى أهبةٍ للقاء ربِّه .

وهكذا الحديث الرابع: يقول ﷺ: مَن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، الكفَّار ركنوا إلى الدنيا، ورغبوا فيها، ونسوا الآخرة، والله حذَّرنا بقوله: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19].

فالواجب على المؤمن ألا يتشبَّه بهم، وألا يُضيع آخرته، بل يستعدّ للآخرة ويتأهَّب لها، ويحذر الركون إلى هذه الدار ركون الراغب فيها، المطمئن إليها، ولكنه يعمل فيها عمل المسافر، عمل الغريب الذي يريد أن ينتقل من بلد الغربة إلى وطنه، فالوطن في الحقيقة هو الجنة، هي وطننا، وهي محل أبينا سابقًا، فالواجب التَّأهب للانتقال إليها، والعودة إليها، والله المستعان.

الحديث الخامس حديث ابن عباسٍ: يقول النبيُّ ﷺ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله الحديث.

هذا حديث عظيم، كان النبيُّ ﷺ ذات يومٍ معه ابن عباسٍ، فقال: يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله هذا مما يُسبب صلاح القلب وثباته على الإيمان إذا حفظ ربه.

احفظ الله يحفظك حفظ الله بفعل الأوامر، وترك النَّواهي، يعني: بحفظ أوامره، وحفظ نواهيه، حفظ أوامره بالامتثال، وحفظ النَّواهي بالترك والاجتناب والحذر، والله ليس بحاجةٍ إلينا، إنما المقصود أن نحفظ أوامره، وأن ننصر دينه، مثل قوله سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد:7]، فالمعنى: نصر دين الله، ونصر أوامره، ونصر نواهيه، بالأمر بالأوامر، والنَّهي عن النَّواهي، والجهاد في سبيل الرب .

فهكذا احفظ الله يحفظك يعني: احفظ أوامره، واستقم عليها، واحفظ نواهيه بالحذر منها.

احفظ الله تجده تجاهك يعني: معك في كل شيءٍ، فإذا استقمتَ فهو أمامك؛ يُعينك على الخير، ويُوفقك ويُسهل طريقك: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، فهو مع أوليائه بالحفظ والتَّأييد والتَّوفيق والهداية، ومع العباد كلهم بالعلم والإحاطة سبحانه، وهو فوق العرش، فوق جميع الخلق ، لكن لا تخفى عليه خافية جلَّ وعلا.

فالعبد متى حفظ الله: بطاعة أوامره، وترك نواهيه، والإعداد للآخرة؛ حفظه الله، وصار معه ناصرًا ومُؤيِّدًا ومُوفِّقًا.

ثم قال: وإذا سألتَ فاسأل الله يعني: اضرع إليه في كل الأمور، وأخلص له العمل في كل الأمور، لا تغفل، لا تركن إلى المخلوق، المخلوق ضعيف، ليس بيده هدايتُك، ولا نجاتك، ولا غناك، ولا فقرك، ولكنه بيد الله .

إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله يعني: اطرح حوائجك له جلَّ وعلا، وألقها إليه، وتوجَّه بها إليه، فهو الذي يُعينك، وهو الذي بيده كل شيءٍ، فهو الذي يقضي الحوائج، ويُسهل الأمور متى لجأت إليه، واستقمت على دينه، وأخذت بالأسباب النافعة التي شرعها لك وأباحها لك .

وهكذا الاستعانة: تستعين في كل الأمور -في أمر الدنيا والآخرة- تستعين به على مزرعتك، على مصنعك، على تجارتك، على تأديب أولادك، على إصلاح شؤون دنياك، كما تستعين به في أمور الآخرة: في طاعة الأوامر، وترك النَّواهي، فهو المستعان في كل شيءٍ : إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].

وقال في تمام الحديث: واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلامُ، وجفَّت الصُّحف يعني: ليس هناك أمر بيد الناس، كله بيد الله جلَّ وعلا، قد تم القدر، وكُتب القدر، وتمت الأمور، فهو بيده ، هو الذي يُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، فعليك باللجوء إليه، وسؤاله ، والاستعانة به في كل أمورك، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن .

وهذا يُستثنى منه -وهو أمر واضح- الأمور التي بين المخلوقين، فلا مانع من الاستعانة بهم في حاجتك، مع استعانتك بالله ، فتستعين بالخادم والصانع والسائق وغير ذلك، مع كون قلبك يعلم أنَّ الأمور بيده ، وأنه هو الذي سخَّرهم وعلَّمهم وأعطاهم وجعلهم يعملون، فإذا استعنتَ بهم في أمور دنياك، وفي أمور دينك، مع إيمانك بأنه سبحانه هو الموفق والهادي والمعين، وأنه بيده جلَّ وعلا إن شاء وفَّقهم وأعانهم، وإن شاء خذلهم، فهذا لا يضرّ.

فالمخلوق يُستعان به في الأمور التي يقدر عليها؛ من حيٍّ حاضر، الموجود الذي يسمع كلامك، ويستفيد من توجيهك، هذا لا بأس به بإجماع المسلمين، وهو داخل في الأمور العادية التي أباحها الله لعباده، وجعلها بينهم من أسباب صلاح شؤونهم، وإنما الممنوع أن تستعين بميتٍ، أو حجرٍ، أو صنمٍ، أو كوكبٍ، أو غائبٍ من جنٍّ أو غيره، هذا هو الممنوع، وهذا هو الشرك بالله .

أما الاستعانة بالمخلوق الحاضر الحي القادر في الشؤون التي يستطيعها، فهذا لا بأس به، كما قال في قصة موسى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15]، وكما يستعين الإنسانُ بأصحابه في الحرب، وفي غير ذلك من شؤون الحياة؛ فالجنود يستعين بعضُهم ببعضٍ، ويعدون العدّة لقتال الأعداء، ويهجمون جميعًا، ويُرتبون أمورهم ويُنظمونها لطلب الانتصار على عدوهم.

وهكذا الحرَّاث يعدّ العدة لحرث الأرض ولسقي الأرض، ويأتي بالعمَّال وهو يعلم أنَّ هذا كله بيد الله ، وإنما هي أسباب شرعها ربنا وأمر بها .

وهكذا الصَّانع يأتي بآلات الصناعة، ويُهيئ الصناعة، ويأتي بالعمَّال يرجو ما عند الله من النجاح والتوفيق، فهذه غير داخلةٍ في الشرك، وغير داخلةٍ في ضعف الإيمان، بل متى فعلها المؤمنُ وهو يعلم أنَّ الأمور بيد الله ، وأنه هو الذي علَّم هذا، وجعل هذا يُعين هذا، فهذا من تمام الإيمان، ومن كمال الإيمان، وإنما يضره إذا مال إليها، وعلَّق قلبه بها، ونسي الله، وأعرض عن الله، هذا هو الذي يضرّه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

1487- وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ. فقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ.

1488- وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.

1489- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حديث حَسَنٌ.

1490- وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

1491- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ.

1492- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ. أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الشُّعَبِ" بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ.

وَصَحَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها داخلة فيما بوب له المؤلفُ في الزهد والورع.

الحديث الأول: حديث سهل بن سعدٍ ، السَّاعدي، الأنصاري، الخزرجي، صحابي، وأبوه صحابي، أبوه سعد بن مالك صحابي، وهو صحابي رضي الله عنهما.

أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، دلني على عملٍ إذا عملتُه أحبني الله وأحبني الناس. فقال: ازهد في الدنيا يُحبك الله، وازهد فيما عند الناس يُحبك الناس.

هذا يدل على أنَّ الزهد بما ذُكر -يعني في الدنيا- من أسباب محبَّة الله للعبد، وإيثاره محابّ الرب ، والحرص على الإعداد للقائه، وعدم تعلقه بهذه الدار تعلُّقًا يعوقه عن الآخرة، ويعوقه عن الإعداد للآخرة، فالزهد فيها قطع تعلق القلب بها، وتأثره بها، وإن عمل فيها: وإن زرع، وإن اتَّجر، وإن فعل ما شرع الله له، وما أباح له، لكن قلبه ليس مُعلَّقًا بها، بل هو مُعلَّق بالآخرة، فنزعها من القلب، وتعليق القلب بالآخرة، وإعداده للآخرة، هو الزهد فيها، وليس معناه تركها والإعراض عنها وعدم الأسباب، لا، هذا إنما يظنّه الجهلةُ من الصوفية، وإنما المقصود: عدم تعلُّق القلب بها تعلُّقًا يُثبطه عن الآخرة، ويعوقه عمَّا شرع الله له، فهذا من أسباب محبَّة الله للعبد.

أما ما يتعلق بالناس: فالزهد فيما في أيديهم، إذا زهد فيما بأيديهم ولم يسألهم ما في أيديهم أحبوه، ما دام ظاهره الخير، وهو مستقيم على طاعة الله، فإنه يُحبُّه الناس، إذا طلب ما في أيديهم، وصار يسألهم؛ كرهوا لقاءه، وكرهوا قربه؛ لئلا يسألهم؛ ولئلا يُؤذيهم بطلب الحاجة، فالزهد بما في أيديهم من أسباب محبَّتهم له، إذا استقام على الخير، وأعرض عمَّا في أيديهم.

ولا يمنع هذا أن يسألهم عند الحاجة مما له حقٌّ: كالزكاة إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك، ولا يمنع هذا أيضًا القرض، فسيد الزهاد نبينا محمد ﷺ قد اقترض مرات كثيرة، واستدان، فالاستدانة والقرض ليست من الحاجة إليهم التي تُذلّه، والتي يُطلب فيها الزهد، إنما الذي يذلّه هو طلب الصَّدقة، وطلب الإحسان، وطلب المساعدة، أما كونه يحتاج إليهم بعض الأحيان للاستدانة، أو في القرض، أو في التعاون المشروع بين الناس، أو فيما يتعلق بالزكاة، وهو من أهلها، يُنبِّههم إذا احتاج إلى ذلك، ليس داخلًا في هذا.

والحديث الثاني حديث سعد بن أبي وقاص: وهو سعيد بن مالك بن أهيب، المعروف، الزهري، رحمة الله عليه، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.

يقول: عن النبي ﷺ أنه قال: إنَّ الله يُحب العبدَ التَّقي الغنيَّ الخفي.

هذا يدلنا على أنَّ من أسباب محبَّة الله للعبد: أن يكون مُتَّقيًا، يتَّقي حُرمات الله، ويحذر ما نهى الله عنه، ويستقيم على أمر الله، هذا المتَّقي والمحافظ على أوامر الله، التَّارك لنواهي الله، المخلص لله في عمله، الصَّادق في عمله، هذا هو التقي: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].

الغني: غني القلب، ما هو غني المال، قد يكون غني المال وهو من أضل الناس، فالمقصود غني النفس: ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس كما قاله النبيُّ عليه الصلاة والسلام، يعني: غني القلب الذي لا يتعلق قلبُه بما في أيدي الناس، ولا يتعلق قلبه بالدنيا، بل قد أغنى الله قلبه، ورزقه قناعةً، كما قال النبيُّ ﷺ: قد أفلح مَن أسلم ورُزق كفافًا وقنَّعه الله بما أتاه خرجه مسلم في "صحيحه".

الخفي الذي لا يتعرض للشُّهرة، ولا يرغب في الشهرة، بل هو من عرض الناس، خفيًّا بين الناس، ليس مَن يقصد دنيا، أو سمعتها، أو رياستها، أو الرياء فيها، أو ما أشبه ذلك، بل هو مجتهد في طاعة الله، مُعرض عمَّا حرَّم الله، تارك لدنيا الشُّهرة بين الناس، فهذا من محابِّ الله ، لكن إذا اشتهر من دون قصدٍ منه، اشتهر بطاعة الله، أو بالعلم، أو بالجهاد، فهذه بُشرى عجَّلها اللهُ له، وثواب عجَّله اللهُ له، ولا يضرّه.

الحديث الثالث: حديث أبي هريرة ، عن النبي ﷺ أنه قال: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

هذا من حُسن إسلام المرء، يعني: من حُسن إسلامه وإيمانه؛ لأنَّ الإسلام إذا أُطلق دخل فيه الإيمان: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] يعني: والإيمان، فمن حُسن إسلام العبد ومن حُسن إيمانه: إعراضه عمَّا لا يعنيه، ويكفيه ما يعنيه، يكفيه اشتغاله بما أوجب الله عليه، وبترك ما حرم الله عليه، واشتغاله بالفقه في الدِّين، واشتغاله بالإحسان إلى الناس، والدعوة إلى الله، وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وما أشبه ذلك مما ينفعه، أما تدخله في شؤون الناس فهذا يدل على ضعفٍ في العقل، وقلةٍ في البصيرة، وعدم كمال التقوى؛ ولهذا قال: من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، هذا من الزهد، ومن الورع: أن تجتنب ما لا يعنيك، وأن تشتغل بما يعنيك.

والحديث الرابع: حديث المقدام بن معديكرب ، يقول ﷺ: ما ملأ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه.

اختصره المؤلفُ، وتمامه: بحسب ابن آدم لُقيمات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالةَ فثلثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه.

مراد المؤلف: أنَّ هذا من باب الزهد، ومن باب الورع: كونه يقتصد في الأكل، ولا يستكثر، فهذا من الورع؛ لأنه قد تجره كثرةُ الأكل إلى ما لا ينبغي، فإذا اقتصد في الأكل والشُّرب كان هذا من باب الزهد والورع؛ حتى لا يقع فيما لا ينبغي.

وبحسبه يعني: يكفي ابن آدم لُقيمات، وفي اللفظ الآخر: أكلات يعني: لقم، يُقمن صلبه يعني: يُقمن قوته وبدنه، فإن كان لا محالةَ فإن كان لا بدَّ -يعني- زائدًا على اللُّقيمات؛ فليكن ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس، يعني: يجعل بطنه ثلاثة أثلاثٍ: ثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس؛ حتى يكون نشيطًا قويًّا، ليس عنده ما يعوقه عن الحركة، أو عن التنفس بسبب أنه لم يستكثر من الطعام والشراب.

وهذا من باب الفضل، ولو شبع لا بأس، الشبع جائز، إلا على وجهٍ يضره، فالشبع الذي لا يضره هذا لا بأس؛ ولهذا في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة : أنه لما سقى أهل الصُّفَّة اللَّبن وبقي النبيُّ ﷺ وأبو هريرة قال له: اشرب يا أبا هريرة، فشرب، ثم قال: اشرب، فشرب، وقال في الثالثة: لا أجد له مسلكًا، يعني: رُويت. فهذا يدل على أنه لا بأس أن يشرب الشربَ الكامل، أو يأكل الأكل الكامل، ولكن كونه يُخفف ويدع شيئًا من شهوته في الأكل والشرب، يدع شيئًا، هذا أفضل؛ حتى يبقى للتنفس مجال.

الحديث الخامس: حديث أنسٍ ، عن النبي ﷺ أنه قال: كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون.

هذا الحديث الصحيح يدل على أنَّ ابن آدم من شأنه الخطأ، ومن شأنه الذنوب، ولكن دواؤها التوبة إلى الله ، الخطأ لا بدَّ منه، كل بني آدم خطَّاء تقع منه الزلة والهفوة وإن كان من الصُّلحاء والأخيار، لكن دواء هذا التَّوبة إلى الله .

فينبغي للمؤمن أن يحذر تزكية نفسه، وأن يقول أنه ليس بمُخطئٍ، وأنه كذا، وأنه كذا، فليحذر، بل يكون من ورعه أن يحذر تزكية نفسه، وأن يكون من زهده أن يتَّهم نفسه، ويعتقد أنه محل خطأ؛ حتى يلجأ إلى التوبة، فتزكية النفوس من الغرور، واعترافه بالذنوب والخطايا هذا مما يدل على ورعه، ويدل على قوة إيمانه؛ حتى يلجأ إلى التوبة إلى الله والاستغفار والعمل الصالح، والازدراء على نفسه، ومُعاتبتها؛ حتى لا يقع في المهالك.

الحديث السادس حديث أنسٍ أيضًا: الصمت حكمة، وقليل فاعله.

هذا حديث ضعيف، نُقل عن النبي ﷺ، وهو ضعيف لا يصحّ عن النبي ﷺ؛ ولهذا قال البيهقي: الصحيح أنه قول لقمان الحكيم المعروف، الذي آتاه الله الحكمة، وهو رجل صالح، ليس بنبيٍّ، كان يقول: "الصمت حكمة، وقليل فاعله"، وهذا كلام في محلِّه، كلام جيد؛ فإنَّ الإنسان إذا أكثر من الكلام كثر سقطه، وقلَّت سلامته، لكن متى حافظ على قلة الكلام ولم يتكلم إلا فيما يعنيه وحيث ينفعه الكلام سلم.

وهذا المعنى يقول فيه النبي ﷺ: مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، فالصمت خيرٌ له من الكلام الذي يضره، وخير له من الكلام الذي لا فائدة فيه، بل السنة للمؤمن أن يتحرى كلامه، وأن يقتصد في كلامه، فإن كان كلامه فيه فائدة تكلم، وإلا أمسك، هذا هو المشروع للمؤمن، والله أعلم.

وفَّق الله الجميع.

.............

س: الاعتراف بالذنوب بينه وبين الناس أو بينه وبين ربِّه؟

ج: بينه وبين ربِّه، يُحاسِب نفسه بينه وبين ربه جلَّ وعلا.