باب ما يقول المتخلي عند دخوله وخروجه

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجَّلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ في كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ"، ضيف اللقاء هو سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بالشيخ عبدالعزيز فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: وقف بنا الحديثُ يا سماحة الشيخ في أبواب أحكام التَّخلي:

بَابُ مَا يَقُولُ الْمُتَخَلِّي عِنْدَ دُخُوله وَخُرُوجه

75- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

وَلِسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي "سُنَنِهِ": كَانَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ.

بَابُ تَرْكِ اسْتِصْحَابِ مَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ

76- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.

77- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث تُبين آداب دخول الخلاء والخروج منه، الشريعة جاءت بالآداب الشَّرعية في العبادات، وفي أمور كثيرة: الصلاة، والصيام، والحج، والصدقات، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك.

وجاءت بالآداب الشَّرعية عند دخول الخلاء، فالسنة عند دخول الخلاء أن يُقدم رجله اليسرى ويقول: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث عند دخول الخلاء، محل قضاء الحاجة، يُقدم رجله اليسرى ويقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، والخبث: ذكور الشياطين، والخبائث: إناث الشياطين.

وقال بعضُ الشراح: معنى "الخبث" الشر، ومعنى "الخبائث" أهل الشر، فالمعنى: أعوذ بالله من الشر وأهله.

وعند الخروج يُقدم اليمنى ويقول: "غفرانك"، يعني: اللهم اغفر لي، يُقدم رجله اليمنى ويقول: "غفرانك"، معنى "غفرانك" يعني: أسألك غفرانك يا ربّ، والمعنى: اللهم اغفر لي، فإذا قال عند الخروج: "غفرانك" أو "اللهم اغفر لي" حصلت السنةُ، ويُقدم رجله اليمنى عند الخروج، واليسرى عند الدخول.

ويُروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، هذا المعنى صحيح، لكن الحديث ضعيف، هذا الحديث ضعيف عند أهل العلم، وإذا قاله الإنسانُ فلا حرج، لكن ليس بسنةٍ، فالسنة أن يقول: "غفرانك"، أما "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" فالحديث ضعيف، فإن قاله المؤمنُ فلا حرجَ؛ لأنه كلام طيب، وذكر طيب.

المقدم: ما ورد في قوله: "بسم الله" قبل هذا الذِّكر، هل هو ثابت؟

الشيخ: المحفوظ هذا: "بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، وجاء في بعض الروايات: "أعوذ بالله من الرجس النَّجس الشيطان الرجيم"، ولكن في سنده نظر.

المقدم: هل صحيح أنَّ مأوى الشياطين هي دورات المياه؟

الشيخ: الشياطين مأواها الحشوش والمحلات القذرة، هي مأوى الشياطين؛ ولهذا شُرع التَّعوذ بالله من الخبث والخبائث؛ لأنَّ الشياطين من الخبث، ومن أخبث المخلوقات، تصدّ عن سبيل الله، فالشياطين ذكورهم وإناثهم من أهل الخبث والخبائث، ومن أعظم أهل الشر، والعياذ بالله؛ ولهذا شرع الله الاستعاذة من الشيطان الرجيم.

المقدم: ما الحكمة من قول: "غفرانك"؟

الشيخ: "غفرانك" والله أعلم أنَّ الحكمة في ذلك: أنَّ الإنسان الغالب عليه التقصير في شُكر نِعم الله، والله أنعم عليه بالطعام والشراب، ثم أنعم عليه بتيسير خروج هذا الأذى، والغالب على الإنسان عدم القيام بالواجب في الشكر، فناسب أن يقول: "غفرانك" يعني: أسألك غفرانك عن تقصيري في شكر نعمتك، يا رب، أنعمت عليَّ بالطعام والشراب، ثم أنعمت عليَّ بخروج الأذى، فأسألك أن تغفر لي ما حصل مني من التَّقصير في شُكر نعمك يا ربّ.

وهكذا رواية الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني مُناسبتها ظاهرة؛ لأنَّ الأذى الذي في الجوف أخرجه الله من طريق القبل والدُّبر، فله الحمد والشكر على هذا، والعافية العظيمة.

المقدم: ما درجة هذا الحديث؟ وهل يُقال أنه يُعمل به؛ لأنه من فضائل الأعمال؟

الشيخ: الحديث ضعيف كما تقدم، لكن لا يقال: سنة؛ لعدم صحته، لكن يقال: مَن فعله فلا بأس، فحمد الله على كل حالٍ طيب.

باب ترك استصحاب ما فيه ذكر الله تعالى

- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ نَزَعَ خَاتَمَهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَحْمَدَ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِهِ كَانَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.

الشيخ: احتجَّ بهذا بعضُ أهل العلم على استحباب نزع ما فيه ذكر الله عند دخول الخلاء: كالخاتم الذي فيه عبدالله أو عبدالرحمن أو عبدالعزيز أو ما أشبه ذلك؛ لأنَّ الرسول كان ينزع خاتمه إذا دخل الخلاء وفيه: محمد رسول الله، لفظ الجلالة، فهذا مستحبّ، وليس بفرضٍ؛ لأنه من فعل النبي ﷺ، وليس مما أمر به.

وبعض أهل العلم أعلَّ هذا الحديث وضعَّفه، ولكن لا بأس بإسناده، فالأفضل إذا أراد دخول الخلاء أن ينزع خاتمه إن كان فيه ذكر الله؛ لهذا الحديث الصحيح، وهو فعله ﷺ بنزع خاتمه، ويلحق بهذا إذا كان في جيبه أوراق فيها ذكر الله، كان من الأفضل جعلها في الخارج، في مكانٍ في الخارج حتى ينتهي من حاجته إذا تيسر هذا، وإن لم يتيسر فلا حرج والحمد لله.

المقدم: بالنسبة للتَّختم للرجال ما حكمه؟

الشيخ: لا بأس به، النبي تختم عليه الصلاة والسلام، كان يتختم بالذهب ثم نزعه ونهى عنه، وصار يتختم بالفضة، فمَن تختم فلا بأس، أما كونه سنة فهو محل نظرٍ، لكن هو من الأمور العادية، الخاتم من الأمور العادية، من فعله فلا بأس، ومَن ترك فلا بأس، والقول بأنه سنة محل نظرٍ؛ لأنه ﷺ اتَّخذ الخاتم يختم به الأوامر والرسائل التي يُرسل بها إلى رؤساء الدول وغيرهم؛ لأنَّ ختمه دليل على صحة صدور الرسالة منه عليه الصلاة والسلام، فاتَّخذ خاتمًا لهذا الأمر، وكان في يده عليه الصلاة والسلام، فإذا فعله الإنسانُ فلا بأس، وإن تركه فلا بأس.

المقدم: التَّسمية للوضوء داخل الخلاء ما حكمها؟

الشيخ: يُسمي عند الدخول، كان النبيُّ إذا أراد الدخول قال: بسم الله، كما في الرواية الأخرى: كان النبي إذا أراد الدخول قال: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، هذا الأفضل قبل أن يدخل؛ لأنَّ ذكر الله في الخلاء مكروه، لكن عند إرادة الدخول يُستحبّ أن يقول: "بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث"، وإذا خرج قال: "غفرانك"، أو "اللهم اغفر لي"، وإذا قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" كذلك فلا بأس، لكن بعد الخروج.

بَابُ كَفِّ الْمُتَخَلِّي عَنِ الْكَلَامِ

- عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ.

- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عن عَوْرَتِهِمَا يَتَحَدَّثَانِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: يُكره السلام على مَن يقضي حاجته في محلِّ قضاء الحاجة أو في البرية؛ لأنه في حالةٍ لا يُناسب فيها ذكر الله، وإذا سُلِّم عليه لا يردّ؛ لأنَّ الرسول ﷺ سُلِّم عليه وهو يقضي الحاجة فلم يرد على مَن سلَّم، دلَّ على أنَّ السلام على مَن يقضي حاجته غير مشروعٍ، وإذا سُلِّم عليه فلا يُشرع له الردّ؛ لأنه على حالة قضاء حاجةٍ، فلا يُناسب فيها ذكر الله .

فالسنة للمؤمن إذا مرَّ على مَن يقضي حاجته ألا يُكلمه، وألا يُسلم عليه، فإن كلَّمه أو سلَّم عليه كُره له الردّ إلا للضَّرورة.

وهكذا إذا دخل الغائط وعنده أحد يجب ستر عورته، ولا يجوز دخول اثنين أو أكثر كاشفين عن عورتيهما؛ لأنَّ هذا منكر، يجب أن يستر عورته حتى يدنو من قضاء الحاجة، فيجلس في قضاء الحاجة ثم يكشف عورته.

وفيه الدلالة على كراهية التَّحدث، وأما كشف العورة فمنكر، أما التَّحدث على ذلك فهذا يدل على أنه لا ينبغي التَّحدث وهم على قضاء الحاجة؛ لقوله: فإنَّ الله يمقت على ذلك، وفي سند الحديث بعضُ النظر واختلاف في تصحيحه وتضعيفه، ولكن كشف العورة دلَّ عليه أحاديث أخرى، وأنه لا يجوز للمسلم كشف عورته حيث يراه أحدٌ، بل يجب سترها: لا في الحمام، ولا في غيره.

المقدم: هل يردّ بالإشارة وهو يقضي حاجته؟

الشيخ: النبي ما ردَّ بالإشارة، ترك الردّ أولى؛ حتى يتنبَّه المسلم ولا يعود لمثل هذا.

المقدم: سماحة الشيخ، ذكرتُم حفظكم الله درجةَ الحديث، ما درجة الحديث؟

الشيخ: في سنده ضعف حديث أبي سعيدٍ، ولكن له شواهد من جهة كشف العورة، العورة ثبت بالأدلة الشرعية تحريم كشفها بحيث يراه أحدٌ.

المقدم: هل يُنسب المقتُ إلى الله؟

الشيخ: نعم، مثل قوله تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3].

بَابُ الْإِبْعَادِ وَالِاسْتِتَارِ لِلتَّخَلِّي فِي الْفَضَاءِ

- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَكَانَ لَا يَأْتِي الْبَرَازَ حَتَّى يَغِيبَ فَلَا يُرَى. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَلِأَبِي دَاوُد: كَانَ إذَا أَرَادَ الْبَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ.

- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَايِشُ نَخْلٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: وهذه الأحاديث تدل على أنَّ السنة للمؤمن عند قضاء الحاجة في الصحراء أن يتحرى المكان الذي لا تُرى فيه عورته، كأن يستتر ..... حائط، أو حائش نخل، أو شجرة، أو ما أشبه ذلك، أو ينيخ مطيته يستتر بها، أو ما أشبه؛ لئلا تُرى عورته؛ ولهذا كان ﷺ إذا أراد الحاجةَ أبعد؛ حتى لا يراه أحدٌ عليه الصلاة والسلام، وكان من أكمل الناس تحريًا للستر عليه الصلاة والسلام.

فلا ينبغي للمؤمن أن يتساهل في ظهور عورته للناس، بل الواجب أن يجتهد في سترها عند قضاء الحاجة، وفي جميع الأحوال، إلا من زوجته أو سريته، وإلا فالواجب عليه العناية بألا تُرى عورته: لا عند البول، ولا عند الغائط، ولا غيرهما، ويتحرى المكان المناسب عند قضاء الحاجة؛ حتى يستتر به: حائش نخل، أو ..... يستتر به، أو حفرة مناسبة، أو ما أشبه ذلك مما يقيه نظر الأعين.

المقدم: في البر يتساهل الناس، أو بعض الناس خاصَّة في موضوع الاستتار، هل لكم توجيه حول هذا؟

الشيخ: نعم، السنة التحري مثلما كان النبيُّ يتحرى، مثلما يتحرى في الحضر ويستتر بالمحلات الخاصَّة، كذلك في البرّ يتحرى المكان المناسب إذا أراد قضاء حاجته؛ لأنه يكشف العورة، وقد تكون له رائحة، وقد يكون له صوت، فينبغي أيضًا أن يكون بعيدًا؛ حتى لا تُرى عورته، ولا يُسمع له صوت، ولا توجد رائحة، يكون بعيدًا عن جماعته وقومه، في المكان المناسب.

المقدم: ما الحكمة من الابتعاد عند قضاء الحاجة والاستتار؟

الشيخ: مثلما تقدم، الحكمة في ذلك ستر العورة، وحتى لا يرى الناسُ عورته، وحتى لا يشموا رائحته الكريهة، وحتى لا يسمعوا صوتًا مما يخرج من الإنسان، والله سبحانه يُحب الحياء، فالواجب على المؤمن أن يكون عنده حياء يحمله على فعل هذا الأمر، وهو البُعد عن أنظار الناس، وعن أسماع الناس حسب الطاقة عند قضاء حاجته.

المقدم: هل يمكن أن نقول أن الاستتار يكون عن الشياطين كذلك؟

الشيخ: ممكن، لكن المقصود بني آدم، الشياطين لا يراهم، وقد يكونون أمامه، وقد يكونون خلفه، التَّحرز منهم صعب، لكن المقصود بني آدم الذين يمكن التَّحرز منهم، أما الشياطين فقد يرونه ولا تضرّه رؤيتهم؛ لأنه لا يراهم، فالإثم عليهم هم، إذا رأوا عورات الناس الإثم عليهم هم، أما المؤمن فلا عليه إثم؛ لأنه لا يراهم.

بَابُ نَهْيِ الْمُتَخَلِّي عَنِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ لِحَاجَتِهِ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ فِي رِوَايَة الْخَمْسَة إلَّا التِّرْمِذِيَّ قَالَ: إنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ، فَإِذَا أَتَى أَحَدُكُم الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ، وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا، وَلَا يَسْتَطِبْ بِيَمِينِهِ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَيَنْهَى عَنِ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ. وَلَيْسَ لِأَحْمَدَ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْأَحْجَارِ.

- وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ ﷺ: إذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ، وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا.

قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَة، فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: هذان الحديثان وما جاء في معناهما يدلان على شرعية الانحراف عن القبلة عند قضاء الحاجة، عند البول والغائط لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولكن يجعلها عن يمينه، أو شماله عند البول والغائط، هذا هو المشروع؛ لهذين الحديثين: حديث أبي هريرة، وحديث أبي أيوب، وما جاء في معناهما، وهذا في الصحراء، أما في البناء فالأمر فيه واسع، إن تيسر فهو أفضل، وإلا فالأمر واسع؛ لأنه ثبت عن النبيِّ ﷺ أنه قضى حاجته في بيت عائشة مستقبل الشام، مُستدبر الكعبة، في بيت حفصة رضي الله عنها، فدلَّ ذلك على أنَّ الاستقبال والاستدبار في البناء لا يضرّ، لكن في الصحراء لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها، بل يجعلها عن يمينه، أو عن شماله، وإذا تيسر أن يكون ذلك أيضًا في البيوت فهذا أكمل وأحسن.

ولا يستطب بيمينه: يعني لا يغسل فرجه بيمينه، ولا دبره بيمينه، ولكن يغسله باليسار، ويستجمر باليسار، ويغسل باليسار، وقد نهى النبيُّ ﷺ عن التَّمسح في الخلاء بيمينه، وعن مسك الذكر بيمينه؛ لأنَّ اليمين تُنزه عن هذا، فيكون مسك الذكر والتَّنزه من البول والغائط يكون باليسار؛ لقضاء الحاجة؛ ولإزالة الأذى، أما اليمين فللشيء الأفضل.

وحديث أبي هريرة فيه دلالة على النَّهي عن الاستجمار بالعظم والروث، وأنه لا يجوز الاستجمار بالعظام، ولا بالأرواث، وقد جاءت في هذا أحاديث تدل على تحريم الاستجمار بالعظم والروث، وأنهما لا يُطهران، فالاستجمار بهما لا يحصل بهما الطَّهارة، بل عليه أن يستنجي بالماء، وجاء في بعض الأحاديث أنهما زاد إخواننا من الجنِّ: العظام يجعل الله لهم فيها لحمًا، والبعر يكون علفًا لدوابهم، يكون أحسن مما كان علفًا لدوابهم لما أسلموا.

المقدم: هل هناك فرق بين البنيان والصحراء؟ وما الحكمة من ذلك؟

الشيخ: ظاهر الأحاديث المنع، إلا أنه دلَّ حديثُ ابن عمر على استثناء البناء؛ لأنه مستور، بينه وبين الكعبة الستر عند قضاء حاجته، قال ابن عمر: "رأيتُ النبي ﷺ يقضي حاجته في بيت حفصة مُستقبل الشام، مُستدبر الكعبة"، دلَّ على أنَّ في البيوت المستورة الأمر فيها أوسع، ولكن إذا تيسر ألا يستقبل وألا يستدبر حتى في البيوت كان ذلك أكمل؛ لعموم الأحاديث.

المقدم: هل يُسمى الرسول ﷺ: والد المؤمنين؟

الشيخ: هو أبو المؤمنين نعم، قال تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب:6]، جاء في قراءةٍ: وهو أبوهم عليه الصلاة والسلام.

المقدم: هل يكفي الانحراف عن جهة القبلة سماحة الشيخ؟

الشيخ: لا بدَّ أن يجعلها عن يساره، أو عن يمينه في الصحراء، الانحراف اليسير ما يكفي، لا بدَّ أن ينحرف انحرافًا تامًّا حتى يجعلها عن يمينه أو شماله.

المقدم: ما معنى قوله في الحديث: نستغفر الله؟

الشيخ: أبو أيوب لما وجد المراحيض بُنيت نحو الكعبة اجتهد في الانحراف عنها، لكن مع الاستغفار؛ لأنه قد لا يتيسر الانحراف الكامل، يُخبر أبو أيوب أنه في البناء استقبال القبلة قد لا يتيسر التَّخلص من المخالفة، فيفعلون ما يستطيعون، ويستغفرون عمَّا يحصل من التَّقصير.

المقدم: بالنسبة لإزالة المراحيض التي تجاه الكعبة، هل تجب إزالتها؟

الشيخ: إذا تيسر هو أحوط، أما الوجوب فمحل نظرٍ، إذا تيسر فهو أحوط وأحسن.

المقدم: كيف يجمع بين الأحاديث في هذا الباب؟

الشيخ: مثلما تقدم الأحاديث العامَّة يخصّ منها البناء؛ لحديث ابن عمر، فعل النبي يُخصص الأمر، دلَّ على أنَّ الأمر ما هو للوجوب فيما يتعلق بالبناء، لكن مستحب، إذا تيسر أن يكون محلُّ قضاء الحاجة في البناء إلى غير القبلة يكون أولى وأحوط؛ عملًا بالعموم، والنبي ﷺ لا يأمر بالشيء ويُخالفه، لما فعله في بيت حفصة دلَّ على أنه ليس بواجبٍ في البيوت، يعني: الانحراف عن القبلة، وهو حُجَّة، فعله حُجَّة، وقوله حُجَّة عليه الصلاة والسلام، وإذا تعارض القولُ والفعلُ: فإن كان القولُ أمرًا حُمل الفعلُ على أنَّ الأمر للاستحباب، وإن كان القولُ نهيًا وخالفه النبيُّ ﷺ دلَّ على أنَّ النَّهي ليس للتَّحريم، النبي نهى عن الشرب قائمًا، ثم شرب قائمًا، دلَّ على أنَّ النهي ليس للتَّحريم، وأنَّ ترك الشرب قائمًا أفضل، ولكن إذا شرب قائمًا فلا بأس، ومثلما أمر بالقيام عند مرور الجنازة: إذا رأيتُموها فقوموا، ثم جلس في بعض الأحيان، دلَّ على أنَّ الأمر ليس للوجوب، بل للاستحباب.

المقدم: أيّهما أغلظ: الاستقبال أم الاستدبار؟

الشيخ: الحديث عامّ: ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا، نهى عن استقبالها واستدبارها، وجاء في فعل النبي ﷺ الاستدبار: مُستدبر الكعبة، فالاستقبال والاستدبار كلاهما منهي عنه، إلا في البناء فلا حرج، لكن ترك ذلك في البناء إذا تيسر أفضل.

بابُ جواز ذلك بين البُنيان

- عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَقِيتُ يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى حَاجَتِهِ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ، مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ، فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.

88- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِفُرُوجِهِمْ، فَقَالَ: حَوِّلُوا مَقْعَدَتِي قِبَلَ الْقِبْلَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

89- وَعَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَبُولُ إلَيْهَا، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: بَلَى، إنَّمَا نُهِيَ عَنْ هَذَا فِي الْفَضَاءِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُكَ فَلَا بَأْسَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

الشيخ: مثلما تقدم حديث ابن عمر يدل على أنه لا بأس به في البناء، وأن الرسولَ ﷺ فعل ذلك في البناء: استقبل الشام، واستدبر الكعبة، وأما في الصحراء فالواجب عدم استقبالها واستدبارها.

أما حديث جابر وعائشة في أنه استقبل القبلةَ، فهما حديثان ضعيفان مُخالفان للأحاديث الصَّحيحة، ومُقتضاهما النَّسخ، فهما حديثان ليسا بصحيحين، والصحيح أنَّ الاستقبال والاستدبار ممنوعان في الصحراء، جائزان في البناء.

بَابُ ارْتِيَادِ الْمَكَانِ الرَّخْوِ وَمَا يُكْرَهُ التَّخَلِّي فِيهِ

90- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى دَمَثٍ إلَى جَنْبِ حَائِطٍ فَبَالَ، وَقَالَ: إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

91- وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ. قَالُوا لِقَتَادَةَ: مَا يُكْرَهُ مِنَ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ؟ قَالَ: يُقَالُ: إنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد.

92- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ، قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد.

93- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث تدل على أنَّ المؤمن ينبغي أن يرتاد لبوله، ويتحرى المكان المناسب؛ حتى لا يرتدَّ عليه بوله، حتى لا يطير منه شيء عليه.

ومعنى "فليرتد" يعني: فليتحرَّ المكان المناسب لبوله؛ حتى لا يرتدَّ عليه منه شيء.

وكذلك النَّهي عن البول في الجُحرة؛ لأنها قد يكون فيها دوابّ يضرّها، فينبغي له أن يتحرى لبوله محلًّا سليمًا دمثًا؛ حتى لا يطير عليه منه شيء.

وكذلك الملاعن الثلاثة: الطريق، والظلّ، وتحت الشجر؛ لأنَّ هذا قد يضرّ الناس في ..... الموارد قد يُكدر الماء على الناس، وطريقهم كذلك يُؤذيهم، وظلهم: ظل الشجرة ونحوها يُؤذيهم.

وفي اللفظ الآخر: اتَّقوا اللاعنين: مَن يتخلى في طريق الناس، وفي ظلِّهم.

ينبغي للمؤمن أن يتحرى لبوله وغائطه المحلَّ الذي ليس فيه أذى للناس، وليس فيه أيضًا أذى له هو، فإذا كانت الأرضُ صلبةً يطير عليه شررُ البول، ولكن يتحرى المحلَّ الدّمث، كان هذا أسلم إذا بال فيه، ولا يبول في محلات تضرّ الناس وتُؤذيهم كالطرق، أو محلّ متشمس الناس، أو محل استظلالهم، أو في مواردهم، أو على جناح الموارد، كل هذا يُؤذي الناس ويضرّهم، فينبغي للمؤمن أن يتحرى البُعد عن ذلك.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.