باب ارتياد المكان الرخو وما يكره التخلي فيه

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ في كتاب "المنتقى من أخبار المصطفى ﷺ".

ضيف اللِّقاء هو سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بالشيخ عبدالعزيز، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم:

بَابُ ارْتِيَادِ الْمَكَانِ الرَّخْوِ وَمَا يُكْرَهُ التَّخَلِّي فِيهِ

- عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى دَمَثٍ إلَى جَنْبِ حَائِطٍ فَبَالَ، وَقَالَ: إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ. قَالُوا لِقَتَادَةَ: مَا يُكْرَهُ مِنَ الْبَوْلِ فِي الْجُحْرِ؟ قَالَ: يُقَالُ: إنَّهَا مَسَاكِنُ الْجِنِّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد.

92- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ، قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُد.

- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ.

- وَعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ الْوِسْوَاسِ مِنْهُ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فِيهِ لِأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد فَقَطْ.

- وَعَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه.

أما بعد: فهذه الأحاديث في بيان المواضع التي لا ينبغي البول فيها، والموضع الذي ينبغي أن يتحرى عند البول.

في الحديث الأول الدلالة على أنه يُشرع للمسلم إذا أراد البول أن يتحرى المكان الذي يكون دمثًا، لا يطير منه عليه شرار البول، إذا كان في البرية، أو في بيته، في مكانٍ ليس مُعدًّا لقضاء الحاجة، فليرتد لبوله ولينظر المكان الدّمث اللَّين الذي إذا بال فيه لا يطير منه شيء عليه، ولا يضره.

هذا هو السنة: التَّحرز من البول؛ لقوله ﷺ: استنزهوا من البول؛ فإنَّ عامَّة عذاب القبر منه؛ ولحديث أصحاب القبرين اللَّذين عُذِّب أحدُهما بعدم تنزهه من البول.

والثاني: النهي عن البول في الجُحر؛ لأنَّ الجحر قد يكون فيه هوام، قد يكون فيه دواب يُؤذيها، ويقال: إنها مساكن الجنِّ. فينبغي ألا يُبال في الجُحور؛ لأنَّ في ذلك مضرةً على ما فيها من الدَّواب، وربما ضرَّه أيضًا؛ ربما خرج من الجحر شيء فلدغه من عقارب، أو حيات، أو غير ذلك، فينبغي ترك ذلك، والحذر من ذلك.

كذلك طرق الناس وظلّهم، وهكذا المتشمس في الشتاء لا يُبال فيه؛ لأنه يُؤذيهم، يضرُّ الناس؛ ولهذا يقول ﷺ: اتَّقوا اللاعنين: الذي يتخلَّى في طريق الناس أو ظلِّهم، سُميت: لاعنان، سُمي الظلّ والطريق لاعنان؛ لأنَّ مَن بال فيهما لعنه الناس وسبَّه الناس، فهما سبب للعن، "اللاعنين" يعني: اللَّذين [كانا] سببًا للعن، اللذين البول فيهما يكون سببًا للعن الناس وسبِّ الناس.

وفي اللفظ الآخر: اتَّقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل، كلها يُمنع البول فيها: البراز: التَّبرز، يعني: قضاء الحاجة في الموارد؛ موارد المياه على الأنهار، كونه يبول على حافتها يضرّ الناس ويُؤذيهم.

وهكذا البول في الطريق، وأعظم من هذا: قضاء حاجة الغائط أشدّ وأخطر.

هكذا الظلّ الذي تحت الشجر، أو تحت الجدار، يستظلون به، فلا يُبال فيه، ولا يُتغوط فيه؛ لأنه يضرّ الناس.

هكذا تحت الأشجار المثمرة لا يُبال تحتها، ولا تُقضى الحاجة؛ لأنه قد يسقط الثَّمر على البول وعلى الأذى، فينبغي توقي هذه الأشياء التي قد يضرّ البولُ فيها بالمسلمين، وقد يضر أيضًا بالثمار التي فوق رأسه.

والمتشمس مثل ذلك إذا كان في الشتاء، المحل الذي يتشمس فيه الناس، يجلسون فيه للدفء، لا يُبال فيه، ولا يُتغوط فيه، ولا يُلقى فيه أذى؛ لأنَّ هذا يُؤذي الناس ويضرّهم، فينبغي التَّحرز من ذلك حتى لا يُؤذي المسلمين.

وَعَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: كذلك الماء الراكد لا يُبال فيه؛ لأن البول فيه قد يُسبب تنجسه، إذا تكاثرت فيه الأبوالُ قد يتغير وينجس.

وفي الحديث الصحيح: لا يبولنَّ في الماء الدائم، فالبول في الماء الدائم لا يجوز؛ لأنه إذا بال هذا وبال هذا قد تكثر الأبوال حتى يتغير، حتى يتغير طعمُه أو لونُه أو ريحُه فيصير نجسًا، فإذا أراد البولَ يبول خارج الماء الدائم.

والحكمة في هذا ظاهرة: وهو أن البول في الماء الدائم وسيلة إلى تنجيسه.

المقدم: سماحة الشيخ، قال الشارحُ رحمه الله عن الحديث الأول: بأنَّ فيه مجهولًا، هل يقدح في صحة هذا الحديث؟

الشيخ: لا، المعنى جيد؛ لأنَّ كونه يتحرى لبوله المحلَّ الدّمث أمر مناسب مشروع، حتى لو ما صحَّ الحديث.

المقدم: في الحديث الثاني: هل هناك علة غير ما ذُكر في الحديث يا سماحة الشيخ؟

الشيخ: قد يخرج ما يُؤذيه من الجُحور، الجحور قد يخرج منها ما يضرّه كما تقدم، ويُؤذي ساكنها من الدَّواب.

المقدم: أحسن الله إليكم سماحة الشيخ، ذكر بعضُ الفقهاء أنَّ سعد بن عبادة بال في جُحرٍ ثم سقط ومات. ما صحة هذا الخبر؟

الشيخ: مشهور هذا أنه مات بسبب ذلك والله أعلم، ما أعلم حال سند الخبر، لكن مشهور أنه مات بسبب ذلك .

المقدم: يحدث يا سماحة الشيخ أن المتبول ربما طار إليه رذاذٌ بسيطٌ وهو في مكانٍ صلبٍ، ولكن لا يعلم ما الذي أصابه من هذا، ماذا يفعل؟

الشيخ: إذا علم شيئًا يغسله، وإن كان ما يعلم ما عليه شيء، لكن إذا كان يعلم أنه طار إليه شيءٌ يغسل ما أصابه، أما إذا كان لم يعلم يترك الوسواس، لكن متى علم أنه طار إلى فخذه، أو إلى قدمه يغسله، أما إذا كان لا، إنما هي وسوسة، فيترك الوسوسة ولا يلتفت إليها.

المقدم: سماحة الشيخ، هل هناك سبب لاختلاف الروايات التي ذكر فيها اللَّاعنين، والأخرى التي ذكرت الملاعن الثلاثة؟

الشيخ: المعنى واحد، المعنى صحيح فيها كلها.

المقدم: حفظكم الله يا سماحة الشيخ، من أسئلتنا نقول: ابتُلي الكثير من الناس في الوسوسة حول الطَّهارة والصلاة وغير ذلك، حدِّثونا عن هذا الموضوع؟

الشيخ: الواجب الحذر من الوسوسة، الواجب على المسلم أن يحذر الوسواس، ويعمل بالأصل؛ ولهذا قال ﷺ لما سأله سائلٌ أنَّ الرجل يجد الشيء في الصلاة ولا يدري: هل خرج منه شيء أم لا؟ فقال له النبي ﷺ: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا، وفي اللفظ الآخر قال: فلا يخرجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا.

فهذه الوساوس ينبغي الحذر منها، وإذا عرضت لإنسانٍ أنه تنجس، أو أنه أحدث، فالأصل عدم ذلك، يطرح ذلك، ويتعوذ بالله من الشيطان؛ حتى يعلم يقينًا أنه حصل حدثٌ، أو حصلت نجاسة، وإلا فالوساوس ينبغي له أن يطرحها؛ لأنها من لعب الشيطان وإيذائه.

وجاءه بعضُ الصحابة وقال: يا رسول الله، إنَّ الشيطان لبَّس عليَّ صلاتي، فقال له النبيُّ ﷺ: إذا وجدتَ ذلك فانفث عن يسارك ثلاث مرات، وقل: أعوذ بالله، بسم الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. استعذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، قال له النبيُّ ﷺ: استعذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاثًا؛ فإنَّ ذلك يُذهبه عنك، قال الصحابي -وهو عثمان بن أبي العاص- فعلتُ ذلك فأذهب الله عني ذلك.

فالمقصود أنه إذا أحسَّ بالوساوس يحذرها، وإذا نفث عن يساره ثلاث مرات، وتعوَّذ بالله من الشيطان ثلاثًا؛ كان هذا من أسباب السلامة كما أرشد النبيُّ ﷺ عثمان بن أبي العاص الأنصاري .

المقدم: في الحديث الأخير إذا كان الماءُ كثيرًا هل يصح البولُ فيه؟

الشيخ: ولو كثيرًا، الحديث عامّ، الرسول نهى عن البول في الماء الدائم مطلقًا ولو كثيرًا؛ لأنه قد تجتمع الأبوال وتكثر حتى تُؤثر.

بَابُ الْبَوْلِ فِي الْأَوَانِي لِلْحَاجَةِ

- عَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رَقِيقَةَ، عَنْ أُمِّهَا قَالَتْ: كَانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ بِاللَّيْلِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.

- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَقُولُونَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَوْصَى إلَى عَلِيٍّ، لَقَدْ دَعَا بِالطَّسْتِ لِيَبُولَ فِيهَا فَانْخَنَثَتْ نَفْسُهُ وَمَا شَعُرْتُ، فَإِلَى مَنْ أَوْصَى؟! رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

انْخَنَثَتْ: أَيِ انْكَسَرَتْ.

الشيخ: حديث أميمة بنت رقيقة وحديث عائشة كلها يدل على أنه لا حرج في إعداد إناءٍ للبول فيه عند الحاجة، لا بأس عند فراشه في الليل، أو في حال مرضه، كل هذا لا حرج فيه؛ لأنه من باب الإرفاق بالإنسان وعدم التَّكلف في ذهابه إلى محل قضاء الحاجة، ولا حرج في ذلك والحمد لله.

المقدم: ما وجه الحاجة المذكورة في الحديث؟

الشيخ: لأنَّ الذَّهاب إلى محل قضاء الحاجة قد يشقّ على الإنسان في الليل، وقد يكون هناك موانع أخرى من مرضٍ وغيره.

المقدم: إذا بال الإنسانُ في إناءٍ، ما مقدار تطهير هذا الإناء؟

الشيخ: يُطهر بما يغلب على الظنِّ زوال آثار النَّجاسة، ما يُحدُّ بسبعٍ ولا غيره، إنما يُغسل الإناء بما يراه الغاسلُ كافيًا: ثنتين، ثلاثًا، أربعًا؛ لإزالة آثار البول الذي فيه.

المقدم: لماذا نُسبت البنتُ إلى أمها؟

الشيخ: الظاهر والله أعلم أنها نُسبت إليها لأنها مشهورة بها، وأبوها غير مشهورٍ؛ فلهذا نُسبت إليها قيل: أميمة بنت رقيقة. وقد راجعتُ ترجمتها في عدة كتبٍ فلم يُوضِّحوا الأسباب: كـ"التهذيب"، و"تهذيب التهذيب"، و"التقريب" لم تُذكر فيها أسباب نسبتها إلى أمها.

والظاهر والله أعلم أنَّ الأسباب أنها مشهورة بأمِّها دون أبيها، كما في عبدالله ابن أم مكتوم، وعبدالله ابن بحينة، وعبدالله ابن سلول؛ للشُّهرة.

المقدم: ما حكم الشرع في نظركم في انتساب الشخص إلى الأم؟

الشيخ: إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك -للشُّهرة ونحوها- فلا بأس، وإلا فالأصل النسبة إلى أبيه، الإنسان يُنسب إلى أبيه، الله قال: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ [الأحزاب:5]، هذا الواجب: أن يُدعا لأبيه، لكن إذا اشتهرت به، واشتهر بأمِّه، ودعت الحاجةُ إلى ذلك فلا بأس؛ لأنَّ هذا موجود في الصحابة وفيمَن بعدهم النسبة إلى الأم عند الحاجة إليها، من باب الإيضاح، من باب إزالة الشُّبهة.

المقدم: هل يُفهم من إيراد المؤلف لهذا الباب كراهة البول في الأواني لغير الحاجة؟

الشيخ: ما هناك شيء واضح يدل على الكراهة، الأصل الإباحة والحمد لله، ولا يقال للشيء: مكروهًا إلا بدليلٍ.

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبَوْلِ قَائِمًا

- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَالَ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إلَّا جَالِسًا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ.

- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَبُولَ الرَّجُلُ قَائِمًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ انْتَهَى إلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا، فَتَنَحَّيْتُ، فَقَالَ: ادْنُهْ، فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

الشيخ: الحديث الأول يدل على أنَّ الأفضل أن يكون البولُ عن قعودٍ -حديث عائشة- لأنه أستر للعورة، وأقرب للسلامة من أن يُصيبه شيء من رشاش البول، وإن بال قائمًا فلا حرج؛ لصحة حديث حذيفة في ذلك، فإنَّ حديث حُذيفة من أصح الأحاديث، وقد رواه الشيخان، فهو دليل على جواز البول قائمًا، ولا سيما إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك، ولم يكن هناك ما يُسبب رشاش البول على صاحب البول، ولا ظهور العورة، فإذا أمكن البول قائمًا بدون ظهور العورة لأحدٍ، ومن دون أن يُصيبه شيءٌ من البول فلا حرج في ذلك، كما فعله النبيُّ ﷺ.

ولعل السبب في ذلك أنَّ السُّباطة مُرتفعة، فلو جلس لربما انحدر عليه البول، فكان بوله قائمًا أسلم له عليه الصلاة والسلام من أن يأتيه شيء من رشاش البول.

أما حديث جابر في النَّهي عن البول قائمًا، فهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية عدي بن الفضل، وقد ذكر الحافظُ في "التقريب" أنه متروك. وقال بعضُهم: أجمعوا على تركه. وهو حديث ضعيف، إنما الحجَّة في هذا حديث عائشة، ويدل على أنَّ الأفضل البول عن قعودٍ، إلا إذا دعت الحاجةُ إلى البول قائمًا فلا بأس.

أما قول عائشة رضي الله عنها: "مَن حدَّثكم أنه بال قائمًا فلا تُصدِّقوه"، فهذا إخبار منها عمَّا تعلم في بيته، وزوجاته أعلم بما يقع في البيت، أما ما يقع في خارج البيت فالرجال أعلم، فحُذيفة وغيره أعلم من نسائه بما يقع في الخارج؛ ولأنَّ المثبت مُقدَّم على النافي، فحذيفة أثبت، وعائشة نافية، والمثبت مُقدم، فقول حذيفة مُقدم على قولها رضي الله عنها.

المقدم: إذًا عائشة عندما أنكرت البولَ قائمًا مع أنه ثابت كما في الحديث؟

الشيخ: بناءً على ما شاهدته منه في بيته، وبنت على هذا، ولا يجوز أن يحتجّ بهذا على نفي ما أثبته الثِّقات، لو كان ما جاء عن الثِّقات لكان نعم، يقال: أنها علمت هذا من بيته، ومن الخارج. لكن لما شهد الثِّقات أنه بال قائمًا خارج البيت عُلم أنها لم تطلع على هذا.

وقد روى الخطابيُّ عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ بال قائمًا من جرحٍ كان بمأبضه، ويُحمل قول عائشة على غير حال الحذر.

الشيخ: لم يثبت هذا الذي ذكره الخطابيُّ، وإنما بال لبيان الجواز، أو لأسبابٍ أخرى من جهة أنه قد ينحدر عليه البول، فالأصل في هذا هو الجواز إذا دعت الحاجةُ إليه ..... والحمد لله، إذا رأى البول قائمًا على وجهٍ لا تُرى فيه عورته، ولا يُصيبه شيء من البول، فالحديث صحيح دالٌّ على الجواز والحمد لله، وجاء بمعناه حديث المغيرة أيضًا.

المقدم: إذًا هل يدل الحديثُ -حديث عائشة- على جواز البول قائمًا؟

الشيخ: حديث حذيفة نعم، ولا سيما إذا دعت الحاجةُ إليه، أما إذا ما دعت الحاجةُ إليه فالبول عن جلوسٍ أفضل، كما فعله النبيُّ في بيته، البول عن جلوسٍ أفضل إذا لم تكن هناك حاجة إلى القيام، أما إذا كانت هناك حاجة، رأى أن هناك حاجة: إما كون المكان لا يصلح للجلوس، أو لو جلس فيه لربما ناله شيء من البول، أو أسباب أخرى، أو عجلة، أو يتألم من الجلوس؛ فلا بأس والحمد لله.

المقدم: ألا يكون هذا سببًا لإصابة هذا الشخص برشاش من البول؟

الشيخ: لا، إذا كان البولُ في أرضٍ لينةٍ ما يصير فيه شيء، إذا كانت الأرضُ دمثةً مثل السماد وأشباهه، ما يصير شيء، السباطة مجمع التراب، هذا يصير دمثًا، ما يرش البول.

المقدم: كيف نجمع بين حديث النَّهي عن البول قائمًا وفعل الرسول ﷺ؟

الشيخ: النهي عن البول قائمًا ضعيف، غير صحيحٍ، حديث جابرٍ ليس بصحيحٍ.

بَابُ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ أَوِ الْمَاءِ

- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ؛ فَإِنَّهَا تَجْزِي عَنْهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد، وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ حَسَنٌ.

- وَعَنِ ابْن عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ بِقَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ: وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.

- وَعَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْلِ؛ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

الشيخ: هذه الأحاديث تدل على الحذر من البول، وأنه ينبغي للمؤمن الحذر من البول، ولا بدَّ أن يستطيب منه: إما بالحجر، وإما بالماء.

في حديث عائشة: فليستطب بثلاثة أحجارٍ؛ فإنها تُجزئ عنه، يستطب يعني: يستجمر.

وفي حديث سلمان: أن الرسول نهى أن يُستنجى بأقلّ من ثلاثة أحجارٍ، فالواجب إذا أراد أن يكتفي بالحجر الواجب ألا تنقص عن ثلاثة أحجارٍ إذا حصل بها النَّقاء، فإن لم تُنقِ زاد رابعًا، وهكذا حتى يُنقي، فإذا دعت الحاجةُ إلى رابعٍ استُحبَّ أن يأتي بخامسٍ؛ حتى يقطع على وترٍ.

والمقصود من هذا كله التَّنزه من البول؛ ولهذا في حديث ابن عباسٍ: أن النبي ﷺ اطَّلع على قبرين، وقال: إنهما ليُعذَّبان، قال: وما يُعذَّبان في كبيرٍ يعني: شاقّ عليهما، أو في كبيرٍ في أنفسهما، ثم قال: بلى في الرواية الأخرى، يعني: إنه لكبير: أما أحدهما فكان لا يستتر من البول يعني: لا يتنزَّه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنَّميمة.

فهذا يدل على عظم جريمة النَّميمة والعياذ بالله، وعظم جريمة عدم التَّنزه من البول، وأن الواجب على المسلم أن يحذر هذا وهذا، الواجب أن يحرص على التَّنزه من البول، وأن يستطيب منه بالحجارة أو بالماء، والواجب عليه أن يحذر النَّميمة.

والنميمة: هي نقل الكلام السيئ من شخصٍ إلى شخصٍ، أو من جماعةٍ إلى جماعةٍ، أو من قبيلةٍ إلى قبيلةٍ؛ لأن هذا يُثير الشَّحناء والعداوة، يقول النبيُّ ﷺ: لا يدخل الجنةَ نمَّام متفق على صحته.

فإذا نقل زيدٌ عن عمرو كلامًا لخالدٍ: إنه يسبك، أو أنه يقول أنك بخيل، أو كذا، هذه النَّميمة، أو نقل كلام جماعةٍ إلى جماعةٍ: أنهم يسبُّونكم، وأنتم، وأنتم، يقولون فيكم كذا وكذا، فهذه النَّميمة، فهي مخربة، ومن كبائر الذنوب.

وأما البول فدلَّت السنةُ على أنه من الكبائر: عدم التَّنزه منه، وأنه من أسباب العذاب، فالواجب التَّنزه منه، والحذر، وإذا استجمر يستجمر بثلاثة أحجارٍ فأكثر؛ حتى يُنزه المحلَّ، ولا تنقص عن ثلاثةٍ إلا إذا كان معه الماء، فالماء يكفي وحده، وإن استجمر بحجرٍ أو حجرين مع الماء كفى، لكن إذا استقلَّ الحجر لا بدَّ من ثلاثٍ فأكثر، ولا بدَّ من كونه يُطيب المحلّ حتى لا يبقى أثرُ البول والغائط، والسنة إذا استجمر بأربعةٍ يقطع على وترٍ، وإذا لم تكفِ الخمسةُ أتى بسادسٍ، واستُحبَّ أن يأتي بسابعٍ؛ حتى يقطع على وترٍ.

والمقصود أنه لا بدَّ من التَّنزه من البول: إما بالماء، وإما بالحجارة، أما بالماء حتى يُنقي المحلَّ؛ حتى تعود الخشونةُ إلى محلِّ الغائط، وحتى يُزيل أثر البول من الذكر. وأما بالحجر فلا بدَّ أن يُزيل آثار البول وآثار الغائط من محلِّه بثلاثة أحجارٍ فأكثر تُنقي المحلَّ، وإذا لم تُنقِ الثلاثة زاد رابعًا حتى يُنقي المحلَّ، واستُحبَّ له أن يأتي بخامسٍ حتى يقطع على وترٍ.

ولا بدَّ أن تكون سليمةً، ليس فيها عظم ولا روث، تكون أحجارًا من الحجر، من اللبن، من الخشب، من مناديل خشنة طاهرة تُزيل الآثار لا بأس، أما العظام والأرواث فلا، لا يجوز الاستنجاء بها كما يأتي.

المقدم: إذًا الزيادة إذا لم تكفِ الأحجار الثلاثة لا بأس بها؟

الشيخ: نعم، يزيد رابعةً وهكذا، وحديث: استنزهوا من البول؛ فإنَّ عامَّة عذاب القبر منه في سنده نظر، لكن رواه الحاكم بإسنادٍ صحيحٍ، بلفظ: أكثر عذاب القبر من البول، وكلاهما يشهد للآخر؛ كل واحدٍ يشهد للآخر، وهو يُفيد الحذر من التَّساهل بالبول، وحديث القبرين من أعظم الشَّواهد على ذلك.

المقدم: إذا طهر المحلُّ بحجرين هل يكفي؟

الشيخ: ما يكفي، لا بدَّ من ثلاثة.

المقدم: حفظكم الله إذا كان الحجرُ كبيرًا، له زوايا ثلاث، هل تقوم مقام الثلاث؟

الشيخ: تكفي، إذا كانت فيه زوايا ثلاث تكفي، تكون عن ثلاثة أحجارٍ؛ لأنَّ كل زاويةٍ حجر، إذا كان له ثلاثة أطرافٍ وتطهر بها وكفت حصل المقصود.

المقدم: حفظكم الله، ذكرتم التَّطهر بالمناديل في وقتنا الحاضر، ما المقدار المجزئ منها؟

الشيخ: ثلاثة، كل منديلٍ على حجرٍ، إذا أنقت المحلَّ، فإذا ما أنقت زاد رابعًا وخامسًا حتى يُنقي المحلَّ.

المقدم: بعض الناس يُبالغ في التَّطهر من النَّجاسة حتى يصل إلى حدِّ الوسوسة، ما توجيهكم؟

الشيخ: يجب الحذر من هذا، يجب الحذر، فمتى اجتهد وظنَّ أنه أنقى كفى، وليحذر الوساوس، وليتعوذ بالله من شرِّ الشيطان.

المقدم: مَن صاحب هذين القبرين؟

الشيخ: لم يُعرفا.

المقدم: الذي يُعذَّب في قبره هل يستمر عذابُه إلى يوم القيامة؟

الشيخ: الله أعلم.

المقدم: يقول بعضُ العقلانيين بأنه لا صحةَ لعذاب القبر، ماذا نرد عليهم؟

الشيخ: مَن قال كفر؛ لأنَّ هذا القول ثابت بالسنة المتواترة، وبقوله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا هذا في القبر: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، نسأل الله العافية، هذا في الدُّنيا.

المقدم: لعلنا نختم هذا اللقاء سماحة الشيخ بهذا السؤال، وهو عن أسباب عذاب القبر إجمالًا، لعلكم تُحدثونا بها؟

الشيخ: أسباب عذاب القبر المعاصي، المعاصي كلها من أسباب عذاب القبر، وأعظمها الشرك: الكفر بالله والعياذ الله، إذا مات على الكفر فهذا من أسباب عذاب القبر، وإذا مات على المعاصي فهي من أسباب عذاب القبر، نسأل الله العافية، فالنَّميمة من أسباب عذاب القبر، وعدم التَّنزه من البول من أسباب عذاب القبر، والزنا واللواط والسَّرقات وعقوق الوالدين من أسباب عذاب القبر، فالمعاصي كلها من أسباب عذاب القبر، فالواجب الحذر من ذلك، نسأل الله العافية.

المقدم: في فقرةٍ أخيرةٍ لهذا السؤال يا سماحة الشيخ: ما الذي يُنجي من عذاب القبر؟

الشيخ: طاعة الله ورسوله، والاستقامة على دينه، والتوبة مما سلف من المعاصي، إذا تاب إلى الله منها كفاه الله شرَّ عذاب القبر.

المقدم: شكر الله لكم يا سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.