باب ما يكره من النياحة على الميت

باب ما يُكره من النِّياحة على الميِّت

وقال عمر : دعهنَّ يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نَقْعٌ أو لَقْلَقَةٌ.

والنَّقْعُ: التُّراب على الرأس. واللَّقْلَقَةُ: الصوت.

1291- حدثنا أبو نعيمٍ: حدثنا سعيد بن عبيدٍ، عن عليِّ بن ربيعة، عن المغيرة قال: سمعتُ النبي ﷺ يقول: إنَّ كذبًا عليَّ ليس ككذبٍ على أحدٍ، مَن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار، سمعتُ النبي ﷺ يقول: مَن نِيحَ عليه يُعذَّب بما نِيحَ عليه.

الشيخ: وهذا وعيدٌ شديدٌ في الكذب عليه عليه الصلاة والسلام، وأن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، بل هو من أكبر الكبائر مطلقًا، سواء كان في الترهيب، أو في الترغيب، أو في الأحكام، أو في الأخبار الماضية، أو القادمة، إلى غير ذلك في جميع أنواع الكذب، كله محرم، كله من كبائر الذنوب.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه ردّة، الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ردّة .....، الكذب عليه عليه الصلاة والسلام خطير جدًّا؛ ولهذا قال أهل العلم: إذا كان لا يعلم بصحّة الحديث –يعني: صحة يطمئن إليها- فليقل: يُروى، ويُذكر؛ حتى لا يجزم بشيءٍ لم يطمئن إليه فيكون ممن كذب عليه.

وفي اللفظ الآخر: «مَن قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار»، وهذا الوعيد في كل قولٍ يُقال عليه؛ لأن كلماته وأحاديثه كلها تشريع، فالكذب فيها يُوقع الأمّة في أخطارٍ عظيمةٍ، فالواجب الحذر.

وكثيرًا ما يقع الوعاظ والمذكّرون في هذه البلية، فيجب الحذر.

وكذلك النياحة، وهي: رفع الصوت بالبكاء، فهذا الحديث -حديث المغيرة- وما جاء في معناه من حديث ابن عمر وحديث عمر وغيرها كلها تدل على تحريم النياحة مطلقًا على أي ميتٍ.

وأبو سليمان هو خالد بن الوليد، رحمه الله ورضي عنه.

فالبكاء لا بأس به، وقد بكى النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ابنته، وعلى ابنه إبراهيم، وعلى ابن بنته، وقال: «إنها رحمة»، والبكاء يكون بدمع العين، بدون نياحةٍ، بدون رفع الصوت. نعم.

مداخلة: مَن يُنَحْ عليه.

الشيخ: والذي عندك أيش هو؟

القارئ: مَن نِيحَ عليه.

الشيخ: أيش قال عليه الشارح؟

س: مَن وصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا موضوعًا وتساهل في ..... هل يدخل في هذا الوعيد؟

ج: لا، لا يجوز، من الكذب عليه، لا بد أن يُنبه.

س: يدخل في هذا الوعيد؟

ج: يدخل في الوعيد نعم.

س: لو أن رجلًا ذكر حديثًا بالمعنى فغلط في ذكره هل يدخل في هذا؟

ج: إذا ما تعمد، إذا ظن .....، لكن ينبغي له الحذر، وفي الحديث الآخر أخطر من هذا: «مَن حدَّث بحديثٍ يُرى أنه كذبٌ»، وفي اللفظ الآخر: «يَرى أنه كذبٌ» يعني: يعلم، فهذا هو الذي فيه الخطر، إذا تعمّد الكذب، أو غلب على ظنِّه أنه كذب فهذا يُوجب الحذر، أما إذا اعتقد أنه صحيحٌ، وغلب على ظنِّه أنه صحيحٌ، فهذا نرجو أن يسلم.

س: الاستشهاد بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؟

ج: فقط لا يجزم، يقول: يُروى، ويُذكر، نعم، يقول الحافظ العراقي رحمه الله على أئمّة الحديث:

وسهلوا في غير موضوعٍ رووا *** من غير تبيينٍ لحكمٍ ورأوا

بيانه في الحكـم والعـقائـد *** عن ابن مهـدي وغير واحدِ

..........

قوله: «مَن يُنَحْ عليه يُعذَّب» ضبطه الأكثر بضم أوله، وفتح النون، وجزم المهملة على أنَّ "من" شرطية وتجزم الجواب، ويجوز رفعه على تقدير: فإنه يُعذّب. ورُوي بكسر النون، وسكون التحتانية، وفتح المهملة.

وفي رواية الكشميهني: «مَن يُناح» على أن "من" موصولة.

وقد أخرجه الطبراني عن علي بن عبدالعزيز، عن أبي نعيم بلفظ: «إذا نِيح على الميت عُذِّب بالنياحة عليه»، وهو يُؤيد الرواية الثانية.

الشيخ: صارت روايتين: "نيح" و"ناح"، روايتان، نعم.

س: إذا روى الخطيب حديثًا موضوعًا، وعلم بعد الخطبة مباشرةً أن هذا الحديث موضوع؟

ج: يُنبّه، سواء في الوقت، أو في وقتٍ آخر، متى علم يُنبّه.

س: ..... ذكر قصة الصحابي المفترى عليه، فذكرها كأنه يُؤكّدها، فإذا أخبر بذلك .....؟

ج: ثعلبة يعني؟

س: نعم.

ج: هذا ما هو بموضوع، هذا ضعيف.

س: طيب، هل له أن يُنبّهه على ...؟

ج: فقط لا يرويها بالجزم: يُروى.

 

1292- حدثنا عبدان، قال: أخبرني أبي، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن أبيه رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الميِّت يُعذَّب في قبره بما نِيحَ عليه».

تابعه عبدالأعلى: حدثنا يزيد بن زريعٍ: حدثنا سعيد: حدثنا قتادة. وقال آدم: عن شعبة: «الميِّت يُعذَّب ببكاء الحي عليه».

الشيخ: ترد كلمة "البكاء" بمعنى: النياحة، فإذا جاء تعليق العذاب بالبكاء فالمراد به النياحة، وإذا جاء الإذن بالبكاء فالمراد به دمع العين من دون رفع الصوت، فإن البكاء مُشترك، يُطلق على البكاء بدون رفع الصوت، ويُطلق على البكاء برفع الصوت، وهو النياحة.

فالمأذون فيه ما كان بغير صوتٍ، والممنوع ما كان برفع الصوت. نعم.

أيش قال على أوله: "دعهنَّ يبكين على أبي سليمان"؟

وقال عمر: "دعهنَّ يبكين على أبي سليمان ..." إلخ، هذا الأثر وصله المصنف في "التاريخ الأوسط" من طريق الأعمش، عن شقيقٍ قال: لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوةُ بني المغيرة –أي: ابن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، وهنَّ بنات عم خالد بن الوليد بن المغيرة- يبكين عليه، فقيل لعمر: أرسل إليهنَّ فانههنَّ. فذكره.

وأخرجه ابن سعدٍ عن وكيعٍ وغير واحدٍ، عن الأعمش.

قوله: "ما لم يكن نقعٌ أو لقلقة" بقافين، الأولى ساكنة، وقد فسّره المصنف بأن النَّقع: التراب، أي: وضعه على الرأس، واللقلقة: الصوت، أي: المرتفع. وهذا قول الفرَّاء.

فأما تفسير اللقلقة فمتفق عليه كما قال أبو عبيدٍ في "غريب الحديث".

وأما النَّقع: فروى سعيد بن منصور، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: النَّقع: الشقّ، أي: شقّ الجيوب. وكذا قال وكيعٌ فيما رواه ابن سعدٍ عنه.

وقال الكسائي: هو صنعة الطعام للمأتم. كأنه ظنَّه من النَّقيعة، وهي طعام المأتم.

والمشهور أن النَّقيعة: طعام القادم من السفر، كما سيأتي في آخر الجهاد، وقد أنكره أبو عبيدٍ عليه وقال: الذي رأيتُ عليه أكثر أهل العلم أنه رفع الصوت، يعني: بالبكاء.

وقال بعضهم: هو وضع التراب على الرأس؛ لأن النقع هو الغبار.

وقيل: هو شقّ الجيوب. وهو قول شمر.

وقيل: هو صوت لطم الخدود. حكاه الأزهري.

وقال الإسماعيلي مُعترضًا على البخاري: النقع لعمري هو الغبار.

الشيخ: ماذا بعده؟ تكلّم على تاريخ وفاة خالد؟

القارئ: إيه.

تنبيهٌ: كانت وفاة خالد بن الوليد بالشام سنة إحدى وعشرين.

الشيخ: أيش قال العيني؟ العيني زاد شيئًا؟

الطالب: ما حضر.

الشيخ: المقصود أن الصواب في النقع هو الغبار، حثو التراب مثلما قال المؤلف، فالنقع معروفٌ: حثو التراب على الرأس من شدّة المصيبة، وهو أنواع، يقع للمُصابين أنواعًا: حثو التراب، ونتف الشعر، وشقّ الجيوب، ولطم الخدود، والصياح. هذا كله يقع في الغالب من النساء، وقد يقع من الرجال، لكن الغالب أنه يقع من النساء لقلّة صبرهنَّ. نعم.

 

بابٌ

1293- حدثنا علي بن عبدالله: حدثنا سفيان: حدثنا ابن المنكدر، قال: سمعتُ جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: جيء بأبي يوم أُحدٍ قد مُثِّلَ به، حتى وُضِعَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سُجِّيَ ثوبًا، فذهبتُ أريد أن أكشف عنه، فنهاني قومي، ثم ذهبتُ أكشف عنه، فنهاني قومي، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرُفِعَ، فسمع صوتَ صائحةٍ، فقال: «مَن هذه؟» فقالوا: ابنة عمرٍو –أو: أخت عمرٍو-، قال: «فلِمَ تبكي؟ -أو: لا تبكي- فما زالت الملائكةُ تُظِلُّه بأجنحتها حتى رُفِعَ».

الشيخ: رضي الله عنه، وهو عبدالله بن عمرو بن حرام، أبو جابر رضي الله عنهما، قُتِل يوم أحدٍ.

وفي هذا التسامح في الشيء اليسير الذي قد يقع من النساء، قال: «مَن هذه؟» ولم يقل شيئًا، ولم يسبّها، ولم يتكلم عليها، فالشيء اليسير كما قد وقع لفاطمة لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قالت: وا أبتاه! نعم. الشيء اليسير يُعفا عنه. نعم.

س: وما وقع لحفصة لما مات عمر أيضًا؟

ج: يمكن، ما أتذكر.

بابٌ: ليس منَّا مَن شقَّ الجيوب

1294- حدثنا أبو نعيمٍ: حدثنا سفيان: حدثنا زُبيد الياميُّ، عن إبراهيم، عن مسروقٍ، عن عبدالله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منَّا مَن لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليَّة».

الشيخ: الواو هنا بمعنى "أو"، فكل واحدةٍ ممنوعة؛ ولهذا في اللفظ الآخر: «أو شقّ الجيوب، أو دعا»، فالواو بمعنى "أو"، كلها ممنوعة. نعم.

س: ما المقصود بدعوى الجاهلية؟

ج: الكلام الرديء الذي هو: وا ناصراه! وا كاسياه! وا انقطاع ظهراه .....، عبارات يستعملونها: وا انقطاع ظهراه! وأشباه ذلك، كانوا في الجاهلية من عادتهم أنهم يتوجعون بها.

س: هل هي من الكبائر، أحسن الله إليك؟

ج: نعم، الصحيح أنها من الكبائر، من باب الوعيد، وفي حديث أبي موسى: «أنا بريء من الصَّالقة، والحالقة، والشَّاقة». نعم.

 

باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعدَ بن خَوْلةَ

1295- حدثنا عبدالله بن يوسف: أخبرنا مالكٌ، عن ابن شهابٍ، عن عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ، عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعُودُني عام حجَّة الوداع من وَجَعٍ اشتدَّ بي، فقلتُ: إنِّي قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلَّا ابنةٌ، أفأتصدَّق بثُلُثَيْ مالي؟

الشيخ: "إني قد بلغ بي من الوجع" فقط؟ ما في: "ما ترى"؟

قارئ المتن: لا.

الشيخ: كذا عندكم؟ نعم، في الرواية الأخرى: "ما ترى" يعني: ما تُشاهده. نعم. كذا عندكم في متن الشرح، ما في زيادة؟

القارئ: ما في شيء.

الشيخ: ماشٍ. نعم.

 

فقلتُ: إني قد بلغ بي من الوجع، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلَّا ابنةٌ، أفأتصدَّقُ بثُلُثَيْ مالي؟ قال: «لا»، فقلتُ: بالشَّطْر؟ فقال: «لا»، ثم قال: «الثُّلُث، والثُّلُث كبيرٌ –أو: كثيرٌ».

س: الشطر: النصف؟

ج: النصف، نعم.

 

«إنك أن تذَرَ ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون الناس، وإنك لن تُنْفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلَّا أُجرتَ بها، حتى ما تجعل في في امرأتك»، فقلتُ: يا رسول الله، أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قال: «إنك لن تُخَلَّف فتعمل عملًا صالحًا إلا ازْددتَ به درجةً ورِفْعةً، ثم لعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوامٌ، ويُضرَّ بك آخرون، اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم، ولا تردَّهم على أعقابهم، لكنِ البائسُ سعدُ بن خَوْلةَ»، يرثَى له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكَّة.

الشيخ: كذا عندك: "يرثَى" أو "يرثِي"؟ ضبطها؟

القارئ: ما ذكر شيئًا.

الشيخ: معناه: يتوجع له؛ لأنه مهاجر، وما أحبَّ أنه مات في مكة؛ ولهذا توجع له عليه الصلاة والسلام.

وكان سعد أصابه مرض شديد في حجة الوداع؛ فلهذا قال للنبي ما قال عليه الصلاة والسلام، ولم يكن له إلا ابنة واحدة ذلك الوقت، وسعد بن أبي وقاص أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم، لكن وُلِدَ له أولاد بعد ذلك، منهم الراوي عامر بن سعد، ومنهم محمد بن سعد، وعمر بن سعد، وإبراهيم بن سعد .....، كلهم بعد ذلك.

س: مَن هو سعد بن خولة، عفا الله عنك؟

ج: سعد بن خولة أحد المهاجرين، تكلّم عليه المحشي؟

 

قوله: "باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة" سعد بالنصب على المفعولية، وخولة بفتح المعجمة وسكون الواو، والرِّثاء بكسر الراء، وبالمثلثة بعدها: مدّة مدح الميت وذكر محاسنه، وليس هو المراد من الحديث، حيث قال الراوي: "يرثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ ولهذا اعترض الإسماعيلي الترجمةَ فقال: ليس هذا من مراثي الموتى، وإنما هو من التوجع، يُقال: "رثيته" إذا مدحته بعد موته، و"رثيت له" إذا تحزنت عليه، ويمكن أن يكون مراد البخاري هذا بعينه، كأنه يقول: ما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التَّحزن والتَّوجع، وهو مباحٌ، وليس معارضًا لنهيه عن المراثي التي هي ذكر أوصاف الميت الباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللَّوعة.

وهذا هو المراد بما أخرجه أحمد وابن ماجه، وصححه الحاكم من حديث عبدالله ابن أبي أوفى قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي.

وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: نهانا أن نتراثى.

ولا شك أن الجامع بين الأمرين: التوجع والتَّحزن.

ويؤخذ من هذا التقرير: مناسبة إدخال هذه الترجمة في تضاعيف التراجم المتعلقة بحال مَن يحضر الميت.

قوله: "أن مات" بفتح الهمزة، ولا يصحّ كسرها؛ لأنها تكون شرطيةً، والشرط لما يستقبل، وهو قد كان مات.

والمعنى: أن سعد بن خولة هو من المهاجرين من مكة إلى المدينة، وكانوا يكرهون الإقامة في الأرض التي هاجروا منها وتركوها، مع حبِّهم فيها لله تعالى، فمن ثم خشي سعد بن أبي وقاص أن يموت بها، وتوجّع رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة؛ لكونه مات بها.

وأفاد أبو داود الطيالسي في روايته لهذا الحديث عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري: أنَّ القائل "يرثى له ..." إلخ هو الزهري.

ويُؤيده أن هاشم بن هاشم وسعد بن إبراهيم رويا هذا الحديث عن عامر بن سعد، فلم يذكرا ذلك فيه، وكذا في رواية عائشة بنت سعد، عن أبيها كما سيأتي في كتاب "الوصايا" مع بقية الكلام عليه، وذكر الاختلاف في تسمية البنت المذكورة، إن شاء الله تعالى.

الشيخ: وفيه من الفوائد: أن الوصية تكون بالثلث فأقلّ، وأنه ينبغي للمؤمن أن يُراعي الذرية، وأن يُبقي لهم من المال ما ينفعهم؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس»، فكونه يحتسب الأجر فيهم، ويُبقي لهم ما يُعينهم وينفعهم أولى من كونه يتصدق بالمال كله ويُخرج ما لديه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «الثلث، والثلث كثير».

وابن عباسٍ يقول: "لو أنَّ الناس غضّوا من الثلث إلى الربع"؛ لهذا المعنى.

والصديق رضي الله عنه أوصى بالخمس.

فإذا كان المال كثيرًا، وأوصى بالخمس، أو بالربع، أو بأقلّ من ذلك كفى، حتى يدع للورثة ما ينفعهم.

وفيه من الفوائد: أن المؤمن يعتني بالوصية؛ لأنه لا يدري متى يهجم عليه الأجل، وفي هذا المعنى من حديث ابن عمر: يقول صلى الله عليه وسلم: «ما حقّ امرئٍ مسلمٍ له شيء يريد أن يُوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده». خرجه الشيخان.

قال ابن عمر رضي الله عنهما: فما مرَّت عليَّ ثلاثة منذ سمعت رسول الله يقول ذلك إلا ووصيتي عندي.

فالمقصود أن البدار بالوصية والعناية بها إذا كان هناك شيء يوصى به هو الأفضل؛ لأن الموت يأتي بغتةً في بعض الأحيان.

وفيه أيضًا: عَلَمٌ من أعلام النبوة، فإنه قال صلى الله عليه وسلم: «لعلك أن تُخَلَّف حتى ينتفع بك أقوامٌ، ويُضرّ بك آخرون»، فقد خُلِّف وطالت حياة سعدٍ، وجاهد الفرس، وجرى على يديه من الفتوحات ما هو معروف يوم القادسية وغيره، وهذا من فضل الله جلَّ وعلا، وكانت وفاته سنة ستٍّ وخمسين للهجرة في حياة عائشة، وصلَّت عليه عائشة رضي الله عنها والمسلمون في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، فالله جلَّ وعلا حقق رجاءه صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لعلك أن تُخَلَّف»، وعاش مدةً طويلةً بعد النبي صلى الله عليه وسلم: ستًّا وأربعين سنةً بعد النبي عليه الصلاة والسلام، نعم.

س: «ويُضرّ بك آخرون» يعني: قتل الكفَّار؟

ج: يعني: قتل الكفَّار، نعم.

 

مداخلة: في "القاموس" ذكر "رثي": ورثيتُ الميت رثيًا ورِثاءً ورِثَايَةً –بكسرهما-، ومَرْثَاةً، ومَرْثِيَةً –مُخَفَّفَةً-، ورَثَوْتُه: بَكَيْتُه، وعَدَّدْتُ مَحَاسِنَهُ، كَرَثَّيْتُه تَرْثِيَةً، وتَرَثَّيْتُه، ونَظَمْتُ فيه شِعْرًا، وحَديثًا عنه أَرْثِي رِثايَةً: ذَكَرْتُه وحَفِظْتُه.

الشيخ: ..... من باب: ضرب، رثاه يرثيه.

ورجلٌ أَرْثَى: لا يُبْرِمُ أمرًا.

الشيخ: معناها: يرثي بالكسر.

ورَثَى له: رَحِمَهُ ورَقَّ له.

وامرأةٌ رَثَّاءَةٌ ورَثَّايَةٌ: نَوَّاحَةٌ.

الشيخ: من باب: ضرب، من باب: رمى يرمي.

س: أحسن الله إليك، مناسبة الحديث، يعني: أن سعد بن أبي وقاص خشي أن يُصيبه ما أصاب سعد بن خولة؟

ج: نعم، كأنه خاف من هذا، نعم.

س: مناسبة الرثاء للحزن والبكاء .....؟

ج: يُكره إذا كان يترتب عليه تجديد الحزن، وأما إذا كان لقصد بيان الحقِّ مثلما فعل حسان ..... لبيان الحق ..... يُبين، لا يترتب عليه حزنٌ، ولا تترتب عليه مصائب، ولا يترتب عليه شرٌّ، فالأمر واسعٌ، نعم.

س: قوله: «اللهم لا تردّهم على أعقابهم» فيه كراهة الموت بمكة بالنسبة لهم؟

ج: نعم، ينبغي للمُهاجرين ألا يبقوا في محلِّهم؛ ولهذا نهاهم أن يبقوا أكثر من ثلاثة أيام بعد حجِّهم، نهاهم أن يُقيموا أكثر من ثلاثة أيام؛ ليرجعوا إلى محلِّ هجرتهم.

س: أحسن الله إليك، إذا كان الورثة لا تلزمه نفقتهم، هل الأولى .....؟

ج: لا تجوز الزيادة على الثلث مطلقًا، ولو كانوا أغنى الناس، ولو كانوا أغنى من قارون.

س: لا تلزمهم النفقة؟

ج: مَن هم؟

س: الميت لا تلزمه نفقة الورثة؟

ج: ما هو ..... النفقة، المقصود الورثة فقط، النفقة ما لها تعلّق، نعم.

س: إذا هاجر الإنسان من قريةٍ، ثم جاءته أخبار أن الدين فيها انتشر وقوي، فهل يرجع إليها، أم ماذا؟

ج: هل المهاجرون رجعوا إلى مكة بعدما ظهر فيها الدين؟

س: لا، ما رجعوا.

ج: لا يرجع، نعم.

 

باب ما يُنْهَى من الحَلْقِ عند المصيبة

1296- وقال الحكم بن موسى: حدثنا يحيى بن حمزة، عن عبدالرحمن بن جابر: أن القاسم بن مُخيمرةَ حدثه، قال: حدثني أبو بُردة ابن أبي موسى رضي الله عنه، قال: وَجِعَ أبو موسى وجعًا شديدًا، فغُشِيَ عليه ورأسه في حجر امرأةٍ من أهله، فلم يستطع أن يردَّ عليها شيئًا، فلمَّا أفاق قال: أنا بريءٌ ممن بَرِئَ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَرِئَ من الصَّالقة، والحالقة، والشَّاقَّة.

الشيخ: وهذا يدلّ على أن المسلم –ولا سيما طالب العلم- يُبين لأهله الأحكام الشرعية، إذا وجد منهم ما يدل على الجهل يُعلّمهم؛ ولهذا لما غُشي على أبي موسى رضي الله عنه ظنت امرأتُه أنه مات فصاحت، ولما أفاق نبَّهها فقال: "أنا بريء ممن برئ منه رسول الله، من الصَّالقة، والحالقة، والشاقّة".

الصَّالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة.

والحالقة: التي تحلق شعرها، أو تنتفه عند المصيبة.

والشاقّة: التي تشقّ ثوبها، أو خمارها، أو نحو ذلك.

وتقدم حديث ابن مسعودٍ: «ليس منا مَن لطم الخدود، أو شقَّ الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية»، نعم.

س: الهجرة باقية لا تزال؟

ج: إلى يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرةُ حتى تنقطع التوبة»، هذا الذي عليه أهل العلم قاطبةً، أما قوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرةَ بعد الفتح» يعني: من مكّة، فكل بلادٍ فُتحت، أو صارت بلاد إسلامٍ ما عاد ينفع منها هجرة، فالهجرة منها حال كونها بلاد كفرٍ، نعم.

 

بابٌ: ليس منَّا مَن ضرب الخدود

1297- حدثنا محمد بن بشَّار: حدثنا عبدالرحمن: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبدالله بن مُرَّةَ، عن مسروقٍ، عن عبدالله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس منَّا مَن ضرب الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهليَّة».

 

باب ما يُنْهَى من الويل ودعوى الجاهليَّة عند المصيبة

1298- حدثنا عمر بن حفصٍ: حدثنا أبي: حدثنا الأعمش، عن عبدالله بن مُرَّةَ، عن مسروقٍ، عن عبدالله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منَّا مَن ضرب الخدود، أو شقَّ الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهليَّة».

 

باب مَن جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحُزن

1299- حدثنا محمد بن المثنَّى: حدثنا عبدالوهاب، قال: سمعتُ يحيى قال: أخبرتني عَمرةُ، قالت: سمعتُ عائشةَ رضي الله عنها قالت: لَمَّا جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابن حارثة وجعفرٍ وابن رواحة جلس يُعْرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائِرِ الباب -شقِّ الباب-، فأتاه رجلٌ فقال: إنَّ نساء جعفرٍ. وذكر بُكاءهنَّ، فأمره أن ينهاهُنَّ، فذهب، ثم أتاه الثانية لم يُطِعْنَه، فقال: «انْهَهُنَّ»، فأتاه الثالثة، قال: والله لقد غلبننا يا رسول الله. فزعمتْ أنه قال: «فَاحْثُ في أفواههنَّ الترابَ»، فقلت: أَرْغَمَ الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العَنَاء.

الشيخ: البكاء هنا النياحة، وفيه أنه لا بأس أن يظهر الحزن على المصاب، ويجلس وعليه آثار الحزن من المصيبة من أبيه، أو أخيه، أو صديقه، لا بأس بهذا.

ولهذا شرع الله التعزية؛ لأن الناس يُصيبهم الحزن، مثلما قال في قصة إبراهيم: «العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»، فمن طبيعة الإنسان أن يُصيبه الحزن إذا مات قريبه أو صديقه؛ ولهذا شرع الله التعزية.

وفيه إنكار المنكر، يعني: إذا نُحْنَ يُنهين ولو بحثو التراب حتى يرتدعن.

 

1300- حدثنا عمرو بن علي: حدثنا محمد بن فُضيلٍ: حدثنا عاصمٌ الأحول، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا حين قُتِلَ القُرَّاء، فما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن حزنًا قطُّ أشدَّ منه».

الشيخ: وذلك لأنها مصيبة عظيمة، أرسل سبعين من القُراء للدعوة إلى الله جلَّ وعلا، فقُتلوا، مصيبة عظيمة؛ ولهذا حزن عليهم حزنًا عظيمًا، وقنت شهرًا يدعو على الذين قتلوهم.

أيش قال الشارح على الباب؟

ثم تقدم غير مرةٍ أن المؤلف يكرر الأسانيد لمصالح:

منها: التنبيه على معاني الأحاديث، كالشرح، الترجمة كالشرح؛ تنبيهًا على بعض المعنى.

ومنها: تعدد الطرق، حتى يعرف طالب العلم أن هذا الحديث له طرق كثيرة، وهذا هو الغالب: أنه يُعدد ويُكرر لأجل تعدد الطرق: إما بتعدد الشيوخ، أو تعدد الطرق كلها: الشيخ ومَن بعده.

أيش قال؟ نعم.

 

قوله: "باب مَن جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن"، "يُعرف" مبني للمجهول، و"مَن" موصولة، والضمير لها، ويحتمل أن يكون لمصدر جلس، أي: جلوسًا يعرف.

ولم يُفصح المصنف بحكم هذه المسألة، ولا التي بعدها، حيث ترجم: "مَن لم يظهر حزنه عند المصيبة"؛ لأن كلًّا منهما قابل للترجيح.

أما الأول: فلكونه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني من تقريره، وما يُباشره بالفعل أرجح غالبًا.

وأما الثاني: فلأنه فعل أبلغ في الصبر، وأزجر للنفس؛ فيرجح.

ويُحمل فعله صلى الله عليه وسلم المذكور على بيان الجواز، ويكون فعله في حقِّه في تلك الحالة أولى.

وقال الزين ابن المنير ما ملخصه: موقع هذه الترجمة من الفقه: أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمَن أُصيب بمصيبةٍ عظيمةٍ لا يُفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشقّ والنوح وغيرها، ولا يُفرط في التجلد حتى يُفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيُقتدى به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بأن يجلس المصابُ جلسةً خفيفةً بوقارٍ وسكينةٍ، تظهر عليه مخايل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة.

قوله: "حدثنا عبدالوهاب" هو ابن عبدالمجيد الثقفي، و"يحيى" هو ابن سعيد الأنصاري.

قوله: "لما جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم" هو بالنصب على المفعولية، والفاعل قوله: "قتل ابن حارثة"، وهو زيد، وأبوه بالمهملة والمثلثة، "وجعفر" هو ابن أبي طالب، "وابن رواحة" هو عبدالله، وكان قتلهم في غزوة مؤتة كما تقدم ذكره في رابع بابٍ من كتاب "الجنائز"، ووقع تسمية الثلاثة في رواية النسائي من طريق معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وساق مسلمٌ إسناده دون المتن.

قوله: "جلس" زاد أبو داود من طريق سليمان بن كثير، عن يحيى: "في المسجد".

قوله: "يُعرف فيه الحزن" قال الطيبي: كأنه كظم الحزن كظمًا، فظهر منه ما لا بد للجِبِلَّة البشرية منه.

قوله: "صائر الباب" بالمهملة والتحتانية، وقع تفسيره في نفس الحديث: "شَقّ الباب"، وهو بفتح الشين المعجمة، أي: الموضع الذي ينظر منه، ولم يرد بكسر المعجمة، أي: الناحية، إذ ليست مراده هنا. قاله ابن التين.

وهذا التفسير الظاهر أنه من قول عائشة، ويحتمل أن يكون ممن بعدها.

قال المازري: كذا وقع في "الصحيحين" هنا: "صائر"، والصواب: "صير" أي: بكسر أوله، وسكون التحتانية، وهو الشقّ.

قال أبو عبيد في "غريب الحديث" في الكلام على حديث: «مَن نظر من صير الباب ففُقِئت عينه فهي هدر»: الصير: الشقّ، ولم نسمعه إلا في هذا الحديث.

وقال ابن الجوزي: "صائر" و"صير" بمعنى واحدٍ. وفي كلام الخطابي نحوه.

قوله: "فأتاه رجلٌ" لم أقف على اسمه، وكأنه أُبهم عمدًا؛ لما وقع في حقِّه من غضِّ عائشة منه.

قوله: "إن نساء جعفر" أي: امرأته، وهي أسماء بنت عميس الخثعمية، ومَن حضر عندها من أقاربها وأقارب جعفر ومَن في معناهن، ولم يذكر أهلُ العلم بالأخبار لجعفر امرأةً غير أسماء.

قوله: "وذكر بكاءهن" كذا في "الصحيحين".

قال الطيبي: هو حال عن المستتر في قوله: "فقال"، وحذف خبر "إن" من القول المحكي لدلالة الحال عليه، والمعنى: قال الرجل: إن نساء جعفر فعلن كذا مما لا ينبغي من البكاء المشتمل مثلًا على النوح. انتهى.

وقد وقع عند أبي عوانة من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى: "قد كثر بكاؤهن"، فإن لم يكن تصحيفًا فلا حذف ولا تقدير، ويُؤيده ما عند ابن حبان من طريق عبدالله بن عمرو، عن يحيى بلفظ: "قد أكثرن بكاءهن".

قوله: "فذهب" أي: فنهاهن فلم يُطعنه.

قوله: "ثم أتاه الثانية لم يُطعنه" أي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم المرة الثانية فقال: "إنهنَّ لم يُطعنه".

ووقع في رواية أبي عوانة المذكورة: "فذكر أنهن لم يُطعنه".

قوله: "قال: والله غلبننا" في رواية الكشميهني: "لقد غلبننا".

قوله: "فزعمت" أي: عائشة، وهو مقول عمرة، والزعم قد يُطلق على القول المحقق، وهو المراد هنا.

قوله: "أنه قال" في الرواية الآتية بعد أربعة أبواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال.

قوله: "فاحثُ" بضم المثلثة وبكسرها، يُقال: حثا، يحثو، ويحثي.

قوله: "التراب" في الرواية الآتية: "من التراب".

قال القرطبي: هذا يدل على أنهن رفعن أصواتهن بالبكاء، فلما لم ينتهين أمره أن يسدّ أفواههن بذلك، وخصّ الأفواه بذلك لأنها محلّ النوح، بخلاف الأعين مثلًا. انتهى.

ويحتمل أن يكون كنايةً عن المبالغة في الزجر، أو المعنى: أعلمهن أنهن خائبات من الأجر المترتب على الصبر؛ لما أظهرن من الجزع، كما يُقال للخائب: لم يحصل في يده إلا التراب. لكن يبعد هذا الاحتمال قول عائشة الآتي.

وقيل: لم يُرد بالأمر حقيقته.

قال عياض: هو بمعنى التعليل، أي: أنهن لا يسكتن إلا بسدِّ أفواههن، ولا يسدّها إلا أن تُملأ بالتراب، فإن أمكنك فافعل.

وقال القرطبي: يحتمل أنهن لم يُطعن الناهي؛ لكونه لم يُصرح لهن بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن، فحمل ذلك على أنه مُرشدٌ للمصلحة من قِبَل نفسه، أو علمن ذلك، لكن غلب عليهنَّ شدّة الحزن؛ لحرارة المصيبة.

ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن.

ويحتمل أن يكون بكاء مجردًا، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن؛ لأنه لا يقرّ على باطلٍ.

ويبعد تمادي الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرم.

وفائدة نهيهن عن الأمر المباح: خشية أن يسترسلن فيه، فيُفضي بهن إلى الأمر المحرم؛ لضعف صبرهن، فيُستفاد منه: جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرم.

الشيخ: هذا ليس بشيءٍ، والصواب أنه إنما أمره بهذا لأنه نياحة، فالبكاء قسمان:

قسم بدمع العين، وهذا لا بأس به، ولا يُقال لصاحبه شيء، ولا يُحثا عليه التراب، إنما هذا في النياحة التي حرّم الله.

والبكاء كما تقدم يُطلق على النياحة برفع الصوت، ويُطلق على دمع العين، والممنوع هو النياحة، وهو الذي راجع فيه الصحابة، نعم.

 

قوله: "فقلت" هو مقول عائشة.

قوله: "أرغم الله أنفك" بالراء والمعجمة، أي: ألصقه بالرَّغام -بفتح الراء والمعجمة- وهو التراب؛ إهانةً وإذلالًا، ودعت عليه من جنس ما أمر أن يفعله بالنسوة؛ لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة تردده إليه في ذلك.

قوله: "لم تفعل" قال الكرماني: أي: لم تبلغ النهي، ونفته وإن كان قد نهى ولم يُطعنه؛ لأن نهيه لم يترتب عليه الامتثال، فكأنه لم يفعل.

ويحتمل أن تكون أرادت: لم تفعل، أي: الحثو بالتراب.

قلت: لفظة "لم" يُعبّر بها عن الماضي، وقولها ذلك وقع قبل أن يتوجّه، فمن أين علمت أنه لم يفعل؟!

فالظاهر أنها قامت عندها قرينةٌ بأنه لا يفعل، فعبّرت عنه بلفظ الماضي مبالغةً في نفي ذلك عنه، وهو مُشعرٌ بأن الرجل المذكور كان من ألزام النسوة المذكورات.

وقد وقع في الرواية الآتية بعد أربعة أبواب: "فوالله ما أنت بفاعلٍ ذلك"، وكذا لمسلم وغيره، فظهر أنه من تصرف الرواة.

الشيخ: يعني: ما أنت بفاعلٍ، يعني: ما أنت بحاث التراب، ولا أنت مريح النبي صلى الله عليه وسلم من التكرار. نعم.

 

قوله: "من العناء" بفتح المهملة والنون والمدّ، أي: المشقة والتعب.

وفي روايةٍ لمسلم: "من العِيِّ" بكسر المهملة، وتشديد التحتانية.

ووقع في رواية العذري: "الغي" بفتح المعجمة، بلفظٍ ضدّ الرشد.

قال عياض: ولا وجهَ له هنا.

وتعقب بأنَّ له وجهًا، ولكن الأول أليق؛ لموافقته لمعنى العناء التي هي رواية الأكثر.

الشيخ: يكفي، بركة، سمِّ.

س: قوله: "فاحثُ في أفواههن التراب" هل هو كناية عن .....؟

ج: على ظاهره .....، ولا يفعل شيئًا يُسبب الفتن والشَّر، فالعقوبة بالفعل لها شروط.

س: عفا الله عنك يا شيخ، ما الدليل على نهي النساء عن زيارة القبور؟

ج: حديث أبي هريرة وحسان بن ثابت وابن عباس: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور".

س: حديث: «إن الميت ليُعذَّب ببكاء أهله» المراد به النياحة أو مطلق البكاء؟

ج: النياحة -بارك الله فيك-، النياحة، فالبكاء يُطلق على النياحة، وعلى غير النياحة، والمراد النياحة، أما البكاء الذي يكون بدمع العين فلا بأس به.