أبواب موجبات الغسل.. باب الغسل من المني

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس "المنتقى".

ضيف اللقاء هو سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بسماحة الشيخ، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حيَّاكم الله وبارك فيكم.

المقدم:

أبواب مُوجبات الغسل

باب الغسل من المني

- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: فِي الْمَذْيِ الْوُضُوءُ، وَفِي الْمَنِيِّ الْغُسْلُ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَلِأَحْمَدَ: فَقَالَ: إذَا حَذَفْتَ الْمَاءَ فَاغْتَسِلْ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاذِفًا فَلَا تَغْتَسِلْ.

وفيه تنبيهٌ على أنَّ ما خرج من غير شهوةٍ: إما لمرضٍ أو بردٍ، فلا يُوجب الغُسل.

- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ الْغُسْلُ إذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ إذَا رَأَتِ الْمَاءَ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ: تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَا يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذه الأحاديث فيما يتعلق بالمذي والمني:

في حديث عليٍّ أنه سأل الرسولَ عن المذي، فأفتاه عليه الصلاة والسلام بأنَّ المذي فيه الوضوء، والمني فيه الغسل، المني: هو ما يخرج دفقًا بلذةٍ لشهوةٍ، يقال له: مني، وهو ماء غليظ يخرج عن الشَّهوة عند مسِّ المرأة، أو عند التفكير، أو عند التقبيل، أو نحو ذلك، هذا يُوجب الغسل.

أما المذي: فهو ماء لزج يخرج عند تحرك الشَّهوة على طرف الذكر، ليس بغليظٍ، بل ماء خفيف لزج، فهذا يُوجب الوضوء، مع غسل الذَّكر والأُنثيين، يغسل ذكره وأُنثييه ويتوضأ وضوء الصلاة؛ لقوله ﷺ: إذا حذفت الماء فاغتسل، دليل على أنَّ المراد إذا خرج عن شهوةٍ، كما قال المؤلفُ.

وفي اللفظ الآخر: إذا فضختَ الماء فاغتسل، المعنى: إذا دفعه عن شهوةٍ فهذا يُوجب الغسل، يعني: المني، أما لو خرج المنيُّ عن مرضٍ أو بردٍ فلا يُوجب الغسل، إنما يُوجبه إذا خرج عن شهوةٍ وعن دفقٍ وقوةٍ؛ ولهذا قال: إذا حذفت الماء، وفي اللفظ الآخر: إذا فضخت الماء.

فهذا يدل على أنه إذا خرج عن شهوةٍ ودفقٍ يُوجب الغسل، أما إذا خرج عن مرضٍ أو بردٍ أو ما أشبه ذلك من غير شهوةٍ فهذا لا يُوجب الغسل.

وفي حديث أم سليم الدلالة على أنَّ المرأة إذا احتلمت تغتسل إذا رأت الماء، وهكذا الرجل إذا احتلم ورأى الماء اغتسل، أما إذا لم يرَ ماءً، إنما احتلم فقط، فلا غسلَ عليه؛ لقوله ﷺ لأم سليم: نعم إذا رأت الماء، ولما استنكرت أمُّ سلمة ذلك قال لها النبيُّ ﷺ: بِمَ يُشبهها ولدها؟ فهي تحتلم كالرجل، وتمني كالرجل، المرأة لها مني، والرجل له مني، ومن مائهما جميعًا يخلق الله الولد.

فالمقصود أنَّ المرأة والرجل متى احتلما ودفقا فعليهما الغسل، أما احتلام بدون ماءٍ فلا غسلَ، إذا استيقظ ولم يجد ماءً فلا غسلَ عليه، وهكذا المرأة.

س: ما الفرق بين الغَسل والغُسل؟

الشيخ: لغتان، يقال: غَسل وغُسل.

س: هل يلزم غسل الخصيتين إذا خرج المذي؟

الشيخ: نعم، هذا الصواب: الذكر والأُنثيين.

س: ما مراد الفقهاء من قولهم: يُعفا عن يسير المذي؟

الشيخ: الشيء اليسير يُعفا عنه، كما جاء في حديث عبدالله بن سعد، الشيء اليسير يُعفا عنه: إذا أصاب ثوبَ الإنسان أو فراشَه يُعفا عنه، أما الاستنجاء فلا بدَّ منه، يستنجي منه ولو قليلًا، ويغسل ذكره وأُنثييه، ولكن لو أصاب شيئًا من ثوبه شيءٌ يسير يُعفا عنه، لكن إذا رشَّه بالماء أحوط، لو رشَّه بالماء.

س: حد اليسير؟

الشيخ: عُرفًا.

س: إذا نفذ المذي من السِّروال إلى الثَّوب، ما حكمه؟

الشيخ: يُغسل، يُرشُّ بالماء المذي، أما المني ما هو بنجسٍ.

س: يتساءل كثيرٌ من الإخوة: بأنَّ الرجل إذا داعب امرأته وهو صائم ثم أمذى، هل يُؤثر ذلك على صومه؟

الشيخ: الصواب لا يُؤثر، الصواب أنَّ المذي لا يُفسد الصوم، إنما يُفسده المني إذا خرج عن شهوةٍ، أما المذي يُعفا عنه، بحيث لا يُفسد الصوم؛ لأنَّ هذا يُبتلى به الناس، ولا دليلَ على إفساد صومه، ولكن يغسل ذكره ويتوضأ.

س: إذا احتلم المرءُ ولكن بعد الاستيقاظ لم يجد أثرًا لذلك؟

الشيخ: ما عليه غسل إلا إذا وجد ماءً.

س: كثيرًا ما يقوم الإنسانُ وهو لا يذكر احتلامًا، لكن يُشاهد بللًا في ملابسه، ولا يدري ما هذا البلل؟

الشيخ: إن كان منيًّا يغتسل، وإن كان ما هو بمنيٍّ ما عليه غسل، قد يكون بولًا يغسله، لكن إذا علم أنه مني يغتسل، وإذا شكَّ الأحوط له أن يغتسل.

 

بَابُ إيجَابِ الْغُسْلِ مِن الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَنَسْخِ الرُّخْصَةِ فِيهِ

- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ ثُمَّ جَهدهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَلِمُسْلِمٍ وَأَحْمَدَ: وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ.

- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إذَا قَعَدَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، ثُمَّ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ؛ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَلَفْظُهُ: إذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ.

- وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يَقُولُونَ: "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" رُخْصَةٌ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَخَّصَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَمَرَنَا بِالِاغْتِسَالِ بَعْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

وَفِي لَفْظٍ: إنَّمَا كَانَ "الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ" رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُهِيَ عَنْهَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُجَامِعُ أَهْلَهُ، ثُمَّ يُكْسِلُ، وَعَائِشَةُ جَالِسَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنِّي لَأَفْعَلُ ذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ ثُمَّ نَغْتَسِلُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

- وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا عَلَى بَطْنِ امْرَأَتِي، فَقُمْتُ وَلَمْ أُنْزِلْ، فَاغْتَسَلْتُ وَخَرَجْتُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: لَا عَلَيْكَ، الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ، قَالَ رَافِعٌ: ثُمَّ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْغُسْلِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

الشيخ: هذه الأحاديث كلها تدل على أنَّ الجماع يُوجب الغسل، سواء أمنى أو لم يمنِ، متى جامع زوجته فإنه يجب عليه الغسل، وهذا معنى: إذا مسَّ الختانُ الختانَ، وهذا معنى: ثم جهدها فقد وجب الغسلُ وإن لم يُنزل، فإذا أولج طرفَ ذكره في فرجها حتى جاوز الختانُ الختانَ وجب عليه الغسل، سواء أنزل أو لم يُنزل، هذا الذي استقرت عليه الشريعة، وحكاه بعضُهم إجماعًا، متى جامع زوجته أو سريته أو والعياذ بالله زنا وجب الغسلُ، متى جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل، وإن لم يُنزل المني، هذا هو الحقّ الذي استقرت عليه الشريعةُ.

وكانوا في أول الإسلام إذا لم يُمنِ لا يغتسل، وإنما يغتسل إذا أمنى، وفي الحديث: الماء من الماء، ثم نسخ الله ذلك، واستقرت الشريعةُ على أنَّ الرجل إذا جامع زوجتَه وجب عليهما الغسل، سواء أمنى أو لم يمنِ.

أما الاحتلام لا، إذا احتلم لا بدَّ من منيٍّ، إذا احتلم ولم يجد ماءً فلا غسلَ عليه كما تقدم، وإنما يجب الغسل من الماء في مسألة الاحتلام، أما إذا جامعها فإنه يغتسل مطلقًا: أنزل أو لم يُنزل، هذا هو الذي استقرت عليه الشَّريعة.

س: يتوهم البعضُ من الأزواج -خاصةً ممن تزوَّجوا قريبًا- بأنَّ مَن جامع ولم يُنزل لا غسلَ عليه، وقد حصل كثيرٌ من ذلك، فما حكم مَن صلَّى؟

الشيخ: مَن جهل يُعلَّم، الواجب التعليم، الله جلَّ وعلا قال: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وقال: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3]، ويُروى عنه ﷺ أنه قال: إنَّ الله وملائكته يُصلون على معلم الناس الخير، خيركم مَن تعلم القرآن وعلَّمه، المقصود التعليم؛ يُعلَّم مَن جهل أنه متى جامع وجب عليه الغسل وإن لم يُنزل، هذا هو الذي استقرت به الشريعة، وأجمع عليه المسلمون: متى جامع زوجته أو سريته وجب عليه الغسل، سواء أنزل المني أو لم يُنزل.

أما الاحتلام لا، إن أنزل وجب عليه الغسل، إن وجد منيًّا اغتسل، وإلا فلا.

وسواء كان جماعُه مباشرةً، أو من دون حائلٍ، لو جعل على ذكره شيئًا -خرقة أو شيء- فإنه يغتسل، ولو جعل على ذكره خرقةً، ولو جامع مع حائلٍ فإنه يغتسل؛ لأنَّ بعض الناس قد يتحيل بهذا، قد يضعه حيلةً حتى لا يغتسل، وهذا باطل، متى جامع زوجته ولو جعل على فرجه شيئًا، متى جامعها وجب الغسل.

س: حديث أبي هريرة، هل هو ناسخ؟ هل هو ناسخ لحديث الماء من الماء؟

الشيخ: نعم، هو وغيره، حديث أبي هريرة وحديث عائشة وما جاء في معناهما كلها ناسخة.

س: ثم يكسل؟

الشيخ: يعني: يكسل ما يخرج المني.

س: ما الطريقة الشَّرعية للغسل من الجنابة؟

الشيخ: الأفضل مثلما فعل النبيُّ ﷺ: يستنجي ويغسل فرجه وما أصابه، ثم يتوضأ وضوء الصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه ثلاث مرات، ثم على جنبه الأيمن، ثم الأيسر، هذا الأفضل، وإن صبَّ الماء على بدنه وعمَّم كفى، ولو ما رتَّبه، لكن الأفضل أن يستنجي أولًا، ثم يتوضأ وضوء الصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه ثلاث غرفات، ثم يصبّ الماء على جنبه الأيمن، ثم الأيسر، هذا هو الأفضل، كفعل النبيِّ ﷺ.

س: إذا عمم بدنه بالماء ولم يبدأ بالوضوء؟

الشيخ: أجزأ، لكن ما يجزي، لا بدَّ أن يتوضأ، أجزأه عن الجنابة، فإن نواهما جميعًا أجزأ عند جمعٍ من أهل العلم، ولا بأس إذا نواهما جميعًا: الوضوء والغسل جميعًا، وإن لم ينوِ الوضوء أجزأه عن الجنابة فقط، ثم يتوضأ للصلاة.

س: ما صحة حديث: تحت كل شعرةٍ جنابة؟

الشيخ: ضعيف، الواجب [أن] يُمرر الماء على الجسم ويكفي، وعلى الرأس.

س: يُسرف الكثيرُ في الغسل نظرًا لتوفر الماء، وكون الغالب من الناس يستخدم الدشَّ في الغسل، هل من توجيهٍ؟

الشيخ: لا، السنة الاقتصاد وعدم التَّكلف، السنة الاقتصاد في الماء، إذا تيسر ذلك يقتصد، هذا هو السنة.

باب مَن ذكر احتلامًا ولم يجد بللًا أو بالعكس

- عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ: أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ، فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهَا غُسْلٌ حَتَّى تُنْزِلَ، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ عَلَيْهِ غُسْلٌ حَتَّى يُنْزِلَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْمَرْأَةِ تَحْتَلِمُ فِي مَنَامِهَا، فَقَالَ: إذَا رَأَتِ الْمَاءَ فَلْتَغْتَسِلْ.

- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ، وَلَا يَذْكُرُ احْتِلَامًا، فَقَالَ: يَغْتَسِلُ، وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنْ قَدِ احْتَلَمَ، وَلَا يَجِدُ الْبَلَلَ، فَقَالَ: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: الْمَرْأَةُ تَرَى ذَلِكَ، عَلَيْهَا الْغُسْلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيَّ.

الشيخ: وهذه الأحاديث كلها تدل على أنَّ الغُسل يكون من الماء، فإذا احتلم ولم يجد ماءً فلا غسلَ عليه، وإن وجد ماءً ولم يذكر احتلامًا وجب عليه الغسل، إذا تحقق أنه مني وجب عليه الغسل وإن لم يذكر الاحتلام؛ لأنه قد لا يذكر الاحتلام إذا استيقظ، فمتى وجد منيًّا اغتسل بعد استيقاظه من نوم الليل أو النهار، أما لو احتلم ولكن لم يجد ماءً فإنه لا غسلَ عليه، كما في الأحاديث المذكورة، والمراد بالماء يعني: المني.

بَابُ وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ

- عَنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ: أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ.

- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ ثُمَامَةَ أَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اذْهَبُوا بِهِ إلَى حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ رَوَاهُ أَحْمَدُ.

الشيخ: السنة لمن أسلم أن يغتسل، كما جاء عن قيس بن عاصم، إذا أسلم يُسنُّ له أن يغتسل غسلًا كاملًا، يعني: غسل الجنابة؛ لحديث قيس بن عاصم، وهو لا بأس به.

أما حديث ثمامة فالمحفوظ فيه أنه هو الذي ذهب، ولم يأمره، بل لما أسلم ذهب واغتسل، ثم جاء وأسلم ، ولم يأمره بغسلٍ بعد الإسلام.

فالسنة الاغتسال، ولكن لا يجب؛ لأنَّ النبي ﷺ لم يأمر به ثمامة في الحديث الصحيح، ولم يأمر به الذين أسلموا يوم الفتح، وقد أسلم جمٌّ غفير يوم الفتح ولم يأمرهم النبيُّ ﷺ بالغسل، ولو أمرهم لنُقِل، فإن الصحابةَ نقلوا كل شيءٍ ، فدلَّ على أن قوله لقيس: اغتسل للاستحباب والفضل، لا للوجوب.

س: قول المحدثين: رجاله رجال الصحيح؟

الشيخ: يعني: رجال مسلم أو البخاري، هذا رجال الصَّحيح.

س: بالنسبة لباب وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم، هل يدل الحديثان السَّابقان على وجوب الغسل على الكافر؟

الشيخ: مثلما تقدم، الصواب أنه سنة؛ لأنَّ الرسول ما أمر غير قيس بن عاصم، فلما أمر به قيسًا ولم يأمر الآخرين دلَّ على أنه ليس بواجبٍ؛ ولهذا أسلم جمٌّ غفيرٌ في يوم الفتح، بل آلاف، ولم يأمرهم بالغسل، وهكذا ثمامة لما أراد الإسلام ذهب واغتسل، ولم يأمره النبيُّ بالغسل بعد إسلامه.

س: إذًا هناك حكمة من مشروعية الغسل؟

الشيخ: لأجل آثار الكفر.

س: ما الأمور التي ينبغي للدُّعاة أن يسلكوها مع غير المسلمين لدعوتهم إلى الإسلام؟

الشيخ: الرفق، دعوتهم إلى الإسلام بالرفق والأسلوب الحسن؛ حتى يقبلوا الإسلامَ، وحتى يدخلوا فيه، كما قال الله جلَّ وعلا: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال الله سبحانه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فالواجب على الدُّعاة الرفق في دعوتهم إلى الله، وبيان الحق بالأسلوب الحسن؛ لأنَّ هذا أقرب إلى قبول الحقِّ.

س: لا شكَّ أنَّ لمكاتب دعوة الجاليات في هذا البلد المبارك جهودًا مشكورةً، نأمل توجيه كلمةٍ لهذه المكاتب، وأخرى للمسلمين لمساندتها؟

الشيخ: المكاتب فيها خير كثير، ومنافع عظيمة، ونشكر القائمين عليها على جهودهم، ونسأل الله لهم المزيد من التوفيق، وقد أسلم بأسبابها جمٌّ غفير وانتفعوا بها، ونسأل الله أن يزيدها خيرًا، والقائمين عليها، ونوصي إخواننا جميعًا بمساعدتها ودعمها؛ لأنها مفيدة جدًّا للجاليات، فقد أسلم الجمُّ الغفير بواسطتها، وأسلموا بأسبابها، نسأل الله أن ينفع بها المسلمين، وأن يُبارك في جهود القائمين عليها.

بَابُ الْغُسْلِ مِنَ الْحَيْضِ

- عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

الشيخ: وهذا يدل على وجوب الغسل على الحائض، وأن المرأة إذا أصابها دمٌ كثيرٌ -وهو دم الاستحاضة- تغتسل عند ذهاب أيام الحيض، عند مضي أيام الحيض المعتادة تغتسل، ويكفي، والباقي دم استحاضةٍ لا يجب الغسل، ولكن تتوضأ لكل صلاةٍ كما أمر النبيُّ المستحاضة، والله جلَّ وعلا قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، دلَّ على أنَّ عليهن التَّطهر.

فالواجب عليهن التَّطهر، وهو الغسل عند مضي أيام العادة، وعند انقطاع حيض العادة، عند انقطاع حيض العادة تغتسل، وعند مضي أيام العادة، إذا كانت مستحاضةً إذا مضت أيامها تغتسل، ثم توضأ لكل صلاةٍ إذا كان معها دمُ الاستحاضة مستمرًّا، وإذا مضت العادةُ المعروفة، أو تمييز الحيض إذا كانت تُميز، إذا كان ما لها عادة، وميزت الحيض على غيره؛ فإنها تغتسل، ثم توضأ لكل صلاةٍ عن أيام الاستحاضة إذا استمر معها الدم الفاسد، كما أمر النبيُّ فاطمة بنت أبي حُبيش وغيرها.

س: الحقيقة بعض النساء يسألن كثيرًا، خصوصًا في هذا المجال: الفرق بين الحيض والاستحاضة؟

الشيخ: الحيض معروف، وهو ما يأتي المرأة كل شهرٍ يُسمَّى: حيضًا، والاستحاضة: الدِّماء الزائدة التي تُبتلى بها النساء: إما بسبب سقوطٍ من محلٍّ، أو بسبب حبوبٍ أكلتها، أو بأسباب غير ذلك مما قد يتعاطها النساء، تُبتلى باستمرار الدم معها، وتبقى مع حيضها، إذا جاءت العادةُ تحيض أيام العادة: لا تُصلي، ولا تصوم، والبقية تُصلي وتصوم وتتوضأ لكل صلاةٍ، كما أمر النبيُّ المستحاضة.

س: ما أقلّ مدة الحيض؟ وما أكثره؟

الشيخ: عند الجمهور: يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يومًا عند الأكثرين.

س: في زماننا هذا كثرت مشاكلُ النساء فيما يتعلق بالحيض، ما سببه المباشر في ذلك؟

الشيخ: الظاهر والله أعلم: كثرة ما تتعاطاه النساء من التَّصرفات التي تُسببه: من حبوبٍ، أو قد يتغير بسبب اللولب، قد يتغير بسبب الحبوب، وقد يكون بسبب الأمراض، قد تُبتلى بمرضٍ، قد تُبتلى بسقوطٍ من درجةٍ، أو غيرها، فالمقصود أنها إذا ابتُليت بشيءٍ من هذا عليها أن تلزم الحيض المعتاد: لا تُصلي، ولا تصوم، وما زاد عليه يُعتبر استحاضةً بسبب: إما الحبوب، أو بسبب اللولب، أو بسبب الأمراض العارضة.

س: إذًا علامة الطهر من الحيض ما هي؟

الشيخ: مُضي أيام العادة المعروفة.

س: وبالنسبة للصُّفرة والكُدرة في العادة؟

الشيخ: في زمن العادة حيض، أما بعدها فتُصلي وتصوم، أما في زمن العادة: في أولها، أو في آخرها، أو في أثنائها، كلها حيض.

س: هل هناك أشياء تحرم على الحائض أن تفعلها؟

الشيخ: لا تُصلي، ولا تصوم، ولا تمسّ المصحف حتى تطهر، أما قراءة القرآن ففيها خلافٌ، والصواب أنها تقرأ كما يأتي إن شاء الله.

س: وبالنسبة للمُستحاضة: هل يلزمها الوضوء لكل صلاةٍ؟

الشيخ: تتوضأ لكل صلاةٍ كصاحب السلس، تتوضأ لكل صلاةٍ، وإن اغتسلت فهو أفضل.

س: أخيرًا قال صاحب "الزاد": لا حيضَ قبل تسعٍ، ولا بعد خمسين. ما الحكم لو حاضت الصغيرةُ وكذلك الآيسة؟

الشيخ: هذا فيه خلاف بين العلماء:

الجمهور: لا حيضَ قبل تسعٍ، ولا بعد خمسين.

لكن القول الصحيح أنها لو رأت حيضًا بعد الخمسين، وأنَّ العادة مُستمرة ..... إلا إذا اضطرب عليها يكون دمَ استحاضةٍ، أما لو رأته مُستمرًّا عليها بعد الخمسين، كحاله قبل الخمسين؛ يكون حيضًا، هذا الصواب، كما قاله أبو العباس ابن تيمية رحمه الله شيخ الإسلام وجماعة.

بَابُ تَحْرِيمِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ

- عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْضِي حَاجَتَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَيَأْكُلُ مَعَنَا اللَّحْمَ، وَلَا يَحْجُبُهُ. وَرُبَّمَا قَالَ: لَا يَحْجِزُهُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ، لَيْسَ الْجَنَابَةَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، لَكِنَّ لَفْظَ التِّرْمِذِيِّ مُخْتَصَرٌ: كَانَ يُقْرِئُنَا الْقُرْآنَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، مَا لَمْ يَكُنْ جُنُبًا. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

- وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا يَقْرَأ الْجُنُبُ وَلَا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

- وَعَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا تَقْرَأ الْحَائِضُ وَلَا النُّفَسَاءُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

الشيخ: هذه الأحاديث تدل على أنَّ الجنب لا يقرأ شيئًا من القرآن، كما في حديث عليٍّ: كان النبيُّ ﷺ يُقرئهم القرآن ما لم يكن جنبًا. وهو من طريق عبدالله بن سلمة، وقد اختُلف فيه: منهم مَن ضعَّفه، ومنهم مَن قوَّاه، وقد جاء في روايةٍ بسندٍ جيدٍ عند أحمد رحمه الله من غير طريق عبدالله بن سلمة، بلفظ: فأما الجنب فلا، ولا آية.

فالجنب لا يقرأ القرآنَ، ولو توضأ لا يقرأ القرآن حتى يغتسل.

أما حديث ابن عمر: لا تقرأ الحائضُ ولا النُّفساء شيئًا من القرآن فهذا حديث ضعيف؛ لأنه من رواية إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة. وإسماعيل ضعيف عن الحجازيين.

فالمقصود أنه ضعيف، فالجنب جاء فيه أحاديث: لا يقرأ، ولكن الحائض الصواب أنَّ لها أن تقرأ؛ لأنَّ مدتها تطول، وهكذا النفساء.

ورواية البيهقي ضعيفة، فالصواب أنَّ الحائض والنفساء لهما أن تقرآ من دون مسِّ المصحف، عن ظهر قلبٍ، وإذا احتاجتا إلى مصحفٍ من وراء حائلٍ؛ تلمس المصحفَ من وراء حائلٍ لمراجعة الآية ونحوها.

هذا هو الصواب في الحيض والنفساء؛ لأنَّ مدَّتهما تطول، والحديث في منعهما ضعيف، أما الجنب فلا؛ لأنَّ حديث عليٍّ صحيح، كما في رواية أحمد، وتشهد له رواية الخمسة.

المقصود أنَّ الجنب لا يقرأ حتى يغتسل، أما الحائض فالصواب أنها تقرأ، والنفساء كذلك عن ظهر قلبٍ، ولهما مراجعة المصحف عند الحاجة لمراجعة الآية ونحوها، من دون حائلٍ، هذا هو الصواب.

س: لكن بعض التفاسير يكون القرآنُ أكثر، مثل: تفسير الجلالين، فما حكم مسّ مثل هذا الكتاب؟

الشيخ: مسّ الجنب للتفاسير لا بأس، وهكذا الحائض والنفساء، الحكم للتفسير، هكذا كتب الحديث، وكتب الفقه، إنما المنع للمصحف المجرد.

س: بالنسبة لذكر تفسير الجلالين، ما رأيكم بهذا التفسير؟

الشيخ: فيه بعض الأغلاط، وقد بدأنا بملاحظة ما فيه من الأغلاط إن شاء الله للتَّنبيه عليها، وفيه أغلاط -فيه خلل في العقيدة- تحتاج إلى تنبيهٍ.

س: الآيات التي ترد على اللِّسان بلا قصدٍ، أو بقصد الدُّعاء أحيانًا، مثل: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]؟

الشيخ: لا بأس، ما دام لم يقصد القراءةَ لا حرج، هذه يقصد بها الثَّناء والدعاء، لا حرج.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.