باب صفة التيمم

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغُرِّ المحجلين نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة المستمعون الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بحضراتكم إلى درسٍ جديدٍ من دروس "المنتقى".

ضيف اللقاء هو سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء.

مع مطلع هذا اللقاء نُرحب بسماحة الشيخ، فأهلًا ومرحبًا يا سماحة الشيخ.

الشيخ: حيَّاكم الله وبارك فيكم.

بَابُ صِفَةِ التَّيَمُّمِ

- عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي التَّيَمُّمِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد.

وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَهُ بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

- وَعَنْ عَمَّارٍ قَالَ: أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ، فَتَمَعَّكْتُ فِي الصَّعِيدِ وَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيكَ هَكَذَا، وَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ: إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِكَفَّيْكَ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ تَنْفُخُ فِيهِمَا، ثُمَّ تَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ إلَى الرُّسْغَين رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.

أما بعد: فهذا الحديث -حديث عمار بن ياسر- وما جاء في رواياته كلها يدل على أنَّ الواجب في التَّيمم ضرب التراب ومسح الوجه والكفَّين، وأنَّ هذا يقوم مقام الوضوء، الوضوء فيه غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرِّجلين، لكن من رحمة الله أن جعل التيمم أخصر من ذلك، وأنه يكفي في ذلك مسح الوجه والكفَّين بالتراب، هذا هو الواجب في التيمم.

وكان عمَّار لما أجنب ظنَّ أن التيمم من جنس الغسل؛ فتمعَّك في التراب وتقلب فيه، فبين له النبيُّ ﷺ أنه يكفيه أن يمسح وجهه وكفَّيه، يضرب ضربةً واحدةً بالتراب، ثم يمسح وجهه وكفَّيه، ويكفيه في الجنابة وفي الوضوء، يعني: أن الطهارة في الحدثين الأكبر والأصغر واحدة في التيمم: يضرب الترابَ ضربةً واحدةً، هذا هو السنة، ثم يمسح وجهه وكفَّيه، سواء كان جنبًا، أو عن الحدث الأصغر، وهكذا الحائض والنُّفساء عند عدم الماء، أو العجز عن استعماله: تضرب التراب، تنوي الطهارة عن الحيض والنفاس كالجنب، وهذا من رحمة الله، ومن تيسيره جلَّ وعلا: أنَّ الله سبحانه جعل التَّيمم مُختصرًا، كافيًا ضرب الوجه واليدين فيه، دون الحاجة إلى مسح الرأس أو الذِّراعين أو الرِّجلين، كل هذا من فضله وإحسانه ولطفه بعباده جلَّ وعلا.

س: المسح هل يكون لباطن الكفِّ أم لظاهره؟

الشيخ: باطن كفَّيه، يمسح وجهه وكفَّيه -ظاهرهما وباطنهما- ما عدا الذِّراع، إلى الرسغ، والرسغ مفصل الكفِّ من الذراع، هذا الذي يُمسح: الكفَّان ظاهرهما وباطنهما، من الرسغ إلى أطراف الأصابع، أما الذِّراع فلا.

س: هل تُشترط الموالاة والترتيب في التَّيمم؟

الشيخ: نعم، مثلما تقدم، لا بدَّ أن يُرتب: يبدأ بالوجه، ثم الكفَّين، ويُوالي بينهما، كالأصل في الوضوء.

س: وتخليل الأصابع في التَّيمم؟

الشيخ: الطريق واحدة، مثل مسألة الوضوء: يمسح كفَّيه ظاهرهما وباطنهما، ومن باطنهما ما بين الأصابع، يعني: يُخلل الأصابع، نعم.

س: إذًا التيمم يكون ضربةً واحدةً أم ضربتين؟

الشيخ: ضربة واحدة، هذا هو الصواب، هذا هو الأفضل.

بَابُ مَنْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ

- عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَت الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، وَلَمْ يُعِد الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ، وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ وَأَعَادَ: لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقَدْ رَوَيَاهُ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُرْسَلًا.

الشيخ: وهذا يدل على أنَّ الإنسان إذا تيمم ثم وجد الماء فإنَّ صلاته صحيحة، إذا تيمم وصلَّى ثم وجد الماء فإنَّ صلاته صحيحة، إذا كان المحلُّ الذي تيمم فيه ليس فيه ماء، ثم لما سار وجد الماء فإنَّ صلاته صحيحة؛ لأنه معذور.

وهذان الشَّخصان أعاد أحدهما، وقد صليا بالتيمم ثم وجدا الماء، فأعاد أحدهما ولم يُعد الآخر، فقال النبيُّ ﷺ للذي لم يُعد: أصبتَ السنة؛ لأنه أدَّى ما عليه، أدَّى فرضه، أما الآخر فاجتهد من أجل جهله وعدم علمه، فقال له: ك الأجر مرتين؛ لأنه احتار، ما عنده البصيرة الكافية، فقال: لك الأجر مرتين على اجتهادك: أجر بصلاته، وأجر باجتهاده.

س: بعض العامَّة يقول: نُعيد الصلاة إذا وجدنا الماء؛ حتى يكون لنا الأجرُ مرتين؟

الشيخ: لا، الذي أصاب السنةَ له أكثر من ذلك، له أجور، الذي أصاب السنة له الأجور الكثيرة، لا يُعيد إلا إذا كان جاهلًا، ما عنده علم.

 

بَابُ بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِوجْدَانِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا

- عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِد الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

 

الشيخ: الواجب على المؤمن إذا وجد الماءَ أن يمسّه بشرته، وأن طهارة التيمم لها غاية، وهو وجود الماء، أو زوال الجرح، أو المرض الذي سبب التيمم، فإذا زال مرضُه أو جرحُه أو وجد الماء فإنه يستعمل الماء: يغتسل من الجنابة، ويتوضأ لصلاته الحاضرة.

بَابُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ

- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رِجَالًا فِي طَلَبِهَا، فَوَجَدُوهَا، فَأَدْرَكَتْهُم الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ شَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

الشيخ: وهذا يدل على أنَّ الإنسان إذا صلَّى بغير ماءٍ ولا تيممٍ لعذرٍ شرعيٍّ فإن صلاته صحيحة؛ لأن هؤلاء الذين ذهبوا يلتمسون العقد حضرت الصلاةُ وليس عندهم ماء، والتيمم غير مشروعٍ ذاك الوقت، فصلوا بغير وضوءٍ ولا تيمم، فأجزأتهم صلاتهم، ولم يُؤمروا بالإعادة.

فهكذا كل مَن حُبس عن الماء والتَّيمم فإنَّ صلاته صحيحة، فلو أن إنسانًا في سجنٍ ليس عنده ماء، ولا تمكن من التيمم؛ فصلاته صحيحة، وهكذا إنسان جاهل لم يجد الماء وصلَّى بغير تيمم فصلاته صحيحة؛ لعدم العلم بالشَّرع.

س: وأيضًا إذا وجد الشخصُ ماءً يُباع بسعرٍ غالٍ ماذا يعمل؟

الشيخ: كذلك عاجز، إذا عجز عنه حكمه حكم مَن لم يجد الماء؛ يُصلي بالتيمم.

س: وأيضًا إذا كان الماءُ لا يكفي إلا بعض أعضائه فقط؟

الشيخ: يقول النبيُّ ﷺ: إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، يستعمله في البعض، مثلًا: يكفي في الغسل نصفه الأعلى أو نصفه الأسفل، يستعمله في نصفه الأسفل ويتيمم للباقي، أو في الوضوء وهو يحتاجه إلى الشرب، لكن يكفيه أن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه وذراعيه، يستعمله، ويتيمم للباقي إذا كان ما عنده ضرورة للماء في الشرب.

والذي تيمم ولم يجد الماء ثم وجد الماء تقدم أنَّ صلاته صحيحة، لكن الجاهل فيه تفصيل: إذا كان جهلُه له سبب واضح: كالذي عاش في بلدٍ ليس عندهم علمٌ، وفي جاهليةٍ ما عندهم علمٌ؛ فإنه لا يُؤمر بإعادة الصلاة إن صلَّى بغير تيممٍ وبغير وضوءٍ، ما عنده ماء، أما إذا كان عنده مَن يسأله ويستفتيه وتساهل فإنه يُعيد الصلاة الحاضرة التي صلَّاها بدون تيممٍ، وهو عنده مَن يستفتيه ومَن يُرشده ولم يسأل، ينبغي له في مثل هذا أن يُعيد، يتيمم ويُعيد؛ لأنه متساهل لم يستفتِ، أما الذي مضت عليه مدةٌ لجهله، فالأقرب والله أعلم أنه لا قضاءَ عليه، مثلما أمر النبيُّ ﷺ المستحاضات، ولم يأمرهن بقضاء ما ضيَّعن لجهلهن، ولم يأمرهن بالإعادة في المستقبل، والأعرابي الذي صلَّى وهو يسرق صلاته -يعني: ينقرها- فأمره بإعادة الصلاة الحاضرة، ولم يأمره بإعادة الصلاة السَّابقة؛ لجهله وعدم مَن يُنبهه.

 

أَبْوَابُ الْحَيْضِ

بَابُ بِنَاءِ الْمُعْتَادَةِ إذَا اسْتُحِيضَتْ عَلَى عَادَتِهَا

- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُد.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْجَمَاعَةِ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ: فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي.

زَادَ التِّرْمِذِيُّ فِي رِوَايَةٍ وَقَالَ: تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَلَكِنْ دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي.

- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَكَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا: امْكُثِي قَدْرَ مَا كَانَتْ تَحْبِسُكِ حَيْضَتُكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَلَفْظُهُمَا: قَالَ: فَلْتَنْتَظِرْ قَدْرَ قُرُوئِهَا الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ، فَلْتَتْرُك الصَّلَاةَ، ثُمَّ لِتَنْظُرْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَتُصَلِّي.

- وَعَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّهَا مُسْتَحَاضَةٌ، فَقَالَ: تَجْلِسُ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ، وَتُؤَخِّرُ الظُّهْرَ وَتُعَجِّلُ الْعَصْرَ، وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، وَتُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلُ الْعِشَاءَ، وَتَغْتَسِلُ وَتُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا، وَتَغْتَسِلُ لِلْفَجْرِ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّهَا اسْتَفْتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي امْرَأَةٍ تُهْرَاقُ الدَّمَ، فَقَالَ: لِتَنْظُرْ قَدْرَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضهُنَّ، وَقَدْرَهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ، فَتَدَعُ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ وَلْتَسْتَثْفِرْ ثُمَّ تُصَلِّي رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

الشيخ: هذا الباب -باب الحيض- هذا باب عظيم عند أهل العلم؛ ولهذا كثير من أهل العلم لا يجترئ على الفتوى في الحيض؛ لما يحصل فيها من الاشتباه.

فالحيض هو السيلان، حاض الوادي: إذا سال، والحيض هو سيلان الدم من المرأة، وهو دم طبيعةٍ وجبلةٍ كتبها الله على بنات آدم من عهد أمهنَّ حواء، وهو في الغالب يكون كل شهر، وفي الغالب يكون ستة أيام أو سبعة أيام، وقد يكون أقلَّ، وقد يكون أكثر، وقد جاءت الأحاديثُ في بيان أحكام الحيض في حقِّ المعتادة والمبتدأة والمستحاضة، أما مَن لها عادة فإنها تمشي على عادتها: لا تُصلي ولا تصوم، إذا جاء الحيضُ تركت الصلاةَ والصيامَ، وإذا أدبر الحيضُ اغتسلت وصلَّت وصامت في رمضان وغيره.

وإذا كان في رمضان تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة، كما قالت عائشةُ رضي الله عنها: "كنا نُؤمر بقضاء الصوم، ولا نُؤمر بقضاء الصلاة"، فإذا كانت عادتها خمسًا أو ستًّا أو سبعًا أو غير ذلك جلستها: لا تُصلي، ولا تصوم، فإذا انتهت الأيامُ وانقطع الدمُ اغتسلت وصلَّت وصامت، والأيام التي تركت فيها الصلاةَ لا تقضيها، لكن تقضي الصوم الواجب، كما إذا جاء الحيضُ في رمضان تقضي الصوم الواجب، أما الصلاة فالله سامحها إياها، وعفا عنها .

أما إذا كانت معتادةً ثم أصابتها الاستحاضةُ فقد بينت هذه الأحاديث حكمها، وأنَّ المرأة إذا كانت معتادةً ثم أصابها سيلانُ الدم وكثرته تُسمَّى المستحاضة، فهذه تتحرى أيام العادة -عادة خمس أو ستّ أو سبع أو ثمانٍ أو أكثر- فإذا جاءت أيامُ العادة لم تُصلِّ ولم تصم، فإذا ذهبت أيامُ العادة اغتسلت وصلَّت وصامت، وهي أعلم بأقرائها وعادتها، فإذا كان القدرُ خمسًا جلست خمسًا لا تُصلي ولا تصوم، ثم بعد مُضيها تغتسل وتُصلي وتصوم إذا استمرَّ معها الدم.

وهكذا لو كانت عادتُها ستًّا أو سبعًا أو ثمانٍ، تجلس أيام الحيض المعتادة لا تُصلي ولا تصوم، فإذا ذهبت تلك الأيامُ اغتسلت وصلَّت وتحفظت بشيءٍ في فرجها يمنع الدم عنها، وتُصلي على حسب حالها، وتتوضأ لكل صلاةٍ، هذا الواجب عليها، وإن جمعت بين الصَّلاتين: الظهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، واغتسلت لهما فهذا أفضل، كما جاء في حديث أم حبيبة وحمنة وغيرهما، وإن اغتسلت الفجر أيضًا كان أفضل، أما الغسل الواجب فهو عند انتهاء الحيض هذه الأغسال المستحبة، لكن عند انتهاء الحيض -عند انتهاء مدة الحيض- يجب الغسل، وهو غسل الحيض الذي قال فيه جلَّ وعلا: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222].

أما الأغسال الأخرى فهي مُستحبة، إذا اغتسلت عند كل صلاةٍ، أو جمعت بين الصلاتين، فهذا مستحبّ، والنبي ﷺ إنما أمرهن بالغسل عند جمع الصلاتين، وعند انتهاء الحيض، وكانت حمنةُ وأم حبيبة قد تغتسل لكل صلاةٍ اجتهادًا منها، ولكن الرسولَ ﷺ المحفوظ أنه إنما أمر بالغسل عند الجمع بين الصلاتين، أو عند الطُّهر.

بَابُ الْعَمَلِ بِالتَّمْيِيزِ

- عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: أَنَّهَا كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: إذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضَةِ فَإِنَّهُ أَسْوَدُ يُعْرَفُ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَمْسِكِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا كَانَ الْآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي، فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.

الشيخ: إذا كانت المرأةُ مميزةً تعرف دمَ الحيض من غيره تعمل بالتَّمييز إن كانت مُبتدأةً ما لها عادة؛ لهذا الحديث -حديث فاطمة بنت أبي حبيش- "إن دم الحيض دم أسود يُعرف"، يُروى "يُعرِف" بالكسر، يعني: تكون له رائحة، ويُروى "يُعرَف" بالفتح، يعني: معروف عند النِّساء، فإذا عرف أنه دم حيضٍ بالتَّمييز جلست أيام التَّمييز، ثم إذا ذهب التَّمييز اغتسلت، تجلس أيام الدَّم الأسود أو المنتن ثم بعد ذهابها تغتسل وتُصلي، وهذا هو التَّمييز، التَّمييز لها مثل العادة تجلس ما ميزته أنه دم الحيض؛ لسواده، أو نتنه، أو نحو ذلك، ثم بعد ذهابه تغتسل وتُصلي.

بَابُ مَنْ تَتحيضُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا لِفَقْدِ الْعَادَةِ وَالتَّمْيِيزِ

- عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: كُنْتُ أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً شَدِيدَةً كَثِيرَةً، فَجِئْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَسْتَفْتِيهِ وَأُخْبِرُهُ، فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِ أُخْتِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أُسْتَحَاضُ حَيْضَةً كَثِيرَةً شَدِيدَةً، فَمَا تَرَى فِيهَا؟ قَدْ مَنَعَتْنِي الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، فَقَالَ: أَنْعَتُ لَكِ الْكُرْسُفَ؛ فَإِنَّهُ يُذْهِبُ الدَّمَ، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَاتَّخِذِي ثَوْبًا، قَالَتْ: هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَتَلَجَّمِيْ، قَالَتْ: إنَّمَا أَثُجُّ ثَجًّا، فَقَالَ: سَآمُرُكِ بِأَمْرَيْنِ، أَيّهُمَا فَعَلْتِ فَقَدْ أَجْزَأَ عَنْكِ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنْ قَوِيت عَلَيْهِمَا فَأَنْت أَعْلَمُ، فَقَالَ لَهَا: إنَّمَا هَذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشَّيْطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ، أَوْ سَبْعَةً فِي عِلْمِ اللَّهِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، حَتَّى إذَا رَأَيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَيْتِ فَصَلِّي أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، أَوْ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأَيَّامَهَا، فَصُومِي؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُجْزِيكِ، وَكَذَلِكَ فَافْعَلِي فِي كُلِّ شَهْرٍ، كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ وَكَمَا يَطْهُرْنَ لِمِيقَاتِ حَيْضِهِنَّ وَطُهْرِهِنَّ، وَإِنْ قَوِيتِ عَلَى أَنْ تُؤَخِّرِي الظُّهْرَ وَتُعَجِّلِي الْعَصْرَ فَتَغْتَسِلِينَ ثُمَّ تُصَلِّينَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ تُؤَخِّرِي الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلِي الْعِشَاءَ، ثُمَّ تَغْتَسِلِينَ وَتَجْمَعِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَافْعَلِي، وَتَغْتَسِلِينَ مَعَ الْفَجْرِ وَتُصَلِّينَ، فَكَذَلِكَ فَافْعَلِي وَصَلِّي وَصُومِي إنْ قَدَرْتِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: وَهَذَا أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَاهُ.

الشيخ: هذا حديث حمنة فيه بيان كيف تعمل، وكان معها استحاضة شديدة رضي الله عنها، وهي تحت طلحة بن عبيدالله، فأمرها النبي ﷺ أن تعتني بأمرها، وقال لها: أنعت لك الكرسُف، وهو القطن، فقالت: إنه أكثر من ذلك، قال لها: تلجمي، قالت: إنما أثجّ ثجًّا، فأمرها أن تستعمل ما تتحيض ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله؛ لأنها ما كانت لها عادة مضبوطة، ثم تغتسل وتُصلي، فإذا شقَّ عليها الأمرُ تجمع بين الصَّلاتين: فتُؤخر المغرب، وتُعجل العشاء، وتجمع بينهما، وتُؤخر الظهر، وتُعجل العصر، وتجمع بينهما، وتغتسل لهما غسلًا واحدًا، وفي الفجر غسل واحد، هي تعمل ما هو أصلح، فإن رأت أنَّ كل صلاةٍ في وقتها أصلح لها وأيسر فلا بأس؛ تُصلي كل صلاةٍ في وقتها ويكفي، وليس عليها غسل، بل عليها الوضوء والتَّلجم والتَّحفظ بالقطن ونحوه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

وهكذا صاحب السَّلس الذي معه البول الدائم يفعل ما يستطيع من حفظ فرجه بشيءٍ، وإذا خرج شيءٌ لا يضره، لكن يتوضأ إذا دخل الوقتُ؛ لقوله: توضئي لكل صلاةٍ، فتتوضأ عند دخول الوقت وتُصلي كل صلاةٍ في وقتها، وإن جمعت بينهما لأنه أسهل عليها وألطف بها فلا حرج كالمريض.

بَابُ الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ بَعْدَ الْعَادَةِ

- عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْبُخَارِيُّ لَا يَذْكُرُ: بَعْدَ الطُّهْرِ.

375- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تَرَى مَا يَرِيبُهَا بَعْدَ الطُّهْرِ: إنَّمَا هُوَ عِرْقٌ، أَوْ قَالَ: عُرُوقٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: وهذا يدل على أنَّ المرأة إذا رأت شيئًا من الصُّفرة أو الكُدرة بعد الطُّهر فإنها تستمر في صلاتها وطهرها، ولا يضرّها، ولكن إذا استعملت شيئًا يدفع عنها الصُّفرة والكُدرة فلا بأس، وإلا فلا يضرها؛ لأنَّ الصُّفرة والكُدرة ليست حيضًا، وإنما هي نجاسة من جنس البول ونحوه، فإذا وجدت الكُدرة والصُّفرة بين الحيضتين فإنها تستعمل ما تستطيع من كرسفٍ أو غيره مما تجعله في فرجها؛ حتى يُخفف عنها ذلك؛ ولهذا قالت أم عطية: "كنا لا نعدّ الكُدرة والصُّفرة بعد الطهر شيئًا" يعني: تُصلي على حسب حالها.

وهكذا صاحب البول الذي يستمر معه السلس يتوضأ لكل صلاةٍ والحمد لله، ويتحفظ بشيءٍ: إما بخرقةٍ على ذكره وأشباه ذلك، وهي تجعل شيئًا في فرجها يُخفف عنها ذلك من باب التَّحفظ، ومن باب تقليل خروج النَّجاسة، مع الوضوء لكل صلاةٍ، فلو خرج شيء بعد الوضوء لا يضرّ حتى يأتي الوقتُ الآخر، ولو توضأ بعد الوقت ثم خرج منه بول، أو خرج منها دم فصلاتها صحيحة، تُصلي وتتطوع وتتنفل، ولا يضرّها ذلك، تُصلي الرَّواتب، لا يضرّها ذلك، حتى يأتي الوقتُ الآخر، فإذا جاء الوقتُ الآخر تُعيد الوضوء، تستنجي وتُعيد الوضوء، وهكذا.

س: وبالنسبة للأذكار؟

الشيخ: والأذكار الشَّرعية تأتي بها، والقرآن كذلك تقرأه والحمد لله، فإذا توضأت للعصر صلَّت بوضوئها إلى دخول المغرب، إلى دخول وقت المغرب، وإذا توضأت للمغرب صلَّت لوضوئها إلى دخول وقت العشاء، وهكذا إذا توضأت للفجر إلى طلوع الشَّمس.

بَابُ وُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ

- عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدْعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا، ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَتَصُومُ وَتُصَلِّي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ.

- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ لَهَا: لَا، اجْتَنِبِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ مَحِيضِكِ، ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، ثُمَّ صَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ.

الشيخ: وهذا هو الواجب مثلما بيَّن الرسولُ ﷺ، إذا استمر الدمُ تتوضأ لكل صلاةٍ، ولو قطر الدمُ تتحفظ حسب الطاقة.

وهكذا مَن معه الريح التي هي دائمًا تخرج منه، أو البول، يتوضأ لكل صلاةٍ، ويُصلي ولو خرجت الريحُ، ولو خرج البولُ في أثناء الصلاة أو بعد الصلاة، ما دام في الوقت؛ ولهذا قال: توضئي لكل صلاةٍ، وفي اللفظ الآخر: لوقت كل صلاةٍ.

فالمستحاضة تتوضأ للظهر، للعصر، للمغرب، للعشاء، وإن جمعت بينهما: توضأت لهما وضوءًا واحدًا، المغرب والعشاء وضوء واحد، والظهر والعصر وضوء واحد، وإن أفردتهما توضأت لكل صلاةٍ، المستحاضة وصاحب السَّلس من جهة البول وصاحب الريح الدائمة كل ذلك واحد، حكمهم واحد: إن جمعوا توضؤوا للصلاتين وضوءًا واحدًا، وإن صلَّى كل صلاةٍ في وقتها توضأ لها في وقتها، ثم لا يضرّه ما خرج في الوقت.

المقدم: شكر الله لكم سماحة الشيخ، وبارك الله فيكم وفي علمكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين.