15 من حديث (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله..)

44- باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم عَلَى غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم

قَالَ الله تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ [الزمر:9].

1/348-وعن أَبي مسعودٍ عُقبةَ بنِ عمرٍو البدريِّ الأنصاريِّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا في الْقِراءَةِ سَواءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كانُوا في الهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا، وَلا يُؤمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلا يَقْعُد في بيْتِهِ عَلَى تَكْرِمتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ رواه مسلم.

وفي روايةٍ لَهُ: فَأَقْدمهُمْ سِلْمًا بَدل سِنًّا: أَيْ إِسْلامًا.

وفي رواية: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤهُمْ لِكتَابِ اللَّهِ، وأَقْدمُهُمْ قِراءَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِراءَتُهمْ سَواءً فَيَؤُمُّهم أَقْدمُهُمْ هِجْرةً، فَإِنْ كَانوا في الهِجْرَةِ سوَاء، فَلْيُؤمَّهُمْ أَكْبرُهُمْ سِنًا.

والمُرادُ بِسُلْطَانِهِ محلُّ ولايتِهِ، أَوْ الموْضعُ الَّذِي يخْتَصُّ به. وَتَكْرِمتُهُ بفتحِ التاءِ وكسر والراءِ: وهِي مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ فِراشٍ وسرِيرٍ ونحْوِهِمَا.

2/349- وعنه قَالَ: كَانَ رسولُ اللَّه ﷺ يمْسحُ منَاكِبَنَا في الصَّلاةِ وَيَقُولُ: اسْتَوُوا وَلا تخْتلِفُوا، فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، لِيَلِني مِنكُمْ أُولوا الأَحْلامِ والنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذِينَ يلونَهم رواه مسلم.

وقوله ﷺ: لِيَلِني هُوَ بتخفيف النُّون وَلَيْسَ قَبْلَهَا يَاءٌ، ورُوِي بتشديد النُّون مَعَ ياءٍ قَبْلَهَا. والنُّهَى: الْعُقُول، وأُولُوا الأَحْلام هُمْ الْبَالِغُونَ، وَقيل: أَهْلُ الحِلْمِ وَالْفَضْلِ.

3/350-وعن عبداللَّه بنِ مسعودٍ قَالَ: قالَ رسول اللَّه ﷺ: لِيَلِني مِنْكُمْ أُولُوا الأَحْلامِ والنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثَلاثًا، وإِيَّاكُم وهَيْشَاتِ الأَسْواقِ رواه مسلم.

الشيخ: في هذه الآية الكريمة والأحاديث الدلالة على توقير أهل العلم، والعناية بتقديم الأفضل فالأفضل، وإكرام أهل الخير وأهل الصفات الحميدة والتقوى، يقول جل وعلا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:9]، ويقول سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] يعني الخشية الكاملة، يخشى الله الخشية الكاملة العلماء بالله أهل البصائر، كل مسلم يخشى الله، كل مسلم ومسلمة يخشى الله جل وعلا، ولكن كلما كان العلم أكثر كانت خشيته الله أكمل، كلما زاد العلم بالله وأسمائه وصفاته وعظيم حقه صارت خشيته لله أكمل.

وفي الحديث يقول ﷺ: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله يعني أعلمهم بالقرآن وأكثرهم قراءة لأن القرآن كتاب الله فيه الهدى والنور، فأعلم الناس به هم أعلم الناس بحق الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما، وفي اللفظ الآخر سنا يعني أكبرهم سنا، وهكذا الترتيب في الإمامة؛ الفقهاء، وفي دين العالمون بالقرآن هم المقدمون، ثم يليهم العلماء بالسنة، ثم أقدم الناس هجرة، ثم أكبرهم سنا، ولا يؤم الرجل في سلطانه في بيته، وفي محله يكون هو إماما إلا إن يأذن، ولا يجلس في تكرمته في محله الخاص إلا بإذنه وهذا من الآداب الشرعية.

ويقول ﷺ: ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم هذا فيه الحث على تقدم أهل العلم والفضل، وكبار السن يتقدمون ويسارعون حتى يكونوا قدوة لغيرهم في الصلاة، يسارعون إلى الصف الأول خلف الإمام أهل العلم والفقه والبصيرة ليكونوا قدوة لغيرهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

وقال: وإياكم وهيشات الأسواق يعني الصياح ورفع الأصوات في الأسواق كما يفعله كثير من الناس، الإنسان يقضي حاجته مع الآداب الشرعية في السوق، فالسنة للمؤمن المسارعة للخيرات والتقدم إلى الصف الأول كما جاء في الأحاديث الأخر أنه ﷺ أمرهم بالتقدم إلى الصلاة، وأن يكملوا الصف الأول فالأول، وما كان من نقص فليكن في الصف الآخر، ويقول: تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال الرجل يتأخر عن الصلاة حتى يؤخره الله هذا وعيد، فالمشروع للمؤمن المسارعة إلى الصلاة، والمسارعة إلى الصف الأول، وأهل العلم والبصيرة وكبار السن أولى الناس بأن يتقدموا حتى يكونوا قدوة لغيرهم من الشباب وغير أهل العلم، نسأل الله للجميع التوفيق.

4/351-وعن أَبي يحْيى وَقيل: أَبي مُحمَّد سَهْلِ بن أَبي حثْمة -بفتح الحاءِ المهملة وإِسكان الثاءِ المثلثةِ- الأَنصاري قَالَ: انْطَلَقَ عبداللَّهِ بنُ سهْلٍ وَمُحيِّصَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلى خَيْبَرَ وَهِيَ يَوْمَئِذ صُلْحٌ، فَتَفَرَّقَا، فَأَتَى مُحَيِّصةُ إِلى عبداللَّهِ بنِ سَهلٍ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ في دمهِ قَتيلًا، فدفَنَهُ، ثمَّ قَدِمَ المدِينَةَ فَانْطَلَقَ عبدالرحْمنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةُ وَحُوِّيصةُ ابْنَا مسْعُودٍ إِلى النَّبِيِّ ﷺ، فَذَهَب عبدالرَّحْمنِ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ: كَبِّرْ كَبِّرْ وَهُوَ أَحْدَثُ القَوْمِ، فَسَكَت، فَتَكَلَّمَا فَقَالَ: أَتَحْلِفُونَ وَتسْتَحِقُّونَ قَاتِلكُمْ؟ وَذَكَرَ تَمامَ الحدِيث. متفقٌ عَلَيهِ.

وقوله ﷺ:  كَبِّرْ كَبِّرْ معنَاهُ: يَتَكلَّمُ الأَكْبَرُ.

5/352-وعن جابرٍ أَنَّ النَّبيّ ﷺ كَانَ يَجْمَعُ بيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ يَعْني في القَبْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُما أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ. رواه البخاريُّ.

6/353-وعن ابن عُمرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: أَرَاني فِي المَنَامِ أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءَنِي رَجُلانِ، أَحدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ، فقيلَ لِي: كَبِرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلى الأَكْبَرِ مِنْهُمَا رواه مسلم مُسْنَدًا والبخاريُّ تعلِيقًا.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على تقدير الناس وتقديم الأفاضل من العلماء والأخيار وكبار السن فيما يتعلق بالإكرام والتقدير، كل واحد يعرف له فضله ويعطى حقه من عالم وعابد وغريب ورحم، فينبغي للمؤمن أن ينزل الناس منازلهم، وأن يلاحظ حقوقهم، ومن ذلك التكبير، إذا كانا شخصين أحدهما أكبر من الآخر فيبدأ بالأكبر في السلام، في المصافحة، في الهدية إلى غير ذلك.

في الحديث الأول في قصة عبدالله بن سهل لما قتل في خيبر واختصم فيه الأنصار مع اليهود، وأراد عبدالرحمن بن سهل، وكان أصغر القوم، فقال له النبي ﷺ: كبر كبر هذا يفيد أنه إذا كانت الخصومة لجماعة فإنه يبدأ الأكبر في الكلام، وهكذا في العكس في المقابل بدأ الأكبر، وهكذا في قتلى أحد لما صار يجمع الرجلين والثلاثة في قبر واحد كان عليه الصلاة والسلام إذا قدم إليه الرجلان يقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن فإذا أشاروا إليه قدمه في اللحد، فهذا يتعلق بتقديم الأفقه والأعلم حتى في القبر إذا جمعا، والموتى إذا كثروا جاز دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد عند المشقة كما فعل الرسول يوم أحد عليه الصلاة والسلام.

وهذا فيه تقدير حملة القرآن، وأنهم قد حملوا شيئا يجب أن يكون لهم فيه التقدير والميزة؛ لأن كتاب الله فيه الهدى والنور، فحمله وحفظه من أسباب توفيق الله للعبد، فإذا حمله ابتغاء وجه الله، واعتنى بحفظه والعمل به هذا طريق السعادة، والقرآن له شأنه العظيم إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44] فحملته العاملون به المعظمون له جديرون بالتقدير، وأن يقدموا على من سواهم.

وفي الحديث الثالث: أنه رأى في المنام أنه كان بيده سواك ودخل عليه رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناول السواك الأصغر، فقيل له: كبر كبر فناوله الأكبر، مثل ما تقدم يدل على مراعاة الأكبر في مثل هذه الأمور، في الهدية، في إمامة الصلاة إذا تساوى مع غيره يقدم للصلاة، إذا تساووا في العلم والفضل والهجرة يقدم أكبرهم سنا، وهكذا في الخصومة يقدم الأكبر في الدعوى والإجابة لهذه الأحاديث. وفق الله الجميع.

7/354-وعن أَبي موسى قَالَ: قالَ رسول اللَّه ﷺ: إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرآنِ غَيْرِ الْغَالي فِيهِ، والجَافي عَنْهُ، وإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ حديثٌ حسنٌ رواه أَبُو داود.

8/355-وعن عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ، عن أَبيِهِ، عن جَدِّه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ شَرفَ كَبِيرِنَا حديثٌ صحيحٌ رواه أَبُو داود والترمذي، وَقالَ الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح.

وفي رواية أبي داود حَقَّ كَبِيرِنَا.

9/356-وعن مَيْمُونَ بنِ أَبي شَبِيبٍ رحمه اللَّهُ أَن عَائشَةَ رَضي اللَّه عنها مَرَّ بِها سَائِلٌ، فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً، وَمرّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وهَيْئَةٌ، فَأَقْعَدتْهُ، فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا في ذلكَ؟ فقَالتْ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ رواه أبو داود. لكِنْ قال: مَيْمُونُ لَمْ يُدْرِك عائِشَةَ.

وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلمٌ في أَوَّلِ صَحِيحهِ تَعْلِيقًا فقال: وَذُكَرَ عَنْ عائِشَةَ رضي اللَّه عنها قالت: أَمرنا رسولُ اللَّه ﷺ أَنْ نُنْزِل النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَذَكَرَهُ الحاكِمُ أَبُو عبداللَّهِ في كِتابِهِ مَعْرفَة عُلُومِ الحَديث وقال: هو حديثٌ صحيح.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في شرعية إكرام أهل الخير والأقارب والإحسان إليهم، وإكرام العالم والقريب وذي الشيبة ورحمة الصغير كلها هذه من الأخلاق الإسلامية كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، والولي يكرم وليه ويحسن إليه ويرحم فاقته وحاجته وشيبته إلى غير ذلك، ومن هذا الحديث: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وذي السلطان المقسط يعني العادل، فإكرام ذي الشيبة وحامل القرآن المستقيم وإكرام ذي السلطان المقسط ومعرف قدره، كل هذا من محاسن الإسلام ومما يدعو إليه الإسلام.

كذلك حديث: ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا فالمؤمن هكذا يكرم ذا الشيبة ويعرف له قدره، ويعرف قدر حملة القرآن والعلم ويكرمهم ويعرف لهم قدرهم إذا كانوا مستقيمين، وذي السلطان المقسط العادل يجب إكرامه واحترامه والتعاون معه في الخير، وهكذا الصغار يرحمون ويواسون، فمن محاسن الإسلام أنه يشرع رحمة الصغير وتقدير الكبير على قدر حاله، فإكرام ذي الشيبة المسلم ورحمة الصغير كل هذا مما جاء به الإسلام.

كذلك إنزال الناس منازلهم، كل إنسان له منزلته، فالعالم له منزلته، والغني له منزلته، والفقير له منزلته، كل على قدر ما وهبه الله، القريب، الأخ، العم، ابن العم، الابن، الأب، كل له منزلته، والواجب مراعاة ما يجب في حقه من صلة الرحم، من أمره بالمعروف، من نهيه عن المنكر، من تعليم الجاهل إلى غير ذلك، كل هذا من أخلاق الإسلام ومن محاسن الإسلام؛ فينبغي للمؤمن أن يراعي ذلك، وأن يوطأ نفسه على هذه الأخلاق الطيبة حتى يكون من أهل الخير والاستقامة والتابعين لسلف الأمة في أعمالهم الطيبة.

10/357-وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما قال: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابنِ أَخِيهِ الحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنيهِمْ عُمَرُ ، وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنَ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخي لَكَ وجْهٌ عِنْدَ هذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، فَاسْتَأَذَنَ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ ، فَلَمَّا دَخَل: قَالَ هِي يَا ابْنَ الخَطَّابِ: فَوَاللَّه مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينا بِالعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ. واللَّهِ مَا جاوزَهَا عُمرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى. رواه البخاري.

11/358- وعن أَبي سعيدٍ سَمُرةَ بنِ جُنْدبٍ قَالَ: لَقَدْ كنْتُ عَلَى عهْدِ رَسُول اللَّه ﷺ غُلامًا، فَكُنْتُ أَحفَظُ عنْهُ، فَمَا يَمْنَعُني مِنَ القَوْلِ إِلاَّ أَنَّ هَهُنَا رِجالًا هُمْ أَسنُّ مِنِّي. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

12/359-وعن أَنس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: مَا أَكْرَم شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلاَّ قَيَّضَ اللَّه لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْد سِنِّه رواه الترمذي، وقال حديث غريب.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في بيان شرعية إكرام ذي الشيبة المسلم، ومراعاة الأقرباء والإحسان إليهم وأهل العلم والفضل، كان هذا من سنته ﷺ إكرام أهل الفضل والخير والقراء واحترام ذي الشيبة وإكرامه.

ومن هذا ما جاء عن عمر من طريق الحر بن قيس في قصة عيينة بن حصن الفزاري دخل عيينة بن حصن شيخ فزارة من العرب فقدم على عمر وقال لابن أخيه الحر بن قيس: استئذن لي على عمر، فاستأذن له الحر، وكان عمر يدني القراء ويستشريهم وهم أهل مجلسه كهولا كانوا أو شبانا، هذا يدل على أن من الخصال الحميدة أن ينتخب السلطان لمشورته أهل العلم والفضل كما كان عمر ، فيشرع للسلطان والأمير وشيخ القبيلة ونحوهم أن يكون لهم جلساء وأصحاب من أهل العلم والخير والفضل والرأي حتى يعينوهم على الخير، وحتى يشيروا عليهم، وهذا هو الشاهد من الحديث.

ومن فوائد الحديث أن السنة للسلطان والأمير والمسموع أن يرفق بالجهلة، وألا يعجل في عقوبتهم، فإن الجاهل قد يتكلم بكلمة لا يعقلها عند السلطان، أو عند العالم، أو عند الأمير، فينبغي للأمير ونحوه العفو والصفح، ولهذا عفا عمر عن عيينة، قال: يا ابن الخطاب لا تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، هذا كلام باطل، كلام عيينة كلام باطل، فإن عمر هو أعدل الناس بعد رسول الله ﷺ، وبعد الصديق، يضرب بعدله المثل ، وكان من أفقه الناس وأفضل الناس، وكان أفضل الناس وأفقههم بعد رسول الله ﷺ وبعد الصديق، فلما قال هذه الكلمة القبيحة هم به عمر أن يؤدبه، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين إن الله يقول لنبيه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين، قال الحر: فما تجاوزها عمر، يعني وقف وكف عنه وسامحه، وكان وقافا عند كتاب الله ، يعني كان يعمل بكتاب الله ويقف عند حدود الله .

ففي هذا من الفوائد: اتخاذ الجلساء الطيبين من القراء وأهل العلم، والصفح عن الجهال إذا زلت بهم الألسن، إذا زلت ألسنتهم بشيء ينبغي للأمير والسلطان أن يرفق بهم لجهلهم ويعلمهم ويرشدهم.

وفيه من الفوائد أيضا: أنه يشرع للجليس الصالح على الأمير بالشيء الذي يراه صالحا، فإن الحر أشار على عمر بالعفو، ففي هذا شرعية المشورة على ولاة الأمور بما يراه المشير صالحا.

وفي حديث سمرة بن جندب قال: كنت رجلا في عهد النبي ﷺ، وما يمنعني أن أحدث إلا أن هناك من هو أكبر مني، في هذا أن سمرة بن جندب يدع الحديث للكبار لأنهم أعلم بالرسول ﷺ منه، ولكبر سنهم وتوقيرهم، وكان الصحابة يتدافعون الرواية كل منهم يرى أن أخاه أهل لذلك، وأهل لأن يحدث، فإذا كان صغير وكبير من أهل العلم فإذا احترم الصغير الكبير ووكل الأمر إليه ولاسيما إذا كان أعلم منه يكون هذا هو الأفضل، الصغير يحترم الكبير فيما يناسب، وأن يسند الأمر إليه في الكلام أو في الفتوى إذا كان أكبر منه وأعلم منه.

كذلك يروى عن النبي ﷺ أنه: ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له في آخر حياته من يكرمه لسنه يعني الجزاء من جنس العمل، وهذا له شواهد من الكتاب والسنة، فالجزاء من جنس العمل، فمن أحسن أحسن إليه، فإذا أكرم الشاب كبار السن وأحسن إليهم فمن جزاء الله له أن يقيض له من يكرمه ويحترمه ويقضي حاجته عند كبر سنه هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60] هكذا يقول ربنا ، ويقول سبحانه: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء:7] والله سبحانه يجزي بالحسنة أضعافها، فمن أحسن أحسن إليه، ومن رفق رفق به، ومن عفا عفي عنه، ومن جاهد لله وفق. وفق الله الجميع.

45- باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة

قَالَ الله تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا إِلَى قوله تَعَالَى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:60-66]، وَقالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28].

1/360-وعن أَنسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بكر لِعمرَ رضي اللَّهُ عنهما بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ اللَّه ﷺ: انْطَلِقْ بِنَا إِلى أُمِّ أَيْمنَ رضي اللَّه عنها نَزُورُهَا كَما كانَ رسولُ اللَّه ﷺ يزُورُهَا، فلَمَّا انْتَهَيا إِلَيْهَا، بَكَتْ، فَقَالاَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ أَما تَعْلَمِينَ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خيرٌ لرسولِ اللَّه ﷺ؟ فقالت: إِنِّي لا أَبْكِي أَنِّي لأعْلمُ أَنَّ مَا عِندَ اللَّهِ تعالَى خَيرٌ لرسُولِ اللَّه ﷺ، ولَكنْ أبْكي أَنْ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُما عَلَى البُكَاءِ، فَجعلا يَبْكِيانِ معهَا. رواه مسلم.

2/361-وعن أَبي هريرة عن النَّبيِّ ﷺ: أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ في قَريَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصد اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَدْرجَتِهِ ملَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْن تُريدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لي في هذِهِ الْقَرْيةِ. قَالَ: هَلْ لَكَ علَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: لا، غَيْر أَنِّي أَحْببْتُهُ في اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: فَإِنِّي رَسُول اللَّهِ إِلَيْكَ بأَنَّ اللَّه قَدْ أَحبَّكَ كَما أَحْببْتَهُ فِيهِ رواه مسلم.

يقال: أَرْصدَه لِكَذا: إِذَا وكَّلَهُ بِحِفْظِهِ، وَ المدْرَجَةُ بفتحِ الميمِ والرَّاءِ: الطَّريقُ، ومعنى تَرُبُّهَا: تَقُومُ بهَا، وتَسْعَى في صَلاحِهَا.

3/362-وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَنْ عَادَ مَريضًا أَوْ زَار أَخًا لَهُ في اللَّه، نَادَاهُ مُنَادٍ: بِأَنْ طِبْتَ، وطَابَ ممْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الجنَّةِ منْزِلًا رواه الترمذي، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ. وفي بعض النسخ غريبٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث مع الآيات الكريمات فيها الدلالة على شرعية زيارة الإخوان في الله،والعلماء وأهل الصلاح والأقرباء رجاء ما عند الله من المثوبة، وللتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتفقه في الدين، هكذا كان أهل العلم، هكذا كان الأخيار يتزاورون في المحبة في الله، وفي طلب العلم، وفي التذكير بالله ، وفي مكافأة ما فعلوا من الإحسان، إلى غير هذا من وجوه الخير.

يقول الله جل وعلا في قصة موسى لما خطب ذات يوم موسى في الناس فسئل: هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال: لا، فأوحى الله إليه بلى عبدنا الخضر، فطلب السبيل إليه، فأمره جل وعلا أن يرتحل إليه، فارتحل إليه لطلب العلم والتفقه في الدين وهو نبي من الأنبياء، ورسول من رسل الله، والخضر على الصحيح نبي أيضًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، فإذا كان الأنبياء والرسل يزور بعضهم بعضا لمزيد العلم والفائدة فكيف بغيرهم؟! وهكذا قوله جل وعلا: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ [الكهف:28] الآية، أمره أن يحبس نفسه مع الأخيار، وأن يستفيد منهم، وألا يقليهم ويتركهم، فالصبر مع الأحباب في الله والإخوان في الله وأهل الخير مما يزيده علما وتقوى، وجاء في الحديث يقول الله جل وعلا: وجبت محبتي للمتزاورين في، والمتحابين في، والمتجالسين في، والمتباذلين في.

وفي قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لما زارا أم أيمن، أم أيمن كان النبي ﷺ يزورها، وكانت حاضنته ومربيته، فقالا: نزورها كما كان النبي ﷺ يزورها، وهي عجوز كبيرة، فزارها، فلما سلما عليها بكت، فقالا لها: ألا تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله؟ قالت: إني لا أبكي من أجل هذا، أنا أعلم ما عند الله خير لرسول الله، ولكني أبكي من أجل انقطاع الوحي، كان الوحي يأتينا صباح ومساء بالأوامر والنواهي وانقطع، فهيجتهما على البكاء رضي الله عنهما، فهذا فيه زيارة الأحباء في الله وأهل الخير والصلاح من رجال أو نساء على وجه لا شبه فيه.

وهكذا قصة الذي زار أخا له في قرية، فأرصد الله على طريقه ملكا، فلما مر عليه سأله: إلى أن تريد؟ قال: إلى أخ لي في الله أزوره، فقال: هل لك من نعمة تربها عليه؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، قال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته، هذا فيه الدلالة على فضل التزاور في الله والمحبة في الله، وفي الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذكر منهم رجلين تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه متفق على صحته، كذلك حديث الترمذي: من عاد أخا له في الله، من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ينادي مناد من السماء: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا والحديث في سنده بعض الضعف، لكن له شواهد في الخير.

فالمقصود أن التزاور في الله، والتحاب في الله من أفضل القربات مع الأقارب ومع غيرهم، ومع العلماء ومع غيرهم من أهل الخير، وفيه فوائد كثيرة ومصالح، يتذاكران في الله، يفيد أحدهما الآخر، يشجعان على هذا العمل الطيب، ففي التزاور مصالح كثيرة. وقد ثبت عن رسول الله أنه قال لجبريل: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا فنزل قوله تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] وفق الله الجميع.

4/363-وعن أَبي موسى الأَشعَرِيِّ أَن النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً. ونَافخُ الكيرِ إِمَّا أَن يحْرِقَ ثيابَكَ، وإمَّا أنْ تجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً متفقٌ عَلَيهِ.

يُحْذِيكَ: يُعْطِيكَ.

5/364-وعن أَبي هريرة ، عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبعٍ: لِمالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، ولِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك متفقٌ عَلَيهِ.

ومعناه: أَنَّ النَّاس يَقْصِدُونَ في الْعَادَةِ مِنَ المَرْأَةِ هَذِهِ الخِصَالَ الأَرْبعَ، فَاحِرصْ أَنْتَ عَلى ذَاتِ الدِّينِ، وَاظْفَرْ بِهَا، واحْرِص عَلى صُحْبَتِهَا.

6/365-وعنْ ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما قال: قَالَ النَّبيّ ﷺ لِجِبْرِيلَ: مَا يمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورنَا؟ فَنَزَلَتْ: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ [مريم:64] رواه البخاري.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة كالتي قبلها في الحث على صحبة الأخيار، والحرص على القرب منهم، والتأسي بهم والاستفادة منهم والتعاون معهم على الخير، هكذا ينبغي أن يكون المؤمن حريصا على صحبة الطيبين من العلماء والأخيار، وأهل الصفات الحميدة والأعمال الصالحة والسمت الحسن، وهكذا النساء يجب على المؤمنة أن تحرص على صحبة الطيبات والخيرات لما في ذلك من الخير العظيم، والاستفادة والتعاون والتأسي، ومن هذا قوله ﷺ في هذا الحديث الصحيح: مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير.

الجليس الصالح شبيه بحامل المسك، والجليس السوء شبيه بنافخ الكير لأن الجليس الصالح الذي هو حامل المسك إما أن يحذيك يعطي لك شيئا، وإما أن تبتاع منه بعض حاجتك تشتري، وإما أن تجد منه ريحا طيبة على الأقل، إما أن يحصل لك منه مساعدة، أو تشتري منه بعض حاجتك، أو تجد ريحا طيبة. أما نافخ الكير إذا جلست عنده فأنت بين أمرين: إما أن يحرق ثيابك بما يطير من الشرار من كيره، وإما ان تجد منه ريحا منتنة خبيثة، فينبغي لك أن تختار لنفسك ما هو الأصلح والأطيب.

ويقول ﷺ: تنكح المرأة لأربع المرأة يرغب الناس بها لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك الناس يرغبون في النساء، إما بعض الناس يحرص على أن تكون ذات مال حتى تعينه وتحذيه، وبعض الناس يطلب الحسب تكون في ناس معروفين نسب معروفين مشهور، وبعض الناس يهمه الجمال ويحرص على الجمال ولا يبالي بالشيء الآخر، وبعض الناس يهمه الدين، يقول النبي ﷺ: فاظفر بذات الدين تربت يداك يعني ليكن أكبر الهم الدين، فإذا انضم إلى دينها جمال أو حسب أو مال فهو خير إلى خير، لكن لا يكون همك الحسب أو المال أو الجاه لا، اجعل أكبر الهم أن تكون ذات دين، تصون عرضها، وتحفظ بيتك، وتصون أولادك، وتعينك على الخير، فإذا انضم إلى دينها أنها ذات جمال أو ذات مال أو ذات حسب فهذا خير إلى خير.

وفي الحديث الثالث يقول ﷺ لجبرائيل، وجبرائيل أشرف الملائكة وأميرهم وسيدهم، والسفير بين الله وبين الرسل، يقول له النبي ﷺ: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا؟ هذا يدل على أن الرسول ﷺ يرغب في زيارة الأخيار، وهو رسول كريم أمين يحمل الوحي، والملائكة كلهم معصومون، كلهم موفقون لقوله جل وعلا: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ۝ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ۝ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:26-28] حكم عليهم الملائكة كلهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وهم موفقون مهديون، لا يخالفون أمر الله، وقال في خزنة جهنم: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ويقول جبرائيل لما قال له الرسول ﷺ: ألا تزورنا أكثر مما تزورنا أنزل الله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64] يعني ليس الأمر إليّ، الأمر إلى الله، متى أمرني أنزل نزلت، فالملائكة من خيرة عباد الله المؤمنين، وهم حملة الخير إلى العباد، ينفذون أمر الله في عباد الله، جبرائيل للوحي، ميكائيل للقطر للمطر، إسرافيل ينفخ في الصور، فيهم خزنة الجنة، وفيهم خزنة النار، وفيهم المنفذون لأمر الله في كل شيء، يقول النبي ﷺ: يدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك للتعبد، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم كل يوم سبعون ألف ملك في البيت المعمور الذي فوق السماء السابعة على حذاء الكعبة -متعبد الملائكة- كل يوم يدخله سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم كم يصير عددهم؟ ما يحصيهم إلا الله جل وعلا، كل يوم من أيام الدنيا مقداره يدخل هذا البيت المعمور سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، كل يوم سبعين غير السبعين، وهكذا هذه آلاف الملايين، وآلاف الملايين، وآلاف الملايين لا يحصيهم إلا الله جل وعلا، وهم في تنفيذ أمر الله، وفي طاعة الله في كل أمر عليهم الصلاة والسلام.

7/366-وعنْ أَبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ ، عن النبيِّ ﷺ قَالَ: لا تُصَاحبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ. رواه أَبُو داود، والترمذي بإِسْنَادٍ لا بأْس بِهِ.

8/367-وعن أَبي هريرة أَن النبيَّ ﷺ قَالَ: الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكمْ مَنْ يُخَالِلُ . رواه أَبُو داود. والترمذي بإِسنادٍ صحيح، وَقالَ الترمذي: حديثٌ حسنٌ.

9/368-وعن أَبي موسى الأَشْعَرِيِّ أَن النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

وفي رواية قال: قيل للنبي ﷺ: الرَّجُلُ يُحبُّ القَومَ وَلَمْا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ: المَرْءُ مع من أحب.

الشيخ: الأحاديث في هذه الباب في الحث على صحبة الأخيار ومجالسة الأخيار والاتصال بهم والاستفادة من علمهم وأخلاقهم، تقدم قوله ﷺ: مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، وهنا يقول ﷺ: لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي يعني أنك تتحرى في الأصحاب الأخيار أهل الإيمان، وهكذا من يشارك في طعامك، ينبغي أن يكون من الأتقياء، وهذا عند أهل العلم فيما يتعلق بالصحبة، أما الضيوف فلهم شأن آخر، الضيف يكرم وإن كان ليس من أهل التقوى، قد يكون الضيف كافرا والنبي ﷺ أكرم الضيوف وتألفهم على الإسلام، لكن لا يصاحب إلا أهل الإيمان والتقوى، ولا يكون من أهل طعامه وأهل سفرته إلا أهل الخير حتى يستفيد منهم، ويستفيدوا منه في الأخلاق والأعمال والسيرة الحميدة، وهكذا قوله ﷺ: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل خليله يعني صاحبه وصديقه، ومن هذا قول الشاعر:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

فالغالب أن الإنسان يتأثر بأصحابه وزملائه وقرنائه، هذا هو الغالب، فينبغي أن يتخذ الأقران الطيبين والأصحاب الطيبين حتى يستفيد من علمهم وأخلاقهم الطيبة.

وفي الحديث الصحيح الآخر: المرء مع من أحب قيل: يا رسول الله المرء يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال ﷺ: المرء مع من أحب من أحب الله ورسوله وأحب المؤمنين فهو معهم وإن قصرت أعماله عن أعمالهم، لكن عليه أن يجتهد وأن يتقي ربه وأن يعمل ما يستطيع من الخير وهو مع من أحب، أما إذا فرط وأضاع وتساهل فهو ليس بصادق في المحبة، إذا فرط وارتكب المحارم فليس بصادق، المحب للأخيار يجتهد في التخلق بأخلاقهم والعمل بأعمالهم والحذر من ضدها. وفق الله الجميع.

10/369-وعن أَنس أَن أَعرابيًا قَالَ لرسول اللَّه ﷺ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: حُب اللَّهِ ورسولِهِ، قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. متفقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ مسلمٍ.

وفي روايةٍ لهما: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَوْمٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّه وَرَسُولَهُ.

11/370-وعن ابنِ مسعودٍ قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى رسولِ اللَّه ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه كَيْفَ تَقُولُ في رَجُلٍ أَحبَّ قَوْمًا وَلَمْ يلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ متفقٌ عَلَيهِ.

12/371- وعن أَبي هُريرة عن النبيِّ ﷺ قَالَ: النَّاسُ معَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، خِيَارُهُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ في الإِسْلامِ إِذَا فَقهُوا، وَالأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ رواه مسلم.

وروى البخاري قوله: الأَرْوَاحُ إِلخ، من رواية عائشة رضي اللَّه عنها.

الشيخ: هذه الأحاديث فيها الدلالة على شرعية الحب في الله ورسوله، وأن خيار الناس هم من فقه في دين الله واستقام على دين الله، قيل: يا رسول الله، قال له رجل: يا رسول الله إني أحب الله ورسوله؟ السؤال الأول: قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: ماذا أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله، قال: المرء مع من أحب. وفي اللفظ الثاني: يا رسول الله المرء يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: المرء مع من أحب فهذا يفيد أن الإنسان إذا أحب قوما فهو معهم، فإن أحب الشر وأهله فهو معهم، وإن أحب الخير وأهله فهو معهم، والحب الصادق يقتضي العمل، فالمحب الصادق لله ولرسوله يقتضي حبه طاعة الله ورسوله، والاستقامة على دين الله، والاجتهاد في صفات الأخيار، والاتصاف بها والحذر من ضدها، هذا الصادق، فيكون مع من أحب وإن قصرت أعماله عن أعمالهم فهو معهم في المنزلة لحبه وصدقه، أما الدعاوى ما تنفع، الدعوى أنه يحب الله ورسوله وهو يتخلف عن طاعة الله ورسوله تكون دعوى كاذبة، الصادق هو الذي يجتهد في العمل الذي يعمله أحبابه في الله من طاعة الله واتباع رسوله والصدق في إيمانه وأخوته وغير هذا، فهذا هو الصادق الذي يسارع إلى محاب الله وإلى ترك محارم الله وإلى الوقوف عند حدود الله رغبة أن يلحقه الله بالرسل وأصحابهم، فهذا مع من أحب وإن قصرت أعماله ولم يستطع أعمالهم، لكنه مطيع لله، مجتهد في طاعة الله، تارك لمحارم الله، صادق في دعواه.

والناس معادن كمعادن الذهب والفضة وغيرها فيها الطيب والخبيث، المعدن الطيب: معدن الذهب، معدن الفضة، معدن اللؤلؤ، معدن كذا، معدن كذا، معدن كبريت، معدن رماد، الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا وخيارهم في الجاهلية أهل الجود والكرم والنفع للناس، ودفع الظلم وإعانة الملهوف وجبر المكسور هؤلاء هم خيارهم في الجاهلية، الرؤساء في الجاهلية هم أهل المعروف الذين يرفدون الضعيف، ويجبرون الكسير، ويعينون المظلوم، ويردعون الظالم، هم المعادن فهؤلاء هم خيار الناس في الجاهلية، وهم خيارهم في الإسلام إذا فقهوا في دين الله واستقاموا على دين الله، معدن الذهب شيء، ومعدن الحديد شيء، ومعدن الرصاص شيء، ومعدن الفضة شيء، معادن على حسب أعمالهم وتقواهم لله وإيمانهم بالله ورسوله. وفق الله الجميع.

13/372-وعن أُسيْرِ بْنِ عَمْرٍو ويُقَالُ: ابْنُ جابِر -وَهُوَ بضم الهمزةِ وفتح السين المهملة- قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ إِذا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدادُ أَهْلِ الْيمنِ سأَلَهُمْ: أَّفيُكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أُويْس بْنُ عامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نعَمْ، قَالَ: فكَانَ بِكَ بَرَصٌ، فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَكَ والِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقول: يَأْتِي علَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ برصٌ، فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُو بِها برٌّ، لَوْ أَقْسمَ عَلَى اللَّه لأَبَرَّهُ، فَإِن اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ فَاسْتَغْفِرْ لي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.

فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلا أَكْتُبُ لَكَ إِلى عَامِلهَا؟ قَالَ: أَكُونُ في غَبْراءِ النَّاسِ أَحبُّ إِلَيَّ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ العَامِ المقبل حج رجل من أشرافهم فوافى عُمَرَ، فَسَألَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، فَقَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ البيت قليل المتاع، قالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يقول: يَأتِي عَلَيْكُمْ أُويْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أمْدَادٍ مِنْ أهْلِ اليَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إلاَّ موْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالدةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أقْسَمَ عَلَى الله لأَبَرَّهُ، فَإنِ اسْتَطْعتَ أنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ فَأتَى أُوَيْسًا، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أنْتَ أحْدَثُ عَهْدًا بسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لي، قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. رواه مسلم.

وفي رواية لمسلم أيضًا عن أسير بن جابر : أنَّ أهْلَ الكُوفَةِ وَفَدُوا عَلَى عُمَرَ ، وَفِيهمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ هاهُنَا أَحَدٌ مِنَ القَرَنِيِّينَ؟ فَجَاءَ ذلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عمرُ: إنَّ رَسُول الله ﷺ قَدْ قَالَ: إنَّ رَجُلًا يَأتِيكُمْ مِنَ اليَمَنِ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، لاَ يَدَعُ باليَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا الله تَعَالَى، فَأذْهَبَهُ إلاَّ مَوضِعَ الدِّينَارِ أَو الدِّرْهَمِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ.

وفي رواية لَهُ عن عمر، ، قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُول الله ﷺ يقول: إنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَمُرُوهُ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ.

قوله: غَبْرَاءِ الناس بفتح الغين المعجمة وإسكان الباء بالمد وهم فقراؤهم وصعاليكم وَمَنْ لا يُعْرَفُ عَيْنُهُ مِنْ أخلاطِهِمْ، وَالأَمْدَادُ جَمْعُ مَدَدٍ وَهُمُ الأَعْوَانُ، وَالنَّاصِرُونَ الَّذِينَ كَانُوا يُمدُّونَ المُسْلِمِينَ في الجهَاد.

14/373- وعن عمرَ بنِ الخطاب قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ ﷺ في العُمْرَةِ، فَأَذِنَ لِي، وَقالَ: لاَ تَنْسَنَا يَا أَخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ فَقَالَ كَلِمَةً مَا يسُرُّني أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا.

وفي روايةٍ قَالَ: أَشْرِكْنَا يَا أخَيَّ في دُعَائِكَ.

حديثٌ صحيحٌ رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

15/374-وعن ابن عُمرَ رضي اللَّه عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَزُورُ قُبَاءَ رَاكِبًا وَماشِيًا، فَيُصلِّي فِيهِ رَكْعتَيْنِ. متفقٌ عَلَيهِ.

وفي روايةٍ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتي مَسْجِدَ قُبَاءَ كُلَّ سبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.

الشيخ: هذان الحديثان في قصة أويس، وفي عمرة عمر، كلها تابعة لما تقدم من استحباب طلب الدعاء من أهل الخير والصلاح لعله يستجاب، وأن قول الإنسان لأخيه: يا أخي استغفر لي، أنه لا بأس بذلك ولاسيما إذا كان يرجو قبول دعائه لعلمه وفضله وعبادته واستقامته ونحو ذلك.

والحديث في قصة أويس مشهور وصحيح، وهو أنه كان بارا بأمه في اليمن، وكان من مراد، ثم من قبيلة قرن -بفتح الراء- يقال لهم القرنيون وهو منهم، وكان بارا بأمه، وقد أصابه برص فدعا الله فعافاه من ذلك إلا موضع درهم، ولعل الحكمة في ذلك والله أعلم أن موضع الدرهم يذكر بهذا البلاء فيوجب شكر الله والثناء عليه وحمده سبحانه، كلما رأى هذه النقطة تذكر نعمة الله عليه الذي عافاه من هذا البلاء، وفيه فضل بر الأمهات، وأن بر الأم من أفضل القربات، والله يقول جل وعلا في كتابه العظيم وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، ويقول وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15].

ويقول ﷺ في وصيته: إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات خصهن بالذكر، وأوصى بالإحسان إليهن، وأنهن باب من الجنة، فإن شئت فالزمه أو ضيعه، وفي الحديث الصحيح يقول ﷺ: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وهما الأب والأم، فبر الأم والأب من أهم المهمات، وحق الأم أكبر، قال النبي ﷺ لما قال له رجل يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب، وفي اللفظ الآخر: قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك وهذا الرجل كان بارا بها، ولم يخلف في اليمن سواها، والنبي ﷺ أمر من لقيه أن يطلبه أن يستغفر له، وقد جاء في أمداد اليمن، وأمداد اليمن المجاهدون الذين جاؤوا من اليمن للمشاركة في الجهاد، فلما سأله عمر وأخبره، قال: استغفر لي، فلما عرفه الناس في العراق اختفى، صار في غبراء الناس واختفى لئلا يفتن الناس به، أو يفتن بالناس.

وفي حديث عمر أنه أراد العمرة في عهد النبي ﷺ فقال: لا تنسنا يا أخي من دعائك فيه طلب الدعاء من الرجل الصالح في قوله: لا تنسنا من دعائك أو استغفر لي لا حرج في ذلك.

وقوله: إنه قال كلمة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأنه قال: يا أخي هذه أخوة الإيمان، وهكذا زيارة المساجد التي تشرع زيارتها كالمسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى سنة زيارتها والسفر إليها، أما مسجد قباء فهو سنة لمن كان في المدينة خاصة، يستحب زيارته لمن أتى المدينة، لكن لا يشد الرحل إليه، إنما تشد الرحال إلى المساجد الثلاثة فقط، لكن من كان في المدينة يستحب له أن يزور مسجد قباء لأن الرسول ﷺ كان يزوره ويصلي فيه، ويقول: من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان كعمرة وفق الله الجميع.

يسأل بعض الناس عن الملائكة هل هم معصومون؟

والجواب أن الملائكة معصومون قال الله جل وعلا في حقهم بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ۝ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ۝ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ۝ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:26-29] هذا الوعيد لا يدل على عدم العصمة لأن الوعيد يقع للمعصومين أيضا كما قال الله في حقه نبيه ﷺ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] والرسول معصوم من أن يشرك بالله، قال سبحانه: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106] وهو ﷺ معصوم أن يفعل الشرك، فالملائكة كذلك، كونهم متوعدون ما ينافي أنهم معصومون، ومنهم جبرائيل الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21] وهو جبرائيل عليهم الصلاة والسلام، فهم كلهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، حتى الذين على النار عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] عليهم الصلاة والسلام.

46- باب فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه، وماذا يقول لَهُ إِذَا أعلمه

قَالَ الله تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ [الفتح:29] إِلَى آخر السورة، وَقالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9].

1/375- وعن أَنسٍ عن النَّبيّ ﷺ قَالَ: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيَمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِواهُما، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ للَّهِ، وَأَنْ يَكْرَه أَنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ متفقٌ عليه.

2/376-وعن أبي هريرة عن النَّبيّ ﷺ قَالَ:  سبْعَةٌ يُظِلُّهُم اللَّه في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وَشَابٌ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مَعلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ، ورَجُلان تَحَابَّا في اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، ورَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقال: إِنِّي أَخافُ اللَّه، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ متفقٌ عَلَيهِ.

3/377-وعنه قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه ﷺ: إنّ اللَّه تَعَالَى يقولُ يَوْمَ الْقِيَامةِ: أَيْنَ المُتَحَابُّونَ بِجَلالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَومَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي رواه مسلم.

الشيخ: هذه الآيات والأحاديث في فضل المحبة في الله، والحب في الله والبغض في الله من أهم خصال الإيمان، ومن أوثق عرى الإيمان، بل هم أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وهذا وصف المؤمنين يتحابون في الله، ويتعاونون على البر والتقوى، ويتواصون بالحق، قال تعالى في وصف الصحابة مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] فهم بينهم رحماء، متحابون في الله متناصرون، متعاونون على البر والتقوى لكنهم يبغضون أعداء الله ويتبرؤون من أعداء الله.

ويقول جل وعلا في وصف الصحابة أيضا من الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9] وهم الأنصار، هذا من كمال إيمانهم، ومن قوة إيمانهم محبتهم لمن هاجر إليهم، ومواساتهم له، أحبهم وواسوهم من أموالهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وآثروا على أنفسهم، قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] آثروا إخوانهم المهاجرين بأشياء كثيرة على أنفسهم، ويقول جل وعلا: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] الآية.

ويقول النبي ﷺ: ثلاث يعني ثلاث خصال من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما يكون حب الله ورسوله فوق كل شيء بهذا يجد حلاوة الإيمان، هكذا يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله محبة صادقة ما هو من أجل النسب، أو المال، أو الجوار، بل محبة صادقة لله لكونه من أولياء الله، لكونه من أحباب الله، لكونه من المسلمين الصالحين، فهذا من علامات قوة الإيمان ومن أسباب وجود حلاوة الإيمان، والثالثة: كونه يكره الكفر وأن يقع في الكفر مثل ما يكره أن يقذف في النار، من شدة بغضه للكفر وبعده منه يكره أن يقع في الكفر كما يكره أن يقع في النار من شدة بغضه للكفر، وعلمه بأنه ضد الإيمان ضد الهدى، وأن الله يبغض ذلك، ويقول الله جل وعلا يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي، ويقول ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل يعني إمام للمسلمين عادل يتحرى الحق، وشاب نشأ في عبادة الله نشأ في الخير والهدى، ورجل قلبه معلق بالمساجد من حبه للصلاة قلبه معلق بالمساجد كلما انتهى من صلاة قلبه مع الصلاة الأخرى من شدة حبه للصلاة وكمال إيمانه، الرابع: رجلان تحابا في الله رجلان أو امرأتان أو رجل وامرأة، أو مائة رجل، أو آلاف، المقصود التمثيل تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ما تحابا لأجل المال، أو قرابة، أو جوار، أو نسب، لا بل لله تحابا لأجل الدين والإيمان والتقوى، والخامس: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ذات نسب وذات جمال فقال: إني أخاف الله ومثله في المعنى امرأة دعاها ذو منصب وجمال فقالت: إني أخاف الله، يعني ابتعد من الزنا خوفا من الله مع كون الداعية ذات منصب وذات جمال، أو هي تركت الزنا خوفا من الله وإن كان الداعي ذا منصب وجمال، والسادس: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه يتحرى الفقراء، يعطيهم سرا يرجو ما عند الله، قال تعالى إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271].

فإخفاؤها أفضل إلا عند الحاجة إلى إظهارها، إذا دعت الحاجة إلى إظهارها فلا بأس كأن يجتمع فقراء، ويتكلم إنسانا في الصدقة عليهم فيأتي إنسان بصدقة ظاهرة حتى يتأسى به الناس لا بأس، في الحديث الصحيح أن جماعة وفدوا إلى النبي ﷺ وهم فقراء، فلما رأى ما فيهم من الحاجة والفقر خطب الناس وحثهم على الصدقة، فجاء رجل بصرة كادت كفه أن تعجز عنها، فلما رآه الناس تتابعوا في الصدقة عليهم فقال النبي ﷺ: من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها الحديث، لأنه جاء بها ظاهرة للمصلحة فتأسى بهم الناس وجاؤوا بصدقاتهم، فإذا كان إعلان الصدقة يجر إلى خير وينشط الحاضرين فلا بأس، وإلا فالسر أفضل، والسابع: الخصلة السابعة رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه يعني ما عنده أحد في بيته، أو في السفر، أو في أي مكان ذكر الله وذكر عظمته ففاضت عيناه خوفا من الله بكاء، فهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وفقنا الله وإياكم، ويجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

4/378-وعن أبي هريرة قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوه تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بينَكم رواه مسلم.

5/379-وعنه عن النَّبيِّ ﷺ: أَنَّ رَجُلًا زَار أَخًا لَهُ في قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَد اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجتِهِ مَلَكًا وذكر الحديث إِلَى قوله: إِن اللَّه قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ رواه مسلم. وقد سبق بالبابِ قبله.

6/380- وعن البَرَاءِ بْنِ عَازبٍ رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبِيِّ ﷺ أَنه قَالَ في الأَنْصَار: لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ أحبَّه اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّه متفقٌ عَلَيهِ.

الشيخ: هذه الأحاديث كالتي قبلها في الحث على الحب في الله، وأن من واجبات الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، فالواجب على أهل الإيمان أن يتحابوا في الله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، هذا مقتضى الإيمان، سبق قوله ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ذكر منهم رجلين تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، وتقدم قوله ﷺ: يقول الله يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي أخرجه البخاري رحمه الله.

وفي هذا يقول ﷺ: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم هذا يدل على أن المحبة في الله من واجبات الإيمان، وأن عدمها نقص في الإيمان، لا تؤمنوا حتى تحابوا مثل: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه فلا بد من الإيمان، ولا بد من التحاب في الله، وهو من واجبات الإيمان، كونه يحب أخاه في الله ويبغض من خرج عن دين الله في الله.

وفي الحديث الصحيح الآخر: أن رجلا زار أخا له في قرية فأرصد الله على طريقه ملكا يعني في صورة رجل فلما مر عليه سأله أين تذهب؟ قال: إلى قرية كذا أزور فيها فلانا، قال: هل لك من نعمة تربها عليه؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله يعني ما بيني وبينه نعمة أجازيه عليها لكنها المحبة في الله، فقال له الملك: إني رسول الله إليك أن الله أحبك كما أحببته فيه هذا حديث عظيم، وفي الحديث الآخر رواه مالك وغيره بإسناد صحيح يقول الله جل وعلا: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتباذلين في، والمتزاورين في، والمتجالسين في هذا كله في الحب في الله جل وعلا.

كذلك حديث الأنصار يقول ﷺ: حب الأنصار إيمان، وبغضهم نفاق، لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق هذا يدل على وجوب محبة الأنصار لأنهم نصروا دين الله، وساعدوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وآووه، فوجب حبهم في الله، فلا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فهم أنصار دين الله كما قال فيهم جل وعلا: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، وقال فيهم جل وعلا: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] ، فالواجب حبهم في الله لأنهم نصروا دين الله ونصروا رسوله، وبغض من أبغضهم. وفق الله الجميع.

7/381-وعن مُعَاذٍ قالَ: سمِعتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقول: قَالَ اللَّهُ : المُتَحَابُّونَ في جَلالي، لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ. رواه الترمذي، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

8/382-وعن أَبي إِدريس الخَولانيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ، فَإِذَا فَتًى بَرَّاقُ الثَّنَايَا وَإِذَا النَّاسُ مَعهُ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا في شَيءٍ، أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقِيلَ: هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، هَجَّرْتُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ، ووَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صلاتَهُ، ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وجْهِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَحِبُّكَ للَّهِ، فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ: اللَّه، فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ: اللَّه، فَأَخَذَني بِحَبْوَةِ رِدَائي، فَجَبذَني إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَبْشِرْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقول: قالَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَبَتْ مَحبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتَجالِسِينَ فيَّ، وَالمُتَزَاوِرِينَ فيَّ، وَالمُتَباذِلِينَ فيَّ حديث صحيح رواه مالِكٌ في المُوطَّإِ بإِسنادِهِ الصَّحيحِ.

قَوْلُهُ: هَجَّرْتُ أَيْ بَكَّرْتُ، وهُوَ بتشديد الجيم قوله: آللَّهِ فَقُلْتُ: َاللَّهِ الأَوَّلُ بهمزةٍ ممدودةٍ للاستفهامِ، والثاني بِلا مدٍ.

9/383- عن أَبي كَريمةَ المِقْدَادِ بن مَعْدِ يكَرب عن النَّبِيِّ ﷺ قَالَ إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ، فَلْيُخْبِرْه أَنَّهُ يُحِبُّهُ رواه أَبُو داود، والترمذي، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ.

الشيخ: هذه الأحاديث الثلاثة تتعلق بالحب في الله، تقدمت أحاديث في ذلك، وأن المحبة في الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات، تقدم قوله ﷺ: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم رجلين تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه متفق على صحته، وتقدم قوله ﷺ: يقول الله يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي، وحديث الرجل الذي ذهب إلى قرية فأرصد الله على طريقه ملكا فسأله: أين تريد؟ قال: أريد فلانا، فقال: هل لك من نعمة تربها عليه؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله، فقال: إني رسول الله إليك أن الله يحبك كما أحببته، وفي هذا يقول ﷺ: المتحابون في جلال الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء كما قال في الحديث الآخر: المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وهم أهل العدل والاستقامة، وهكذا المتحابون في الله لأنهم من أهل العدل والاستقامة، تحابهم في الله دليل على استقامتهم على دين الله.

وهكذا حديث معاذ: يقول ﷺ: يقول الله جل وعلا: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتباذلين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في يعني أعمالهم لله تجالسهم وتزوارهم، وجميع أمورهم كلها لله ، بذلهم وعطاؤهم ومجالستهم وتزاورهم لله، وفي الله جل وعلا، وذلك دليل على صدق المحبة لله، وصدق الإخلاص لله.

وفي الحديث الثالث يقول ﷺ: إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه يقول له: إني أحبك في الله كما قال أبو إدريس لمعاذ: إني أحبك في الله، ويقول المقال له: أحبك الله الذي أحببتني له، أما في حديث معاذ آلله آلله الصواب بالمد ليس كما قال المؤلف، الصواب المد فيهما جميعا، حلف يقول له معاذ: آلله يعني: والله إنك صادق، فيقول: آلله يكررها، يعني: والله إنك صادق، فالجواب: نعم والله إني صادق، كلها بمد الهمزة آلله آلله، وهذا أحد الحروف ... الهمزة، والثاني الباء، والثالث التاء، والرابع الواو، والله وبالله وتالله وآلله.

س: ما هي شروط المحبة في الله، وما هي ضوابطها، وماذا يجب على الأخ إذا كان يحب أخاه؟

ج: التحاب في الله على ظاهره، إذا كان يحبه لأجل عمله الصالح هذه شروطها، محبته لله لأجل عمله الصالح وتقواه لله، ما هو من أجل الدنيا أو القرابة أو المجاورة، يحبه لله لأعماله الطيبة واستقامته على دين الله.