أجزاء من تفسير ابن كثير قراءة خالد الشريمي

كل هذه أوقات لها شأن، فينبغي للمؤمن أن يكون له نصيبٌ من الدُّعاء والضَّراعة في هذه الأوقات، ويتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، وبأعماله الصَّالحة، ويُحسن الظنَّ بربه ، ويحذر أسباب المنع من المعاصي وأكل الحرام؛ فإنَّ المعاصي والغفلةَ عن الله وعدم العناية بأكل الحلال من أعظم الأسباب في عدم قبول الدعاء، ثم يحذر عباده جلَّ وعلا من أكل أموالهم بينهم بالباطل؛ فإنَّ أكلها بالباطل من أعظم أسباب غضب الله، ومن أسباب عدم إجابة الدعاء، وأكلها بالباطل أكلها بغير حقٍّ: بالغصب، والسَّرقات، والربا، والعقود الفاسدة، كل هذه أكل لها بالباطل؛ كونه يغصب ماله بغير حقٍّ، ويغشّه في المعاملة، يُعامله بالربا، يسرق ماله، يغصب ماله، يُعامله بالرشوة، إلى غير هذا.

فالمقصود أنَّ طرق أخذ المال غير الشرعية هذا معنى أكله بالباطل، فالواجب أن تكون المعاملات شرعية؛ حتى لا تأكل مال أخيك إلا بحقٍّ، وعليك أن تحذر الإدلاء بالرشوة للحكام من غير حقٍّ؛ فإنَّ ذلك مما يُغضب الله ويُسبب أكل المال بالباطل، فالإدلاء للحُكَّام الظالمين بالرشاء حتى يحكموا بغير العدل هذا من أسباب غضب الله ، ومن أكل المال بالباطل.

فعلى الحاكم أن يتَّقي الله، وأن يحكم بالعدل من دون مالٍ، وعلى كل أحدٍ أن يحكم بالعدل فيما بينه وبين إخوانه ومُعامليه، وأن يحذر ظلمهم: بغشِّهم في المعاملات، أو الخيانة في الأمانات، أو ما أشبه ذلك مما يكون ظلمًا وعدوانًا، نسأل الله العافية.

وقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا الآيات [الأنعام:151].

يقول الله تعالى لنبيه ورسوله محمدٍ ﷺ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَقَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَعَلُوهُ بِآرَائِهِمْ وَتَسْوِيلِ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ، قُلْ لَهُمْ: تَعالَوْا أَيْ: هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَيْ: أَقُصُّ عَلَيْكُمْ وَأُخْبِرُكُمْ بِمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، لَا تَخَرُّصًا، وَلَا ظَنًّا، بَلْ وَحْيًا مِنْهُ، وَأَمْرًا مِنْ عِنْدِهِ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَكَأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَأَوْصَاكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ.

قلتُ: ابتدأ تعالى هذه الآيات المحكمات بتحريم الشِّرك والنَّهي عنه.

الشيخ: هذا قولٌ لبعض العلماء، والقول الثاني أن (لا) هنا زائدة، كما تُزاد في مواضع كثيرةٍ، والمعنى: أتل ما حرَّم ربكم عليكم: أن تُشركوا به شيئًا. فلا هنا صلة، وفي الآية الأخرى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد:29] أي: ليعلم أهلُ الكتاب.

فقد تأتي في الكلام زيادة وصلة لظهور المعنى، فإذا رُوعي هذا المعنى، وأنه صلة في الكلام، كما وقع في مواضع أخرى، فالمعنى واضح: حرَّم عليكم أن تُشركوا به شيئًا.

أما إذا بقيت (لا) على حالها فلهذا احتيج التَّقدير: وصاكم بأن لا تُشركوا به شيئًا، حذف تقديره: وصاكم، ولكن مهما أمكن غنى هذا الحذف فهو أولى، كلما صان الكلام عن الحذف واستقام أمر الكلام من دون حذفٍ فهو أولى عند أهل العلم وعند أهل العربية، وهذا مستقيم من دون حذفٍ: قل: تعالوا أتل ما حرَّم ربكم عليكم: أن تُشركوا به شيئًا. يعني "لا" صلة، قد تُزاد في مواضع لظهور المعنى في لغة العرب، ومن هذا قوله سبحانه في آخر سورة الحديد: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [الحديد: 29] أي: ليعلم أهل الكتاب.

فحرَّم علينا أن نُشرك به شيئًا، فشمِل ذلك كلَّ مُشْرَكٍ به.

الشيخ: فشَمِلَ أفصح، ويجوز شمَل بالفتح.

فشمِل ذلك كلَّ مُشْرَكٍ به، وكل مُشْرَكٍ فيه من أنواع العبادة، فإنَّ شيئًا من النَّكرات، فيعمّ جميع الأشياء، وما أباح تعالى لعباده أن يُشركوا به شيئًا؛ فإنَّ ذلك أظلم الظلم، وأقبح القبيح.

ولفظ (الشرك) يدل على أنَّ المشركين كانوا يعبدون اللّه، ولكن يُشركون به غيره من الأوثان والصَّالحين والأصنام؛ فكانت الدَّعوة واقعةً على ترك عبادة ما سوى اللّه، وإفراد اللّه بالعبادة.

الشيخ: ولا شكَّ أنَّ لهم أنواعًا من العبادة: يحجون ويتصدقون، يرجون فضل الله، في حال الشَّدائد يُخلصون له العبادة، فلهم أنواع من العبادة، ولكنَّهم لا يمحضونها لله، بل يفعلونها لله ويفعلون مع ذلك الشرك بغيره، والعبادة لغيره؛ فلهذا سمّوا مشركين؛ لكونهم شركوا في العبادة غير الله ، وإلا فهم لا شكَّ تقع لهم عبادات: بحجِّهم وصدقاتهم وغير هذا من طاعاتهم التي يعملونها لله ، وهكذا ما يفعلون وقت الشَّدائد من إخلاص العبادة لله وحده، كل هذا واقع.

فكل إنسانٍ يجد من ضميره ومن إحساسه شيئًا ..... عبادة مَن هو فوقه، ومَن هو أعظم منه، ومَن هو أعلى منه، والمتصرف فيه، وإن اختلفت عقائدهم في ذلك في هذا الإله، وهذا القاهر، وهذا يُسمى الله أو غير ذلك، ولكن كل إنسانٍ مفطور بأصل خلقته على أنَّ له ربًّا وخالقًا ومُدبِّرًا، لكنه في معرفته وفي إخلاص العبادة أنواع لا تُحصى.

والرسل هي التي دلَّت على ذلك، فطر اللهُ العبادَ على أنَّ لها معبودًا وخالقًا ومُربِّيًا ومُدبِّرًا، وجاءت الرسلُ تُبين هذا الإله، وهذا المعبود، وهذا الخالق، وتُوضحه بأسمائه وصفاته، وتُوضح جهته التي يسأل منها ويُدعا، وأنها من جهة العلو ، فالرسل جاءت لإيضاح هذا الأمر، وبيان ذلك أعظم بيان.

وكانت (لا إله إلا الله) متضمنة لهذا المعنى، فدعاهم النبي ﷺ إلى الإقرار بها نطقًا وعملًا واعتقادًا؛ ولهذا إذا سُئلوا عمَّا يقول لهم قالوا: يقول: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، [النّساء:36]، واتركوا ما يقول آباؤكم، كما قاله أبو سفيان.

الشيخ: ولما سأله هرقل عمَّا يقوله محمد قال هذا الكلام، يقول: اعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم. وأمر بالصلاة، والصلة، والصدقة، والعفاف.

وقوله: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151].

قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برّهما وحفظهما وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرِّق عنهما، وترك السَّلطنة عليهما، وإِحْسَانًا نُصب على المصدرية، وناصبه فعل مُضمر من لفظه.

الشيخ: تقديره يعني: وأحسنوا إحسانًا، فعل مُضمر، يعني: محذوف من لفظ الإحسان، تقديره: وأحسنوا.

تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانًا.

الشيخ: تقدم الكلام في الإحسان إلى الوالدين، وأنه كلام جامع يشمل أنواع الإحسان مثلما تقدم: من برٍّ، وصلةٍ، وإحسانٍ، وكفِّ أذى، وترك السلطنة عليهما، وطاعتهما في المعروف، وجميع ما يكون فيه خيرٌ لهما، وإحسانٌ لهما، وكفّ الشَّر عنهما، فإنها كلمة جامعة: البرّ.

وقوله: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151].

الشيخ: ولكن مثلما تقدم: طاعة ولاة الأمور، وطاعة الوالدين، وطاعة الأزواج، كل ذلك وما أشبه مقيد بالمعروف، كل ما جاء في النصوص من طاعة الوالدين، أو طاعة السلطان، أو طاعة أولي الأمر، أو طاعة الزوج، حتى الزوجات، أو ما أشبه ذلك كله مقيد بالمعروف: إنما الطاعة في المعروف كما قاله النبيُّ ﷺ، فليس لأحدٍ أن يُطاع في المعاصي مهما كان فضله، ومهما كانت منزلته، ومهما كان سلطانه، فلا يُطاع أحدٌ في معاصي الله جلَّ وعلا، وإنما الطاعة في المعروف، فيما ليس معصيةً لله .

الإملاق: الفقر، أي: لا تَئِدُوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم مَن يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر. ذكره القُرطبي.

وفي "الصَّحيحين" -البخاري ومسلم- عن ابن مسعودٍ قال: قلتُ: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تُزاني حليلة جارك، ثم تلا رسولُ الله ﷺ: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68].

الشيخ: وهذا الحديث يُبين أنَّ الشرك أعظم الذنوب، لما سُئل: أي الذنب أعظم؟ عليه الصلاة والسلام، قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، هذا يُبين أنَّ الشرك هو أعظم الذنوب، واتِّخاذ النِّدّ معناه: المثل والنَّظير، يقال: فلان ندُّ فلانٍ، يعني: نظيره ومثيله، فكل مَن اتَّخذ مع الله إلهًا يعبده في الدُّعاء والخوف، أو الرجاء، أو التوكل، أو الصلاة، أو ما أشبه ذلك؛ فقد جعله لله ندًّا، وإن لم يُسمِّه ندًّا، الله يقول: فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وذمَّ مَن يتَّخذ هذا بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة:165].

فكل مَن اتَّخذ مخلوقًا مع الله: جمادًا، أو حيوانًا، أو ملكًا، أو نبيًّا، أو غير ذلك يدعوه مع الله، ويستغيث به، وينذر له، أو يسجد له، أو يخصّه بشيءٍ من العبادة، فإنه قد اتَّخذه بهذا ندًّا لله ، وجعله إلهًا مع الله، وإن سمَّاه بغير هذه الأسماء؛ بأن سمَّاه: سيدًا، أو سمَّاه: وليًّا، أو سمَّاه غير ذلك من الأسماء التي تُسميها الأمم، فالاختلاف بالأسماء لا يضرّ ولا يُغير المعنى؛ إذ الاعتبار بالمعاني، لا بالأسماء، كما سمَّى الناسُ هذه الآلهة، فهي آلهة مع الله، وعبادتها شرك بالله ، واتِّخاذ الأنداد معه ، فليُسموها ما سمّوها، لا يُغير المعنى أبدًا، وإنما الاعتبار بالحقائق والمعاني، لا بالألفاظ التي تتغير باصطلاحات الناس وعُرف الناس.

ولهذا في حديث أبي بكرة في "الصحيحين" يقول ﷺ: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، كررها ثلاثًا، ثم قال: الإشراك بالله، فجعله أكبر الكبائر، ثم جعل بعده العقوق، ثم شهادة الزور، فدلَّ ذلك على أنَّ الشرك هو أعظم الكبائر، ثم الكبائر بعد هذا تتفاوت: فالعقوق، وشهادة الزور، وقتل النفس بغير حقٍّ، والزنا، كلها من أكبر الكبائر، نعوذ بالله.

والمشركون كان فيهم مَن يقتل الأولاد جميعًا خشية الفقر والحاجة، وبعضهم يخصّ النساء فقط -البنت- خشية العار، خشية الفتنة بها بعد كبرها، فهذا كله منكر، وكله من خصال الجاهلية المذمومة التي جاء الإسلامُ بإبطالها والتحذير منها، فالله الرزاق لعباده، وهو سبحانه الذي عليه أرزاقهم جميعًا، وهو سبحانه مُعين لمن صدق في كفالة البنات وصيانة البنات، وهو المعين سبحانه لهم على مُهمتهم العظيمة في صيانة بناتهم، وحفظ بناتهم عمَّا حرم الله ، كما أن عليهم أن يحفظوا أولادهم أيضًا عمَّا حرم الله بكل جهدٍ، وبكل استطاعةٍ، والله يُعين الصَّادقين : فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، أما قتلهم فلا حلّ له، بل هذا منكر وظلم وعدوان.

وأما أن تُزاني حليلة جارك فقال الشُّراح من أهل العلم: معنى ذلك أن يُراودها، وأن يسعى في إفسادها على زوجها، من المزاناة، وهو أشدّ من كونه يزني ثم يذهب ويتركها، فإنَّ الزنا بها مرة أسلم من مُزاناته بها واتّخاذها صاحبةً له وخدنًا له يفعل بها متى يشاء، فإنَّ في هذا إفسادها على زوجها، وذهاب عفَّتها، وذلك أكبر وأشدّ وأنكر في المصيبة، نعوذ بالله، فإذا كان ..... مع زوجة الجار، كان أيضًا أعظم في الإثم؛ لأنَّ حقَّ الجار الإحسان والمراعاة، وهذا عامله بالخيانة في أهله، وإفساد أهله عليه، نعوذ بالله.

وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].

قال ابنُ عطية: نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي، وظَهَرَ وبَطَنَ حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء.

وفي التفسير المنسوب إلى أبي عليٍّ الطبري من الحنفية، وهو تفسير عظيم: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ أي: القبائح.

وعن ابن عباسٍ، والضَّحاك، والسّدي: أنَّ من الكفار مَن كان لا يرى بالزنا بأسًا إذا كان سرًّا.

الشيخ: ولا يُستغرب عليهم ذلك؛ فإنهم لا شرع عندهم، ولا إيمان لهم، ولا بصيرة؛ فلهذا يستحسنون ما يُناسب أهواءهم؛ ولهذا كان بعضُهم لا يرى به بأسًا سرًّا، كما في حالات كثيرة الآن من الكفرة، نعوذ بالله، لا يمنعه على أن لا يفضح وألا يتكلم فيه.

..................

وقيل: (الظاهر) ما بينك وبين الخلق، و(الباطن) ما بينك وبين الله. انتهى.

وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: لا أحدَ أغير من الله.

الشيخ: لأنَّ (لا) تعمل عمل (إنَّ)، و"أحد" اسمها.

لا أحدَ أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَمَا بَطَنَ.

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام:151].

قال ابنُ كثير: هذا مما نصَّ تعالى على النَّهي عنه تأكيدًا، وإلا فهو داخل في النَّهي عن الفواحش.

الشيخ: يعني: تخصيصًا بعد تعميم، فالقتل بغير حقٍّ من أقبح الفواحش، ولكن لما كان القتلُ عظيمًا نبَّه عليه مرة أخرى بخصوصه، في آيات كثيرات نهى عن القتل بخصوصه؛ لعظم الجريمة، ولما يترتب عليها من فسادٍ بين الأمم .....، فنصَّ عليها بعد التَّعميم؛ ليعلم الناسُ عظم الجريمة ويحذروها.

وفي "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ مرفوعًا: لا يحل دمُ امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.

وعن ابن عمر مرفوعًا: مَنْ قتل مُعاهَدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا رواه البخاري.

ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].

قال ابنُ عطية: ذلكم إشارة إلى هذه المحرَّمات، و(الوصية) الأمر المؤكد المقرر.

وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ تَرجٍّ بالإضافة إلينا، أي: مَن سمع هذه الوصية يُرجى وقوع أثر العقل بعدها.

قلتُ: هذا غير صحيح، والصواب أنَّ (لعل) هنا للتعليل، أي: أنَّ الله وصَّانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه، ونعمل بها، كما قال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولًا تَعْقِلُونَ ثم تَذَكَّرُونَ ثم تَتَّقُونَ لأنهم إذا عقلوا تذكَّروا، فإذا تذكَّروا خافوا واتَّقوا المهالك.

الشيخ: هذا كلام حسن؛ لأنَّ التَّعقل وسيلة التَّذكر لما يجب، والتَّذكر وسيلة العمل؛ ولهذا جاء في الآيات هكذا: لعلكم تعقلون، ثم بعدها: لعلكم تذكرون، ثم بعدها لعلكم تتقون، فالتَّرجي من الله لا يليق به ؛ لأنه سبحانه لا يرجو أحدًا، ولا يخاف أحدًا، فهو المالك لعباده، القاهر فوق عباده، وبيده قلوبهم وتصرفاتهم جلَّ وعلا.

قول ابن عطية: ترجي بالنسبة إلينا لا يرد هذا: لعلكم تعقلون لعلكم إذا سمعتُم هذا الأمر والنَّهي وهذه الوصايا لعلكم أنتم تعملون بما قيل لكم، وتعقلون وصايا الله، ولكن السياق يأبى أنَّ هذا في حقِّ الله ، يعني: فعلنا وأوصينا لعلكم، أي: لتعقلوا، فالتَّعليل بالنسبة إلى الله جلَّ وعلا هو الواجب؛ ولهذا قال الشارحُ أنه خطأ، والصواب أنه للتعليل؛ لأنَّ السياق في وصف الله ، وفي بيان هذه الأشياء، ثم علله بقوله: لعلكم يعني: وصيناكم، وأمرناكم، ونهيناكم لتعقلوا هذا الأمر والنَّهي، لتعقلوا وتفهموا وتذكروا وتتَّقوا حسب سياق الآيات كلها، فهو راجع إلى الله، لا إلى العباد؛ ولهذا لا يُناسب في هذا المقام أن يُقال ..... للتَّرجي، ولكن للتَّعليل أمرته بكذا، لعله يعقل، يعني: ليعقل ويفهم، فالله أمرنا بهذه الأشياء ونهانا عن هذه الأشياء لنعقلها عنه ونفهمها، ثم نتذكر ونعمل بما فيه رضاه، وما فيه نجاتنا وسلامتنا.

...............

قال البخاري رحمه الله:

كتاب فضل الصلاة في مكة والمدينة

بَابُ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ

1188- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُالمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ قَزَعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ أَرْبَعًا، قَالَ: سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ -وَكَانَ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً- ح.

1189- حَدَّثَنَا عَلِيٌّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى.

1190- حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ رَبَاحٍ، وَعُبَيْدِاللَّهِ ابْنِ أَبِي عَبْدِاللَّهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِاللَّهِ الأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ.

الشيخ: ظاهر الآيات فضل المسجدين، وفضل المسجد الحرام، وأنَّ الرِّحال تُشدّ إلى هذه الثلاث مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام. هذه المساجد الثلاثة: المسجد الحرام هو أولها، ثم المسجد الأقصى، بينه وبينه أربعون عامًا، ثم المسجد الأخير هو مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، بناه النبيُّ بنفسه، وساعده عليه أصحابُه رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهذه المساجد الثلاث هي أفضل مساجد الدنيا، وهي التي تُشدّ إليها الرِّحال، وتُحمل لها المطي، وما سواها لا تُشدّ لها الرحال من البقاع: لا مسجد قباء، ولا أي مسجدٍ في الدنيا تُشدّ إليه الرحال، ولا المقابر، ولا غير ذلك مما قد يظنّ له فضل، فلا تُشدّ الرحال إلا إلى هذه المساجد.

وفي لفظ مسلمٍ: لا تشدُّوا بالواو، والمعنى هنا: لا تُشدّ الرِّحال، هو خبر معناه النَّهي، يعني: لا تشدّوا، ورواية مسلم تُفسر هذا المعنى، وتدل على هذا المعنى، وهو الذي عليه أهلُ العلم: أنَّ هذه المساجد هي التي تُشدّ لها الرحال، أما ما سواها فلا يُشرع شدّ الرحال إليها.

ثم اختلفوا: هل يحرم أو لا يحرم على النَّهي للفضيلة فقط؟ على أقوالٍ، والأظهر منها التَّحريم؛ لأنه هو ظاهر: لا تُشدُّ، ولا تشدُّوا، فلا يجوز شدّ الرحال لطلب الفضل لأي بقعةٍ من البقاع، ما عدا هذه الثلاث، أما شدّ الرحال للتِّجارة والبيع والشراء وغير ذلك للمصالح الأخرى فلا بأس، يصير مباحًا، فإنَّ مقصود النبي ﷺ: تشدّ الرحال لبقعةٍ يُراد بها التَّقرب والعبادة والفضل، فلا تشدّ الرحال إلى أي مسجدٍ، ومن باب أولى البقاع الأخرى؛ ولهذا لما بلغ أبا بصرة أنَّ أبا هريرة شدَّ الرحال إلى الطور لما فيه من الفضل، قال له أبو بصرة: لو شهدتُك ما خرجتَ؛ لأني سمعتُ الرسول ﷺ قال: لا تحمل المطي إلا إلى ثلاث مساجد، فجعل الطور من المواضع الممنوعة؛ لأنه موضع يظنّ فيه القربة، ويظنّ فيه الفضل، فدخل في النَّهي من باب أولى، فإنَّ المساجد أفضل بقاع الدنيا، فإذا نهي أن تُشدّ الرحال إليها فغيرها من البقاع من باب أولى.

أما حديث أبي سعيدٍ الأول: فالمؤلف اختصره، وقد ساقه في مواضع أخرى وبيَّنه، قد سمع عن النبي أربعًا فنقلها، وأعجبنا منها نهيه عن شدِّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، ذكره المؤلفُ في مواضع أخرى.

أيش قال الشارحُ عليه؟ المؤلف اختصره جدًّا .....

الطالب: قَوْلُهُ: "سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ أَرْبَعًا" أَيْ: يَذْكُرُ أَرْبَعًا، أَوْ سَمِعْتُ مِنْهُ أَرْبَعًا، أَيْ: أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ.

قَوْلُهُ: "وَكَانَ غَزَا" الْقَائِلُ ذَلِكَ هُوَ قَزَعَةُ، وَالْمَقُولُ عَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ.

قَوْلُهُ: "ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً" كَذَا اقْتَصَرَ الْمُؤَلِّفُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنَ الْمَتْنِ شَيْئًا، وَذَكَرَ بَعْدَهُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي شَدِّ الرِّحَالِ، فَظَنَّ الدَّاوُدِيُّ الشَّارِحُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ سَاقَ الْإِسْنَادَيْنِ لِهَذَا الْمَتْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُقْتَصِرٌ عَلَى شَدِّ الرِّحَالِ فَقَطْ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ؛ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ الْبُخَارِيِّ فِي إِجَازَةِ اخْتِصَارِ الحَدِيث.

وَقَالَ ابنُ رَشِيدٍ: لَمَّا كَانَ أَحَدُ الْأَرْبَعِ هُوَ قَوْلَهُ: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ ذَكَرَ صَدْرَ الْحَدِيثِ إِلَى الْمَوضع الَّذِي يَتَلَاقَى فِيهِ افْتِتَاحُ أَبِي هُرَيْرَةَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، فَاقْتَطَفَ الْحَدِيثَ وَكَأَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ الْإِغْمَاضَ؛ لِيُنَبِّهَ غَيْرَ الْحَافِظِ عَلَى فَائِدَةِ الْحِفْظِ، عَلَى أَنَّهُ مَا أَخْلَاهُ عَنِ الْإِيضَاحِ عَنْ قُرْبٍ، فَإِنَّهُ سَاقَهُ بِتَمَامِهِ خَامِسَ تَرْجَمَةٍ.

س: فضل الصلاة في المسجد الحرام حتى النَّافلة؟

الشيخ: ظاهر النصوص تعمّ الجميع، فإنه قال: صلاة فيعمّ، لكن النوافل التي شرع النبي ﷺ أن يُكتفى بها في البيت يكون فضلها أعظم؛ لأنَّ الرسول قال: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، يُخاطب أهل المدينة وغيرهم، لكن لو صلَّى النوافل في المسجد الحرام فله هذا الفضل: من راتبةٍ، أو صلاة ضحًى، أو صلاة الطواف، أو غير ذلك، وصلاته في الحِجْر أو غير ذلك لها هذا الفضل، لكن كونه يتعبد في بيته بالنَّوافل الرَّواتب والتَّهجد في الليل أفضل، ويُعطى أكثر من هذا؛ لأنه أطاع النبيَّ وامتثل إرشاده عليه الصلاة والسَّلام.

س: ما الأفضل بين مكة والمدينة؟ حيث أن الإمام مالك يفضل المدينة على مكة؟

الشيخ: الصواب قول الجمهور: مكة أفضل، ثم المدينة، ومالك احتجَّ بحديث: المدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، والحديث لأهل العلم في تفسيره كلام كثير، وأما حديث تفضيل مكة فهو واضح، منها قوله: أنَّ الصلاة في مكة بمئة ألف صلاةٍ، وفي مسجد المدينة خيرٌ من ألف صلاةٍ مما سواه إلا المسجد الحرام، والحديث الصحيح: إنَّكِ خيرُ بقاع الله وأحبها إلى الله، ولولا أنَّ قومك أخرجوني منك ما خرجتُ، وهو حديث جيد، رواه أهلُ السنن.

س: قوله: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة؟

الشيخ: هذا فضل البقعة فقط، وفضل الخاصّ لا يقتضي فضل العام.

س: هل الإثم في مكة مُضاعف؟

الشيخ: من جهة الكيفية، السيئات مُضاعفة من جهة الكيفية، يعني: سيئات مكة أعظم من سيئات غيرها، أما السيئات فلا تُضاعف من جهة العدد، الله يقول جلَّ وعلا: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160]، فالسيئات بمثلها فقط، لكن سيئة في مكة عظيمة، أعظم من سيئةٍ في المدينة، أو من سيئةٍ في الطائف، أو في نجد، أو ما أشبه ذلك، يعني: من جهة الكيفية، لا من جهة العدد والكمية، أما الحسنات فتضاعف من جهة الكمية والكيفية جميعًا في مكة وفي غيرها؛ فضلًا من الله وإحسانًا منه .

س: ماذا يعني قولهم حديث جيد؟

ج: يشمل الصحيح، ويشمل الحسن.

س: يعني هو أعلى من الصَّحيح؟

ج: أعمّ.

س: لها ضابط؟

ج: ما لها ضابط، لكن الغالب أنَّ الأشياء التي قد يظنّ ضعفها يُنبه بهذا على جودتها وصحَّتها، فيدخل فيها الصحيح والحسن.

س: ...............؟

ج: الصواب أنه عامّ، الحرم كله، بخلاف المدينة، المسجد خاصة، قال: مسجدي هذا، وأما المسجد الحرام فيعمّ المساجد كلها، والحرم كله، المسجد الحرام، والأرجح في هذا يعمّ الحرم كله، وإن كان محلّ الكعبة أفضل من الأماكن الأخرى من جهة الجماعة، لكن من حيث الدليل يعمّ الجميع.

بَابُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ

1191- حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -هُوَ الدَّوْرَقِيُّ- حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ لَا يُصَلِّي مِنَ الضُّحَى إِلَّا فِي يَوْمَيْنِ: يَوْمَ يَقْدَمُ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقْدَمُهَا ضُحًى، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ المَقَامِ، وَيَوْمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِ كُلَّ سَبْتٍ، فَإِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ كَرِهَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهِ، قَالَ: وَكَانَ يُحَدِّثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَزُورُهُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا.

الشيخ: زيارة مسجد قباء سنة، قُربة إلى الله جلَّ وعلا؛ لأنَّ الرسول كان يزوره عليه الصلاة والسلام راكبًا وماشيًا، هذا يدل على قوته وعنايته عليه الصلاة والسلام، وأنه يأتي إلى قباء وهو بعيد عن بيته عليه الصلاة والسلام -نصف ساعة للماشي- يزوره ماشيًا عليه الصلاة والسلام، وربما زاره راكبًا، تارة وتارة، فدلَّ ذلك على فضل زيارة مسجد قباء والصلاة فيه مطلقًا لمن كان في المدينة، أما شدّ الرحل إليه لمن كان من غير المدينة فلا؛ النبي قال: لا تُشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد، لكن إذا كان في المدينة شُرع له أن يزور مسجد قباء، سواء ماشيًا أو راكبًا؛ اقتداءً بالنبي عليه الصلاة والسلام.

وفي لفظٍ آخر في السنن: أنه عليه الصلاة والسلام قال: مَن تطهر في بيته وأحسن الطهور ثم أتى مسجد قباءٍ وصلَّى فيه كان كعمرةٍ، وهو حديث جيد، حسن الإسناد، صحيح.

المقصود أنَّ هذا يدل على فضل هذا المسجد، وأنه صلى فيه اقتداءً بالنبي ﷺ، وأخذًا بالحديث الأخير.

أما شدّ الرحال فيختص بالثلاث كما تقدم، وأما ابن عمر فلا يُصلي الضُّحى؛ لأنه لم يثبت عنده شرعية صلاة الضحى، خفي عليه ما جاء فيها، ولكن علمه غيرُه من أهل العلم من الصحابة ومَن بعدهم، فعرفوا سنية صلاة الضحى بالأحاديث الصحيحة، حديث النبي ﷺ، أما ابن عمر فخفي عليه هذا الأمر، ولكن ثبت عن رسول الله ﷺ أنه أوصى أبا هريرة، وأوصى أبا الدَّرداء بثلاثٍ، منها صلاة الضحى، وكذلك أخبر أنَّ على كل سلامى منا صدقة، وأنه إذا سبَّح الله وهلله وكبَّره وحمده، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأماط الأذى عن الطريق، كل هذا وأشباهه يُؤدي الصدقة التي عن السّلاميات، قال: ويكفي من ذلك ركعتان يركعهما من الضُّحى رواه مسلم في "الصحيح".

والأحاديث في المعنى كثيرة دالة على شرعية صلاة الضحى، ولكنه ما كان يُحافظ عليها ﷺ للتَّخفيف؛ لئلا يشقّ على أمته؛ لأنه إذا حافظ حافظوا؛ فلهذا تركها والله أعلم، يعني: المحافظة عليها؛ لئلا يشقّ عليهم، وليعلموا أنها سنة، لا فريضة.

س: .................؟

ج: ..... صلاة الضحى مشروعة مطلقًا، ما فيها تحديد، وقد صلاها النبيُّ ثمانِ ركعات يوم الفتح، وجاءت فيها أحاديث كثيرة تدل على تنوع الصلاة فيها، والأمر فيها واسع، لكن أقلّ شيءٍ ركعتان، كما فعله النبيُّ ﷺ تخفيفًا وتيسيرًا، في حديث أبي الدَّرداء صلاة الضحى، وفي حديث أبي هريرة ركعتان من الضحى.

1192- قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا أَصْنَعُ كَمَا رَأَيْتُ أَصْحَابِي يَصْنَعُونَ، وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَيِّ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، غَيْرَ أَنْ لَا تَتَحَرَّوْا طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا.

الشيخ: هذا الذي حفظه رضي الله عنه وأرضاه، وثبت عنه ﷺ النَّهي عن الصلاة بعد العصر، وبعد الصبح إلى ارتفاع الشمس، ولكن تحري الصلاة عند الغروب وعند الطلوع آكد في الإثم، أشدّ في الإثم.

بَابُ مَنْ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ

1193- حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا. وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ.

بَابُ إِتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا

1194- حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا.

زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ: فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ.

س: ................؟

الشيخ: ظاهر الرِّوايات أنه أراد يوم السبت، وإلا السبت يحتمل الأسبوع، مثلما في حديث الاستسقاء، قال أنس: "فما رأينا الشمسَ سبتًا" يعني: أسبوعًا، ولكن ظاهر الروايات هنا أنه يوم السبت.

...............

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن هذا الباب قوله سبحانه: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ۝ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ۝ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ۝ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۝ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:145-150].

قال غير واحدٍ من السلف: معناه: لئلا يحتجّ اليهودُ عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيُوشك أن يُوافقونا في ديننا! فقطع الله بمُخالفتهم في القبلة هذه الحُجَّة، إذ الحُجَّة اسم لكلِّ ما يُحتجُّ به من حقٍّ وباطلٍ.

إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيُوشك أن يعودوا إلى ديننا.

فبين سبحانه أنَّ من حكمة نسخ القبلة وتغييرها: مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم؛ ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أنَّ هذا المعنى ثابت في كل مخالفةٍ وموافقةٍ، فإنَّ الكافر إذا اتُّبع في شيءٍ من أمره كان له في الحجة مثلما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة.

الشيخ: لكن الظالم لا عبرةَ باحتجاجه، فإنَّ المشركين احتجوا وقالوا: إنهم عادوا إلى استقبال القبلة. فلا حجة لهم في هذا؛ فإنَّ هذا بأمر الله ، وهي قبلة إبراهيم، فرجوعنا إليها رجوع إلى الحقِّ والصواب بإذن الله ، وعليهم هم أن يرجعوا إلى الحقِّ الذي كان عليه إبراهيم، وكان عليه الأنبياء، فلا حُجَّة لهم، فإذا احتجُّوا بهذا على الشِّرك فهم ظالمون، والظالم لا قيمةَ له؛ ولهذا قال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا.

وقال سبحانه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، وهم: اليهود والنَّصارى، الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة؛ ولهذا نهى النبيُّ ﷺ عن مُشابهتهم في نفس التَّفرق والاختلاف، مع أنه ﷺ قد أخبر أنَّ أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، مع أن قوله: "لا تكن مثل فلان" قد يعمّ مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى، وإن لم يعمّ دلَّ على أن جنس مُخالفتهم وترك مُشابهتهم أمر مشروع، ودلَّ على أنه كلما بعد الرجل عن مُشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها، وهذه مصلحة جليلة.

الشيخ: وأما ما شرع لنا فلا يضرّنا إن كانوا يُشابهوننا، إذا شُرع لنا نفعله، وإن شابهنا أهلُ الأرض لا نبالي، فما شرع الله لنا من الصلوات والصيام والحج ونحو ذلك لا يضرنا مَن شابهنا فيه، وهكذا ما شرع الله لنا من قصِّ الشارب، وإعفاء اللحى، لو شابهنا أهلُ الأرض من الكفرة فأعفوا لحاهم وقصّوا شواربهم لا ندع شريعتنا لأجل مُخالفتهم، وإنما نُخالفهم في الشيء الذي ما شرع الله لنا فعله، فإذا كانت لهم عادة في شيءٍ وطريقة في شيءٍ وزيّ في شيءٍ يُخالفهم في ذلك؛ إظهارًا أنا على غير دينهم، إلا في الشيء الذي شرع الله لنا: كإعفاء اللحى، كقص الشوارب، كالصلاة إلى القبلة، إلى غير هذا: زيارة المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد قباء لأهل المدينة، إلى غير ذلك.

فالمقصود ما شرع الله لنا نفعله وإن وافقونا فيه، ولا نقول: إذا وافقونا فيه نتركه! كما يقول بعضُ الجهلة، ما وافقونا فيه لا يضرّنا، إن وافقونا نسأل الله لهم الهداية كي يُوافقونا في الجميع.

س: مُخالفة النبي ﷺ لهم في صوم محرم؟

ج: لأنَّ الشريعة استقرت على مخالفة اليهود في كل شيءٍ، الشريعة استقرت أخيرًا على مخالفة اليهود والنصارى في كل شيءٍ .....

وقال سبحانه لموسى وهارون: فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [يونس:89]، وقال سبحانه: وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]، وقال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء:115]، إلى غير ذلك من الآيات.

وما هم عليه من الهدي والعمل هو من سبيل غير المؤمنين، بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون.

الشيخ: لأنه يُستغنى بذلك ما جاء في الشرع من شريعة التوراة والإنجيل، وما بقي في شرعنا وجاء به شرعنا هو غير داخلٍ في هديهم وسمتهم الذي نُهينا عن اتِّباعهم فيه مثلما تقدم؛ ولهذا قال: في غير ما شرع الله لنا.

وما هم عليه من الهدي والعمل هو من سبيل غير المؤمنين، بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون، وما يقدر عدم اندراجه في العموم، فالنهي ثابتٌ عن جنسه، فيكون مُفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه ومقاربته في مظنة وقوع المنهي عنه، قال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ۝ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:48- 49]، ومتابعتهم في هديهم هي من اتِّباع ما يهوَوْنه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه، وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة مُتابعتهم فيما يهوونه.

واعلم أنَّ في كتاب الله من النَّهي عن مُشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثيرة، مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2]، وقوله: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111]، وأمثال ذلك، ومنه ما يدل على مقصودنا، ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود.

ثم متى كان المقصودُ بيان أنَّ مُخالفتهم في عامَّة أمورهم أصلح لنا؛ فجميع الآيات دالة على ذلك، وإن كان المقصودُ أنَّ مخالفتهم واجبة علينا، فهذا إنما يدل عليه بعض الآيات دون بعضٍ، ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة، إذ كان هو المقصود هنا.

وأما تمييز دلالة الوجوب أو الواجب عن غيرها، وتمييز الواجب عن غيره، فليس هو المقصود هنا.

الشيخ: مقصود من هذا يقول: بيان أنَّ جنس المخالفة مشروعة لنا، أما التفصيل: أنَّ هذا واجب، وهذا مستحبّ، هذا محله بحثٌ آخر، لكن مقصوده من تأليف الكتاب بيان أنَّ مخالفة أهل الكتاب وغيرهم من الكفرة مشروعة لنا في أزيائهم وأعمالهم وهديهم وغير ذلك، لكن تلك المخالفة فيها تفاصيل: منها ما هو واجب، ومنها ما وافقتهم فيه شرك أكبر، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو خلاف الأولى، فهو يختلف، أقسام متعددة، لكن جنس المخالفة مشروعة لنا.

وسنذكر إن شاء الله أن مُشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة، فإنه هو المسألة المقصودة بعينها، وسائر المسائل إنما جلبها تقرير القاعدة الكلية العظيمة المنفعة.

وقال الله : الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ۝ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۝ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ۝ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:67- 73].

بيَّن الله في هذه الآيات أخلاق المنافقين وصفاتهم، وأخلاق المؤمنين وصفاتهم، وكلا الفريقين مُظهِر للإسلام، ووعد المنافقين المظهرين للإسلام مع هذه الأخلاق، والكافرين المظهرين للكفر نار جهنم، وأمر نبيه بجهاد الطائفتين.

ومنذ بعث الله محمدًا ﷺ، وهاجر إلى المدينة، صار الناسُ ثلاثة أصناف: مؤمن، ومنافق، وكافر.

فأما الكافر -وهو المظهر للكفر- فأمره بَيِّنٌ، وإنما الغرض هنا متعلق بصفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة، فإنها هي التي تُخاف على أهل القبلة، فوصف الله سبحانه المنافقين بأنَّ بعضهم من بعضٍ، وقال في المؤمنين: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]؛ وذلك لأنَّ المنافقين تشابهت قلوبهم وأعمالهم، وهم مع ذلك تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]، فليست قلوبهم مُتوادةً متواليةً إلا ما دام الغرضُ الذي يؤمونه مشتركًا بينهم، ثم يتخلَّى بعضُهم عن بعضٍ، بخلاف المؤمن؛ فإنه يُحب المؤمن، وينصره بظهر الغيب، وإن تناءت بهم الديار وتباعد الزَّمان.

الشيخ: لأنَّ أهدافهم خبيثة، المنافقون أهدافهم خبيثة، أهدافهم الدنيا والحظ العاجل؛ ولهذا لا يستقيم لهم مودة فيما بينهم، بل هم إنما يتعاونون لتحقيق أهدافهم الخبيثة، فإذا حصلت أهدافهم الخبيثة تفرَّقوا، وصار بعضُهم لبعضٍ أعداء؛ لأنهم ليس لهم أهداف صالحة، بخلاف أهل الإيمان؛ فغرضهم واحد، متَّحد، دائم، اتباع الحقِّ، والتعاون على إيجاده.

ثم وصف سبحانه كل واحدةٍ من الطائفتين بأعمالهم في أنفسهم وفي غيرهم، وكلمات الله جوامع، وذلك أنه لما كانت أعمالُ المرء المتعلقة بدينه قسمين:

أحدهما: أن يعمل ويترك.

والثاني: أن يأمر غيره بالفعل والتَّرك.

ثم فعله إما أن يختصَّ هو بنفعه، أو ينفع به غيره، فصارت الأقسامُ ثلاثة، ليس لها رابع:

أحدها: ما يقوم بالعامل ولا يتعلق بغيره: كالصلاة مثلًا.

والثاني: ما يعمله لنفع غيره: كالزكاة.

والثالث: ما يأمر غيره أن يفعله، فيكون الغيرُ هو العامل، وحظّه هو الأمر به.

فقال سبحانه في صفة المنافقين: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ [التوبة:67]، وبإزائه في صفة المؤمنين: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].

والمعروف: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله من الإيمان والعمل الصالح.

والمنكر: اسمٌ جامعٌ لكل ما كرهه الله، ونهى الله عنه.

ثم قال: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة:67].

قال مجاهد: "يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله".

وقال قتادة: "يقبضون أيديهم عن كل خيرٍ".

فمجاهد أشار إلى النَّفع بالمال، وقتادة أشار إلى النَّفع بالمال والبدن.

وقبض اليد عبارة عن الإمساك، كما في قوله تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29].

وفي قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، وهي حقيقة عرفية ظاهرة من اللَّفظ، أو هي مجاز مشهور.

الشيخ: الصواب عند المؤلف: الحقيقة العرفية، قبض اليد يعني بالإمساك، حقيقة معروفة في اللغة العربية، ولا حاجة للمجاز.

والقول الثاني أنها تُسمَّى: مجازًا؛ لأنَّ القبض الحقيقي قبض حسيّ، فعبر بالقبض المعنوي -وهو الإمساك- عن القبض الحسي الذي هو إمساك اليد.

س: ...............؟

ج: الحقائق عُرفية في لغة العرب، العرب يتوسَّعون، يُطلقون القبض على الإمسال الحسي باليد والقبض على الامساك المعنوي بالبخل.

س: ................؟

ج: عند قومٍ، عند جماعةٍ، عند المؤلف وابن القيم وجماعة يُنكرون المجاز، كل شيءٍ حقيقة فيما يُناسبه، والقول الثاني المشهور عند جماعةٍ: أنَّ اللغة العربية قسمان: حقائق حسية ذاتية، وحقائق مجازية تنتقل وتتنوع بالنسبة إلى الناس.

وبإزاء قبض أيديهم قوله في المؤمنين: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [التوبة:71]، فإنَّ الزكاة وإن كانت ..