نشأته الاجتماعية

للبيئة التي ينشأ فيها الإنسان أثر كبير في شخصيته وتكوينه العقلي، فإما أن تكون معينةً على الخير، دافعةً إلى مراقي العز والشرف، أو تكون مَرْتعًا خَصْبًا للشرِّ، مهيئةً لأسباب الفساد والهلاك.
وإن البيئة التي نشأ فيها شيخنا - رحمه الله - كانت من الصنف الأول، حيث ولد سماحته في الرياض عاصمة نجد يوم الثاني عشر من ذي الحجة عام ثلاثين وثلاثمئة وألف للهجرة، في أسرة يغلب على بعضها العناية بالزراعة، وعلى بعضها عمل التجارة، وعلى كثير من فضلائها طلب العلم، ومن أعيان هذه الأسرة: الشيخ عبدالمحسن بن أحمد آل باز، تولى القضاء بالحلوة، ومنهم كذلك الشيخ المبارك بن عبدالمحسن، تولى القضاء في بلدان كثيرة من المملكة، منها: الطائف، وبيشة، وحريملة، والحلوة.
وبالإجمال فإن الطابع الغالب على هذه الأسرة هو طابع الجد في ممارسة الخير سعيًا في نشدان الكسب الحلال، ومذاكرة في مسائل الدين، والتزاما لفضائله، فهي بيئة إسلامية تذكر الناسي وتعلم الجاهل وتنبه الغافل. [1]

طفولته وصباه:
نشأ سماحة الشيخ يتيمًا في حِجْر أمه هيا بنت عثمان بن عبدالله بن خزيم، إذ توفي والده في ذي القعدة سنة 1333هـ والشيخ في الثالثة من عمره، فقامت الأم برعايته وتربيته على الأخلاق الفاضلة والآداب الحميدة هو وأخويه: إبراهيم بن عبدالرحمن بن سيف - الأخ غير الشقيق لسماحة الشيخ - ومحمد بن عبدالله بن باز. [2]
ومما يذكر عن طفولته أنه كان - رحمه الله - ضعيف البنية، فلم يستطع المشي إلا بعد أن بلغ الثالثة من عمره، وكان ميَّالًا إلى الخير، محافظًا على أداء العبادات منذ نعومة أظفاره، فيحرص على التبكير إلى الصلاة إذا سمع النداء.
وعندما سئل سماحته عن طفولته كيف كانت، قال: "أما عن طفولتي فلا أتذكرها بالضبط، عدا تلك التي كنت حريصًا فيها على مجالسة أهل العلم، وقراءة القرآن والاطلاع على ما يجب في علوم الدين". [3]
ومن المواقف التي حدثت للشيخ في طفولته مع أحد أهل العلم وأثرت فيه كثيرًا أنه ذات يومٍ تأخَّر عن الحضور إلى الصلاة مبكرًا ففاته بعضُها، فقام يصلي ما فاته بعدما سلَّم الإمامُ الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، فلما التفت الشيخ صالح ورأى تلميذَه متأخِّرًا يصلي ما فاته حزن وقال: بعض الناس يُسَوِّف ويجلس يأكل ويشرب حتى تفوته الصلاةُ! يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز: وكأنَّه - رحمه الله - يعنيني ويعرض بي، فخجلتُ مما كان مني، وتكدرتُ كثيرًا، ولم أنسَ ذلك الموقف حتى الآن. [4] 
وقد اشترك الشيخ مع أخيه محمد في بيع البشوت [5] وبعض الملابس في سوق الرياض (الحراج)؛ إذ كانت حالة الأسرة المادية متواضعةً. [6]
تمتع الشيخ ببصره إلى سنة 1346هـ، حيث أصابه مرض يُسَمَّى في نجد (أبا الرغيد) أدى إلى ضعف بصره، ونتيجة ضعف الإمكانات الطبية في ذلك الوقت استمر المرض مع الشيخ إلى محرم سنة 1350هـ؛ حيث ذهب بصرُه بالكلية وعمره 19 عامًا؛ فخيَّم الحزنُ على الأسرة لذلك المصاب، واشتد على الأم خاصةً، غير أنها أخذت بنصيحة امرأةٍ صالحةٍ؛ فجعلت تدعو الله تعالى أن يرزق ابنها البصيرةَ عوضًا عن بصره الذي فقده، فلعل الله تعالى قد استجاب لها؛ فكان للشيخ ما هو معلوم من البصيرة وحسن العمل. [7]
ولم يقف فقدُ البصر عائقًا في طريق الشيخ - رحمه الله - فقد واصل طلبَ العلم والاستزادة منه، وصبر على قدر الله ورضي به، وكان أخواه إبراهيم ومحمد يقومان على شؤون البيت إلى جانب والدتهما، ويعملان على توفير احتياجات الأسرة. [8]
وقد قيل ذات مرة لسماحة الشيخ: سمعنا أنك لا تعرف الكتابة.
فأجاب سماحته بقوله:
"هذا ليس بصحيح؛ فأنا أقرأ وأكتب قبل أن يذهب بصري، ولي تعليقات على بعض الكتب التي قرأتها على المشايخ مثل الآجروميه في النحو وغيرها".
وإذا أملى سماحة الشيخ كتابًا أو تعليقا وكان هناك إشكال في كلمة ما؛ قال: " تُكْتَب هكذا "، وأشار إلى راحة يده وهو يَكْتُب بإصبعه.
وقيل لسماحته ذات مرة: هل صحيح أنك تتمنى أنك رأيت الإبل على ما خلقها الله؟
فأجاب سماحته بقوله: "هذا ليس بصحيح؛ فأنا أتصورها؛ لأن بصري لم يذهب إلا وعمري تسع عشرة سنة". [9]
وقد كانت الأم تشجعه - رحمه الله - على فعل الخير إلى جانب ما طبع عليه الشيخ من الأخلاق الطيبة والكرم والسخاء منذ صغره، فقد ذكر عنه - رحمه الله - أنه عندما بدأ في طلب العلم كان يحرص على مساعدة كل طالب يأتي جديدا إلى الرياض بالجلوس معه ومؤانسته، ومساعدته في كل ما يحتاج؛ لأنه غريب، حتى يبلغ به الأمر إلى أن يأخذه معه إلى منزله؛ ليتناول عنده الوجبة الملائمة في الغداء أو العشاء، حيث يطلب من والدته أن تعطيه وجبته هو، وعندما تقول له أمه: ما عندنا غيرها. يرد عليها: هذا طالب علم ومحتاج وغريب، يجب أن نرغبه في العلم.
وقد أَنِسَتْ أمه هذا الكرم المتأصل في نفسه، فصارت تشجعه وتعينه بكل ما يحتاجه طلاب العلم: من طعام يتشاركون فيه، أو خياطة لملابسهم وما يحتاجون إليه؛ لأن الغريب البعيد عن أهله يحتاج لبعض الأمور ذات الأثر في نفسه.
نمت عنده أعمال كثيرة، كبر حجمها بعدما بلغ المكانة العلمية والاجتماعية، فكانت طبعًا لا تَطَبُّعًا، وخلقًا متأصِّلًا لا تكلُّف فيه، وقد حصلت منه - كما ينقله العارفون به - أكثر من مرة؛ لينطبق عليه دلالة هذه الآية الكريمة: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
  1. انظر: علماء ومفكرون عرفتهم، لمحمد المجذوب (77/1).
  2. عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (31،30).
  3. انظر: عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (35).
  4. جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز، رواية محمد الموسى (36،35).
  5. جمع بِشْت، وهو عباءة من الصوف.
  6. الإنجاز في ترجمة الإمام عبدالعزيز بن باز، لعبدالرحمن الرحمة (29-31).
  7. القول الوجيز، لعبدالعزيز الباز (11).
  8. عبدالعزيز بن باز عالم فقدته الأمة، للشويعر (34،33).
  9. ينظر: عبدالعزيز بن باز مسيرة عطاء، قسم الدراسات والأبحاث، دار أمواج، الأردن، الطبعة الأولى، 2012م، (15-16) باختصار.