فقد اطلعت على الجواب المفيد القيم، الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني وفقه الله، المنشور في صحيفة (المسلمون) الذي أجاب به فضيلته من سأله عن: "تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل".
فألفيتها كلمة قيمة، قد أصاب فيها الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح وفقه الله أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن غيره من سلف الأمة.
ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] هو الصواب، وقد أوضح وفقه الله أن الكفر كفران أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان أكبر وأصغر؛ فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرها من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفرا أكبر، وظلم ظلما أكبر، وفسق فسقا أكبر.
ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرا أصغر وظلمه ظلما أصغر وهكذا فسقه؛ لقول النبي ﷺ في حديث ابن مسعود : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر أراد بهذا ﷺ: الفسق الأصغر والكفر الأصغر، وأطلق العبارة تنفيرا من هذا العمل المنكر، وهكذا قوله ﷺ: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت أخرجه مسلم في صحيحه.
وقوله ﷺ: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على كل مسلم ولا سيما أهل العلم التثبت في الأمور، والحكم فيها على ضوء الكتاب والسنة، وطريق سلف الأمة والحذر من السبيل الوخيم الذي سلكه الكثير من الناس لإطلاق الأحكام وعدم التفصيل.
وعلى أهل العلم أن يعتنوا بالدعوة إلى الله سبحانه بالتفصيل وإيضاح الإسلام للناس بأدلته من الكتاب والسنة، وترغيبهم في الاستقامة عليه والتواصي والنصح في ذلك، مع الترهيب من كل ما يخالف أحكام الإسلام، وبذلك يكونون قد سلكوا مسلك النبي ﷺ، ومسلك خلفائه الراشدين وصحابته المرضيين في إيضاح سبيل الحق، والإرشاد إليه، والتحذير مما يخالفه عملا بقول الله سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] وقوله عز وجل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] وقوله سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] وقول النبي ﷺ: من دل على خير فله مثل أجر فاعله وقوله ﷺ: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا أخرجه مسلم في صحيحه وقول النبي ﷺ لعلي لما بعثه إلى اليهود في خيبر: ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم متفق على صحته.
وقد مكث النبي ﷺ في مكة ثلاث عشرة سنة، يدعو الناس إلى توحيد الله، والدخول في الإسلام بالنصح والحكمة والصبر والأسلوب الحسن، حتى هدى الله على يديه، وعلى يد أصحابه من سبقت له السعادة.
ثم هاجر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام، واستمر في دعوته إلى الله سبحانه، هو وأصحابه رضي الله عنهم بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر والجدال بالتي هي أحسن، حتى شرع الله له الجهاد بالسيف للكفار، فقام بذلك عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه رضي الله عنهم أكمل قيام، فأيدهم الله ونصرهم وجعل لهم العاقبة الحميدة.
وهكذا يكون النصر وحسن العاقبة لمن تبعهم بإحسان، وسار على نهجهم إلى يوم القيامة والله المسئول أن يجعلنا وسائر إخواننا في الله من أتباعهم بإحسان، وأن يرزقنا وجميع إخواننا الدعاة إلى الله البصيرة النافذة والعمل الصالح، والصبر على الحق حتى نلقاه سبحانه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين[1].
عبدالعزيز ين عبدالله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
- نشر في جريدة المسلمون في 12 /5 / 1416 هـ عدد 557، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 9/ 124).