وصايا للحجاج والزوار

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فإلى حجاج بيت الله الحرام أقدم هذه الوصايا عملًا بقول الله سبحانه: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:22]، وقول النبي ﷺ: الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله، قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم[1].
الأولى: الوصية بتقوى الله تعالى في جميع الأحوال، والتقوى هي جماع الخير، وهي وصية الله سبحانه ووصية رسوله ﷺ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ  [النساء:1]، وقال سبحانه: ولقد وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّه [النساء:131]، وكان النبي ﷺ يوصي في خطبه كثيرًا بتقوى الله.
وحقيقة التقوى: أداء ما افترض الله على العبد وترك ما حرم الله عليه عن إخلاص لله ومحبة له ورغبة في ثوابه وحذر من عقابه على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله محمد ﷺ.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وهو أحد علماء أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم: تقوى الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: ليست تقوى الله بصيام النهار ولا قيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله، فمن رزق بعد ذلك خيرًا فهو خير على خير.
وقال طلق بن حبيب التابعي الجليل  رحمه الله: تقوى الله سبحانه هي أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
وهذا كلام جيد، ومعناه أن الواجب على المسلم أن يتفقه في دين الله، وأن يتعلم ما لا يسعه جهله، حتى يعمل بطاعة الله على بصيرة، ويدع محارم الله على بصيرة، وهذا هو تحقيق العمل بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن الشهادة الأولى تقتضي الإيمان بالله وحده، وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه، وإخلاص جميع الأعمال لوجهه الكريم، رجاء رحمته وخشية عقابه، والشهادة الثانية تقتضي الإيمان برسول الله ﷺ، وأنه رسول الله إلى جميع الجن والإنس، وتصديق أخباره واتباع شريعته والحذر مما خالفها.
وهاتان الشهادتان هما أصل الدين وأساس الملة، كما قال الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وقال سبحانه: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، وقال : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
الثانية: أوصي جميع الحجاج والزوار وكل مسلم يطلع على هذه الكلمة بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، والعناية بها وتعظيم شأنها والطمأنينة فيها؛ لأنها الركن الأعظم بعد الشهادتين، ولأنها عمود الإسلام، ولأنها أول شيء يحاسب عنه المسلم من عمله يوم القيامة، ولأن من تركها فقد كفر؛ قال الله : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، وقال : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، وقال جل شأنه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2] إلى أن قال سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ۝ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11]، وقال النبي ﷺ: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة[2] أخرجه مسلم في صحيحه، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر[3] خرجه الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، وخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: من حافظ على الصلاة كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف[4]
قال بعض أهل العلم في شرح هذا الحديث: وإنما يحشر من ضيع الصلاة مع هؤلاء الكفرة؛ لأنه إما أن يضيعها تشاغلًا بالرياسة والملك والزعامة، فيكون شبيهًا بفرعون، وإما أن يضيعها تشاغلًا بأعمال الوزارة والوظيفة، فيكون شبيهًا بهامان وزير فرعون، وإما أن يضيعها تشاغلًا بالشهوات وحب المال والتكبر على الفقراء، فيكون شبيهًا بقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض، وإما أن يضيعها تشاغلًا بالتجارة والمعاملات الدنيوية، فيكون شبيهًا بأبي بن خلف تاجر كفار مكة، فنسأل الله العافية من مشابهة أعدائه.
ومن أهم أركان الصلاة التي يجب على المسلم رعايتها والعناية بها والطمأنينة في ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، وكثير من الناس يصلي صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها، ولا شك أن الطمأنينة من أهم أركان الصلاة، فمن لم يطمئن في صلاته فهي باطلة. وكان النبي ﷺ إذا ركع استوى في ركوعه وأمكن يديه من ركبتيه وهصر ظهره وجعل رأسه حياله، ولم يرفع رأسه حتى يعود كل فقار إلى مكانه، وإذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار في مكانه، وإذا سجد اطمأن في سجوده حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وإذا جلس بين السجدتين اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، ولما رأى ﷺ بعض الناس لا يطمئن في صلاته أمره بالإعادة، وقال له: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها[5] أخرجه الشيخان في الصحيحين.
فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الواجب على المسلم أن يعظم هذه الصلاة ويعتني بها ويطمئن فيها حتى يؤديها على الوجه الذي شرعه الله ورسوله ﷺ، وينبغي أن تكون الصلاة للمؤمن راحة قلب، ونعيم روح، وقرة عين، كما قال النبي ﷺ: وجعلت قرة عيني في الصلاة[6].
ومن أهم واجبات الصلاة في حق الرجال أداؤها في الجماعة؛ لأن ذلك من أعظم شعائر الإسلام، وقد أمر الله بذلك ورسوله، كما قال : وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقال سبحانه في صلاة الخوف: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102] فأوجب الله سبحانه على المسلمين أداء الصلاة في الجماعة في حال الخوف، فيكون وجوبها عليهم في حال الأمن أشد وآكد.
وتدل الآية المذكورة على وجوب الإعداد للعدو والحذر من مكائده، كما قال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الآية [الأنفال:60].
فالإسلام دين العزة والكرامة والقوة والحذر والجهاد الصادق، كما أنه دين الرحمة والإحسان والأخلاق الكريمة والصفات الحميدة.
ولما جمع سلفنا الصالح بين هذه الأمور مكن الله لهم في الأرض، ورفع شأنهم، وملكهم رقاب أعدائهم، وجعل لهم السيادة والقيادة، فلما غير من بعدهم غير الله عليهم، كما قال : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]. 
وصح عن رسول الله ﷺ أنه قال: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار[7]. وقال عليه الصلاة والسلام: من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر[8]. وعن أبي هريرة أن رجلًا أعمى قال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي، قال: هل تسمع النداء بالصلاة، قال: نعم، قال: فأجب[9]. خرجه مسلم في صحيحه.
أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن، كما جاء بذلك الإخبار عن رسول الله ﷺ، وما ذاك إلا لأنهن عورة وفتنة، ولكن لا يمنعن من المساجد إذا طلبن ذلك؛ لقول النبي ﷺ: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله[10].
وقد دلت الآيات والأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ على أنه يجب عليهن التستر والتحجب من الرجال، وترك إظهار الزينة، والحذر من التعطر حين خروجهن؛ لأن ذلك يسبب الفتنة بهن؛ ولهذا قال النبي ﷺ: لا تمنعوا إماء الله مسجد الله، وليخرجن تفلات[11]. ومعنى تفلات: أي لا رائحة لهن تفتن الناس.
وقال ﷺ: أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء[12].
وقالت عائشة  رضي الله عنها: "لو علم النبي ﷺ ما أحدث النساء اليوم لمنعهن الخروج".
فالواجب على النساء أن يتقين الله وأن يحذرن أسباب الفتنة من الزينة والطيب وإبراز بعض المحاسن، كالوجه واليدين والقدمين حين اجتماعهن بالرجال وخروجهن إلى الأسواق، وهكذا في وقت الطواف والسعي، وأشد من ذلك وأعظم في المنكر كشفهن الرؤوس، ولبس الثياب القصيرة التي تقصر عن الذراع والساق؛ لأن ذلك من أعظم أسباب الفتنة بهن؛ ولهذا قال : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33]، والتبرج إظهار بعض محاسنهن. وقال : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ الآية [الأحزاب:59]، والجلباب هو الثوب الذي تغطي به المرأة رأسها ووجهها وصدرها وسائر بدنها.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلاليب ويبدين عينًا واحدة. وقال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ الآية [الأحزاب:53] .
وقال النبي ﷺ: صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال بأيديهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها الناس[13] خرجه مسلم في صحيحه. وقوله: كاسيات عاريات، فسر بأنهن كاسيات من نعم الله عاريات من شكرها، وفسر بأن عليهن كسوة رقيقة أو قصيرة لا تسترهن، فهن كاسيات بالاسم والدعوى، عاريات في الحقيقة. ولا ريب أن هذا الحديث الصحيح يوجب على النساء العناية بالتستر والتحجب والحذر من أسباب غضب الله وعقابه. والله المستعان.
الوصية الثالثة: أوصي جميع الحجاج والزوار وكل مسلم بإخراج زكاة ماله إذا كان لديه مال تجب الزكاة فيه؛ لأن الزكاة من أعظم فرائض الدين، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام. فالله سبحانه وتعالى شرعها طهرة للمسلم وزكاة له ولماله وإحسانًا للفقراء وغيرهم من أصناف أهل الزكاة، كما قال : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
وهي من شكر الله على نعمة المال، والشاكر موعود بالأجر والزيادة، كما قال سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وقال : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. وقد توعد الله من لم يؤد الزكاة بالعذاب الأليم، كما توعده سبحانه بأنه يعذبه بماله يوم القيامة. قال الله : وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
وصح عن رسول الله ﷺ في تفسير هذه الآية الكريمة: أن كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
فالواجب على كل مسلم له مال تجب فيه الزكاة أن يتقي الله ويبادر بإخراج زكاته في وقتها في أهلها المستحقين لها، طاعة لله ولرسوله، وحذرًا من غضب الله وعقابه. والله سبحانه وعد المنفقين بالخلف والأجر الكبير، كما قال سبحانه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
الوصية الرابعة: صيام رمضان، وهو من أعظم الفرائض على جميع المكلفين من الرجال والنساء، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام، قال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ [البقرة:183-184]، ثم فسر هذه الأيام المعدودات بعد ذلك بقوله : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، وقال النبي ﷺ: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت[14].
فهذا الحديث الصحيح يدل على جميع الوصايا المتقدمة وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم، وأنها كلها من أركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه إلا عليها؛ فالواجب على كل مسلم ومسلمة تعظيم هذه الأركان والمحافظة عليها والحذر من كل ما يبطلها أو ينقص أجرها. والله سبحانه إنما خلق الثقلين ليعبدوه سبحانه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل ذلك. وعبادته هي توحيده وطاعته وطاعة رسوله ﷺ عن إخلاص لله سبحانه، ومحبة له، وإيمان به وبرسله، ورغبة في ثواب الله، وحذر من عقابه؛ وبذلك يفوز العبد بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. وإنما أصيب المسلمون في هذه العصور الأخيرة بالذل والتفرق وتسليط الأعداء بسبب تفريطهم في أمر الله وعدم تعاونهم على البر والتقوى، كما قال : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فنسأل الله أن يجمعهم على الحق ويوفقهم للتوبة النصوح، وأن يهديهم للعمل بكتابه وسنة نبيه ﷺ، ويوفق حكامهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، وإلزام شعوبهم بما أوجب الله، ومنعهم عن محارم الله؛ حتى يمكن لهم في الأرض كما مكن لأسلافهم، ويعينهم على عدوهم، إنه سميع قريب.
الوصية الخامسة: حج بيت الله الحرام، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، كما تقدم في الحديث الصحيح، وهو فرض على كل مسلم ومسلمة يستطيع السبيل إليه في العمر مرة واحدة، كما قال الله سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]. وقال النبي ﷺ: الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع[15]، وقال ﷺ: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[16]، وقال عليه الصلاة والسلام: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[17].
فالواجب على حجاج بيت الله الحرام أن يصونوا حجهم عما حرم الله عليهم من الرفث والفسوق، وأن يستقيموا على طاعة الله، ويتعاونوا على البر والتقوى، حتى يكون حجهم مبرورًا، وسعيهم مشكورًا. والحج المبرور هو الذي سلم من الرفث والفسوق والجدال بغير حق، كما قال الله سبحانه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].
ويدل على ذلك أيضًا قوله ﷺ: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه والرفث: هو الجماع في حال الإحرام، ويدخل فيه النطق بالفحش ورديء الكلام. والفسوق يشمل المعاصي كلها.
فنسأل الله أن يوفق حجاج بيت الله الحرام للاستقامة على دينهم وحفظ حجهم مما يبطله أو ينقص أجره، وأن يمن علينا وعليهم بالفقه في دينه والتواصي بحقه والصبر عليه، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان[18].
 
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
  1. رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث تميم الداري برقم 16499، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم 55.
  2. رواه مسلم في (الإيمان) باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة برقم 82.
  3. رواه الترمذي في (الإيمان) باب ما جاء في ترك الصلاة برقم 2621.
  4. رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبدالله بن عمرو بن العاص برقم 6540.
  5. رواه البخاري في (الاستئذان) باب من رد فقال: عليك السلام برقم 6251، ومسلم في (الصلاة) باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة برقم 397.
  6. رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم 11884، والنسائي في (عشرة النساء) باب حب النساء برقم 3940.
  7. رواه البخاري في (الخصومات) باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت برقم 2420، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها برقم 651، وأبو داود في (الصلاة) باب التشديد في ترك الجماعة برقم 548، واللفظ له.
  8. رواه ابن ماجه في (المساجد والجماعات) باب التغليظ في التخلف عن الجماعة برقم 793.
  9. رواه مسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء برقم 653.
  10. رواه البخاري في (الجمعة) باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل برقم (900)، ومسلم في (الصلاة) باب خروج النساء إلى المساجد برقم 442.
  11. رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) باقي مسند أبي هريرة برقم 9362.
  12. رواه مسلم في (الصلاة) باب خروج النساء إلى المساجد برقم 444.
  13. رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند أبي هريرة برقم 8451، ومسلم في (اللباس والزينة) باب النساء الكاسيات العاريات برقم 2128.
  14. رواه البخاري في (الإيمان) باب بني الإسلام على خمس برقم 8، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم 16.
  15. رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) بداية مسند عبدالله بن العباس برقم 2637، والدارمي في (المناسك) باب كيف وجوب الحج برقم 1788.
  16. رواه البخاري في (الحج) باب وجوب العمرة وفضلها برقم 1773، ومسلم في (الحج) باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1349. 
  17. رواه البخاري في (الحج) باب فضل الحج المبرور، برقم 1521، ومسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1350.
  18. نشر في مجلة الجامعة الإسلامية السنة الحادية عشرة، العدد الثاني غرة ذي الحجة عام 1398هـ. (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز 16/ 7).