توصيات للحجاج وغيرهم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون من حجاج بيت الله الحرام:
أسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يرضيه والعافية من مضلات الفتن، كما أسأله سبحانه أن يوفقكم جميعًا لأداء مناسككم على الوجه الذي يرضيه، وأن يتقبل منكم وأن يردكم إلى بلادكم سالمين موفقين، إنه خير مسئول.
أيها المسلمون من الحجاج وغيرهم: إن وصيتي لكم هي تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال والاستقامة على دينه والحذر من أسباب غضبه، وإن أهم الفرائض وأعظم الواجبات هو توحيد الله والإخلاص له في جميع العبادات، مع العناية باتباع رسوله ﷺ في الأقوال والأعمال، وأن تؤدى مناسك الحج وسائر العبادات على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله وخليله وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله ﷺ.
وإن أعظم المنكرات وأخطر الجرائم هو الشرك بالله سبحانه، وهو صرف العبادة أو بعضها لغيره سبحانه؛ لقول الله : إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:116]، وقوله سبحانه يخاطب نبيه محمدًا ﷺ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا ﷺ لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع، وذلك في آخر حياته ﷺ، وقد علَّم الناس فيها مناسكهم بقوله وفعله، وقال لهم ﷺ: خذوا عني مناسككم[1].
فالواجب على المسلمين جميعًا أن يتأسوا به في ذلك، وأن يؤدوا مناسكهم على الوجه الذي شرعه لهم؛ لأنه ﷺ هو المعلم المرشد، وقد بعثه الله رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين، فأمر عباده بأن يطيعوه، وبين أن اتباعه هو سبب دخول الجنة والنجاة من النار، وأنه الدليل على صدق حب العبد لربه وعلى حب الله للعبد، كما قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7] وقال سبحانه: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:56]، وقال : مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، وقال سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقال سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:13، 14]، وقال : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فوصيتي لكم جميعًا ولنفسي تقوى الله في جميع الأحوال والصدق في متابعة نبيه ﷺ في أقواله وأفعاله لتفوزوا بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
إلى منى يوم التروية:
حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا محمدا ﷺ لما كان يوم الثامن من ذي الحجة توجه من مكة إلى منى ملبيًا وأمر أصحابه أن يهلوا بالحج من منازلهم ويتوجهوا إلى منى، ولم يأمرهم بطواف الوداع، فدل ذلك على أن السنة لمن أراد الحج من أهل مكة وغيرهم من المقيمين فيها ومن المحلين من عمرتهم وغيرهم من الحجاج أن يتوجهوا إلى منى في اليوم الثامن ملبين بالحج، وليس عليهم أن يذهبوا إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة طواف الوداع.
ويستحب للمسلم عند إحرامه بالحج أن يفعل ما يفعله في الميقات عند الإحرام: من الغسل والطيب والتنظيف، كما أمر النبي ﷺ عائشة بذلك لما أرادت الإحرام بالحج وكانت قد أحرمت بالعمرة فأصابها الحيض عند دخول مكة وتعذر عليها الطواف قبل خروجها إلى منى، فأمرها ﷺ أن تغتسل وتهل بالحج ففعلت ذلك فصارت قارنة بين الحج والعمرة.
وقد صلى رسول الله ﷺ وأصحابه في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرًا من دون جمع، وهذا هو السنة تأسيًا به ﷺ، ويسن للحجاج في هذه الرحلة أن يشتغلوا بالتلبية وبذكر الله وقراءة القرآن وغير ذلك من وجوه الخير، كالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإحسان إلى الفقراء.
إلى عرفة بعد طلوع شمس يوم التاسع:
فلما طلعت الشمس يوم عرفة توجه ﷺ وأصحابه إلى عرفات منهم من يلبي ومنهم من يكبر، فلما وصل عرفات نزل بقبة من شعر ضربت له في نمرة واستظل بها عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على جواز استظلال المحرم بالخيام والشجر ونحوها. فلما زالت الشمس ركب دابته عليه الصلاة والسلام وخطب الناس وذكرهم وعلمهم مناسك حجهم وحذرهم من الربا وأعمال الجاهلية، وأخبرهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام، وأمرهم بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ. فالواجب على جميع المسلمين من الحجاج وغيرهم أن يلتزموا بهذه الوصية وأن يستقيموا عليها أينما كانوا، ويجب على حكام المسلمين جميعًا أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأن يحكموهما في جميع شئونهم وأن يلزموا شعوبهم بالتحاكم إليهما، وذلك هو طريق العزة والكرامة والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وفق الله الجميع لذلك.
ثم إنه ﷺ صلى بالناس الظهر والعصر قصرًا وجمعًا جمع تقديم بأذان واحد وإقامتين، ثم توجه إلى الموقف واستقبل القبلة ووقف على دابته يذكر الله ويدعوه، ويرفع يديه بالدعاء حتى غابت الشمس، وكان مفطرًا ذلك اليوم، فعلم بذلك أن المشروع للحجاج أن يفعلوا كفعله ﷺ في عرفات، وأن يشتغلوا بذكر الله والدعاء والتلبية إلى غروب الشمس، وأن يرفعوا أيديهم بالدعاء، وأن يكونوا مفطرين لا صائمين، وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة[2]، وإنه سبحانه ليدنو فيباهي بهم ملائكته، وروي عنه ﷺ أن الله يقول يوم عرفة لملائكته: انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غبرًا يرجون رحمتي، أشهدكم أني قد غفرت لهم[3]. وصح عنه ﷺ أنه قال: وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف[4].
إلى مزدلفة بعد الغروب للمبيت بها:
ثم إن رسول الله ﷺ بعد الغروب توجه ملبيًا إلى مزدلفة وصلى بها المغرب ثلاثًا والعشاء ركعتين بأذان واحد وإقامتين ثم بات بها وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة، ثم أتى المشعر الحرام فذكر الله عنده وكبره وهلله ودعا ورفع يديه وقال: وقفت ها هنا وجمع كلها موقف[5] فدل ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحجاج يبيت كل حاج في مكانه ويذكر الله ويستغفره في مكانه، ولا حاجة إلى أن يتوجه إلى موقف النبي ﷺ.
وقد رخص النبي ﷺ ليلة مزدلفة للضعفة أن ينصرفوا إلى منى بليل، فدل ذلك على أنه لا حرج على الضعفة من النساء والمرضى والشيوخ ومن تبعهم في التوجه من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل عملًا بالرخصة وحذرًا من مشقة الزحمة، ويجوز لهم أن يرموا الجمرة ليلا، كما ثبت ذلك عن أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر في آخر الليل.
ذكرت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ أذن للنساء بذلك، ثم إنه ﷺ بعد ما أسفر جدًا دفع إلى منى ملبيًا قبل أن تطلع الشمس، فقصد جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نحر هديه ثم حلق ثم طيبته عائشة رضي الله عنها ثم توجه إلى البيت فطاف به.
أعمال يوم النحر:
وسئل ﷺ في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يرمي، ومن حلق قبل أن يذبح، ومن أفاض إلى البيت قبل أن يرمي، فقال: لا حرج قال الراوي: فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج[6].
وسأله رجل فقال: يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف، فقال: لا حرج[7]، فعلم بهذا أن السنة للحجاج أن يبدأوا برمي الجمرة يوم العيد ثم ينحروا إذا كان عليهم هدي ثم يحلقوا أو يقصروا.
والحلق أفضل من التقصير فإن النبي ﷺ دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمحلقين، ومرة واحدة للمقصرين.
التحلل الأول والتحلل الأكبر:
وبذلك حصل للحاج التحلل الأول فيلبس المخيط، ويتطيب ويباح له كل شيء حُرم عليه بالإحرام إلا النساء، ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده، ويسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعًا، وبذلك يحل له كل شيء حرُم عليه بالإحرام حتى النساء.
أما إن كان الحاج مفردًا أو قارنًا فإنه يكفيه السعي الأول الذي أتى به مع طواف القدوم. فإن لم يسع مع طواف القدوم وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة.
المبيت بمنى أيام التشريق:
ثم رجع ﷺ إلى منى فأقام بها بقية يوم العيد واليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ويكبر مع كل حصاة ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من الجمرة الأولى والثانية مستقبلًا القبلة ويجعل الأولى عن يساره حين الدعاء، والثانية عن يمينه ولا يقف عند الثالثة.
ثم دفع ﷺ في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمرات بعد الزوال فنزل بالأبطح وصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
ثم نزل إلى مكة في آخر الليل وصلى الفجر بالناس عليه الصلاة والسلام، وطاف للوداع ثم توجه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
فعلم من ذلك أن السنة للحاج أن يفعل كفعله ﷺ في أيام منى، فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في كل يوم: كل واحدة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة، ويشرع له أن يقف بعد رميه الأولى ويستقبل القبلة ويدعو ويرفع يديه ويجعلها عن يساره ويقف بعد رمي الثانية كذلك ويجعلها عن يمينه يستقبل القبلة ويدعو، وهذا مستحب وليس بواجب، تأسيًا بالنبي ﷺ ولا يقف بعد رمي الثالثة. فإن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال وقبل غروب الشمس رمى في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل في أصح قولي العلماء رحمة من الله سبحانه بعباده وتوسعة عليهم.
ومن شاء أن يتعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار بعد الزوال فلا بأس، ومن أحب أن يتأخر حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فهو أفضل؛ لكونه موافقًا لفعل النبي ﷺ.
والسنة للحاج أن يبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر، وهذا المبيت واجب عند كثير من أهل العلم ويكفي أكثر الليل إذا تيسر ذلك، ومن كان له عذر شرعي كالسقاة والرعاة ونحوهم فلا مبيت عليه.
أما ليلة الثالث عشر فلا يجب على الحجاج أن يبيتوها بمنى إذا تعجلوا ونفروا من منى قبل الغروب، أما من أدركه المبيت بمنى فإنه يبيت ليلة الثالث عشر ويرمي الجمار بعد الزوال يوم الثالث عشر ثم ينفر، وليس على أحد رمي بعد الثالث عشر ولو أقام بمنى.
طواف الوداع:
ومتى أراد الحاج السفر إلى بلاده وجب عليه أن يطوف بالبيت للوداع سبعة أشواط؛ لقول النبي ﷺ: لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت[8]، إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض[9] والنفساء مثلها، ومن أخر طواف الإفاضة فطافه عند السفر أجزأه عن الوداع؛ لعموم الحديثين المذكورين.
وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتقبل منا ومنكم ويجعلنا وإياكم من العتقاء من النار إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم[10].
 
 
  1. رواه بنحوه مسلم في (الحج) باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا برقم 1297.  
  2. رواه مسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1348.
  3. رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) مسند عبدالله بن عمرو بن العاص برقم 7049.
  4. رواه مسلم في (الحج) باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف برقم 1218. 
  5. رواه مسلم في (الحج) باب ما جاء في أن عرفة كلها موقف برقم 1218.
  6. رواه البخاري في (العلم) باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها رقم 83، ومسلم في (الحج) باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي برقم 1306. 
  7. رواه أبو داود في (المناسك) باب فيمن قدم شيئًا قبل شيء في حجه برقم 2015.  
  8. رواه مسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1327.
  9. رواه البخاري في (الحج) باب طواف الوداع برقم 1755، ومسلم في (الحج) باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض برقم 1328. 
  10. نشر في مجلة التوعية الإسلامية بالعدد الأول في 10/11/1406. . (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز 16/ 216)