من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى إخوانه في الله حجاج بيت الله الحرام وإلى كل من يطلع على هذه الرسالة من المسلمين في كل مكان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:
فيسرني أن ألتقي بكم على صفحات هذه المجلة "التوعية الإسلامية" في عامها التاسع، والتي تصدرها الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية في موسم الحج من كل عام؛ لإرشاد حجاج بيت الله وضيوف الرحمن لأداء مناسك الحج والعمرة على ما تقتضيه أحكام الشريعة الغراء، وتبصيرهم بأمور دينهم الحنيف وأصول عقيدتهم التي كان عليها سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين، والتنبيه على كثير من البدع التي تفشت بين المسلمين، وتناول بعض القضايا المعاصرة بالدراسة التي تظهر وجه الحق فيها حتى يكون المسلم على بينة من أمرها بمقدار ما يتاح لهذه المجلة من وقت وإمكانيات، والله ولي التوفيق.
وبهذه المناسبة الكريمة فإني أرحب بإخواني حجاج بيت الله في حرم الله، وأذكر نفسي وأذكرهم ببعض الوصايا، والنصائح الواجبة في مثل هذا المقام، حتى يكون عملنا مقبولًا، وسعينا مشكورًا، وحجنا مبرورًا، وذنبنا مغفورًا بتوفيق من الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله على كل حال، فإنها جماع كل خير ووصية الله تعالى للأولين والآخرين، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ [النساء:131].
وتتحقق تقوى الله في امتثال أمره واجتناب نهيه عن إخلاص ومحبة له سبحانه ورغبة في ثوابه، وحذرًا من عقابه، على الوجه الذي شرعه الله لعباده وبينه الرسول ﷺ لأمته، كما قال الله تعالى له: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].
واعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الإخلاص لله في العبادة واتباع الرسول ﷺ فيها، أصلان أساسيان في صحتها وقبولها، واستحقاق الثواب عليها -لاسيما في الحج- فلنحرص على ذلك أشد الحرص، فقد قال الله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
ومن الإخلاص لله في العبادة، أن لا نشرك معه غيره، أو نصرف شيئًا منها لسواه، وأن نطهرها من الرياء وحب السمعة، فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، وهو الذي يقول: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، ويقول لنبيه الكريم ﷺ: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3]، وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7]، وقال عن المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلًا [النساء:142]. وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: من سَمَّعَ سمع الله به، ومن يُرائي يرائي الله به[1] متفق عليه، يعني من أظهر عمله للناس رياء أظهر الله سريرته للناس يوم القيامة وفضحه على رؤوس الخلائق. أعاذنا الله وإياكم من خزي يوم الدين.
ومن العبادة الدعاء -بل هو أظهر مظاهر العبودية والتضرع لله- فينبغي أن يكون لله وحده، فلا يُدعى غيره ولا يستعان بأحد سواه، ولا يلجأ إلا إليه، ولا يستغاث إلا به، وفي الذكر الحكيم: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6].
وقد جاء في وصية رسول الله ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما: ... وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف[2] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وينبغي أن نتحرى في كل أعمالنا سنة رسولنا ﷺ، فهو ﷺ المتبوع والمقتدى به، ونتجنب البدع في ديننا، فالخير في الاتباع والشر في الابتداع. فقد قال ﷺ لأصحابه رضي الله عنهم: وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة[3] رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وقال ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[4] متفق عليه.
وأوصيكم ونفسي بتحري الحلال في المطعم والملبس والمشرب والنفقة والصدقة، فإن ذلك يعين على الطاعة ويكون سببًا في قبولها، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟[5] رواه الإمام أحمد، ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن مرزوق، فاختاروا لحجكم وعمرتكم نفقة طيبة تعينكم على إجابة الدعاء وقبول الأعمال.
وأوصيكم ونفسي بالمحافظة على الصلاة وأدائها جماعة ما استطعتم، فإنها عماد الدين وفرق ما بين المسلم والكافر وآخر ما يرفع من الدين وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، فمن ضيعها فهو لما سواها من الفرائض والواجبات أضيع، والله تعالى يقول: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:38-48].
والمحافظة كذلك على سائر الفرائض والواجبات من إيتاء الزكاة وصوم رمضان والإحسان إلى الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الأيتام وحسن الجوار وغير ذلك من الواجبات التي يقوم عليها أمر الإسلام، فمن ضيعها أو تهاون بها أو قصر في أدائها فهو على خطر عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وأوصيكم ونفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحكمة والموعظة الحسنة؛ لقول الله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. ولقول الرسول ﷺ: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان[6] رواه مسلم.
فابذلوا النصح لإخوانكم في رفق ولين فما من أمة ضاع فيها هذا الواجب إلا عمها الله بعذاب، فقد قال النبي ﷺ: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم[7] رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وعن جرير بن عبدالله قال: «بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»[8] متفق عليه.
وأوصيكم ونفسي بأن نغتنم فرصة وجودنا في حرم الله تعالى بالإكثار من ذكره وشكره وحسن عبادته والتقرب إليه سبحانه بشتى الطاعات والقربات، فإننا في بلد تضاعف فيه الحسنات وقد فرغنا أنفسنا لذلك، فلا نضيع أوقاتنا في اللغو واللهو والقيل والقال فإنها تكون حسرات علينا يوم القيامة.
ولنتجنب الجدال والخصام مع الرفقة والأصحاب، ولا نؤذ إخواننا الحجاج بالمزاحمة عند المناسك وخاصة عند الطواف واستلام الحجر الأسود ورمي الجمرات، فالله تعالى نهانا عن مجرد الجدال وهو دون هذا الأذى بكثير، فقال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[9] متفق عليه.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أوصي حكام المسلمين بأن يتقوا الله ويحكموا شريعة الله ويقيموا حدوده، فإنهم مسئولون عن ذلك بين يديه حين يكون الملك له وحده بما ولاهم من أمر عباده، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل، ولا يكون عادلًا إلا إذا حكم بما أنزل الله، والله تعالى قال لنبيه الكريم ﷺ: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [المائدة:49].
كما أوصيهم بأن يجتمعوا على كلمة سواء وأن لا يختلفوا فتزول هيبتهم ويطمع فيهم عدوهم كما هو واقع الحال، والله تعالى يقول: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
وأوصي العلماء -وهم أعلام الهدى- أن يجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأن يجمعوا المسلمين على ذلك، وأن يخلصوا النصح لولاة الأمور ويؤثروا ما عند الله على ما عندهم فما عند الله خير وأبقى، ويبلغوا رسالة الله ولا يخشوا أحدًا سواه.
فإذا نصح العلماء واستجاب الأمراء استقامت الأمة على طاعة الله فأعزها الله ومكن لها في الأرض، وجعلها -بحق- خير أمة أخرجت للناس.
وأوصي الأغنياء بأن يبذلوا من أموالهم ويعاونوا إخوانهم الفقراء، ويمدوا المجاهدين في كل مكان بما يعينهم على قتال عدوهم، فالله تعالى يقول: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، ويقول الله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
وإن فاتكم شرف الجهاد بالنفس فلا يفوتكم شرف الجهاد بالمال، فقد قال ﷺ: من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا[10] متفق عليه. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق ويؤلف بين قلوبهم على الهدى، ويوحد صفوفهم، وينصرهم على عدوهم، كما أسأله أن يصلح ولاة المسلمين ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم، ويهيئ لهم البطانة الصالحة التي تذكرهم بالحق وتعينهم عليه، إنه الموفق لذلك والقادر عليه، وأن يجعل حجنا مبرورًا وسعينا مشكورًا وذنبنا مغفورًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[11].
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:
فيسرني أن ألتقي بكم على صفحات هذه المجلة "التوعية الإسلامية" في عامها التاسع، والتي تصدرها الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية في موسم الحج من كل عام؛ لإرشاد حجاج بيت الله وضيوف الرحمن لأداء مناسك الحج والعمرة على ما تقتضيه أحكام الشريعة الغراء، وتبصيرهم بأمور دينهم الحنيف وأصول عقيدتهم التي كان عليها سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين، والتنبيه على كثير من البدع التي تفشت بين المسلمين، وتناول بعض القضايا المعاصرة بالدراسة التي تظهر وجه الحق فيها حتى يكون المسلم على بينة من أمرها بمقدار ما يتاح لهذه المجلة من وقت وإمكانيات، والله ولي التوفيق.
وبهذه المناسبة الكريمة فإني أرحب بإخواني حجاج بيت الله في حرم الله، وأذكر نفسي وأذكرهم ببعض الوصايا، والنصائح الواجبة في مثل هذا المقام، حتى يكون عملنا مقبولًا، وسعينا مشكورًا، وحجنا مبرورًا، وذنبنا مغفورًا بتوفيق من الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله على كل حال، فإنها جماع كل خير ووصية الله تعالى للأولين والآخرين، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ [النساء:131].
وتتحقق تقوى الله في امتثال أمره واجتناب نهيه عن إخلاص ومحبة له سبحانه ورغبة في ثوابه، وحذرًا من عقابه، على الوجه الذي شرعه الله لعباده وبينه الرسول ﷺ لأمته، كما قال الله تعالى له: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].
واعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الإخلاص لله في العبادة واتباع الرسول ﷺ فيها، أصلان أساسيان في صحتها وقبولها، واستحقاق الثواب عليها -لاسيما في الحج- فلنحرص على ذلك أشد الحرص، فقد قال الله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
ومن الإخلاص لله في العبادة، أن لا نشرك معه غيره، أو نصرف شيئًا منها لسواه، وأن نطهرها من الرياء وحب السمعة، فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، وهو الذي يقول: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، ويقول لنبيه الكريم ﷺ: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3]، وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7]، وقال عن المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلًا [النساء:142]. وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: من سَمَّعَ سمع الله به، ومن يُرائي يرائي الله به[1] متفق عليه، يعني من أظهر عمله للناس رياء أظهر الله سريرته للناس يوم القيامة وفضحه على رؤوس الخلائق. أعاذنا الله وإياكم من خزي يوم الدين.
ومن العبادة الدعاء -بل هو أظهر مظاهر العبودية والتضرع لله- فينبغي أن يكون لله وحده، فلا يُدعى غيره ولا يستعان بأحد سواه، ولا يلجأ إلا إليه، ولا يستغاث إلا به، وفي الذكر الحكيم: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6].
وقد جاء في وصية رسول الله ﷺ لابن عباس رضي الله عنهما: ... وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف[2] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وينبغي أن نتحرى في كل أعمالنا سنة رسولنا ﷺ، فهو ﷺ المتبوع والمقتدى به، ونتجنب البدع في ديننا، فالخير في الاتباع والشر في الابتداع. فقد قال ﷺ لأصحابه رضي الله عنهم: وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة[3] رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وقال ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[4] متفق عليه.
وأوصيكم ونفسي بتحري الحلال في المطعم والملبس والمشرب والنفقة والصدقة، فإن ذلك يعين على الطاعة ويكون سببًا في قبولها، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟[5] رواه الإمام أحمد، ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن مرزوق، فاختاروا لحجكم وعمرتكم نفقة طيبة تعينكم على إجابة الدعاء وقبول الأعمال.
وأوصيكم ونفسي بالمحافظة على الصلاة وأدائها جماعة ما استطعتم، فإنها عماد الدين وفرق ما بين المسلم والكافر وآخر ما يرفع من الدين وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، فمن ضيعها فهو لما سواها من الفرائض والواجبات أضيع، والله تعالى يقول: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:38-48].
والمحافظة كذلك على سائر الفرائض والواجبات من إيتاء الزكاة وصوم رمضان والإحسان إلى الوالدين وصلة الأرحام وإكرام الأيتام وحسن الجوار وغير ذلك من الواجبات التي يقوم عليها أمر الإسلام، فمن ضيعها أو تهاون بها أو قصر في أدائها فهو على خطر عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وأوصيكم ونفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحكمة والموعظة الحسنة؛ لقول الله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. ولقول الرسول ﷺ: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان[6] رواه مسلم.
فابذلوا النصح لإخوانكم في رفق ولين فما من أمة ضاع فيها هذا الواجب إلا عمها الله بعذاب، فقد قال النبي ﷺ: والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم[7] رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وعن جرير بن عبدالله قال: «بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»[8] متفق عليه.
وأوصيكم ونفسي بأن نغتنم فرصة وجودنا في حرم الله تعالى بالإكثار من ذكره وشكره وحسن عبادته والتقرب إليه سبحانه بشتى الطاعات والقربات، فإننا في بلد تضاعف فيه الحسنات وقد فرغنا أنفسنا لذلك، فلا نضيع أوقاتنا في اللغو واللهو والقيل والقال فإنها تكون حسرات علينا يوم القيامة.
ولنتجنب الجدال والخصام مع الرفقة والأصحاب، ولا نؤذ إخواننا الحجاج بالمزاحمة عند المناسك وخاصة عند الطواف واستلام الحجر الأسود ورمي الجمرات، فالله تعالى نهانا عن مجرد الجدال وهو دون هذا الأذى بكثير، فقال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[9] متفق عليه.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أوصي حكام المسلمين بأن يتقوا الله ويحكموا شريعة الله ويقيموا حدوده، فإنهم مسئولون عن ذلك بين يديه حين يكون الملك له وحده بما ولاهم من أمر عباده، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل، ولا يكون عادلًا إلا إذا حكم بما أنزل الله، والله تعالى قال لنبيه الكريم ﷺ: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [المائدة:49].
كما أوصيهم بأن يجتمعوا على كلمة سواء وأن لا يختلفوا فتزول هيبتهم ويطمع فيهم عدوهم كما هو واقع الحال، والله تعالى يقول: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
وأوصي العلماء -وهم أعلام الهدى- أن يجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وأن يجمعوا المسلمين على ذلك، وأن يخلصوا النصح لولاة الأمور ويؤثروا ما عند الله على ما عندهم فما عند الله خير وأبقى، ويبلغوا رسالة الله ولا يخشوا أحدًا سواه.
فإذا نصح العلماء واستجاب الأمراء استقامت الأمة على طاعة الله فأعزها الله ومكن لها في الأرض، وجعلها -بحق- خير أمة أخرجت للناس.
وأوصي الأغنياء بأن يبذلوا من أموالهم ويعاونوا إخوانهم الفقراء، ويمدوا المجاهدين في كل مكان بما يعينهم على قتال عدوهم، فالله تعالى يقول: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، ويقول الله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
وإن فاتكم شرف الجهاد بالنفس فلا يفوتكم شرف الجهاد بالمال، فقد قال ﷺ: من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا[10] متفق عليه. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق ويؤلف بين قلوبهم على الهدى، ويوحد صفوفهم، وينصرهم على عدوهم، كما أسأله أن يصلح ولاة المسلمين ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم، ويهيئ لهم البطانة الصالحة التي تذكرهم بالحق وتعينهم عليه، إنه الموفق لذلك والقادر عليه، وأن يجعل حجنا مبرورًا وسعينا مشكورًا وذنبنا مغفورًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته[11].
- رواه البخاري في (الرقاق) باب الرياء والسمعة برقم 6499، ومسلم في (الزهد والرقائق) باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2987، ولفظه "من يسمع يسمع الله به ".
- رواه الإمام أحمد في (مسند بني هاشم) أول مسند عبدالله بن العباس برقم 2664، والترمذي في (صفة القيامة والرقائق) باب منه (ما جاء في صفة أواني الحوض) برقم 2516.
- رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث العرباض بن سارية برقم 16694، وأبو داود في (السنة) باب لزوم السنة برقم 4607.
- رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم 2697، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.
- رواه مسلم في (الزكاة) باب قبول الصدقة من الكسب الطيب برقم 1015.
- رواه مسلم في (الإيمان) باب كون النهي عن المنكر من الإيمان برقم 49.
- رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) حديث حذيفة بن اليمان برقم 22790، والترمذي في (الفتن) باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برقم 2169.
- رواه مسلم في (الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن برقم 2699.
- رواه البخاري في (الحج) باب فضل الحج المبرور، برقم 1521، ومسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1350.
- رواه البخاري في(الجهاد والسير) باب فضل من جهز غازيًا أو خلفه بخير برقم 2843، ومسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1895.
- نشر في (مجلة التوعية الإسلامية في الحج) العدد الأول 11/11/1403هـ. (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز 16/ 291).