التقوى سبيل الحج المبرور (افتتاحية مجلة التوعية الإسلامية)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن والاه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حجاج بيت الله الحرام وإلى كل من يطلع على هذه الرسالة من إخوانه المسلمين في كل مكان، وفقهم الله لما فيه رضاه ومنحهم الفقه في الدين، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:
ففي مستهل صدور العدد الأول من مجلة التوعية الإسلامية التي تصدرها في موسم كل عام الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، وفي عامها الحادي عشر أتقدم إليكم بالتحية الطيبة، ومرحبًا بكم على هذه الأرض المباركة أرض الحرمين الشريفين، سائلًا المولى تبارك وتعالى أن يجعل حجنا وحجكم مبرورًا وسعينا وسعيكم مشكورًا وذنبنا وذنبكم مغفورًا، وأن يوفقنا وإياكم إلى صالح الأعمال في سهولة ويسر وصحة وعافية وقبول.
وبهذه المناسبة الكريمة فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية، والإخلاص له في الأعمال والأقوال، والاقتداء برسولنا ﷺ في مناسك حجنا وفي كل ما نتقرب به إلى ربنا عز وجل، فإن تقوى الله تبارك وتعالى هي السبب العظيم في تحصيل سعادة الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وقال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وقال تعالى: وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].
وقال : إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [القلم:34] وهي ثمرة الحج المبرور والعبادات الصحيحة، قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
وهي خير ما يدخره المسلم لذريته من بعده، قال الله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا[النساء:9] لذلك كانت التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ [النساء:131].
والإخلاص هو أصل قبول الأعمال، فلا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، فلم يشرك صاحبها فيها مع الله غيره، ولا يقصد بها رياء ولا سمعة ولا شهرة ولا محمدة ولا ثناء من أحد، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وقال تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]. 
وقال تعالى لنبيه الكريم ﷺ وهو قدوة المخلصين: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، وقال الله لنبيه ﷺ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ۝ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:11-12]. 
وقال سبحانه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۝ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65، 66] ولكون الشرك يحبط الأعمال ويضيع ثوابها حذر الله عز وجل منه عباده، كما في الآيات السابقة، وكما في قوله تعالى إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا [النساء:116]، وقال : وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة ، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه[1] رواه مسلم رحمه الله، والرياء هو الشرك الخفي الذي يبطل الأعمال ويفوت الثواب، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:264]، وعن جندب بن عبدالله بن سفيان ، قال: قال النبي ﷺ: من سمّع سمع الله به، ومن يرائي يرائي الله به[2] متفق عليه.
قال النووي رحمه الله (سمّع) بتشديد الميم ومعناه أظهر عمله للناس به (سمع الله به) أي فضحه يوم القيامة.
ومعنى (من راءى، راءى الله به) أي من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم. (راءى الله به) أي أظهر سريرته على رؤوس الخلائق.
والاقتداء بالرسول ﷺ في مناسك حجنا وفي كل ما نتقرب به إلى ربنا هو الأصل الثاني الذي يترتب عليه قبول الأعمال، فقد أمرنا الله باتباعه وحذرنا من مخالفته، فقال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]، وقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
والرسول ﷺ لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن بلغ الناس ما أنزل إليه من ربه أكمل البلاغ، وبعد أن بين للناس ما نزل إليهم أتم بيان، كما قال الله تعالى له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ [المائدة:67]، وكما قال جل شأنه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، وقد أنزل الله عز وجل عليه مصداق ذلك، حيث قال سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، فكل ما لم يكن في زمن رسول الله ﷺ دينًا فليس اليوم بدين.
وفي الحديث الصحيح، قال رسول الله ﷺ: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد[3] رواه مسلم رحمه الله، وقال ﷺ: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[4] متفق عليه.
فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يتقيا الله عز وجل، وأن يخلصا في أعمالهما وأن يتقيدا بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ في كل أعمالهما وأقوالهما في الحج وفي غيره. فهذا أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب يقول وهو يقبل الحجر الأسود: «أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك» [5] متفق عليه.
فلنكن أيها الإخوة المسلمون على بينة من مناسك حجنا وأمور ديننا حتى نعمل ما يطلب منا عمله ونجتنب ما يطلب منا اجتنابه، فقد قال الله تعالى لنبيه ﷺ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
وبذلك يقع حجنا -بتوفيق الله- حجًا مبرورًا والحج المبرور جزاؤه الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة[6] متفق عليه.
ومفتاح العلم السؤال. فإذا أشكل عليكم أمر فاسألوا أهل العلم عنه، فالله تعالى يقول: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7].
وهم بحمد الله تعالى -اليوم كثير، وستجدون في مداخل المملكة وفي مكة والمدينة وفي منى وعرفات وفي عديد من الأماكن التي يوجد فيها الحجاج مراكز للتوعية الإسلامية بها نخبة من أهل العلم، يجيبونكم على أسئلتكم ويفتونكم في كل ما تحتاجون إليه مما يتعلق بالحج وبغيره من أمور الدين، فاسألوهم واحرصوا على سماع دروسهم وندواتهم، فإن فيها خيرًا كثيرًا إن شاء الله، والرسول ﷺ يقول: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [7]  متفق عليه.
وأنتم أيها الأخوة، قد حضرتم من بلاد بعيدة وجهات متفرقة، تحملتم فيها مشقة السفر وأنفقتم الأموال الكثيرة تبتغون الأجر والثواب من الله تعالى، فحافظوا على أوقاتكم واشغلوها بالعبادة والتقرب إلى الله عز وجل والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، وأكثروا من قراءة القرآن الكريم ومن الصلاة والطواف والذكر والدعاء والاستغفار والصدقة وغير ذلك من أنواع العبادات والقربات، وحافظوا على صلاة الجماعة في المساجد، وهي بحمد الله متوفرة فصلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد أضعافًا كثيرة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة[8] متفق عليه، والفذ: الواحد.
ولأهمية صلاة الجماعة في المساجد وعظم فضلها فإن رسول الله ﷺ لم يرخص في تركها للأعمى الذي لا يجد قائدًا له يقوده إلى المسجد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى النبي ﷺ رجل أعمى فقال يا رسول الله: ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله ﷺ أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال له: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب[9] رواه مسلم رحمه الله.
وقد توعد رسول الله ﷺ من يتخلف عن الجماعة بغير عذر أن يحرق عليهم بيوتهم بالنار، فعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم[10] متفق عليه.
والرسول ﷺ لا يتوعد بهذا العقاب الشديد إلا على أمر لا يجوز التساهل به أو التفريط فيه.
فحافظوا أيها الحجاج بارك الله فيكم على صلاة الجماعة ما استطعتم، وخاصة في الحرمين الشريفين، فإن الصلاة فيهما تضاعف أضعافًا كثيرة عن غيرهما في سائر المساجد، فعن عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا[11] أخرجه أحمد رحمه الله.
وهذا خير من ضياع الوقت وبذل الجهد في زيارة أماكن هنا وهناك بقصد تحصيل الأجر والثواب لم تشرع زيارتها ولم يفعلها رسول الله ﷺ ولا صحابته الكرام رضي الله عنهم أجمعين، ولو كان ذلك خيرًا لسبقونا إليه، وقد مر بنا قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يقول عند تقبيل الحجر الأسود: «لولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك»[12]، وصح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد[13] أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. فالخير في الاتباع والشر في الابتداع.
وأوصيكم أيها الإخوة في الله بالحرص على التواصي بالحق، والصبر فيما بينكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى في هذا الموسم العظيم، الذي يجمع عددًا كبيرًا من المسلمين جاءوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويؤدوا مناسكهم، رغبة في مغفرة الله سبحانه وطمعًا في ثوابه عز وجل والنفوس مهيئة لقبول الخير، وقد قال النبي ﷺ: الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم[14] والله تعالى يقول: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
وعن جرير بن عبدالله ، قال: «بايعت رسول الله ﷺ على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» [15] متفق عليه. وعن أنس عن النبي ﷺ قال: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه[16] متفق عليه.
والمسلم يحب لنفسه أن يكون على خير في دينه ودنياه، فكذلك يجب أن يحب ذلك لإخوانه المسلمين، ولكن ينبغي أن يكون ذلك برفق ولين وحكمة وموعظة حسنة، كما قال الله تعالى لنبيه ﷺ: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله[17] متفق عليه.
وعنها رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه[18] رواه مسلم رحمه الله.
ولنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "بال أعرابي في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي ﷺ: دعوه وأهريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين[19] رواه البخاري رحمه الله، ثم أفهمه فقال: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا وإنما هي للصلاة وذكر الله[20].
 وهكذا ينبغي أن يكون المسلم رفيقًا بإخوانه رحيمًا بهم يغفر زلاتهم ويعفو عن إساءتهم يرحم ضعيفهم ويوقر كبيرهم ولا يشق عليهم، بل يجادلهم بالتي هي أحسن، وخاصة في رحلة الحج المباركة التي خرج فيها الجميع يلبون ربهم ويحمدونه ويكبرونه، لاسيما في أوقات الشدة وأماكن الزحام في المطاف وفي المسعى، وعند الصعود إلى عرفات والنزول منها، وعند رمي الجمرات حتى يؤدي الجميع مناسك حجهم في سهولة ويسر، وحتى يكون بتوفيق الله حجًا مبرورًا، والرسول ﷺ يقول: من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه[21] متفق عليه. وفي الحديث المتفق على صحته يقول رسول الله ﷺ: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه[22].
وإني أهيب بإخواني المسلمين من حجاج بيت الله الحرام، أن يتناسوا خلافاتهم، وأن يقبلوا على نسكهم بنفوس صافية وقلوب مخلصة وألسنة ذاكرة لله وحده، الذي دعاهم إلى حج بيته، ووفقهم لإجابة هذه الدعوة، فهتفوا قائلين: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك".
وينبغي أن يكون هذا الذكر حقيقة تحكم تصرفاتهم وتضبط سلوكهم، فلا يتصرفون إلا بما يرضي الله، ولا يسلكون إلا سبيل الله، والله تعالى يقول: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
كما أهيب بولاة أمور المسلمين وعلمائهم وأهل الرأي فيهم من الحجاج أن ينتهزوا فرصة اجتماعهم في هذه الأماكن المقدسة مهد الإسلام ومهبط الوحي ومشرق الرسالة الخاتمة التي جمعت القلوب المتنافرة، ووحدت القبائل المتنافرة، فجعلت من رعاة الغنم قادة للأمم، ومن الأمة الأمية خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أهيب بهم أن يلتقوا ويتشاوروا فيما يجمع شمل الأمة الإسلامية ويوحد صفوفها ويستنقذ بلادها ومقدساتها من أيدي أعدائها ولاسيما المسجد الأقصى المبارك، ويشد أزر المجاهدين في سبيل الله ويوحد صفوفهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وقد صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه[23] متفق عليه.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى[24] متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة[25] متفق عليه.
ومن فاته نصرة إخوانه المجاهدين بنفسه ينبغي أن ينصرهم بقوله أو ماله فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10، 11].
وعن أنس أن النبي ﷺ قال: جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم[26] رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وهذا يبين أهمية الإعلام، بالنسبة لقضايا المسلمين، وعن زيد بن خالد أن رسول الله ﷺ قال: من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا[27] متفق عليه.
وإن لكم إخوانًا قد أصابهم الضر ونزل بهم القحط وابتلوا بنقص في الأموال والأنفس والثمرات في أفريقيا وغيرها، وهم في أشد الحاجة إلى مواساتكم ومعونتكم فلا تبخلوا عنهم بشيء من أموالكم، قال تعالى: وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ [محمد:38]، وهو القائل سبحانه: وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال سبحانه: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، وقال النبي ﷺ: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه[28].
وفي الختام فإني أسأل الله أن يسدد خطانا وخطاكم، وأن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والرشاد، وأن يجمع شمل هذه الأمة المحمدية على الحق والهدى، وأن يوفق حكامهم وولاة أمورهم إلى أن يحكموا بينهم بما أنزل الله ويطبقوا فيهم شريعة الله، وهو القائل سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] إنه ولي ذلك والقادر عليه، كما أسأله سبحانه أن يتقبل منا ومنكم، وأن يردكم إلى بلادكم سالمين غانمين موفقين إنه على كل شيء قدير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين[29].

 
  1. رواه مسلم في (الزهد والرقائق) باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985. 
  2. رواه البخاري في (الرقاق) باب الرياء والسمعة برقم 6499، ومسلم في (الزهد والرقائق) باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2987، ولفظه: "من يسمع يسمع الله به ".  
  3. رواه البخاري معلقًا في النجش، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718. 
  4. رواه البخاري في (الصلح) باب إذا اصطلحوا على صلح جور برقم 2697، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718. 
  5. رواه البخاري في (الحج) باب ما ذكر في الحجر الأسود برقم 1597، ومسلم في (الحج) باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف برقم 1270. 
  6. رواه البخاري في (الحج) باب وجوب العمرة وفضلها برقم 1773، ومسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1349. 
  7. رواه البخاري في (العلم) باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين برقم 71، ومسلم في (الزكاة) باب النهي عن المسألة برقم 1037.
  8. رواه البخاري في (الأذان) باب فضل صلاة الجماعة برقم 645، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب فضل صلاة الجماعة برقم 650.
  9. رواه مسلم في (المساجد مواضع الصلاة) باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء برقم 653. 
  10. رواه البخاري في (الخصومات) باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت برقم 2420، ومسلم في (المساجد ومواضع الصلاة) باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها برقم 651.
  11. رواه ابن ماجه في (إقامة الصلاة والسنة فيها) باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام برقم 1406.  
  12. رواه البخاري في (الحج) باب ما ذكر في الحجر الأسود برقم 1597، ومسلم في (الحج) باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف برقم 1270.  
  13. رواه البخاري معلقًا في النجش، ومسلم في (الأقضية) باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور برقم 1718.  
  14. رواه الإمام أحمد في (مسند الشاميين) حديث تميم الداري برقم 16499، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم 55.
  15. رواه البخاري في (الإيمان) باب الدين النصيحة برقم 57، ومسلم في (الإيمان) باب بيان أن الدين النصيحة برقم 56.
  16. رواه البخاري في (الإيمان) باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه برقم 13، ومسلم في (الإيمان) باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه.. برقم 45. 
  17. رواه البخاري في (استتابة المرتدين) باب إذا عّرض الذمي وغيره بسب النبي ﷺ ولم يصرح برقم 6972، ومسلم في (السلام) باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام برقم 2165. 
  18. رواه مسلم في (البر والصلة والآداب) باب فضل الرفق برقم 2594. 
  19. رواه البخاري في (الوضوء) باب صب الماء على البول في المسجد برقم 220، وفي (الأدب) باب قول النبي ﷺ: "يسروا ولا تعسروا" برقم 6128. 
  20. رواه مسلم في (الطهارة) باب وجوب غسل البول والنجاسات.. برقم 285. 
  21. ([1]) رواه البخاري في (الحج) باب فضل الحج المبرور برقم 1521، ومسلم في (الحج) باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة برقم 1350.  
  22. رواه البخاري في (الإيمان) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده برقم 10. 
  23. رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب نصر المظلوم برقم 2446، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم 2585. 
  24. رواه البخاري في (الأدب) باب رحمة الناس والبهائم برقم 6011، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم برقم 2586.  
  25. رواه البخاري في (المظالم والغصب) باب لا يظلم المسلم المسلمَ برقم 2442، ومسلم في (البر والصلة والآداب) باب تحريم الظلم برقم 2580.  
  26. رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) مسند أنس بن مالك برقم 11837، وأبو داود في (الجهاد) باب كراهية ترك الغزو برقم 2504.
  27. رواه البخاري في (الجهاد والسير) باب فضل من جهز غازيًا أو خلفه بخير برقم 2843، ومسلم في (الإمارة) باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله برقم 1895. 
  28. رواه مسلم في (الذكر والدعاء والاستغفار) باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن برقم 2699. 
  29. نشر في (مجلة التوعية الإسلامية في الحج) العدد الأول عام 1405هـ. (مجموع فتاوى ومقالات ابن باز 16/ 302).