الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ﷺ وآله وصحبه، وبعد:
فقد نشرت بعض الصحف مقالات حول إحياء الآثار والاهتمام بها لبعض الكتاب، ومنهم الأستاذ صالح محمد جمال، وقد رد عليه سماحة العلامة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد فأجاد وأفاد وأحسن، أجزل الله مثوبته، ولكن الأستاذ أنور أبا الجدايل-هداه الله وألهمه رشده-لم يقتنع بهذا الرد، أو لم يطلع عليه، فكتب مقالًا في الموضوع نشرته جريدة المدينة بعددها الصادر برقم 5448 وتاريخ 22 / 4 / 1402 هـ بعنوان (طريق الهجرتين) قال فيه :
(والكلمة المنشورة بجريدة المدينة بالعدد 5433 وتاريخ 7 / 4 / 1402هـ للأستاذ البحاثة عبدالقدوس الأنصاري، عطفًا على ما قام به الأديب الباحث الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي من تحقيق للمواقع التي نزل بها رسول الله ﷺ في الطريق الذي سلكه في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة، تدفعنا إلى استنهاض همة المسؤولين إلى وضع شواخص تدل عليها، كمثل خيمتين أدنى ما تكونان إلى خيمتي أم معبد، مع ما يلائم بقية المواقع من ذلك بعد اتخاذ الحيطة اللازمة لمنع أي تجاوز يعطيها صفة التقديس أو التبرك أو الانحراف عن مقتضيات الشرع؛ لأن المقصود هو إيقاف الطلبة والدارسين ومن يشاء من السائحين على ما يريدونه من التعرف على هذا الطريق ومواقعه هذه؛ لمعرفة ما عاناه الرسول ﷺ في رحلته السرية المتكتمة هذه من متاعب، وذلك لمجرد أخذ العبرة وحمل النفوس على تحمل مشاق الدعوة إلى الله، تأسيًا بما تحمله في ذلك-عليه والسلام، على أن تعمل لها طرق فرعية معبدة تخرج من الطريق العام، وتقام بها نزل واستراحات للسائحين، وأن يعنى أيضًا بتسهيل الصعود إلى أماكن تواجده ﷺ بدءً بغار حراء ثم ثور، والكراع حيث تعقبه سراقة بن مالك حتى الوصول إلى قباء، وما سبق ذلك من مواقع في مكة المكرمة، كدار الأرقم بن أبي الأرقم، والشعب الذي قوطع هو وأهله فيه، وطريق دخوله في فتح مكة، ثم نزوله بالأبطح، وكذا في الحديبية وحنين وبدر، وكذلك مواقعه في المدينة المنورة، ومواقع غزواته وتواجده في أريافها، ثم طريقه ﷺ إلى خيبر وإلى تبوك، وتواجده فيهما؛ لإعطاء المزيد من الإحاطة والإلمام بجهاده الفذ في نشر الدعوة الإسلامية، والعمل على التأسي به في ذلك) اهـ.
كما دعا الدكتور فاروق أخضر في مقاله المنشور في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3354 وتاريخ 13 / 1 / 1402 هـ إلى تطوير الأماكن الأثرية في المملكة لزيارتها من قبل المسلمين بصفة مستمرة؛ لضمان الدخل بزعمه بعد نفاذ البترول، ومما استدل به: (أن السياحة الدينية في المسيحية في الفاتيكان تعتبر أحد الدخول الرئيسية للاقتصاد الإيطالي، وأن إسرائيل قد قامت ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا على اعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس) كما أشار إلى أنها ستؤدي من الفوائد أيضًا: (في تثبيت العلم بالإسلام عند الأطفال المسلمين... إلخ) ونظرًا لما يؤدي إليه إحياء الآثار المتعلقة بالدين من مخاطر تمس العقيدة، أحببت إيضاح الحق وتأييد ما كتبه أهل العلم في ذلك، والتعاون معهم على البر والتقوى، والنصح لله ولعباده، وكشف الشبهة وإيضاح الحجة فأقول:
إن العناية بالآثار على الوجه الذي ذكر يؤدي إلى الشرك بالله جل وعلا؛ لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها، والشرك بالله أنواعه كثيرة، غالب الناس لا يدركها، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة، يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها وما فيها من أشجار أو أحجار، ويصلي عندها، ويدعو من نسبت إليه ظنًا منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه، ولحصول الشفاعة وكشف الكربة، ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية في نفوسهم، والذين يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم؛ حتى يحصل بسبب ذلك على بعض الكسب المادي، وليس هناك غالبًا من يخبر زوارها بأن المقصود العبرة فقط، بل الغالب العكس، ويشاهد العاقل ذلك واضحًا في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة، وأصبحوا يعبدونها من دون الله، ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها أولياء، فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله ﷺ؟!
كما أن الشيطان لا يفتر في تحين الأوقات المناسبة لإضلال الناس، قال الله تعالى عن الشيطان إنه قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83] وقال أيضًا سبحانه عن عدو الله الشيطان: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنََّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17] وقد أغوى آدم فأخرجه من الجنة، مع أن الله سبحانه وتعالى حذره منه وبين له أنه عدوه، كما قال تعالى في سورة طه: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121، 122] ومن ذلك قصة بني إسرائيل مع السامري حينما وضع لهم من حليهم عجلًا ليعبدوه من دون الله، فزين لهم الشيطان عبادته مع ظهور بطلانها.
وثبت في جامع الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقالﷺ: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم شبه قولهم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فدل ذلك على أن الاعتبار بالمعاني والمقاصد لا بمجرد الألفاظ، ولعظم جريمة الشرك وخطره في إحباط العمل نرى الخليل-عليه السلام-يدعو الله له ولبنيه السلامة منه، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:35، 36] الآية، فإذا خافه الأنبياء والرسل-وهم أشرف الخلق وأعلمهم بالله وأتقاهم له- فغيرهم أولى وأحرى بأن يخاف عليه ذلك، ويجب تحذيره منه، كما يجب سد الذرائع الموصلة إليه.
ومهما عمل أهل الحق من احتياط أو تحفظ، فلن يحول ذلك بين الجهال وبين المفاسد المترتبة على تعظيم الآثار؛ لأن الناس يختلفون من حيث الفهم والتأثر والبحث عن الحق اختلافًا كثيرًا، ولذلك عبد قوم نوح-عليه السلام-ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، مع أن الأصل في تصويرهم هو التذكير بأعمالهم الصالحة للتأسي والاقتداء بهم، لا للغلو فيهم وعبادتهم من دون الله، ولكن الشيطان أنسى من جاء بعد من صورهم هذا المقصد، وزين لهم عبادتهم من دون الله، وكان ذلك هو سبب الشرك في بني آدم، روى ذلك البخاري -رحمه الله- في صحيحه، عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى، فإن الله جل وعلا أمر بالحذر من طريقهم؛ لأنه طريق ضلال وهلاك ولا يجوز التشبه بهم في أعمالهم المخالفة لشرعنا، وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما جاء به أنبياؤهم، فلهذا ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك طريقهم، والحاصل أن المفاسد التي ستنشأ عن الاعتناء بالآثار وإحيائها محققة، ولا يحصى كميتها وأنواعها وغاياتها إلا الله سبحانه، فوجب منع إحيائها وسد الذرائع إلى ذلك، ومعلوم أن أصحاب النبيﷺ ورضي الله عنهم-أعلم الناس بدين الله، وأحب الناس لرسول اللهﷺ، وأكملهم نصحًا لله ولعباده، ولم يحيوا هذه الآثار ولم يعظموها ولم يدعوا إلى إحيائها، بل لما رأى عمر -رضي الله عنه- بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بويع النبي ﷺ تحتها أمر بقطعها خوفًا على الناس من الغلو فيها والشرك بها، فشكر له المسلمون ذلك وعدوه من مناقبه-رضي الله عنه.
ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمرًا مشروعًا لفعله النبي ﷺ في مكة وبعد الهجرة، أو أمر بذلك، أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه، وسبق أنهم أعلم الناس بشريعة الله وأحبهم لرسوله ﷺ وأنصحهم لله ولعباده، ولم يحفظ عنه ﷺ ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء حين كانوا بمكة أو غار ثور، ولم يفعلوا ذلك أيضًا حين عمرة القضاء، ولا عام الفتح ولا في حجة الوداع، ولم يعرجوا على موضع خيمتي أم معبد ولا محل شجرة البيعة، فعلم أن زيارتها وتمهيد الطرق إليها أمر مبتدع لا أصل له في شرع الله، وهو من أعظم الوسائل إلى الشرك الأكبر، ولما كان البناء على القبور واتخاذ مساجد عليها من أعظم وسائل الشرك، نهى النبي ﷺ عن ذلك، ولعن اليهود والنصارى على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، وأخبر عمن يفعل ذلك أنهم شرار الخلق، وقال فيما ثبت عنه في صحيح مسلم رحمه الله عن جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: (نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) زاد الترمذي بإسناد صحيح (وأن يكتب عليه) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة على وجوب سد الذرائع القولية والفعلية، واحتج العلماء على ذلك بأدلة لا تحصى كثرة، وذكر منها العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتابه [إعلام الموقعين] تسعة وتسعين دليلا كلها تدل على وجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي، وذكر منها قول الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية [الأنعام:108] وقولهﷺ: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس سدًا لذريعة عبادة الشمس من دون الله، ومنعا للتشبه بمن فعل ذلك، كما ذكر منها أن النبي ﷺ نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا، وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها، وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه سدا للذريعة.
فالواجب على علماء المسلمين وعلى ولاة أمرهم أن يسلكوا مسلك نبي الله ﷺ وأصحابه-رضي الله عنهم-في هذا الباب وغيره، وأن ينهوا عما نهى عنه رسول اللهﷺ، وأن يسدوا الذرائع والوسائل المفضية إلى الشرك والمعاصي والغلو في الأنبياء والأولياء؛ حماية لجناب التوحيد، وسدًا لطرق الشرك ووسائله.
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يفقههم في الدين، وأن يوفق علماءهم وولاة أمرهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وأن يوفق قادة المسلمين لتحكيم شريعة الله والحكم بها في كل شئونهم، وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين[1].
فقد نشرت بعض الصحف مقالات حول إحياء الآثار والاهتمام بها لبعض الكتاب، ومنهم الأستاذ صالح محمد جمال، وقد رد عليه سماحة العلامة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد فأجاد وأفاد وأحسن، أجزل الله مثوبته، ولكن الأستاذ أنور أبا الجدايل-هداه الله وألهمه رشده-لم يقتنع بهذا الرد، أو لم يطلع عليه، فكتب مقالًا في الموضوع نشرته جريدة المدينة بعددها الصادر برقم 5448 وتاريخ 22 / 4 / 1402 هـ بعنوان (طريق الهجرتين) قال فيه :
(والكلمة المنشورة بجريدة المدينة بالعدد 5433 وتاريخ 7 / 4 / 1402هـ للأستاذ البحاثة عبدالقدوس الأنصاري، عطفًا على ما قام به الأديب الباحث الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي من تحقيق للمواقع التي نزل بها رسول الله ﷺ في الطريق الذي سلكه في هجرته من مكة إلى المدينة المنورة، تدفعنا إلى استنهاض همة المسؤولين إلى وضع شواخص تدل عليها، كمثل خيمتين أدنى ما تكونان إلى خيمتي أم معبد، مع ما يلائم بقية المواقع من ذلك بعد اتخاذ الحيطة اللازمة لمنع أي تجاوز يعطيها صفة التقديس أو التبرك أو الانحراف عن مقتضيات الشرع؛ لأن المقصود هو إيقاف الطلبة والدارسين ومن يشاء من السائحين على ما يريدونه من التعرف على هذا الطريق ومواقعه هذه؛ لمعرفة ما عاناه الرسول ﷺ في رحلته السرية المتكتمة هذه من متاعب، وذلك لمجرد أخذ العبرة وحمل النفوس على تحمل مشاق الدعوة إلى الله، تأسيًا بما تحمله في ذلك-عليه والسلام، على أن تعمل لها طرق فرعية معبدة تخرج من الطريق العام، وتقام بها نزل واستراحات للسائحين، وأن يعنى أيضًا بتسهيل الصعود إلى أماكن تواجده ﷺ بدءً بغار حراء ثم ثور، والكراع حيث تعقبه سراقة بن مالك حتى الوصول إلى قباء، وما سبق ذلك من مواقع في مكة المكرمة، كدار الأرقم بن أبي الأرقم، والشعب الذي قوطع هو وأهله فيه، وطريق دخوله في فتح مكة، ثم نزوله بالأبطح، وكذا في الحديبية وحنين وبدر، وكذلك مواقعه في المدينة المنورة، ومواقع غزواته وتواجده في أريافها، ثم طريقه ﷺ إلى خيبر وإلى تبوك، وتواجده فيهما؛ لإعطاء المزيد من الإحاطة والإلمام بجهاده الفذ في نشر الدعوة الإسلامية، والعمل على التأسي به في ذلك) اهـ.
كما دعا الدكتور فاروق أخضر في مقاله المنشور في جريدة الجزيرة بعددها رقم 3354 وتاريخ 13 / 1 / 1402 هـ إلى تطوير الأماكن الأثرية في المملكة لزيارتها من قبل المسلمين بصفة مستمرة؛ لضمان الدخل بزعمه بعد نفاذ البترول، ومما استدل به: (أن السياحة الدينية في المسيحية في الفاتيكان تعتبر أحد الدخول الرئيسية للاقتصاد الإيطالي، وأن إسرائيل قد قامت ببيع زجاجات فارغة على اليهود في أمريكا على اعتبار أن هذه الزجاجات مليئة بهواء القدس) كما أشار إلى أنها ستؤدي من الفوائد أيضًا: (في تثبيت العلم بالإسلام عند الأطفال المسلمين... إلخ) ونظرًا لما يؤدي إليه إحياء الآثار المتعلقة بالدين من مخاطر تمس العقيدة، أحببت إيضاح الحق وتأييد ما كتبه أهل العلم في ذلك، والتعاون معهم على البر والتقوى، والنصح لله ولعباده، وكشف الشبهة وإيضاح الحجة فأقول:
إن العناية بالآثار على الوجه الذي ذكر يؤدي إلى الشرك بالله جل وعلا؛ لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها، والشرك بالله أنواعه كثيرة، غالب الناس لا يدركها، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة، يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها وما فيها من أشجار أو أحجار، ويصلي عندها، ويدعو من نسبت إليه ظنًا منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه، ولحصول الشفاعة وكشف الكربة، ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية في نفوسهم، والذين يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم؛ حتى يحصل بسبب ذلك على بعض الكسب المادي، وليس هناك غالبًا من يخبر زوارها بأن المقصود العبرة فقط، بل الغالب العكس، ويشاهد العاقل ذلك واضحًا في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة، وأصبحوا يعبدونها من دون الله، ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها أولياء، فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله ﷺ؟!
كما أن الشيطان لا يفتر في تحين الأوقات المناسبة لإضلال الناس، قال الله تعالى عن الشيطان إنه قال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83] وقال أيضًا سبحانه عن عدو الله الشيطان: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنََّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17] وقد أغوى آدم فأخرجه من الجنة، مع أن الله سبحانه وتعالى حذره منه وبين له أنه عدوه، كما قال تعالى في سورة طه: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121، 122] ومن ذلك قصة بني إسرائيل مع السامري حينما وضع لهم من حليهم عجلًا ليعبدوه من دون الله، فزين لهم الشيطان عبادته مع ظهور بطلانها.
وثبت في جامع الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقالﷺ: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم شبه قولهم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فدل ذلك على أن الاعتبار بالمعاني والمقاصد لا بمجرد الألفاظ، ولعظم جريمة الشرك وخطره في إحباط العمل نرى الخليل-عليه السلام-يدعو الله له ولبنيه السلامة منه، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:35، 36] الآية، فإذا خافه الأنبياء والرسل-وهم أشرف الخلق وأعلمهم بالله وأتقاهم له- فغيرهم أولى وأحرى بأن يخاف عليه ذلك، ويجب تحذيره منه، كما يجب سد الذرائع الموصلة إليه.
ومهما عمل أهل الحق من احتياط أو تحفظ، فلن يحول ذلك بين الجهال وبين المفاسد المترتبة على تعظيم الآثار؛ لأن الناس يختلفون من حيث الفهم والتأثر والبحث عن الحق اختلافًا كثيرًا، ولذلك عبد قوم نوح-عليه السلام-ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، مع أن الأصل في تصويرهم هو التذكير بأعمالهم الصالحة للتأسي والاقتداء بهم، لا للغلو فيهم وعبادتهم من دون الله، ولكن الشيطان أنسى من جاء بعد من صورهم هذا المقصد، وزين لهم عبادتهم من دون الله، وكان ذلك هو سبب الشرك في بني آدم، روى ذلك البخاري -رحمه الله- في صحيحه، عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23] قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.
أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى، فإن الله جل وعلا أمر بالحذر من طريقهم؛ لأنه طريق ضلال وهلاك ولا يجوز التشبه بهم في أعمالهم المخالفة لشرعنا، وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما جاء به أنبياؤهم، فلهذا ولغيره من أعمالهم الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك طريقهم، والحاصل أن المفاسد التي ستنشأ عن الاعتناء بالآثار وإحيائها محققة، ولا يحصى كميتها وأنواعها وغاياتها إلا الله سبحانه، فوجب منع إحيائها وسد الذرائع إلى ذلك، ومعلوم أن أصحاب النبيﷺ ورضي الله عنهم-أعلم الناس بدين الله، وأحب الناس لرسول اللهﷺ، وأكملهم نصحًا لله ولعباده، ولم يحيوا هذه الآثار ولم يعظموها ولم يدعوا إلى إحيائها، بل لما رأى عمر -رضي الله عنه- بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بويع النبي ﷺ تحتها أمر بقطعها خوفًا على الناس من الغلو فيها والشرك بها، فشكر له المسلمون ذلك وعدوه من مناقبه-رضي الله عنه.
ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمرًا مشروعًا لفعله النبي ﷺ في مكة وبعد الهجرة، أو أمر بذلك، أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه، وسبق أنهم أعلم الناس بشريعة الله وأحبهم لرسوله ﷺ وأنصحهم لله ولعباده، ولم يحفظ عنه ﷺ ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء حين كانوا بمكة أو غار ثور، ولم يفعلوا ذلك أيضًا حين عمرة القضاء، ولا عام الفتح ولا في حجة الوداع، ولم يعرجوا على موضع خيمتي أم معبد ولا محل شجرة البيعة، فعلم أن زيارتها وتمهيد الطرق إليها أمر مبتدع لا أصل له في شرع الله، وهو من أعظم الوسائل إلى الشرك الأكبر، ولما كان البناء على القبور واتخاذ مساجد عليها من أعظم وسائل الشرك، نهى النبي ﷺ عن ذلك، ولعن اليهود والنصارى على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، وأخبر عمن يفعل ذلك أنهم شرار الخلق، وقال فيما ثبت عنه في صحيح مسلم رحمه الله عن جندب بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك وفي صحيح مسلم أيضًا عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: (نهى رسول الله ﷺ أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) زاد الترمذي بإسناد صحيح (وأن يكتب عليه) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة على وجوب سد الذرائع القولية والفعلية، واحتج العلماء على ذلك بأدلة لا تحصى كثرة، وذكر منها العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتابه [إعلام الموقعين] تسعة وتسعين دليلا كلها تدل على وجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي، وذكر منها قول الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية [الأنعام:108] وقولهﷺ: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس سدًا لذريعة عبادة الشمس من دون الله، ومنعا للتشبه بمن فعل ذلك، كما ذكر منها أن النبي ﷺ نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن من فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا، وعن شد الرحال إليها؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها، وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه سدا للذريعة.
فالواجب على علماء المسلمين وعلى ولاة أمرهم أن يسلكوا مسلك نبي الله ﷺ وأصحابه-رضي الله عنهم-في هذا الباب وغيره، وأن ينهوا عما نهى عنه رسول اللهﷺ، وأن يسدوا الذرائع والوسائل المفضية إلى الشرك والمعاصي والغلو في الأنبياء والأولياء؛ حماية لجناب التوحيد، وسدًا لطرق الشرك ووسائله.
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يفقههم في الدين، وأن يوفق علماءهم وولاة أمرهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، وأن يوفق قادة المسلمين لتحكيم شريعة الله والحكم بها في كل شئونهم، وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين[1].
- (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 3/334).