لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد في عددها السابع والستين والثامن والستين بقلم أبي تراب الظاهري تحت عنوان: [الكتاب والسنة لم يحرما الغناء، ولا استعمال المعازف والمزامير والاستماع إليها] وتأملت ما ذكره في هذا المقال من الأحاديث والآثار، وما اعتمده في القول بحل الغناء وآلات الملاهي تبعا لإمامه أبي محمد ابن حزم الظاهري، فتعجبت كثيرًا من جرأته الشديدة تبعًا لإمامه أبي محمد على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث في تحريم الغناء وآلات الملاهي، بل على ما هو أشنع من ذلك، وهو القول بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة، وعجبت أيضًا من جرأتهما الشديدة الغريبة على القول بحل الغناء وجميع آلات الملاهي، مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك من الآيات والأحاديث والآثار عن السلف الصالح .
فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان، ولقد أنكر أهل العلم قديمًا على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة وعابوه بها، وجرى عليه بسببها محن كثيرة، فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه وعن سائر المسلمين.
ولقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم، ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير برهان، وأخبر أن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116، 117] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُواا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169] فحذر الله سبحانه عباده في هذه الآيات الكريمات من التحليل والتحريم بغير علم، وبين سبحانه أن القول عليه بغير علم في رتبة رهيبة فوق الشرك، ونبه عباده على أن الشيطان يحب منهم القول على الله بغير علم، ويأمرهم به ليفسد عليهم بذلك دينهم وأخلاقهم ومجتمعهم.
فالواجب على كل مسلم أن يحذر القول على الله بغير علم، وأن يخاف الله سبحانه ويراقبه فيما يحلل ويحرم، وأن يتجرد من الهوى والتقليد الأعمى، وأن يقصد إيضاح حكم الله لعباد الله على الوجه الذي بينه الله في كتابه، أو أرشد إليه رسوله ﷺ في سنته؛ نصحًا لله ولعباده، وحذرًا من كتمان العلم، ورغبة في ثواب الله على ذلك، فنسأل الله لنا ولسائر إخواننا التوفيق لهذا المسلك الذي سلكه أهل العلم والإيمان، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيء قدير.
وأنا ذاكر لك أيها القارئ-إن شاء الله-ما وقع في كلام أبي تراب وإمامه أبي محمد من الأخطاء، وموضح لك ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة والآثار في تحريم الغناء وآلات الملاهي، وذاكر من كلام أهل العلم في هذا الباب ما يشفي ويكفي؛ حتى تكون من ذلك على صراط مستقيم، وحتى يزول عن قلبك-إن شاء الله-ما قد علق به من الشبه والشكوك التي قد يُبتلى بها من سمع مقال أبي تراب وأضرابه من الكُتّاب، وبالله نستعين، وعليه نتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو تراب: (وتحقيق المسألة أن الغناء وآلاته والاستماع إليه: مباح، لم يرد في الشريعة-التي جاء بها محمد ﷺ نص ثابت في تحريمه البتة، والأدلة تؤخذ من الأصلين، وهما الكتاب والسنة، وما سواهما فهو شغب وباطل مردودة، ولا يحل لمؤمن أن يعدو حدود الله قطعًا... إلى أن قال في أثناء مقاله: قال الحافظ أبو محمد ابن حزم: بيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير، حلال كله، من كسر شيئًا من ذلك ضمنه إلا أن يكون صورة مصورة، فلا ضمان على كاسرها، لما ذكرنا من قبل؛ لأنها مال من مال مالكها).
أقول: لقد أخطأ أبو محمد، وأخطأ بعده أبو تراب في تحليل ما حرم الله من الأغاني وآلات الملاهي، وفتحا على الناس أبواب شر عظيم، وخالفا بذلك سبيل أهل الإيمان وحملة السنة والقرآن، من الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإن ذلك لعظيم، وخطره جسيم، فنسأل الله لنا وللمسلمين العافية من زيغ القلوب ورين الذنوب، وهمزات الشيطان، إنه جواد كريم.
ولقد ذهب أكثر علماء الإسلام وجمهور أئمة الهدى إلى تحريم الأغاني وجميع المعازف، وهي آلات اللهو كلها، وأوجبوا كسر آلات المعازف وقالوا: (لا ضمان على متلفها)، وقالوا: (إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف، كالطبل والمزمار والعود وأشباه ذلك، حرم بالإجماع) إلا ما يستثنى من ذلك من دق النساء الدف في العرس ونحوه، على ما يأتي بيانه-إن شاء الله تعالى-وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح إجماع علماء الإسلام على ما ذكرنا من تحريم الأغاني والمعازف إذا اجتمعا، كما سيأتي نص كلامه فيما نقله عنه العلامة ابن القيم-رحمه الله، وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب ومرضها، وصدها عن القرآن الكريم واستماع العلوم النافعة، ولا شك أن ذلك من مكايد الشيطان، التي كاد بها الناس، وصاد بها من نقص علمه ودينه، حتى استحسن سماع قرآن الشيطان ومزموره، بدلًا من سماع كتاب الله وأحاديث رسوله ﷺ.
ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي، ووصفوه بالسفه والفسق، وقالوا: لا تقبل شهادته، كما سيأتي بعض كلامهم في ذلك-إن شاء الله، وما ذلك إلا لما ينشأ عن الاشتغال بالغناء والمعازف من ضعف الإيمان، وقلة الحياء والورع، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، ولما يبتلي به أرباب الغناء والمعازف من شدة الغفلة، والارتياح إلى الباطل، والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنا واللواط وشرب الخمور، ومعاشرة النسوان والمردان، إلا من عصم الله من ذلك. ومعلوم عند ذوي الألباب ما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال.
وإليك-أيها القارئ الكريم-بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول ﷺ.
قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6، 7] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عند هاتين الآيتين ما نصه: (لما ذكر حال السعداء وهم: الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلََ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الآية [الزمر:23] عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء والألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: هو والله الغناء.
وروى ابن جرير حدثني يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني يزيد بن يونس عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبدالله ابن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فقال عبدالله بن مسعود: الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات. حدثنا عمرو بن علي حدثنا صفوان بن عيسى أخبرنا حميد الخراط عن عمار عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء أنه سأل ابن مسعود عن قول الله: وَمِنَ النَّاسِِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: الغناء؛ وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بديمة، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، في الغناء والمزامير. وقال قتادة: قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، والله لعله لا ينفق فيه مالًا، ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع) انتهى كلامه.
فتأمل-أيها القارئ الكريم-هاتين الآيتين الكريمتين، وكلام هذا الإمام في تسيرهما، وما نقل عن أئمة السلف في ذلك يتضح لك ما وقع فيه أرباب الأغاني والملاهي من الخطر العظيم، وتعلم بذلك صراحة الآية الكريمة في ذمهم وعيبهم، وأن اشتراءهم للهو الحديث، واختيارهم له من وسائل الضلال والإضلال، وإن لم يقصدوا ذلك أو يعلموه، وذلك لأن الله سبحانه مدح أهل القرآن في أول السورة، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة، وأخبر أنهم أهل الهدى والفلاح، حيث قال : بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [لقمان:1-5] ثم قال سبحانه بعد هذا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية [لقمان:6] وذلك يدل على ذم هؤلاء المشترين، وتعرضهم للضلال بعد الهدى، وما كان وسيلة للضلال والإضلال فهو مذموم، يجب أن يحذر ويبتعد عنه، وهذا الذي قاله الحافظ ابن كثير في تفسير الآية قاله غيره من أهل التفسير كابن جرير والبغوي والقرطبي وغير واحد، حتى قال الواحدي في تفسيره: أكثر المفسرين على أن لهو الحديث هو الغناء، وفسره آخرون بالشرك، وفسره جماعة بأخبار الأعاجم وبالأحاديث الباطلة التي تصد عن الحق؛ وكلها تفاسير صحيحة؛ لا منافاة بينها، والآية الكريمة تذم من اعتاد ما يصد عن سبيل الله ويلهيه عن كتابه، ولا شك أن الأغاني وآلات الملاهي من أقبح لهو الحديث الصاد عن كتاب الله وعن سبيله، قال أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- في تفسيره-لما ذكر أقوال المفسرين في لهو الحديث-ما نصه: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: عني به كل ما كان من الحديث ملهيًا عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسوله؛ لأن الله تعالى عم بقوله: لَهْوَ الْحَدِيثِ ولم يخصص بعضًا دون بعض، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدل على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك) انتهى كلامه.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ (من) في موضع رفع بالابتداء، ولهو الحديث الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، ثم بسط الكلام في تفسير هذه الآية، ثم قال: المسألة الثانية: وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق، فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع، فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام) انتهى كلامه.
وهذا الذي قاله القرطبي كلام حسن، وبه تجتمع الآثار الواردة في هذا الباب، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: (دخل عليَّ النبي ﷺ وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي ﷺ، فأقبل عليه رسول الله، فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا وفي رواية لمسلم فقال رسول الله: يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا. وفي رواية له أخرى، فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد وفي بعض رواياته أيضًا: جاريتان تلعبان بدف فهذا الحديث الجليل يستفاد منه أن كراهة الغناء وإنكاره وتسميته مزمار الشيطان أمر معروف مستقر عند الصحابة- ، ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها، وسماه مزمار الشيطان، ولم ينكر عليه النبي ﷺ تلك التسمية، ولم يقل له: إن الغناء والدف لا حرج فيهما وإنما أمره أن يترك الجاريتين، وعلل ذلك بأنها أيام عيد، فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذا للجواري الصغار في أيام العيد؛ لأنها أيام فرح وسرور، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا غناء الأنصار الذي تقاولوا به يوم بعاث، فيما يتعلق بالشجاعة والحرب، بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم، فإنه يثير الغرائز الجنسية، ويدعو إلى عشق الصور، وإلى كثير من الفتن الصادة للقلوب عن تعظيم الله ومراعاة حقه، فكيف يجوز لعاقل أن يقيس هذا على هذا؟! ومن تأمل هذا الحديث علم أن ما زاد على ما فعلته الجاريتان منكر، يجب التحذير منه حسمًا لمادة الفساد، وحفظًا للقلوب عما يصدها عن الحق، ويشغلها عن كتاب الله وأداء حقه.
وأما دعوى أبي تراب أن هذا الحديث حجة على جواز الغناء مطلقًا، فدعوى باطلة؛ لما تقدم بيانه، والآيات والأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، كلها تدل على بطلان دعواه. وهكذا الحديث الذي رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد البجلي أنه رأى أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد، وهم في عرس وعندهم غناء، فقلت لهم: (هذا وأنتم أصحاب رسول الله، فقالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح) فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقًا، وإنما يدل على جوازه في العرس لإعلان النكاح، ومن تأمل هذا الحديث عرف أنه دليل على منع الغناء، لا على جوازه، فإنه ﷺ لما رخص لهم "في الغناء" في العرس لحكمة معلومة، دل على منعه فيما سواه إلا بدليل خاص، كما أن الرخصة للمسافر في قصر الرباعية يدل على منع غيره من ذلك، وهكذا الرخصة للحائض والنفساء في ترك طواف الوداع يدل على منع غيرهما من ذلك، والأمثلة لهذا كثيرة، وأيضا فإنكار عامر بن سعد على هؤلاء الصحابة الغناء وإقرارهم له على ذلك، دليل على أن كراهة الغناء والمنع منه أمر قد استقر عند الصحابة والتابعين، وعرفوه عن النبي-ﷺ. والله المستعان.
قال العلامة ابن القيم-رحمة الله عليه-في كتابه [إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان] ما نصه: (ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة؛ ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن القرآن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكرًا وغرورًا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجورًا)... إلى أن قال-رحمه الله، ولقد أحسن القائل:
وقال آخر:
ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى، تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة). انتهى كلامه رحمه الله.
شبهة يجب أن تكشف:
زعم أبو تراب. تبعًا لابن حزم، أن قوله سبحانه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6] الآية دليل على أن مشتري لهو الحديث من الأغاني والملاهي لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال أو الإضلال، أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه فلا بأس في ذلك، والجواب أن يقال: هذه شبهة باطلة من وجوه ثلاثة:
الأول: أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الآية الكريمة، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها، ولم يقيدوا ذلك بهذا الشرط الذي قاله أبو تراب، وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول ﷺ وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم.
الوجه الثاني: أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها؛ لأن الله سبحانه قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية، ولا قصد للإضلال أو الضلال، ولو كان اشترى لهو الحديث وهو يعلم أنه يضل به أو يقصد ذلك لم يقل الله : لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لأن من علم أنه اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله لا يقال له: إنه لا يعلم، وهكذا من قصد ذلك لا يقال: إنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم؛ لأن من علم أن غايته الضلال أو قصد ذلك قد اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بعلم وقصد، لا ليضل بغير علم، فتأمل وتنبه-أيها القارئ الكريم-يتضح لك الحق، وعليه تكون " اللام " في قوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لام العاقبة، أو لام التعليل، أي تعليل الأمر القدري. ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره، وعلى كونها للعاقبة يكون المعنى: أن من اشترى لهو الحديث من الغناء والمعازف، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله، والإضلال واتخاذ سبيل الله هزوًا، والإعراض عن آيات الله استكبارًا واحتقارًا، وإن لم يشعر بذلك ولم يقصده.
وعلى المعنى الثاني، وهو كونها لتعليل الأمر القدري، يكون المعنى: أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله، وعلى كلا التقديرين فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث، ووعيده بأن مصيره إلى الضلال والاستهزاء بسبيل الله، والتولي عن كتاب الله، وهذا هو الواقع الكثير، والمشاهد ممن اشتغل بلهو الحديث من الأغاني والمعازف، واستحسنها وشغف بها، يكون مآله إلى قسوة القلب والضلال عن الحق إلا من رحم الله.
وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة في مصادرها ومواردها على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد والتحذير منها، حذرًا من الوقوع في غاياتها، كما نهى النبي عن شرب القليل الذي لا يسكر، حذرًا من الوقوع في المسكر، حيث قال-عليه الصلاة والسلام: ما أسكر كثيره فقليله حرام ونهى عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما وقع فيه بعض المشركين من عبادة الشمس عند طلوعها وغروبها، ونظائر ذلك كثيرة يعرفها من له أدنى علم بالشريعة المطهرة، والله المستعان.
الوجه الثالث: أنه لو كان الذم مختصًا بمن اشترى لهو الحديث لقصد الضلال أو الإضلال، لم يكن في تنصيص الرب على لهو الحديث فائدة؛ لأن الذم حينئذ لا يختص به، بل يعم كل من فعل شيئًا يقصد به الضلال أو الإضلال، حتى ولو كان ذلك الشيء محبوبًا إلى الله ، كمن اشترى مصحفًا يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه ، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير، وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه، وزعما أن الآية تختص بهذا الصنف، وهو خطأ بين، وعدول بالآية عن معناها الصحيح، وإضاعة لمعناها الأكمل.
فعرفت -أيها القارئ الكريم- من هذه الأوجه الثلاثة، كشف شبهة أبي تراب وبطلانها، واتضح لك أن الآية الكريمة حجة ظاهرة على ذم الأغاني والملاهي وتحريمهما، وأنها وسيلة للضلال والإضلال والسخرية بسبيل الله والإعراض عن كتابه، وإن لم يشعر مشتروها بذلك، وهذا هو الذي فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة، وهم أولى بالاتباع- ، وسبق لك كشف شبهة أبي تراب في تعلقه بحديث الجاريتين، وكشف شبهته الأخرى في تعلقه بحديث أبي مسعود البدري وصاحبيه في الرخصة لهم في الغناء وقت العرس، وأوضحنا فيما تقدم أن الحديثين المذكورين حجة ظاهرة على أبي تراب وإمامه ابن حزم في النهي عن الأغاني والمنع منها لا على جوازها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وقد تكلم العلامة ابن القيم -رحمه الله- على الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية [لقمان:6] بكلام حسن يؤيد ما تقدم وهذا نصه قال-رحمه الله: (قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبدالله بن مسعود في رواية أبى الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة، وروى ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6] قال: هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلًا ونهارًا، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل، وهذا قول مكحول، وهذا اختيار أبي إسحاق أيضًا، وقال: أكثر ما جاء في التفسير، أن لهو الحديث هاهنا، هو الغناء؛ لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى.
قال الواحدي: قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن، قال: ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية؛ لعله أن لا يكون أنفق مالًا، قال: وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير، تدل على تحريم الغناء، قال: وأما غناء القينات فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي قال: من استمع إلى قينة صب في أذنه الآنك يوم القيامة. والآنك الرصاص المذاب.
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعًا إلى النبي-ﷺ، ففي مسند الإمام أحمد، ومسند عبدالله بن الزبير الحميدي، وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة، والسياق للترمذي أن النبي ﷺ قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهذا الحديث، وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات سنذكرها إن شاء الله تعالى.
ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء، فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6] فقال: والله الذي لا إله إلا هو، هو الغناء، يرددها ثلاث مرات، وصح عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أيضًا أنه الغناء، قال الحاكم أبو عبدالله في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند، وقال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع، وهذا وإن كان فيه نظرة فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله في كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول علمًا وعملًا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل، ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم ونحو ذلك، مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة، يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث.
ولهذا قال ابن عباس: لهو الحديث الباطل والغناء، فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما، والغناء أشد لهوًا وأعظم ضررًا من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنا، ومنبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.
إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه، لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا، وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرًا، كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرًا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئًا استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرًا، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم، يوضحه أنك لا تجد أحدًا عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علمًا وعملًا، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن، عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ، ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه.
والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41] انتهى كلامه-رحمه الله.
ومن الآيات الدالة على ذم الأغاني والمعازف، وهي آلات الملاهي قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا [الإسراء:64] وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72] وقد فسر الصوت والزور: بالغناء وآلات الملاهي، وفسر الصوت أيضًا: بكل صوت يدعو إلى باطل، وفسر الزور بكل منكر، ولا منافاة بين التفاسير، ومدلول الآيتين، يعم ذلك كله، ولا ريب أن الأغاني والملاهي من أقبح الزور، ومن أخبث أصوات الشيطان لما يترتب عليها من قسوة القلوب، وصدها عن ذكر الله وعن القرآن، بل وعن جميع الطاعات إلا من رحم الله، كما قد سلف بيان ذلك.
وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي فكثيرة، وأصحها ما رواه البخاري في صحيحه، حيث قال: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي ﷺ يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف وهو صريح في ذم مستحلي المعازف، حيث قرنهم مع مستحلي الزنا والخمر والحرير، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال المعازف، وهي آلات الملاهي، كالطنبور والعود والطبل وغير ذلك من آلات الملاهي.
وقد أجمع أهل اللغة على تفسير المعازف بآلات الملاهي، وما ذاك إلا لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها، واشتغالها عن الصلاة والقرآن، وإذا انضم إليه الغناء صار الإثم أكبر والفساد أعظم، كما سيأتي كلام أهل العلم في ذلك، وقد تقدم لك بعضه، وأما الحر: فيروى بالحاء المهملة والراء، وهو الفرج، والمراد به الزنا، ويروى بالخاء المعجمة والزاي، وهو نوع من الحرير.
وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث، وتلقوه بالقبول، واحتجوا به على تحريم المعازف كلها، وقد أعله ابن حزم وأبو تراب بعده، تقليدًا له بأنه منقطع بين البخاري -رحمه الله- وبين شيخه هشام بن عمار؛ لكونه لم يصرح بسماعه منه، وإنما علقه عنه تعليقًا، وقد أخطأ ابن حزم في ذلك، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول، وخطؤوه فيه؛ لأن هشامًا من شيوخ البخاري، وقد علقه عنه جازمًا به، وما كان كذلك فهو صحيح عنده، وقد قبل منه أهل العلم ذلك وصححوا ما علقه جازمًا به إلى من علقه عنه، وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة، ولعل البخاري لم يصرح بسماعه منه لكونه رواه عنه بالإجازة، أو في معرض المذاكرة، أو لكونه رواه عنه بواسطة بعض شيوخه الثقات، فحذفه اختصارًا، أو لغير ذلك من الأسباب المقتضية للحذف. وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام، فقد رواه عنه غيره متصلًا، عن هشام بن عمار.. إلخ. بأسانيد صحيحة، وبذلك بطلت شبهة ابن حزم ومقلده أبي تراب، واتضح الحق لطالب الحق، والله المستعان.
وإليك أيها القارئ الكريم كلام أهل العلم في هذا الحديث، وتصريحهم بخطأ ابن حزم في تضعيفه، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري -رحمه الله- لما ذكر هذا الحديث، وذكر كلام الزركشي، وتخطئته ابن حزم في تضعيفه، قال ما نصه: (وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها-يعني الزركشي-فقد سبقه إليها ابن الصلاح في علوم الحديث، فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجًا ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف، ولا التفات إلى أبي محمد ابن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري عن رسول الله ﷺ: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا: وقال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم، أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال، بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك، لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندًا متصلًا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصحبها خلل الانقطاع) انتهى.
ثم قال الحافظ بعدما نقل كلام ابن الصلاح المذكور بأسطر ما نصه: (وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحًا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولًا إلى من علق عنه بشرط الصحة، أزال الإشكال، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع، وصنفت كتاب [تغليق التعليق] وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي، وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار، جاء عنه موصولًا في مستخرج الإسماعيلي، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين، فقال: حدثنا محمد بن يزيد بن عبدالصمد حدثنا هشام بن عمار، قال وأخرجه أبو داود في سننه، فقال: حدثنا عبدالوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر بسنده). انتهى.
وقال العلامة ابن القيم-رحمة الله عليه-في الإغاثة، لما ذكر هذا الحديث ما نصه: (هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه محتجًا به وعلقه تعليقًا مجزومًا به، فقال: باب فيمن يستحل الخمر، ويسميه بغير اسمه، وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري-والله ما كذبني-أنه سمع النبي ﷺ يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئًا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: قال هشام، فهو بمنزلة قوله عن هشام.
الثاني: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه، إلا وقد صح عنده أنه حدث به، وهذا كثيرًا ما يكون لكثرة ما رواه عنه، عن ذلك الشيخ وشهرته، فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس.
الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجًا به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة، التمريض، فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه، يقول: ويروى عن رسول الله ﷺ، ويذكر عنه، ونحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله ﷺ، قد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحًا، فالحديث صحيح، متصل عند غيره، قال أبو داود في كتاب [اللباس]: حدثنا عبدالوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس قال: سمعت عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك فذكره مختصرًا، ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه: [الصحيح]، مسندًا، فقال أبو عامر ولم يشك.
ووجه الدلالة منه أن المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالًا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز، فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صح عن الصحابة لبسه، إذ الخز نوعان: أحدهما: من حرير، والثاني: من صوف، وقد روى هذا الحديث من وجهين.
وقال ابن ماجه في سننه، حدثنا عبدالله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبي مريم عن عبدالرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير وهذا إسناد صحيح، وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد، وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وعبدالرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة.
ونحن نسوقها لتقربها عيون أهل القرآن، وتشجي بها حلوق أهل سماع الشيطان، ثم ساقها كلها).
ولولا طلب الاختصار لنقلتها لك-أيها القارئ الكريم-ولكني أحيل الراغب في الاطلاع عليها على كتاب الإغاثة، حتى يرى ويسمع ما تقر به عينه ويشفى به قلبه، وهي على كثرتها وتعدد مخارجها حجة ظاهرة وبرهان قاطع على تحريم الأغاني والملاهي والتنفير منها، تضاف إلى ما تقدم من الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الأغاني والمعازف، ويدل الجميع على أن استعمالها والاشتغال بها من وسائل غضب الله وحلول عقوبته، والضلال والإضلال عن سبيله، نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من ذلك، والسلامة من مضلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأما كلام العلماء في الأغاني والمعازف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهو كثير جدًا، وقد سبق لك بعضه، وإليك جملة من كلامهم على سبيل التكملة والتأييد لما تقدم، والله ولي التوفيق.
روى علي بن الجعد وغيره عن عبدالله بن مسعود أنه قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع)، وقد روى ذلك عن النبي ﷺ مرفوعًا، والمحفوظ أنه من كلام ابن مسعود .
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الإغاثة لما ذكر هذا الأثر ما نصه: (فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب، من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا، بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة، لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطبب الناس.
فاعلم أن للغناء خواص، لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه: أنه يلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ، وهو جاسوس القلب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب على محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة؛ فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.
فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبة الذباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين)، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
وقال بعض العارفين: (السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم).
وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش. وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقًا، فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان -كما سيأتي- فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا.
وأيضًا فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرًا، أو يظهر النسك فيكون منافقًا، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.
وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل: قول بالحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن. والنفاق قول الباطل وعمل البغي، وهذا ينبت على الغناء.
وأيضًا فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضًا: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق.
وأيضًا: فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك.
وأيضًا: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات. قال الضحاك: (الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب).
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء.
فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل القرآن، تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق).
وقال ابن القيم في موضع آخر من الإغاثة: (قال الإمام أبو بكر الطرطوشي [وهو من أئمة المالكية] في خطبة كتابه في تحريم السماع: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقًا فنتبعه، والباطل باطلًا فنتجنبه وقد كان الناس فيما مضى يستسر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل وقل العلم وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارًا ثم ازداد الأمر إدبارًا، حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم، استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله، وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء وحملة الدين: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصي الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها، والله ولي التوفيق.
ثم قال: أما مالك فإنه ينهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب، وسئل مالك -رحمه الله- عما رخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، قال: وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب. وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم: لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافًا أيضًا بين أهل البصرة في المنع منه) انتهى كلام الطرطوشي. قلت مراده بالطائفة التي أحبت الغناء واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله، جماعة من الصوفية أحدثوا بدعة سماع الغناء، وزعموا أنه ينشطهم على العبادة والتقرب إلى الله بأنواع القربات، فأنكر علماء زمانهم عليهم ذلك وصاحوا بهم من كل جانب، وأجمع علماء الحق على أن ما أحدثته هذه الطائفة بدعة منكرة، وألف الطرطوشي كتابه المشار إليه في الرد عليهم وبيان بطلان مذهبهم.
ومن هنا يعلم القارئ أن المفتونين بسماع الغناء والملاهي طائفتان:
الطائفة الأولى: اتخذته دينا وعبادة وهم شر الطائفتين وأشدهما إثمًا وخطرًا؛ لكونهم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله وجعلوا الغناء والملاهي اللذين هما أداة الفسق والعصيان دينا يتقربون به إلى الملك الديان.
الطائفة الثانية: اتخذوا الغناء والملاهي لهوًا ولعبًا وترويحًا عن النفوس وتسليًا بذلك عن مشاغل الدنيا وأتعابها، وهم مخطؤون في ذلك، وعلى خطر عظيم من الضلال والإضلال، ولكنهم أخف من الطائفة الأولى لكونهم لم يتخذوا ذلك دينًا وعبادة، وإنما اتخذوه لهوًا ولعبًا وتجميما للنفوس، وقد صرح أهل العلم بتحريم هذا وهذا، وإنكار هذا وهذا، ثم قال العلامة ابن القيم-رحمة الله عليه-بعد ما نقل كلام الطرطوشي المتقدم ما نصه: قلت مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: أن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثًا لا يصح رفعه قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره.
وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: أدخل عليهم بغير إذنهم؛ لأن النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض، قالوا ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه أو ضربه سياطًا، ومن شاء أزعجه عن داره.
وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ.
قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ولا تصح يعني الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافًا، وقال في المهذب: ولا يجوز على المنافع المحرمة كالغناء؛ لأنه محرم فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم، فقد تضمن كلام الشيخ أمورًا.
أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.
الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضًا عن الميتة والدم.
الرابع: أنه لا يجوز لرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك فإنه بذل ماله في مقابلة محرم، وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة.
الخامس: أن الزمر حرام، وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حرامًا فكيف بما هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه أنه من شعار العشاق وشاربي الخمور.
وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته
القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء بما هو من شعار شاربي الخمر، وهو مطرب، كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه، قال: وفي اليراع وجهان: صحح البغوي التحريم، ثم ذكر عن الغزالي الجواز، قال والصحيح تحربم اليراع وهو الشبابة، وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابًا في تحريم اليراع.
وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه: (وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتبر بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدف منفردًا، فمن لا يحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد اختلافًا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع بهذه الملاهي، وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد، قال: وقولهم في السماع المذكور أنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء المسلمين منهما، المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه، والشافعي وقدماء أصحابه والعارفون بمذهبه من أغلظ الناس قولًا في ذلك، وقد تواتر عن الشافعي أنه قال: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن. فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد في الدنيا يغني به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه، فليت شعري ما يقول في من سماع التغبير عنده كتفلة في بحر، قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم، فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل.
قال سفيان بن عيينة: (كان يقال احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين).
وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبدالله ابنه: سألت أبي عن الغناء قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني) ثم ذكر قول مالك: (إنما يفعله عندنا الفساق) قال عبدالله: وسمعت أبي يقول: سمعت يحيى القطان يقول: (لو أن رجلًا عمل بكل رخصة: بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقًا). قال أحمد: وقال سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله) ونص على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها، وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان، ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة) فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفًا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين فقال: (لا تباع إلا على أنها ساذجة، ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام)
وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد فمن أعظم المحرمات وأشدها فساد للدين.
قال الشافعي-رحمه الله: (وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته) وأغلظ القول فيه وقال: (هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثًا). قال القاضي أبو الطيب: (وإنما جعل صاحبها سفيهًا لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا).
قال: وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول: (وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن) قال: (وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما) قلت: يريد بهما إبراهيم بن سعد وعبيد الله بن الحسن فإنه قال: (وما خالف في الغناء إلا رجلان إبراهيم بن سعد، فإن الساجي حكى عنه أنه كان لا يرى به بأسًا، والثاني عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهو مطعون فيه) انتهى كلام ابن القيم-رحمه الله.
ونقل القرطبي في تفسيره عن الطبري ما نصه: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري، انتهى. قلت وإبراهيم بن سعد وعبيد الله بن الحسن العنبري من ثقات أتباع التابعين، ولعل ما نقل عنهما من سماع الغناء إنما هو في الشيء القليل الذي يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ولا يجوز حملهما على سماع الغناء المحرم، وهكذا ما يروى عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب من سماع الغناء وشراء الجواري المغنيات، يجب أن يحمل على الشيء اليسير الذي لا يصد عن الحق ولا يوقع في الباطل، مع أن ابن عمر والحسن البصري قد أنكرا عليه ذلك.
ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق أولى بالاتباع، وأنه لا يجوز مخالفة الجماعة والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان، بل يجب حمل أهلها على أحسن المحامل، مهما وجد إلى ذلك من سبيل، إذا كانوا أهلًا لإحسان الظن بهم لما عرف من تقواهم وإيمانهم. وسبق لك أيها القارئ قول سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله).
وذكر القرطبي في تفسيره ما نصه (قال أبو الفرج: وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل شهادة المغني والرقاص، قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة لا يجوز، وقد ادعى ابن عبدالبر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك) انتهى ما نقله القرطبي.
وهذا آخر ما تيسر إملاؤه في هذه المسألة-أعني مسألة الأغاني والمعازف-ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار وكلام أهل العلم لطال بنا الكلام، وفيما تقدم كفاية ومقنع لطالب الحق.
وأما صاحب الهوى فلا حيلة فيه، ونسأل الله لنا ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه وموجبات نقمه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصيحتي لأبي تراب وغيره من المشغوفين بالغناء والمعازف أن يراقبوا الله ويتوبوا إليه وأن ينيبوا إلى الحق؛ لأن الرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة، ولولا طلب الاختصار لنبهنا على جميع ما وقع في مقال أبي تراب من الأخطاء، وصاحب البصيرة يعرف ذلك مما تقدم، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم[1].
فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان، ولقد أنكر أهل العلم قديمًا على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة وعابوه بها، وجرى عليه بسببها محن كثيرة، فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه وعن سائر المسلمين.
ولقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم، ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير برهان، وأخبر أن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116، 117] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُواا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169] فحذر الله سبحانه عباده في هذه الآيات الكريمات من التحليل والتحريم بغير علم، وبين سبحانه أن القول عليه بغير علم في رتبة رهيبة فوق الشرك، ونبه عباده على أن الشيطان يحب منهم القول على الله بغير علم، ويأمرهم به ليفسد عليهم بذلك دينهم وأخلاقهم ومجتمعهم.
فالواجب على كل مسلم أن يحذر القول على الله بغير علم، وأن يخاف الله سبحانه ويراقبه فيما يحلل ويحرم، وأن يتجرد من الهوى والتقليد الأعمى، وأن يقصد إيضاح حكم الله لعباد الله على الوجه الذي بينه الله في كتابه، أو أرشد إليه رسوله ﷺ في سنته؛ نصحًا لله ولعباده، وحذرًا من كتمان العلم، ورغبة في ثواب الله على ذلك، فنسأل الله لنا ولسائر إخواننا التوفيق لهذا المسلك الذي سلكه أهل العلم والإيمان، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيء قدير.
وأنا ذاكر لك أيها القارئ-إن شاء الله-ما وقع في كلام أبي تراب وإمامه أبي محمد من الأخطاء، وموضح لك ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة والآثار في تحريم الغناء وآلات الملاهي، وذاكر من كلام أهل العلم في هذا الباب ما يشفي ويكفي؛ حتى تكون من ذلك على صراط مستقيم، وحتى يزول عن قلبك-إن شاء الله-ما قد علق به من الشبه والشكوك التي قد يُبتلى بها من سمع مقال أبي تراب وأضرابه من الكُتّاب، وبالله نستعين، وعليه نتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو تراب: (وتحقيق المسألة أن الغناء وآلاته والاستماع إليه: مباح، لم يرد في الشريعة-التي جاء بها محمد ﷺ نص ثابت في تحريمه البتة، والأدلة تؤخذ من الأصلين، وهما الكتاب والسنة، وما سواهما فهو شغب وباطل مردودة، ولا يحل لمؤمن أن يعدو حدود الله قطعًا... إلى أن قال في أثناء مقاله: قال الحافظ أبو محمد ابن حزم: بيع الشطرنج والمزامير والعيدان والمعازف والطنابير، حلال كله، من كسر شيئًا من ذلك ضمنه إلا أن يكون صورة مصورة، فلا ضمان على كاسرها، لما ذكرنا من قبل؛ لأنها مال من مال مالكها).
أقول: لقد أخطأ أبو محمد، وأخطأ بعده أبو تراب في تحليل ما حرم الله من الأغاني وآلات الملاهي، وفتحا على الناس أبواب شر عظيم، وخالفا بذلك سبيل أهل الإيمان وحملة السنة والقرآن، من الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإن ذلك لعظيم، وخطره جسيم، فنسأل الله لنا وللمسلمين العافية من زيغ القلوب ورين الذنوب، وهمزات الشيطان، إنه جواد كريم.
ولقد ذهب أكثر علماء الإسلام وجمهور أئمة الهدى إلى تحريم الأغاني وجميع المعازف، وهي آلات اللهو كلها، وأوجبوا كسر آلات المعازف وقالوا: (لا ضمان على متلفها)، وقالوا: (إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف، كالطبل والمزمار والعود وأشباه ذلك، حرم بالإجماع) إلا ما يستثنى من ذلك من دق النساء الدف في العرس ونحوه، على ما يأتي بيانه-إن شاء الله تعالى-وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح إجماع علماء الإسلام على ما ذكرنا من تحريم الأغاني والمعازف إذا اجتمعا، كما سيأتي نص كلامه فيما نقله عنه العلامة ابن القيم-رحمه الله، وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب ومرضها، وصدها عن القرآن الكريم واستماع العلوم النافعة، ولا شك أن ذلك من مكايد الشيطان، التي كاد بها الناس، وصاد بها من نقص علمه ودينه، حتى استحسن سماع قرآن الشيطان ومزموره، بدلًا من سماع كتاب الله وأحاديث رسوله ﷺ.
ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي، ووصفوه بالسفه والفسق، وقالوا: لا تقبل شهادته، كما سيأتي بعض كلامهم في ذلك-إن شاء الله، وما ذلك إلا لما ينشأ عن الاشتغال بالغناء والمعازف من ضعف الإيمان، وقلة الحياء والورع، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، ولما يبتلي به أرباب الغناء والمعازف من شدة الغفلة، والارتياح إلى الباطل، والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنا واللواط وشرب الخمور، ومعاشرة النسوان والمردان، إلا من عصم الله من ذلك. ومعلوم عند ذوي الألباب ما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال.
وإليك-أيها القارئ الكريم-بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف من آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول ﷺ.
قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6، 7] قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره عند هاتين الآيتين ما نصه: (لما ذكر حال السعداء وهم: الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلََ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الآية [الزمر:23] عطف بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء والألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: هو والله الغناء.
وروى ابن جرير حدثني يونس بن عبدالأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني يزيد بن يونس عن أبي صخر عن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبدالله ابن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فقال عبدالله بن مسعود: الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات. حدثنا عمرو بن علي حدثنا صفوان بن عيسى أخبرنا حميد الخراط عن عمار عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء أنه سأل ابن مسعود عن قول الله: وَمِنَ النَّاسِِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: الغناء؛ وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن بديمة، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، في الغناء والمزامير. وقال قتادة: قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، والله لعله لا ينفق فيه مالًا، ولكن شراؤه استحبابه بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع) انتهى كلامه.
فتأمل-أيها القارئ الكريم-هاتين الآيتين الكريمتين، وكلام هذا الإمام في تسيرهما، وما نقل عن أئمة السلف في ذلك يتضح لك ما وقع فيه أرباب الأغاني والملاهي من الخطر العظيم، وتعلم بذلك صراحة الآية الكريمة في ذمهم وعيبهم، وأن اشتراءهم للهو الحديث، واختيارهم له من وسائل الضلال والإضلال، وإن لم يقصدوا ذلك أو يعلموه، وذلك لأن الله سبحانه مدح أهل القرآن في أول السورة، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة، وأخبر أنهم أهل الهدى والفلاح، حيث قال : بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [لقمان:1-5] ثم قال سبحانه بعد هذا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية [لقمان:6] وذلك يدل على ذم هؤلاء المشترين، وتعرضهم للضلال بعد الهدى، وما كان وسيلة للضلال والإضلال فهو مذموم، يجب أن يحذر ويبتعد عنه، وهذا الذي قاله الحافظ ابن كثير في تفسير الآية قاله غيره من أهل التفسير كابن جرير والبغوي والقرطبي وغير واحد، حتى قال الواحدي في تفسيره: أكثر المفسرين على أن لهو الحديث هو الغناء، وفسره آخرون بالشرك، وفسره جماعة بأخبار الأعاجم وبالأحاديث الباطلة التي تصد عن الحق؛ وكلها تفاسير صحيحة؛ لا منافاة بينها، والآية الكريمة تذم من اعتاد ما يصد عن سبيل الله ويلهيه عن كتابه، ولا شك أن الأغاني وآلات الملاهي من أقبح لهو الحديث الصاد عن كتاب الله وعن سبيله، قال أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- في تفسيره-لما ذكر أقوال المفسرين في لهو الحديث-ما نصه: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: عني به كل ما كان من الحديث ملهيًا عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسوله؛ لأن الله تعالى عم بقوله: لَهْوَ الْحَدِيثِ ولم يخصص بعضًا دون بعض، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدل على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك) انتهى كلامه.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ (من) في موضع رفع بالابتداء، ولهو الحديث الغناء في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، ثم بسط الكلام في تفسير هذه الآية، ثم قال: المسألة الثانية: وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا يختلف في تحريمه؛ لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق، فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة وسلمة بن الأكوع، فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام) انتهى كلامه.
وهذا الذي قاله القرطبي كلام حسن، وبه تجتمع الآثار الواردة في هذا الباب، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة-رضي الله عنها-قالت: (دخل عليَّ النبي ﷺ وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي ﷺ، فأقبل عليه رسول الله، فقال: دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا وفي رواية لمسلم فقال رسول الله: يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا. وفي رواية له أخرى، فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد وفي بعض رواياته أيضًا: جاريتان تلعبان بدف فهذا الحديث الجليل يستفاد منه أن كراهة الغناء وإنكاره وتسميته مزمار الشيطان أمر معروف مستقر عند الصحابة- ، ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها، وسماه مزمار الشيطان، ولم ينكر عليه النبي ﷺ تلك التسمية، ولم يقل له: إن الغناء والدف لا حرج فيهما وإنما أمره أن يترك الجاريتين، وعلل ذلك بأنها أيام عيد، فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذا للجواري الصغار في أيام العيد؛ لأنها أيام فرح وسرور، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا غناء الأنصار الذي تقاولوا به يوم بعاث، فيما يتعلق بالشجاعة والحرب، بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم، فإنه يثير الغرائز الجنسية، ويدعو إلى عشق الصور، وإلى كثير من الفتن الصادة للقلوب عن تعظيم الله ومراعاة حقه، فكيف يجوز لعاقل أن يقيس هذا على هذا؟! ومن تأمل هذا الحديث علم أن ما زاد على ما فعلته الجاريتان منكر، يجب التحذير منه حسمًا لمادة الفساد، وحفظًا للقلوب عما يصدها عن الحق، ويشغلها عن كتاب الله وأداء حقه.
وأما دعوى أبي تراب أن هذا الحديث حجة على جواز الغناء مطلقًا، فدعوى باطلة؛ لما تقدم بيانه، والآيات والأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، كلها تدل على بطلان دعواه. وهكذا الحديث الذي رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن عامر بن سعد البجلي أنه رأى أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب وثابت بن يزيد، وهم في عرس وعندهم غناء، فقلت لهم: (هذا وأنتم أصحاب رسول الله، فقالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح) فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقًا، وإنما يدل على جوازه في العرس لإعلان النكاح، ومن تأمل هذا الحديث عرف أنه دليل على منع الغناء، لا على جوازه، فإنه ﷺ لما رخص لهم "في الغناء" في العرس لحكمة معلومة، دل على منعه فيما سواه إلا بدليل خاص، كما أن الرخصة للمسافر في قصر الرباعية يدل على منع غيره من ذلك، وهكذا الرخصة للحائض والنفساء في ترك طواف الوداع يدل على منع غيرهما من ذلك، والأمثلة لهذا كثيرة، وأيضا فإنكار عامر بن سعد على هؤلاء الصحابة الغناء وإقرارهم له على ذلك، دليل على أن كراهة الغناء والمنع منه أمر قد استقر عند الصحابة والتابعين، وعرفوه عن النبي-ﷺ. والله المستعان.
قال العلامة ابن القيم-رحمة الله عليه-في كتابه [إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان] ما نصه: (ومن مكائد عدو الله ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة؛ ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن القرآن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة وحسنه لها مكرًا وغرورًا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجورًا)... إلى أن قال-رحمه الله، ولقد أحسن القائل:
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة | لكنه إطراق ساه لاهي |
وأتى الغناء، فكالحمير تناهقوا | والله ما رقصوا لأجـل الله |
دف ومزمار ونغمة شادن | فمتى رأيت عبـادة بملاهي |
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا | تقييده بأوامر ونواهي |
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى | زجرا وتخويفا بفعل مناهي |
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن | شهواتها، يا ذبحها المتناهي |
وأتى السماع موافقًا أغراضها | فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه |
أين المساعد للهوى من قاطع | أسبابه، عند الجهول الساهي |
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه | خمر العقول مماثل ومضاهي |
فانظر إلى النشوان عند شرابه | وانظر إلى النسوان عند ملاهي |
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه | من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي |
واحكم فأي الخمرتين أحق بالتـ | حريم والتأثيـم عند الله |
برئنا إلى الله من معشر | بهم مرض من سماع الغنا |
وكم قلت: يا قوم أنتم على | شفا جرف ما به من بنا |
شفا جرف تحته هوة | إلى درك كم به من عنا |
وتكرار ذا النصح منا لهم | لنعذر فيهم إلى ربـنا |
فلما استهانوا بتنبيهنا | رجعنا إلى الله في أمرنا |
فعشنا على سنة المصطفى | وماتوا على تنتنا، تنتنا |
شبهة يجب أن تكشف:
زعم أبو تراب. تبعًا لابن حزم، أن قوله سبحانه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6] الآية دليل على أن مشتري لهو الحديث من الأغاني والملاهي لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال أو الإضلال، أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه فلا بأس في ذلك، والجواب أن يقال: هذه شبهة باطلة من وجوه ثلاثة:
الأول: أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين من الآية الكريمة، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها، ولم يقيدوا ذلك بهذا الشرط الذي قاله أبو تراب، وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول ﷺ وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم.
الوجه الثاني: أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها؛ لأن الله سبحانه قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية، ولا قصد للإضلال أو الضلال، ولو كان اشترى لهو الحديث وهو يعلم أنه يضل به أو يقصد ذلك لم يقل الله : لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لأن من علم أنه اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله لا يقال له: إنه لا يعلم، وهكذا من قصد ذلك لا يقال: إنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم؛ لأن من علم أن غايته الضلال أو قصد ذلك قد اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بعلم وقصد، لا ليضل بغير علم، فتأمل وتنبه-أيها القارئ الكريم-يتضح لك الحق، وعليه تكون " اللام " في قوله: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لام العاقبة، أو لام التعليل، أي تعليل الأمر القدري. ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره، وعلى كونها للعاقبة يكون المعنى: أن من اشترى لهو الحديث من الغناء والمعازف، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله، والإضلال واتخاذ سبيل الله هزوًا، والإعراض عن آيات الله استكبارًا واحتقارًا، وإن لم يشعر بذلك ولم يقصده.
وعلى المعنى الثاني، وهو كونها لتعليل الأمر القدري، يكون المعنى: أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله، وعلى كلا التقديرين فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث، ووعيده بأن مصيره إلى الضلال والاستهزاء بسبيل الله، والتولي عن كتاب الله، وهذا هو الواقع الكثير، والمشاهد ممن اشتغل بلهو الحديث من الأغاني والمعازف، واستحسنها وشغف بها، يكون مآله إلى قسوة القلب والضلال عن الحق إلا من رحم الله.
وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة في مصادرها ومواردها على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد والتحذير منها، حذرًا من الوقوع في غاياتها، كما نهى النبي عن شرب القليل الذي لا يسكر، حذرًا من الوقوع في المسكر، حيث قال-عليه الصلاة والسلام: ما أسكر كثيره فقليله حرام ونهى عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما وقع فيه بعض المشركين من عبادة الشمس عند طلوعها وغروبها، ونظائر ذلك كثيرة يعرفها من له أدنى علم بالشريعة المطهرة، والله المستعان.
الوجه الثالث: أنه لو كان الذم مختصًا بمن اشترى لهو الحديث لقصد الضلال أو الإضلال، لم يكن في تنصيص الرب على لهو الحديث فائدة؛ لأن الذم حينئذ لا يختص به، بل يعم كل من فعل شيئًا يقصد به الضلال أو الإضلال، حتى ولو كان ذلك الشيء محبوبًا إلى الله ، كمن اشترى مصحفًا يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه ، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير، وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه، وزعما أن الآية تختص بهذا الصنف، وهو خطأ بين، وعدول بالآية عن معناها الصحيح، وإضاعة لمعناها الأكمل.
فعرفت -أيها القارئ الكريم- من هذه الأوجه الثلاثة، كشف شبهة أبي تراب وبطلانها، واتضح لك أن الآية الكريمة حجة ظاهرة على ذم الأغاني والملاهي وتحريمهما، وأنها وسيلة للضلال والإضلال والسخرية بسبيل الله والإعراض عن كتابه، وإن لم يشعر مشتروها بذلك، وهذا هو الذي فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة، وهم أولى بالاتباع- ، وسبق لك كشف شبهة أبي تراب في تعلقه بحديث الجاريتين، وكشف شبهته الأخرى في تعلقه بحديث أبي مسعود البدري وصاحبيه في الرخصة لهم في الغناء وقت العرس، وأوضحنا فيما تقدم أن الحديثين المذكورين حجة ظاهرة على أبي تراب وإمامه ابن حزم في النهي عن الأغاني والمنع منها لا على جوازها، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وقد تكلم العلامة ابن القيم -رحمه الله- على الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الآية [لقمان:6] بكلام حسن يؤيد ما تقدم وهذا نصه قال-رحمه الله: (قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبدالله بن مسعود في رواية أبى الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة، وروى ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6] قال: هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلًا ونهارًا، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل، وهذا قول مكحول، وهذا اختيار أبي إسحاق أيضًا، وقال: أكثر ما جاء في التفسير، أن لهو الحديث هاهنا، هو الغناء؛ لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى.
قال الواحدي: قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن، قال: ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية؛ لعله أن لا يكون أنفق مالًا، قال: وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير، تدل على تحريم الغناء، قال: وأما غناء القينات فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي قال: من استمع إلى قينة صب في أذنه الآنك يوم القيامة. والآنك الرصاص المذاب.
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعًا إلى النبي-ﷺ، ففي مسند الإمام أحمد، ومسند عبدالله بن الزبير الحميدي، وجامع الترمذي من حديث أبي أمامة، والسياق للترمذي أن النبي ﷺ قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهذا الحديث، وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف إلا أن للحديث شواهد ومتابعات سنذكرها إن شاء الله تعالى.
ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء، فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6] فقال: والله الذي لا إله إلا هو، هو الغناء، يرددها ثلاث مرات، وصح عن ابن عمر-رضي الله عنهما-أيضًا أنه الغناء، قال الحاكم أبو عبدالله في التفسير من كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند، وقال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع، وهذا وإن كان فيه نظرة فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله في كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول علمًا وعملًا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل، ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم ونحو ذلك، مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة، يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث.
ولهذا قال ابن عباس: لهو الحديث الباطل والغناء، فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما، والغناء أشد لهوًا وأعظم ضررًا من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنا، ومنبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.
إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه، لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا، وإذا يتلى عليه القرآن ولى مستكبرًا، كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرًا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئًا استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرًا، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم، يوضحه أنك لا تجد أحدًا عني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علمًا وعملًا، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن، عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ، ويستطيل قراءته ويستزيد المغني ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا أن يناله نصيب وافر من هذا الذم إن لم يحظ به جميعه.
والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41] انتهى كلامه-رحمه الله.
ومن الآيات الدالة على ذم الأغاني والمعازف، وهي آلات الملاهي قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا [الإسراء:64] وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72] وقد فسر الصوت والزور: بالغناء وآلات الملاهي، وفسر الصوت أيضًا: بكل صوت يدعو إلى باطل، وفسر الزور بكل منكر، ولا منافاة بين التفاسير، ومدلول الآيتين، يعم ذلك كله، ولا ريب أن الأغاني والملاهي من أقبح الزور، ومن أخبث أصوات الشيطان لما يترتب عليها من قسوة القلوب، وصدها عن ذكر الله وعن القرآن، بل وعن جميع الطاعات إلا من رحم الله، كما قد سلف بيان ذلك.
وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي فكثيرة، وأصحها ما رواه البخاري في صحيحه، حيث قال: وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي ﷺ يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف وهو صريح في ذم مستحلي المعازف، حيث قرنهم مع مستحلي الزنا والخمر والحرير، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال المعازف، وهي آلات الملاهي، كالطنبور والعود والطبل وغير ذلك من آلات الملاهي.
وقد أجمع أهل اللغة على تفسير المعازف بآلات الملاهي، وما ذاك إلا لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها، واشتغالها عن الصلاة والقرآن، وإذا انضم إليه الغناء صار الإثم أكبر والفساد أعظم، كما سيأتي كلام أهل العلم في ذلك، وقد تقدم لك بعضه، وأما الحر: فيروى بالحاء المهملة والراء، وهو الفرج، والمراد به الزنا، ويروى بالخاء المعجمة والزاي، وهو نوع من الحرير.
وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث، وتلقوه بالقبول، واحتجوا به على تحريم المعازف كلها، وقد أعله ابن حزم وأبو تراب بعده، تقليدًا له بأنه منقطع بين البخاري -رحمه الله- وبين شيخه هشام بن عمار؛ لكونه لم يصرح بسماعه منه، وإنما علقه عنه تعليقًا، وقد أخطأ ابن حزم في ذلك، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول، وخطؤوه فيه؛ لأن هشامًا من شيوخ البخاري، وقد علقه عنه جازمًا به، وما كان كذلك فهو صحيح عنده، وقد قبل منه أهل العلم ذلك وصححوا ما علقه جازمًا به إلى من علقه عنه، وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة، ولعل البخاري لم يصرح بسماعه منه لكونه رواه عنه بالإجازة، أو في معرض المذاكرة، أو لكونه رواه عنه بواسطة بعض شيوخه الثقات، فحذفه اختصارًا، أو لغير ذلك من الأسباب المقتضية للحذف. وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام، فقد رواه عنه غيره متصلًا، عن هشام بن عمار.. إلخ. بأسانيد صحيحة، وبذلك بطلت شبهة ابن حزم ومقلده أبي تراب، واتضح الحق لطالب الحق، والله المستعان.
وإليك أيها القارئ الكريم كلام أهل العلم في هذا الحديث، وتصريحهم بخطأ ابن حزم في تضعيفه، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري -رحمه الله- لما ذكر هذا الحديث، وذكر كلام الزركشي، وتخطئته ابن حزم في تضعيفه، قال ما نصه: (وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها-يعني الزركشي-فقد سبقه إليها ابن الصلاح في علوم الحديث، فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجًا ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف، ولا التفات إلى أبي محمد ابن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر وأبي مالك الأشعري عن رسول الله ﷺ: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف الحديث من جهة أن البخاري أورده قائلا: وقال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم، أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابًا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتصال، بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك، لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندًا متصلًا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصحبها خلل الانقطاع) انتهى.
ثم قال الحافظ بعدما نقل كلام ابن الصلاح المذكور بأسطر ما نصه: (وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحًا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه، لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولًا إلى من علق عنه بشرط الصحة، أزال الإشكال، ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع، وصنفت كتاب [تغليق التعليق] وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي، وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار، جاء عنه موصولًا في مستخرج الإسماعيلي، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار، وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين، فقال: حدثنا محمد بن يزيد بن عبدالصمد حدثنا هشام بن عمار، قال وأخرجه أبو داود في سننه، فقال: حدثنا عبدالوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر بسنده). انتهى.
وقال العلامة ابن القيم-رحمة الله عليه-في الإغاثة، لما ذكر هذا الحديث ما نصه: (هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه محتجًا به وعلقه تعليقًا مجزومًا به، فقال: باب فيمن يستحل الخمر، ويسميه بغير اسمه، وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري-والله ما كذبني-أنه سمع النبي ﷺ يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئًا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع؛ لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: قال هشام، فهو بمنزلة قوله عن هشام.
الثاني: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه، إلا وقد صح عنده أنه حدث به، وهذا كثيرًا ما يكون لكثرة ما رواه عنه، عن ذلك الشيخ وشهرته، فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس.
الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجًا به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة، التمريض، فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه، يقول: ويروى عن رسول الله ﷺ، ويذكر عنه، ونحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله ﷺ، قد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحًا، فالحديث صحيح، متصل عند غيره، قال أبو داود في كتاب [اللباس]: حدثنا عبدالوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس قال: سمعت عبدالرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك فذكره مختصرًا، ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه: [الصحيح]، مسندًا، فقال أبو عامر ولم يشك.
ووجه الدلالة منه أن المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالًا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز، فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صح عن الصحابة لبسه، إذ الخز نوعان: أحدهما: من حرير، والثاني: من صوف، وقد روى هذا الحديث من وجهين.
وقال ابن ماجه في سننه، حدثنا عبدالله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن ابن أبي مريم عن عبدالرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير وهذا إسناد صحيح، وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير، وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد، وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وعبدالرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة.
ونحن نسوقها لتقربها عيون أهل القرآن، وتشجي بها حلوق أهل سماع الشيطان، ثم ساقها كلها).
ولولا طلب الاختصار لنقلتها لك-أيها القارئ الكريم-ولكني أحيل الراغب في الاطلاع عليها على كتاب الإغاثة، حتى يرى ويسمع ما تقر به عينه ويشفى به قلبه، وهي على كثرتها وتعدد مخارجها حجة ظاهرة وبرهان قاطع على تحريم الأغاني والملاهي والتنفير منها، تضاف إلى ما تقدم من الآيات والأحاديث الدالة على تحريم الأغاني والمعازف، ويدل الجميع على أن استعمالها والاشتغال بها من وسائل غضب الله وحلول عقوبته، والضلال والإضلال عن سبيله، نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من ذلك، والسلامة من مضلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأما كلام العلماء في الأغاني والمعازف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهو كثير جدًا، وقد سبق لك بعضه، وإليك جملة من كلامهم على سبيل التكملة والتأييد لما تقدم، والله ولي التوفيق.
روى علي بن الجعد وغيره عن عبدالله بن مسعود أنه قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع)، وقد روى ذلك عن النبي ﷺ مرفوعًا، والمحفوظ أنه من كلام ابن مسعود .
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الإغاثة لما ذكر هذا الأثر ما نصه: (فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب، من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا، بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة، لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطبب الناس.
فاعلم أن للغناء خواص، لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه: أنه يلهي القلب، ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضاد، فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله، ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ، وهو جاسوس القلب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب على محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة؛ فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.
فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبة الذباب، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين)، ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا | على طيب السماع إلى الصباح؟ |
ودارت بيننا كأس الأغاني | فأسكرت النفوس بغير راح |
فلم تر فيهم إلا نشاوى | سرورا والسرور هناك صاحي |
إذا نادى أخو اللذات فيه | أجاب اللهو: حي على السماح |
ولم نملك سوى المهجات شيئًا | أرقناها لألحاظ الملاح |
وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش. وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقًا، فما للنفاق حقيقة.
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان -كما سيأتي- فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا.
وأيضًا فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرًا، أو يظهر النسك فيكون منافقًا، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر، وهذا محض النفاق.
وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل: قول بالحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن. والنفاق قول الباطل وعمل البغي، وهذا ينبت على الغناء.
وأيضًا فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضًا: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق.
وأيضًا: فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك.
وأيضًا: فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات. قال الضحاك: (الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب).
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء.
فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل القرآن، تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق).
وقال ابن القيم في موضع آخر من الإغاثة: (قال الإمام أبو بكر الطرطوشي [وهو من أئمة المالكية] في خطبة كتابه في تحريم السماع: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقًا فنتبعه، والباطل باطلًا فنتجنبه وقد كان الناس فيما مضى يستسر أحدهم بالمعصية إذا واقعها ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل وقل العلم وتناقص الأمر حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارًا ثم ازداد الأمر إدبارًا، حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين وفقنا الله وإياهم، استزلهم الشيطان واستغوى عقولهم في حب الأغاني واللهو وسماع الطقطقة والنقير، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله، وجاهرت به جماعة المسلمين وشاقت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء وحملة الدين: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] فرأيت أن أوضح الحق وأكشف عن شبه أهل الباطل بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله، وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصي الأرض ودانيها حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها، والله ولي التوفيق.
ثم قال: أما مالك فإنه ينهى عن الغناء وعن استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب، وسئل مالك -رحمه الله- عما رخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، قال: وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب. وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم: لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافًا أيضًا بين أهل البصرة في المنع منه) انتهى كلام الطرطوشي. قلت مراده بالطائفة التي أحبت الغناء واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله، جماعة من الصوفية أحدثوا بدعة سماع الغناء، وزعموا أنه ينشطهم على العبادة والتقرب إلى الله بأنواع القربات، فأنكر علماء زمانهم عليهم ذلك وصاحوا بهم من كل جانب، وأجمع علماء الحق على أن ما أحدثته هذه الطائفة بدعة منكرة، وألف الطرطوشي كتابه المشار إليه في الرد عليهم وبيان بطلان مذهبهم.
ومن هنا يعلم القارئ أن المفتونين بسماع الغناء والملاهي طائفتان:
الطائفة الأولى: اتخذته دينا وعبادة وهم شر الطائفتين وأشدهما إثمًا وخطرًا؛ لكونهم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله وجعلوا الغناء والملاهي اللذين هما أداة الفسق والعصيان دينا يتقربون به إلى الملك الديان.
الطائفة الثانية: اتخذوا الغناء والملاهي لهوًا ولعبًا وترويحًا عن النفوس وتسليًا بذلك عن مشاغل الدنيا وأتعابها، وهم مخطؤون في ذلك، وعلى خطر عظيم من الضلال والإضلال، ولكنهم أخف من الطائفة الأولى لكونهم لم يتخذوا ذلك دينًا وعبادة، وإنما اتخذوه لهوًا ولعبًا وتجميما للنفوس، وقد صرح أهل العلم بتحريم هذا وهذا، وإنكار هذا وهذا، ثم قال العلامة ابن القيم-رحمة الله عليه-بعد ما نقل كلام الطرطوشي المتقدم ما نصه: قلت مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق، وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: أن السماع فسق، والتلذذ به كفر، هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثًا لا يصح رفعه قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره.
وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: أدخل عليهم بغير إذنهم؛ لأن النهي عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن لامتنع الناس من إقامة الفرض، قالوا ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه أو ضربه سياطًا، ومن شاء أزعجه عن داره.
وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ.
قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ولا تصح يعني الإجارة على منفعة محرمة كالغناء والزمر وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافًا، وقال في المهذب: ولا يجوز على المنافع المحرمة كالغناء؛ لأنه محرم فلا يجوز أخذ العوض عنه كالميتة والدم، فقد تضمن كلام الشيخ أمورًا.
أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.
الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.
الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل بمنزلة أكله عوضًا عن الميتة والدم.
الرابع: أنه لا يجوز لرجل بذل ماله للمغني ويحرم عليه ذلك فإنه بذل ماله في مقابلة محرم، وأن بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة.
الخامس: أن الزمر حرام، وإذا كان الزمر الذي هو أخف آلات اللهو حرامًا فكيف بما هو أشد منه كالعود والطنبور واليراع، ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه أنه من شعار العشاق وشاربي الخمور.
وكذلك قال أبو زكريا النووي في روضته
القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء بما هو من شعار شاربي الخمر، وهو مطرب، كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه، قال: وفي اليراع وجهان: صحح البغوي التحريم، ثم ذكر عن الغزالي الجواز، قال والصحيح تحربم اليراع وهو الشبابة، وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابًا في تحريم اليراع.
وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة والغناء فقال في فتاويه: (وأما إباحة هذا السماع وتحليله فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتبر بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح هذا السماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي إنما نقل في الشبابة منفردة والدف منفردًا، فمن لا يحصل أو لا يتأمل ربما اعتقد اختلافًا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع بهذه الملاهي، وذلك وهم بين من الصائر إليه تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه، ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء وأخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد، قال: وقولهم في السماع المذكور أنه من القربات والطاعات قول مخالف لإجماع المسلمين، ومن خالف إجماعهم فعليه ما في قوله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء المسلمين منهما، المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه، والشافعي وقدماء أصحابه والعارفون بمذهبه من أغلظ الناس قولًا في ذلك، وقد تواتر عن الشافعي أنه قال: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن. فإذا كان هذا قوله في التغبير وتعليله أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد في الدنيا يغني به مغن فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة على توقيع غنائه، فليت شعري ما يقول في من سماع التغبير عنده كتفلة في بحر، قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم، فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل.
قال سفيان بن عيينة: (كان يقال احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة وجده من هذين المفتونين).
وأما مذهب الإمام أحمد فقال عبدالله ابنه: سألت أبي عن الغناء قال: (الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني) ثم ذكر قول مالك: (إنما يفعله عندنا الفساق) قال عبدالله: وسمعت أبي يقول: سمعت يحيى القطان يقول: (لو أن رجلًا عمل بكل رخصة: بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقًا). قال أحمد: وقال سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله) ونص على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها، وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان، ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية وأرادوا بيعها فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة) فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفًا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين فقال: (لا تباع إلا على أنها ساذجة، ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام)
وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد فمن أعظم المحرمات وأشدها فساد للدين.
قال الشافعي-رحمه الله: (وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته) وأغلظ القول فيه وقال: (هو دياثة فمن فعل ذلك كان ديوثًا). قال القاضي أبو الطيب: (وإنما جعل صاحبها سفيهًا لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا).
قال: وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول: (وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن) قال: (وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما) قلت: يريد بهما إبراهيم بن سعد وعبيد الله بن الحسن فإنه قال: (وما خالف في الغناء إلا رجلان إبراهيم بن سعد، فإن الساجي حكى عنه أنه كان لا يرى به بأسًا، والثاني عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهو مطعون فيه) انتهى كلام ابن القيم-رحمه الله.
ونقل القرطبي في تفسيره عن الطبري ما نصه: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري، انتهى. قلت وإبراهيم بن سعد وعبيد الله بن الحسن العنبري من ثقات أتباع التابعين، ولعل ما نقل عنهما من سماع الغناء إنما هو في الشيء القليل الذي يزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ولا يجوز حملهما على سماع الغناء المحرم، وهكذا ما يروى عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب من سماع الغناء وشراء الجواري المغنيات، يجب أن يحمل على الشيء اليسير الذي لا يصد عن الحق ولا يوقع في الباطل، مع أن ابن عمر والحسن البصري قد أنكرا عليه ذلك.
ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق أولى بالاتباع، وأنه لا يجوز مخالفة الجماعة والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان، بل يجب حمل أهلها على أحسن المحامل، مهما وجد إلى ذلك من سبيل، إذا كانوا أهلًا لإحسان الظن بهم لما عرف من تقواهم وإيمانهم. وسبق لك أيها القارئ قول سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله).
وذكر القرطبي في تفسيره ما نصه (قال أبو الفرج: وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل شهادة المغني والرقاص، قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز فأخذ الأجرة لا يجوز، وقد ادعى ابن عبدالبر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك) انتهى ما نقله القرطبي.
وهذا آخر ما تيسر إملاؤه في هذه المسألة-أعني مسألة الأغاني والمعازف-ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار وكلام أهل العلم لطال بنا الكلام، وفيما تقدم كفاية ومقنع لطالب الحق.
وأما صاحب الهوى فلا حيلة فيه، ونسأل الله لنا ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه وموجبات نقمه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصيحتي لأبي تراب وغيره من المشغوفين بالغناء والمعازف أن يراقبوا الله ويتوبوا إليه وأن ينيبوا إلى الحق؛ لأن الرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة، ولولا طلب الاختصار لنبهنا على جميع ما وقع في مقال أبي تراب من الأخطاء، وصاحب البصيرة يعرف ذلك مما تقدم، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم[1].
- مجلة راية الإسلام-العددان 2-3 السنة الثانية محرم وصفر سنة 1381 هـ ص 70-75-والرابع والخامس-ربيع الأول والثاني 1381 هـ ص 11-ص 23. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 3/ 391).