حقيقة الإسلام الذي هو دين جميع المخلوقات وليس هو الدين الاختياري الذي يتعلق به الثواب والعقاب لا ولكنه دين بمعنى طاعة قهرية انقيادية لجميع المخلوقات لخالقها وبارئها وبعض ذلك يكون اختياريًا لذلك المخلوق لربه ، فإن الإسلام كما سمعتم في محاضرة الشيخ يتنوع ثلاثة أنواع: نوع لا ثواب عليه ولا عقاب، بل هو شيء خضعت له جميع المخلوقات وأدته جميع المخلوقات طوعًا وكرهًا، وليس هو الدين الذي بعثته به الرسل، ونزلت به الكتب، وترتب عليه الثواب والعقاب على يد الرسل عليهم الصلاة والسلام، بل هو شيء خضع لله لكونه مكنه من ذلك، وقدره عليه ذلك، وشاء منه ذلك، فبمشيئته سبحانه وتقديره كان ذلك الخضوع، وكان ذلك الإسلام من تلك المخلوقات كما قال : أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، هذا هو الإسلام العام للمخلوقات ليس هو الإسلام الذي قال فيه : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، ذاك إسلام فطري قهري من بعض المخلوقات، واختياري من بعضها، لا تستطيع تلك المخلوقات أن تخرج من ذلك الإسلام الذي قدره الله عليها وكتبه عليها وجعله لازما لها، فإن ذلك أمر مقدور عليها لا تستطيع الخروج منه، بل هو أمر قهري قد انقادت له من غير اختيار ولا مشيئة منها، بل شاءه الله منها وسارت عليه بمشيئة سبحانه وتعالى من حيوانات ومن نباتات ومن جبال ومن غير ذلك، فهي منقادة حسب تقديره سبحانه، وحسب إرادته سبحانه لها الإرادة الكونية والمشيئة الكونية كما قال : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18]، هذا السجود منها سجود أراده الله وقدره سبحانه ومكنها منه جل وعلا بمشيئته النافذة وقدرته الشاملة وإرادته الكونية سبحانه وتعالى، وهو سجود لا يعلم كيفيته ولا كنهه إلا هو سبحانه وتعالى في ضمنه الخضوع في ضمنه الذل له لكن كيفيته التي أرادها الله وهي معناها التي في علمه سبحانه هذا إليه سبحانه وتعالى.
وقد أوضح في المحاضرة هذا المعنى، وأن هذه الأشياء من جهة سجودها وتسبيحها وقنوتها وخضوعها واستسلامها هذا أمر واقع منها بتقدير الله وإرادته .
وبين الإسلام الآخر العام الشرعي الذي جاءت به الرسل، وأنه دين الله.
ثم بين الإسلام الخاص الذي جاء به محمد ﷺ بشريعة كاملة منتظمة لمصالح العباد، وقدة أجاد في هذا كله، جازاه الله خيرًا، وأفاد وأوضح ما ينبغي من الأمثلة والأدلة حتى يكون طالب العلم وحتى يكون المستمع على بصيرة وعلى بينة مما يسمع ومما يقال له، فجزاه الله خيرًا، وضاعف مثوبته وزادنا وإياكم وإياه علمًا وهدى وتوفيقًا.
وهذه المسائل مسائل عظيمة ينبغي أن نفقهها جيدًا، وأن تعلم تفاصيلها في الجملة، فالعبد له سجود، والشجر له سجود، والعبد له تسبيح، والشجر له تسبيح، والعبد له خشية، والجبال بعضها قد يهبط من خشية الله وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] ، والعبد له قنوت، والشجر له قنوت، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:26]، يعني ذليلون خاضعون منقادون، والقنوت له معانٍ متعددة، منها: الانقياد للخالق البارئ ، والاستسلام له .
فالقنوت الذي يقع من المخلوقات من غير الجن والإنس والسجود والتسبيح هذا ليس هو التكليف الذي جاءت به الرسل، وليس هو الطاعات التي يثاب عليها العبد بل له شأن آخر.
.......
الإسلام العام والسجود العام والتسبيح العام والهبوط العام هذا يتعلق بجميع المخلوقات، ولله مشيئة نافذة في جميع المخلوقات، قادر أن يصدع هذه الجبال كما يكون يوم القيامة تذهب وتنسف وتكون هباء منبثا بقدرته ، وقادر أن يجعل فيها من الإحساس والاختيار ما تفعل شيئًا تعظيما لله سبحانه وتعالى كما قال : وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] كذلك قال في التسبيح: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] لا تفهمون تسبيح يعلمه ، وأما نحن فلا نعلمه، فقد يكون بعضه اختياريًا منها، والله جل وعلا فطرها عليه وشاءه منها، فهي تسبح باختيارها الذي قدرها الله عليه، وتسجد السجود سجودًا يليق بها، وقد يكون شيئًا قدر عليها ولم يكن لها فيه اختيار بل بتصريف الله لها ومشيئته لها كان ذلك الشيء، وثبت عنه ﷺ أنه قال: إني لأعرف حجرًا بمكة يسلم علي قبل أن يوحى إلي عليه الصلاة والسلام، وكذلك الجذع الذي كان يخطب عنده لما تركه وخطب على المنبر حن حنينًا عظيمًا حنين العشار حتى جاءه وهدأه وضمه حتى سكن، فالله جل وعلا يجعل لمخلوقاته أشياء خاصة تليق بها تليق بجبال وأشجار وحيوانات أخرى، وقد تفعل أشياء طوعًا منها الله جل وعلا شاء ذلك منها وفطرها عليه وجعل فيها مصلحة لها، فقد تخضع لله جل وعلا خضوعًا خاصًا الله جل وعلا جعل لها ذلك وألهمها ذلك، فيقع منها شيء باختيارها، وشيء بغير اختيارها على ما شاءه الله منها سبحانه وتعالى من هذه المخلوقات العجب التي ليست مكلفة وليس لها عقول. فالمقصود أن الإسلام العام هذا شيء إلى الله تصريفه سبحانه وتكوينه، وفهم المراد منه وما تقدمه تلك الحيوانات أو تلك المخلوقات الله الذي يعلمه شيء تفعله طوعًا بقيامها وقعودها وذهابها وإياها، وهكذا الأشجار وغيرها وشيء يكون قهرًا بتصريف الله له حتى جعلها تفعل هذا الشيء، ويكون من هذا الشيء بقدرته العظيمة .