أما ما جاء عن عمر أنه قال -في التراويح لما جمعهم على إمام واحد، وكانوا يصلون متفرقين في عهد النبي ﷺ، يصلي الرجل لنفسه، والرجل يصلي مع الاثنان والثلاثة والأكثر، وهكذا في عهد الصديق وفي أول خلافة عمر، جمعهم النبي ﷺ وصلى بهم ليالي في حياته عليه الصلاة والسلام صلى بهم ليالي وحث على قيام رمضان ورغب فيه وقال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة، فهذا واضح في شرعية الجماعة في التراويح، ولكنه ﷺ قال لهم بعدما قام من ثلاث ليال لم يخرج إليهم وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل، فترك ذك خوفًا عليهم أن تفرض عليهم، فلما توفي عليه الصلاة والسلام وجاء دور عمر رأى جمعهم على إمام واحد، وكان الصديق مدته قليلة وكان مشغولًا بحرب أهل الردة، فلم يتفرغ لهذا الأمر ولم ينظر فيه لشغله عنه بما هو أعظم، ثم نظر فيه عمر وجمعهم على إمام واحد رضي الله عن الجميع، وصاروا يصلون جماعة، فهي في الحقيقة سنة قائمة فعلها النبي عليه الصلاة والسلام، وفعلها المسلمون في عهده عليه الصلاة والسلام، ثم جمعهم عمر على إمام واحد، فلما سماها بدعة هذا من حيث اللغة؛ لأن في اللغة: كل شيء على غير مثال سابق يسمى بدعة، والله جل وعلا قال: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [البقرة:117]؛ لأنه خلقهما على غير مثال سابق، فلهذا قيل: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وبهذا يعلم أن التراويح ليست بدعة من حيث الشرع، بل هي سنة وقربة.
وهكذا جمع المصاحف، فقد جمع ذلك الصديق، وبعده عثمان، فهو من باب حفظ كتاب الله ،من باب العناية بكتاب الله، وهذا أمر مأمور به، وفرض علينا أن نعنى بكتاب الله.
وهكذا الجمعيات الخيرية التي توجد بين الناس هذا من باب التعاون على البر والتقوى، والله أمر بالتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والدعوة إلى الخير، فإن اجتمعت جماعة يتعاونون على تعليم الناس الخير وعلى إرشادهم أو على مواساتهم بالصدقة أو على نشر الكتب بينهم أو غير ذلك مما فيه التعاون على البر والتقوى فليس ذلك من المحدثات، بل مما أمر الله به ورسوله، وقد أمر الله بالتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه.
أما حديث جرير أن النبي قال: من سن في الإسلام سنة حسنة فهذا معناه إحياؤها وإظهارها وليس معناه الإحداث في الدين، بإجماع أهل العلم معنى ذلك إظهار السنن وإحياؤها بين الناس، هذا معنى من سن في الإسلام سنة حسنة، فإن النبي ﷺ قالها في حق من أتى بالمال لما حث النبي ﷺ على الصدقة، لما رأى أناسًا فقراء قام وخطب الناس عليه الصلاة والسلام وحث على الصدقة؛ فجاء بعض الأنصار بصرة من الفضة كادت يده تعجز عنها فلما رآه النبي ﷺ قال: من سن في الإسلام إلى آخره، حثهم بهذا على إظهار السنن، فإن الصدقات أمر معلوم من الشرع، وليس من البدع، فالرسول أراد بهذا حث الناس على إظهار السنن وإحيائها، فإذا كنت في قرية أو في قبيلة مثلًا لا يصلون التراويح أو لا يصلون على جنائز بل يصلون وحدانًا على الجنائز أو ما أشبه ذلك فأحييت السنة ودعوتهم إلى ذلك وأظهرتها بينهم عمك هذا الحديث من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا؛ لأنك أظهرتها ودعوت إليها وأحييتها وقد جهلها الناس أو أماتها الناس.
وهكذا إذا كنت في قرية ليس عندهم أمر ولا نهي عندهم غفلة فقمت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكونت جماعة يقومون بهذا الأمر فقد أحييت السنة، وأظهرت السنة، فلك أجر ذلك، وأجر من عمل بها من بعده؛ لأنك أظهرت السنة فيهم.
وهكذا إذا كنت في بلد ليس فيها من يدرسهم وليس فيهم مدرسة فافتتح المدرسة بتعليم كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام أو كنت في مسجد فأظهرت السنة وأقمت حلقات العلم فهذا كله من إحياء السنن، ومن إظهار السنن، وما أشبه ذلك من إظهار الحق والدعوة إليه، وليس هذا من باب البدع في شيء.
وفق الله الجميع لما يرضيه، ورزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، ومنحنا جميعًا الفقه في الدين، كما نسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يعلمهم ما ينفعهم، وأن يعيذهم من شر البدع، وأن يصلح قادتهم وولاة أمورهم، وأن يفقهم في الدين، وأن يعينهم على تحكيم شريعة الله، والتحاكم إليها، والدعوة إليها، والحذر مما خالفها، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أتباعه بإحسان.