وقد سمعتم أن الربا أنواع ومسائل متعددة ترجع إلى شيئين: إلى ربا الفضل -كما سمعتم-، وإلى ربا النسيئة، وكانت الجاهلية في الغالب على ربا النسيئة، كانوا يتبايعون بالآجال، فإذا حلت الآجال قالوا للمدينين: إما أن تربوا وإما أن تقضوا، والمعنى: إما أن تزيدوا في المال ونزيد لكم في الأجل، وإما أن تقضوا الديون التي عليكم وننتهي، فإذا حل الأجل بألف ريال أو بعشرة آلاف ريال وليس عنده قضاء لا ينظره ولا يمهله بل لا بد من ربا، فيقول: أعطني حقي الآن وإلا أجلته عليك بكذا وكذا، والفائدة كذا وكذا كما تفعل البنوك الآن، فيقول عشرة آلاف الآن حالة وليس عنده قضاء تكون إحدى عشر زيادة ألف، تكون عشرة آلاف وخمسمئة إلى ستة أشهر إلى أربعة أشهر إلى سنة، وهكذا كلما حل الأجل زادوا زاد هذا في المال وزاد في الأجل، وهكذا حتى تتضاعف الديون، وحتى يكثر المال في حق هذا الفقير المعسر، والله يقول جلا وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ[البقرة:280]، لم يبح للتاجر وصاحب المال أن يربي، بل يجب عليه أن ينظر أخاه المعسر، وعلى صاحب الدين الذي عليه الدين عليه أن يتقي الله وأن يوفي إذا كان عنده مال وألا يتعلل بالكذب، «مطل الغني ظلم»، فلما ساءت معاملة الناس وقل أداؤهم الأمانة سلط عليهم أهل الربا، وجاءت مسائل الربا والبلاء، فصاروا يأخذون بالربا من البنوك المئة فيه كذا والألف فيه كذا، وهكذا، ثم إذا حل الدين ولم يوف زادوا عليه، وهكذا على طريقة الجاهلية في المائة ستة في المائة عشرة في المائة خمسة في الألف كذا، وإذا حل الدين ولم يوف كذلك يزاد كذا ويزاد كذا وهكذا حتى تتضاعف الأموال وتكثر الأموال، وهذا محرم بالنص والإجماع، بنص القرآن العظيم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، إجماع علمائهم أن هذا منكر، وأنه من أسباب غضب الله وعقابه، من أسباب العقوبات العامة.
وسمعتم ما في الربا من الأضرار على الفقراء والمساكين، فإن من رحمة الله للفقير أن ينظر بلا زيادة، المعسر ينظر وعلى أخيه أن يقرضه ويساعده ويبيع عليه بالأجل بالبيع المعتاد من غير إضرار بأخيه، وإذا حل الأجل ولم يتيسر له القضاء أمهله من دون ربا، هذا هو الواجب بين المسلمين، وهم شيء واحد وأسرة واحدة وجسد واحد وبناء واحد، ليس لهم أن يضر بعضهم بعضًا، هكذا قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا وشبك بين أصابعه. فكيف تربي عليه؟ وقال عليه الصلاة والسلام: مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وسمعتم أيضًا ما ذكره المشايخ من الأضرار الأخرى، فإن الناس إذا جعلوا أموالهم في البنوك بهذا الربا الذي يأتي بسهولة والمضرة على الفقير تعطلت المشاريع الخيرية، وتعطلت الحركة في المسلمين في مزارعهم وفي صناعتهم ودورهم، وكل ما يحتاجون إليه من علم أن ماله يأتي بربح كبير من دون عمل ومن دون مشقة ترك الأعمال وترك الناس الأعمال ولم يجدوا عملًا وصارت المشقة عظيمة على الناس جميعًا، الفقير لا يجد عملًا، والتاجر لا يعمل شيئًا، ولا يوجد مشروعًا ينفع لا زراعة ولا مصنعًا ولا كذا ولا كذا؛ لأن أمواله قد جعلت في البنوك وراحت إلى الأعداء من اليهود وأشباههم، وتعطلت مصالح العباد ومصالح المسلمين، والله جعل في المعاملات مصلحة للمسلمين، فبعض الناس يرزق الله بعضهم من بعض، هذا عامل، وهذا تاجر، وهذا لديه مزرعة، وهذا في مصنع ويحتاج إلى عمال ويعطيه كذا، فينتفع المسلمون ويتعاونون في هذه الحياة، فأضرار الربا لا تحصر وشره لا يستقصى، وإن خفي على بعض الناس وإن جهله كثير من الناس لكن الذي حرمه هو أعلم بأضراره وأعلم بشره جل وعلا، وهو لا يحرم شيئًا عبثًا يتعالى ويتقدس عن العبث، فإنما يحرم ما يحرم لأضرار، ويبيح ما يبيح لمصالح، ويشرع ما يشرع لمصالح سبحانه وتعالى، فحرم على العباد الربا، وحرم عليهم الميتة والخنزير وأكل أموالهم بالباطل ودماء بعضهم بعضًا وأموال بعضهم وأعراض بعضهم؛ لما في انتهاكها من الشؤم، ولما في تحريمها من هذه المصالح، القاعدة الجليلة العظيمة أن تعلم أن ربك حكيم عليم سبحانه وتعالى حكيم عليم ليس عابثًا ولا جاهلًا بل عليم بأمور عباده ومصالحهم، حكيم في شرعه وقدره، كل أعماله الكونية وكل أعماله وشرائعه التي جاء بها المصطفى عليه الصلاة والسلام كلها على محض الحكمة، فما يجري قدرًا على محض الحكمة، وما يجري شرعًا فعلى محض الحكمة، فما يقع في الناس من أمراض أو سيول جارفة أو أمراض أو زلازل أو غير هذا كله عن حكمة، ليس عن عبث بل لحكمة بالغة وأسباب اقتضت ذلك، وهكذا ما يشرع من الأحكام من واجبات ومستحبات ومحرمات ومكروهات ومباحات كلها عن حكمة، فهو حكيم عليم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ[الأنعام:83] وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[النساء:17].