الم
قَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، فَرَدُّوا عِلْمَهَا إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يُفَسِّرُوهَا، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنهم أجمعين، وَقَالَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالرَّبِيعُ بْنُ خيثم.
الشيخ: ابن خثيم، خيثم غلط.
وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهَا فَقَالَ عبدالرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ السُّوَرِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَعَلَيْهِ إِطْبَاقُ الأكثر، ونقل عن سيبويه أنه نص عليه، ويعتضد لهذا بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الم السَّجْدَةِ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قال: الم، وحم، والمص، وص. فَوَاتِحُ افْتَتَحَ اللَّهُ بِهَا الْقُرْآنَ، وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ مُوسَى بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَهَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَلَعَلَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى قَوْلِ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ بن أسلم أنه اسم من أسماء السورة فَإِنَّ كُلَّ سُورَةٍ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ المص اسْمًا لِلْقُرْآنِ كُلِّهِ لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى فَهْمِ سَامِعِ مَنْ يَقُولُ: قَرَأْتُ المص إِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ لَا لِمَجْمُوعِ الْقُرْآنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ هِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ قَالَ سَالِمُ بْنُ عبداللَّهِ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عبدالرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ وَقَالَ شُعْبَةُ عَنِ السُّدِّيُّ:
بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الم اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَارٍ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلْتُ السُّدِّيَّ عن حم وطس والم فقال ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: قَالَ عبداللَّهِ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الم قَسَمٌ.
وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ عبداللَّهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الم قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺالم قَالَ: أَمَّا الم فَهِيَ حُرُوفٌ اسْتُفْتِحَتْ مِنْ حُرُوفِ هِجَاءِ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الم قَالَ: هَذِهِ الْأَحْرُفُ الثَّلَاثَةُ مِنَ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسُنُ كُلُّهَا لَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاحُ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ، وَبَلَائِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّةِ أَقْوَامٍ وَآجَالِهِمْ.
قَالَ عِيسَى ابْنُ مريم : وعجب فقال: أعجب أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِأَسْمَائِهِ وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقِهِ فَكَيْفَ يَكْفُرُونَ بِهِ، فَالْأَلِفُ مِفْتَاحُ اسْمِ اللَّهِ وَاللَّامُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ لَطِيفٍ وَالْمِيمُ مِفْتَاحُ اسْمِهِ مَجِيدٍ فَالْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ وَاللَّامُ لُطْفُ اللَّهِ وَالْمِيمُ مجد الله، الألف سَنَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ سَنَةً وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ سَنَةً.
هَذَا لَفْظُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ. وَنَحْوُهُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ شَرَعَ يُوَجِّهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَيُوَفِّقُ بَيْنَهَا وَأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَبَيْنَ الْآخَرِ وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور وَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يُفْتَتَحُ بِهَا السُّوَرُ فَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا دَلَّ عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَمَا افْتَتَحَ سُوَرًا كَثِيرَةً بِتَحْمِيدِهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَعْظِيمِهِ، قَالَ: وَلَا مَانِعَ مِنْ دَلَالَةِ الْحَرْفِ مِنْهَا عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَعَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَعَلَى مُدَّةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ لِأَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد بها الدِّينُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزُّخْرُفِ:22] وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الرَّجُلُ الْمُطِيعُ لله كقوله تَعَالَى إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين [النَّحْلِ:120] وَتُطْلَقُ ويراد بها الجماعة كقوله تعالى وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [الْقَصَصِ:23] وقوله تَعَالَى وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا تطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يُوسُفَ:45] أَيْ بَعْدَ حِينٍ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ قَالَ فَكَذَلِكَ هَذَا.
ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ بِدَلَالَةِ الْوَضْعِ فَأَمَّا دَلَالَةُ الْحَرْفِ الْوَاحِدِ عَلَى اسْمٍ يُمْكِنُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى اسْمٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فِي التَّقْدِيرِ أَوِ الْإِضْمَارِ بِوَضْعٍ وَلَا بِغَيْرِهِ فَهَذَا مِمَّا لَا يُفْهَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا إِجْمَاعٌ حَتَّى يُحْكُمَ بِهِ. وَمَا أَنْشَدُوهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّةِ إِطْلَاقِ الْحَرْفِ الْوَاحِدِ عَلَى بَقِيَّةِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ فِي السِّيَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا حُذِفَ بِخِلَافِ هَذَا كَمَا قال الشاعر:
قلنا لها قفي لنا فقالت قاف | لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف |
وقال الآخر:
مَا لِلظَّلِيمِ عَالَ كَيْفَ لَا يَا | يَنْقَدُّ عنه جلده إذا يا |
وقال الآخر:
بالخير خيرات وإن شرا فا | وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَا |
يَقُولُ: وإن شرا فشرا وَلَا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلَّا أَنْ تَشَاءَ، فَاكْتَفَى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بَقِيَّتِهِمَا، وَلَكِنَّ هَذَا ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ الْحَدِيثَ قَالَ سفيان: هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي اقْتُلْ «اق».
وَقَالَ خَصِيفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: فَوَاتِحُ السور كلها (ق وص وحم وطسم والر) وَغَيْرُ ذَلِكَ هِجَاءٌ مَوْضُوعٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: هِيَ حُرُوفٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ اسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ عَنْ ذِكْرِ بِوَاقِيهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّةُ الثَّمَانِيَةُ وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: ابْنِي يَكْتُبُ في-اب ت ث-أَيْ فِي حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ فَيُسْتَغْنَى بِذِكْرِ بَعْضِهَا عَنْ مَجْمُوعِهَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قُلْتُ: مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ بِحَذْفِ الْمُكَرَّرِ مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ حرفا وهي-ال م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن-يجمها قَوْلُكَ: نَصٌّ حَكِيمٌ قَاطِعٌ لَهُ سِرٌّ. وَهِيَ نِصْفُ الْحُرُوفِ عَدَدًا وَالْمَذْكُورُ مِنْهَا أَشْرَفُ مِنَ الْمَتْرُوكِ وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَةِ التَّصْرِيفِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الْأَرْبَعَةُ عَشَرَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أصناف أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ يَعْنِي مِنَ الْمَهْمُوسَةِ وَالْمَجْهُورَةِ، وَمِنَ الرِّخْوَةِ وَالشَّدِيدَةِ، وَمِنَ الْمُطْبَقَةِ وَالْمَفْتُوحَةِ وَمِنَ الْمُسْتَعْلِيَةِ وَالْمُنْخَفِضَةِ، وَمِنْ حُرُوفِ الْقَلْقَلَةِ. وَقَدْ سَرَدَهَا مُفَصَّلَةً ثُمَّ قَالَ: فَسُبْحَانَ الَّذِي دَقَّتْ فِي كُلِّ شيء حكمته.
وهذه الأجناس المعدودة مكثورة بِالْمَذْكُورَةِ مِنْهَا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مُعْظَمَ الشَّيْءِ وَجُلَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ كُلِّهِ وَمِنْ هَاهُنَا لَحَظَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَلَامًا فَقَالَ: لَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ لَمْ يُنْزِلْهَا عَبَثًا وَلَا سُدًى، وَمَنْ قَالَ مِنَ الجهلة إن فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ تَعبدلَا مَعْنًى لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً كَبِيرًا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَهَا مَعْنًى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنْ صَحَّ لَنَا فِيهَا عَنِ الْمَعْصُومِ شَيْءٌ قُلْنَا بِهِ وَإِلَّا وَقَفْنَا حَيْثُ وَقَفْنَا وَقُلْنَا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَلَمْ يُجْمِعِ الْعُلَمَاءُ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ الْأَقْوَالِ بِدَلِيلٍ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَإِلَّا فَالْوَقْفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ.
هَذَا مَقَامٌ.
الْمَقَامُ الْآخَرُ فِي الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ إِيرَادَ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مَا هِيَ؟ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَعَانِيهَا في أنفسها، فقال بعضهم: إنما ذكرت ليعرف بِهَا أَوَائِلَ السُّوَرِ، حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْفَصْلَ حَاصِلٌ بِدُونِهَا فِيمَا لَمْ تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تِلَاوَةً وَكِتَابَةً.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ ابْتُدِئَ بِهَا لِتُفْتَحَ لِاسْتِمَاعِهَا أَسْمَاعُ الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْقُرْآنِ حَتَّى إِذَا اسْتَمَعُوا لَهُ تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْمُؤَلَّفُ مِنْهُ حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا وهو ضعيف، لأنه لو كان كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ السُّوَرِ لَا يكون في بعضها بل غالبها وليس كذلك، ولو كان كذلك أيضًا لانبغى الِابْتِدَاءُ بِهَا فِي أَوَائِلِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ افْتِتَاحَ سُورَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ وَالَّتِي تَلِيهَا أَعْنِي الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ مُدْنِيَّتَانِ لَيْسَتَا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ فَانْتَقَضَ مَا ذَكَرُوهُ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا بَيَانًا لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ الْخَلْقَ عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمِثْلِهِ هَذَا مَعَ أنه مركب مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو العجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.
والأقوال التي ذكرها كلها ليس عليها دليل واضح لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع فلهذا يقال فيها الله أعلم لما هو السر في ما هو معناها في النص في الم والمص وحم والمر وإلى آخره، فالله جل وعلا أعلم بالمعنى من ذكرها في كتابه العظيم .
وأما أنها فيها تنبيهًا على أن هذا كتاب عظيم الذي أنتم تتلونه وتقرؤونه مركب من هذه الحروف التي يتخاطب بها الناس هذا هو معناها من جهة الحكمة ولكن الخلاصة في هذا أن الحروف المقطعة ليس في النص ما يدل على معناها فالصواب في هذا ما قاله أهل القول الأول، وهو أن الله جل وعلا أنزلها لحكمة عظيمة ولفائدة كبيرة وهذا المعنى الله أعلم به .
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَدَدِ وَأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ أَوْقَاتُ الْحَوَادِثِ وَالْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ فَقَدِ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَطَارَ فِي غَيْرِ مَطَارِهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْمَسْلَكِ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبُ الْمُغَازِي: حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عن جابر بن عبداللَّهِ بْنِ رِبابٍ قَالَ: مَرَّ أَبُو ياسر بن أخطب من رجال من يهود برسول الله وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عَلَيْهِ الم. ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ: فَمَشَى حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا يَا مُحَمَّدُ أَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّكَ تَتْلُو فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الم. ذلِكَ الْكِتابُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَلَى فَقَالُوا جَاءَكَ بِهَذَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالُوا لَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلَكَ أَنْبِيَاءَ مَا نَعْلَمُهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ مَا مُدَّةَ مُلْكِهِ وَمَا أَجَلُ أُمَّتِهِ غَيْرَكَ. فَقَامَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ نَبِيٍّ إِنَّمَا مُدَّةُ مُلْكِهِ وَأَجَلُ أُمَّتِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً؟ ثُمَّ أَقْبَلَ على رسول الله ﷺ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا ذَاكَ؟ قَالَ: المص قال: هذا أثقل وأطول، الألف واحد وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالصَّادُ تسعون فَهَذِهِ إِحْدَى وستون وَمِائَة سَنَةٍ. فَهَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ مَا ذَاكَ؟ قَالَ: الر. قَالَ: هَذَا أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالرَّاءُ مِائَتَانِ فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ. فَهَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّدُ غَيْرُهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: مَاذَا؟ قال المر قال: هذه أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ، الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللَّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالرَّاءُ مِائَتَانِ فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُكَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلَا أُعْطِيتَ أَمْ كَثِيرًا. ثُمَّ قَالَ قُومُوا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَحْبَارِ: مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا لِمُحَمَّدٍ كُلُّهُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَإِحْدَى وَستون وَمِائَةٌ.الشيخ: وهذا خبر باطل لأن الكلبي هذا كذاب ليس ممن يروى عنه الكلبي شيخ ابن إسحاق
وَإِحْدَى وثلاثون وَمِائَتَان وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعُ سِنِينَ؟ فَقَالُوا: لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران:7] فهذا الحديث مَدَارُهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجُّ بِمَا انْفَرَدَ بِهِ، ثُمَّ كَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْمَسْلَكِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا أَنْ يُحْسَبَ مَا لِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْحُرُوفِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَذَلِكَ يَبْلُغُ مِنْهُ جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطمّ وأعظم والله أعلم.
ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ الكتاب، أي هَذَا الْكِتَابُ وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى هذا، والعرب تقارضالشيخ: وفي نسخة تقارض، ويحتمل تقاوض بالواو أيضاً ...........
والعرب تقارض بين اسمي الإشارة فَيَسْتَعْمِلُونَ كُلًّا مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ في كلامهم. وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدةالشيخ: عن معمر بن المثنى أبي عبيدة هو كنيته أبي عبيدة.
وقال الزمخشري: ذلك إشارة إلى الم كما قال تعالى لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة:68] وقال تعالى ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:10] وقال ذلِكُمُ اللَّهُ [غافر:62] وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره والله أعلم.
وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبي وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول ﷺ بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم.الشيخ: والصواب أن معناه مثل ما قال ابن عباس وجماعة هذا الكتاب؛ لأن العرب تأتي بهذا تارة وهذا تارة فالمعنى هذا كتاب الذي أنزلناه إليك وجاء به إليك رسولنا جبرائيل لا ريب فيه.
وَالرَّيْبُ: الشَّكُّ. قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَا رَيْبَ فِيهِ: لَا شَكَّ فِيهِ، وقاله أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو مَالِكٍ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَالسُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ في هذه خِلَافًا. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الرَّيْبُ فِي التُّهْمَةِ قَالَ جميل:
بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَبْتَنِي | فَقُلْتُ كِلَانَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ |
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ | وَخَيْبَرَ ثُمَّ أجمعنا السيوفا |
وهدى يَحْتَمِلُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى النَّعْتِ وَمَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَخُصَّتِ الْهِدَايَةُ لِلْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فُصِّلَتْ:44]الشيخ: وهو في الحقيقة هدى للناس جميعًا هدى للجن والإنس جميعًا إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] ولكن لما لم ينتفع به إلا أهل الإيمان صار كأنه هدى لهم خاصة، لأن أولئك لم ينتفعوا به ولم يهتدوا به، فقد حرموا من هدايته فصار كأنه ليس بهاد لهم، وصار كأنه إنما جاء هاديًا لهؤلاء الذين وفقوا له وهم المؤمنون. وإلا فهو في نفسه هدى للجميع لو اهتدوا به وتدبروا وتعقلوا ووفقوا لاهتدوا.وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الْإِسْرَاءِ:82] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى اختصاص المؤمنين بالنفع بِالْقُرْآنِ لِأَنَّهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ هُدًى وَلَكِنْ لا يناله إلا الأبرار كما قال تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يُونُسَ:57]الشيخ: ذكرى وهدى للناس جميعًا، ولكن لما لم ينتفع بها إلا المؤمنون على الحقيقة قال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] فالذكرى والإنذار والهداية عامة ولكن لما لم ينتفع بذلك على الأكمل والأكثر إلا المؤمنون صارت الذكرى كأنها لهم خاصة، وصار الهدى كأنهم له خاصة وإلا فالله هدى بالذكر أمم كانت كافرة فهداها الله بالذكرى والموعظة والتوفيق.
وَقَدْ قَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ يَعْنِي نُورًا لِلْمُتَّقِينَ.
وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عباس قال: هدى للمتقين قال: هم المؤمنون الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِي وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عباس لِلْمُتَّقِينَ قال: الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى.الشيخ: وهذه قاعدة المتقون والمؤمنون والأبرار والمهتدون والصالحون كلمات متقاربة في المعنى سموا بذلك لتقواهم الله لأنهم اتقوا الشرك به واتقوا محارمه وصاروا متقين، وسموا مؤمنين؛ لأنهم آمنوا بالله ورسوله إيمانًا زجرهم عن محارم الله واقتضى منهم أن يؤدوا ما أوجب الله، فصار إيمانهم إيمانًا مؤثرًا فصاروا به مؤمنين متقين مهتدين صالحين فهذه أوصاف لمن استقام على أمر الله وانتفع بكتاب الله واهتدى به يسمى مؤمنًا ويسمى متقيًا ويسمى بارًا ويسمى مهتديًا ويسمى صالحًا وأشباه ذلك من الصفات العظيمة الحميدة
قال: الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ فِي التصديق بما جاء به.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الْحَسَنِ البصري: قوله تعالى لِلْمُتَّقِينَ قَالَ: اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَدَّوْا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: سَأَلَنِي الْأَعْمَشُ عَنِ الْمُتَّقِينَ قَالَ: فَأَجَبْتُهُ فَقَالَ لِي: سَلْ عَنْهَا الْكَلْبِيَّ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ قَالَ: فَرَجَعْتُ إلى الأعمش فقال: يرى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ.
وَقَالَ قتادة: لِلْمُتَّقِينَ هُمُ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الآية والتي بعدها، واختيار ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ ماجة من رواية أبي عَقِيلٍ عَنْ عبداللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ وَعَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَا يَبْلُغُ الْعبد أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ بَأْسٌ ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عبداللَّهِ بْنُ عمران عن إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ يَعْنِي الرَّازِيَّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَبِي وَائِلٍ فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَفِيفٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: يَا أَبَا عَفِيفٍ أَلَا تُحَدِّثُنَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ؟ قَالَ: بَلَى، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يُحْبَسُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي بَقِيعٍ وَاحِدٍ فَيُنَادِي مُنَادٍ أَيْنَ الْمُتَّقُونَ؟ فَيَقُومُونَ فِي كَنَفٍ مِنَ الرَّحْمَنِ لَا يَحْتَجِبُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَا يَسْتَتِرُ.
قُلْتُ: مَنِ الْمُتَّقُونَ؟ قَالَ: قَوْمٌ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَأَخْلَصُوا لِلَّهِ الْعِبَادَةَ فَيَمُرُّونَ إِلَى الْجَنَّةِ.
ويطلق الهدى ويراد به ما يقرّ في القلب من الإيمان وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله قال الله تعالى إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [الْقَصَصِ:56] وَقَالَ لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ [البقرة:272] وَقَالَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الْأَعْرَافِ:186] وقال مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً [الإسراء:97] إلى غير ذلك من الآيات ويطلق ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والإرشاد إليه قال الله تَعَالَى وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشُّورَى:52] وقال إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرَّعْدِ:7] وقال تَعَالَى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت:17] وقال وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح والله أعلم.الشيخ: وهذا أمر واضح، فإن الهدى نوعان، هدى لا يملكه ولا يوفق له إلا الله وهو الذي بيده ذلك وهو هداية التوفيق وقذف النور في القلب وقبوله واستقرار فهذا إلى الله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ما يملكه أحد لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] فالتوفيق لقبول الحق والرضا به وإيثاره فهذا أمر إليه وهذا المراد بقوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] وما جاء في معناها.
أما النوع الثاني فهو الهداية بمعنى البلاغ والبيان والدلالة والإرشاد فهذا أعطاه الله الرسل وأتباعهم من الدعاة إليه هم الهداة هم الأدلاء وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم [الشورى:52] وهكذا إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9] يعني يرشد ويدل ثم قد يوفق المرشد والمدلول والموعوظ والمذكر قد يهتدي وقد يقبل ويوفقه الله وقد لا يقبل فهؤلاء الرسل دعوا الأمم وأرشدوهم وهدوهم فلم يقبل إلا القليل والأكثرون لم تنفعهم هذه الدلالة والهداية وهذه الذكرى ولم يتأثروا بها بل أصروا وعاندوا نسأل الله العافية.
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ | فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا باليد |
فَأَلْقَتْ قِنَاعًا دُونَهُ الشَّمْسُ وَاتَّقَتْ | بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفٌّ وَمِعْصَمُ |
وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ الْمُعْتَزِّ فَقَالَ:
خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا | وَكَبِيرَهَا ذَاكَ التُّقَى |
وَاصْنَعْ كماش فوق أرض | الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى |
لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً | إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى |
يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ | وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا أَرَادَا |
يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي | وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا |
الشيخ: صدق، ليس بشيء، لكن الحديث صحيح من حيث المعنى؛ لأن الروايات الأخرى: خير متاعها المرأة الصالحة. إذا نظر إليها سرته وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله هذا حديث صحيح المتن الصحيح، لكن زيادة: ما استفاد المرء بعد تقوى بهذا السند ضعيف.
ثم هذا الخبر في باب الفضائل فيما يتعلق بالفضائل والحث على الخير فلهذا سكت عنه المؤلف رحمه الله.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عبداللَّهِ قَالَ: الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُؤْمِنُونَ: يُصَدِّقُونَ. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: الْإِيمَانُ الْعَمَلُ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ يُؤْمِنُونَ: يَخْشَوْنَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ قَوْلًا واعتقادا وعملا قَالَ: وَقَدْ تَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ، وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِلْإِيمان بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَتَصْدِيقُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِالشيخ: وهذا الذي قاله ابن جرير هو الحق فإن الإيمان كلمة تشمل تصديق القلب وتشمل أعمال القلب وتشمل عمل الجوارح وتشمل قول اللسان فمن قال الإيمان التصديق فمعناها التصديق الكامل بالقلب العمل، ومن قال الإيمان خشية الله فقد فسره ببعضه فسر الإيمان ببعض شعبه، ومن قال الإيمان العمل فقد فسره بمقصوده وهو الزيدة أي المقصود من الإيمان العمل، أن يعمل بما صدق به فيعد العدة لإدراك الجنة والحصول عليها ويعد العدة للحذر من النار والبعد منها ويعد العدة للفوز بمرضاة الله والفوز بكرامته، فالإيمان الكامل يحصل به هذا وهذا ومن عادة السلف تفسير الشيء ببعضه تفسير الشيء ببعضه بجزئه الشيء الدال عليه والمؤمن حقًا هو الذي يصدق بأخبار الله ويخشى الله ويعمل فهكذا الإيمان قول وعمل عند أهل السنة والجماعة فالإيمان بالغيب معناه التصديق بكل ما أخبر الله به من أمور الغيب ما أخبر به عن ذاته وعن أسمائه وصفاته وعن الجنة والنار وعما يكون في آخر الزمان وعما يكون يوم القيامة من الأهوال والحساب والجزاء كله غيب، والمؤمن يؤمن بهذا كله وبكل ما صح عن رسول الله ﷺ في ذلك.
ثم هذا الإيمان بقلبه ما هو إيمان مجرد، إيمان معه وعمل، معه خشية الله وتعظيم الله وتعظيم أوامره وتعظيم نواهيه، والعمل بما أمر به من اجتهاد وصوم وزكاة وحج وجهاد وغير هذا وترك ما نهى عنه (......) ترك الشرك وترك الزنا ترك الفواحش ترك العقوق ترك كل ما حرم الله كله داخل في الإيمان بالغيب، الذين يؤمنون بالغيب إيمانًا تامًا يشمل تصديق القلوب وتصديق اللسان وتصديق الجوارح بالعمل.
(قُلْتُ) أَمَّا الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ فَيُطْلَقُ عَلَى التَّصْدِيقِ الْمَحْضِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التَّوْبَةِ:61] وَكَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يُوسُفَ:17] وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتُعْمِلَ مقرونا مع الأعمال كقوله تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشعراء:227] فَأَمَّا إِذَا اسْتُعْمِلَ مُطْلَقًا فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ الْمَطْلُوبُ لَا يَكُونُ إِلَّا اعْتِقَادًا وَقَوْلًا وَعَمَلًا. هَكَذَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ بَلْ قَدْ حَكَاهُ الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيدة.الشيخ: أبو عبيد القاسم بن سلام، لأن أبو عبيدة معمر بن المثنى (......) ليس من هذا الشأن.
وَغَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعًا: أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.الشيخ: يزيد بالطاعات والعمل، وينقص بالمعاصي والغفلة.
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ وأحاديث أفردنا الْكَلَامَ فِيهَا فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ومنهم من فسره بالخشية كقوله تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الْمُلْكِ:12] وَقَوْلِهِ: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33] وَالْخَشْيَةُ خُلَاصَةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فَاطِرٍ:28].
وقال بعضهم: يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة، وليسوا كما قال تعالى عن المنافقين وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة:14]الشيخ: يعني أن أهل الإيمان الصادقون ليسوا كالمنافقين، المؤمنون بالغيب كما آمنوا بالشهادة وأشد وثمرة إيمانهم بالغيب خشية الله وتعظيمه وأداء حقه وترك معصيته والقيام بحق المؤمنين وحق غيرهم؛ لأن إيمانهم يدعوهم إلى هذا ويقتضي هذا كما أن إيمانك بأن لفلان عليك حق وله عليك دين يقتضي أن تؤديه حقه، إيمانك بأن لفلان عليك حق قصاص حق دية يقتضي أن تسدد حقه وتعطيه حقه. وهكذا إيمانك بأن عليك أن تصلي كذا وكذا في اليوم والليلة يجب عليك أن تؤدي هذا الحق إيمان بأن عليك زكاة، يجب أن تؤدي هذه الزكاة، إيمانك بأن عليك بر الوالدين يقتضي أن تبر والديك فهكذا الإيمان يقتضي العمل بالذي آمنت به.
وقال: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون:1]الشيخ: ولماذا شهد عليهم أنهم كاذبون مع قولهم أن محمدًا لرسول الله؟ لأنهم قالوها كذبًا ما صدقوا بالعمل، لأنهم قالوها والقلوب مكذبة فلهذا شهد الله عليهم أنهم كاذبون وأنهم قالوا أن محمدًا رسول الله تقية (.......) وإلا فهم في باطن الأمر غير مصدقين وغير شاهدين بهذا الأمر ولهذا قال: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [المنافقون:1] أكدها بإن (.......) ولام التأكيد.
فعلى هذا يكون قوله بالغيب حالا أي في حال كونهم غيبا عن الناس.
وَأَمَّا الْغَيْبُ الْمُرَادُ هَاهُنَا فَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ فِيهِ وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ تَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُرَادٌ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: ويؤمنون بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَلِقَائِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِالْبَعْثِ، فَهَذَا غَيْبٌ كُلُّهُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَمَّا الْغَيْبُ فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَأَمْرِ النَّارِ وَمَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (بِالْغَيْبِ) قَالَ: بِمَا جَاءَ مِنْهُ-يَعْنِي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى-
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ قَالَ: الْغَيْبُ الْقُرْآنُ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِالْغَيْبِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قَالَ: بِغَيْبِ الْإِسْلَامِ.الشيخ: وتسمية القرآن بالغيب على هذا القول يعني أنه ما شاهد كلام الرب حين تكلم به إنما سمعه جبرائيل، وجبرائيل بلغه إلى محمد ﷺ، فالإيمان بالغيب من هذه الحيثية من حيث أنه لم يسمع أن الله تكلم به حين تكلم وإنما آمن بما قاله النبي ﷺ وبما بلغه إلينا وأخبرنا بأنه كلام الله .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قَالَ: بِالْقَدَرِ. فَكُلُّ هَذِهِ مُتَقَارِبَةٌ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عبداللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ جُلُوسًا فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النبي ﷺ وما سبقونا به فَقَالَ عبداللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ ثُمَّ قَرَأَ الم، ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ-إِلَى قَوْلِهِ-الْمُفْلِحُونَ وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَفِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي رواه أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي أُسَيْدُ بْنُ عبدالرَّحْمَنِ عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنِ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ قَالَ: قلت لأبي جمعة: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: نَعَمْ أُحَدِّثُكَ حَدِيثًا جيّدا: تغذينا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا؟ أَسْلَمْنَا معك وجاهدنا معك. قال نعم قوم يكونون مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي: طَرِيقٌ أُخْرَى. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا عبداللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ عبداللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
......
حَدَّثَنَا عبداللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا أَبُو جُمُعَةَ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لِيُصَلِّيَ فيه ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة فَلَمَّا انْصَرَفَ خَرَجْنَا نُشَيِّعُهُ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ: إِنَّ لَكُمْ جَائِزَةً وَحَقًّا، أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قُلْنَا: هَاتِ رَحِمَكَ اللَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَاشِرُ عَشَرَةٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ مِنْ قَوْمٍ أَعْظَمُ منّا أجرا؟ آمنا بالله وَاتَّبَعْنَاكَ، قَالَ: مَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ يَأْتِيكُمْ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ بَلْ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِكُمْ يَأْتِيهِمْ كِتَابٌ بَيْنَ لَوْحَيْنِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ أُولَئِكَ أَعْظَمُ مِنْكُمْ أَجْرًا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ضَمْرَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ مَرْزُوقِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي جُمُعَةَ بِنَحْوِهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْوِجَادَةِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِأَنَّهُ مدحهم على ذَلِكَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا مُطْلَقًا.الشيخ: وهذا له شواهد من قوله جل وعلا: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ [آل عمران:101] يعني الذين شاهدوا النبوة وحضروا الوحي والآيات العظيمة يحق لهم أن يؤمنوا لمن وفقه الله وقد شاهده قوم فلم يؤمنوا ولم يوفقوا فالذين جاؤوا بعد ذلك وآمنوا بالغيب وبما نقل لهم عنه ﷺ وبما ثبت عنه لهم مزية أجر من هذه الحيثية وإلا فالصحابة أفضل الناس لكن هؤلاء الذين جاؤوا بعدهم وآمنوا لهم مزية من حيثية الإيمان بالغيب كما أن الذين في آخر الزمان يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر عند غربة الزمان لهم أجر خمسين من الصحابة فيما أعانهم الله عليه من الخير وإن كان الصحابة أفضل منهم، لكن هذه الفضائل الخاصة لها أسباب والصحابة أفضل في الجملة لقوله ﷺ: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما في الصحيحين، فأصحاب النبي ﷺ خير الناس وأفضل الناس بعد الأنبياء والذين جاؤوا من بعدهم يؤمنون بالغيب ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتبعون آثارهم عند الغربة وعند شدة الزمان فلهم فضل خاص يفضلون من قبلهم من هذه الحيثية ولهذا قال لهم أجر خمسين.
وَكَذَا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ الْحِمْصِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ قَيْسٍ التَّمِيمِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَيُّ الْخَلْقِ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ قَالَ وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ قَالُوا فَالنَّبِيُّونَ قَالَ وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ قَالُوا: فَنَحْنُ قَالَ: وَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَلَا إِنَّ أَعْجَبَ الْخَلْقِ إِلَيَّ إِيمَانًا لَقَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا فِيهَا كِتَابٌ يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: الْمُغِيرَةُ بْنُ قَيْسٍ الْبَصْرِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
(قُلْتُ) وَلَكِنْ قَدْ رَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ -وَفِيهِ ضَعْفٌ- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ بِمِثْلِهِ أَوْ نَحْوِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عبداللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِدْرِيسَ أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ أخبرني جعفر بن محمود عن جدته تويلة بِنْتِ أَسْلَمَ قَالَتْ: صَلَّيْتُ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَارِثَةَ فَاسْتَقْبَلْنَا مَسْجِدَ إِيلِيَاءَ فَصَلَّيْنَا سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا أَنَّ رسول الله ﷺ قد اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ فَتَحَوَّلَ النِّسَاءُ مَكَانَ الرِّجَالِ وَالرِّجَالُ مَكَانَ النِّسَاءِ فَصَلَّيْنَا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنَحْنُ مُسْتَقْبِلُونَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَحَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ آمَنُوا بِالْغَيْبِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ من هذا الوجه.
.......
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ أَيْ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْخُشُوعِ والإقبال عليها فيها. وَقَالَ قَتَادَةُ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا.الشيخ: المعنى أن إقامة الصلاة تشمل كل ما يتعلق بها من جهة الوقت، ومن جهة الطهارة، ومن جهة الأداء، كما شرع الله فالمؤمنون يقيمونها كما شرع الله ويؤدونها قائمة كاملة تامة في وقتها وطهارتها وشرائطها وفرائضها وجميع ما شرع الله فيها لهم بها عناية، وهكذا المؤمن وهكذا المؤمنة كما في الاية الاخرى قوله تعالى في الآية الأخرى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [التوبة:71] وهذا جاء في عدة آيات كثيرة كقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ [البينة:5] فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11] في آيات كثيرة جداً، وهذا يوجب للمؤمن العناية (.......) جل وعلا فرض ذلك كثيرا ثناء وأمرا (.......) وهذا يوجب للمؤمن لاسيما طالب العلم المقتدى به أن يعتني بهذا الأمر وأن تكون صلاته مقامة حتى يتأسى به زميله ومن يشاهده من أهل بيته وغير ذلك في خشوعه في طمأنينته في إحسان القراءة في الخشوع، وغير هذا من وجوب أمر الصلاة وشأن الطهارة والبدار إلى الجماعة، البدار في الوقت بما يتعلق بالنساء في البيت إلى غير هذا من وجوه العناية والإقامة.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور بها وَتَمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ فِيهَا وَالتَّشَهُّدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَهَذَا إِقَامَتُهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ: زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قال: نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ الزَّكَاةُ.
وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسَرَتِهِمْ وَجُهْدِهِمْ حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ سَبْعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ مِمَّا يُذْكَرُ فيهنّ الصدقات هن النَّاسِخَاتُ الْمُثْبَتَاتُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فَأَنْفِقُوا مِمَّا أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، هذه الأموال عوار وَوَدَائِعُ عِنْدَكَ يَا ابْنَ آدَمَ يُوشِكُ أَنْ تُفَارِقَهَا.
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الزَّكَاةِ وَالنَّفَقَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ وَأَحَقُّهَا بِصِفَةِ الْقَوْمِ أَنْ يَكُونُوا لِجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ مُؤَدِّينَ-زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَهْلٍ أو عيال وغيرهم ممن يجب عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ وَصَفَهُمْ وَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ، وَكُلٌّ مِنَ الْإِنْفَاقِ وَالزَّكَاةِ مَمْدُوحٌ بِهِ مَحْمُودٌ عَلَيْهِالشيخ: وهذا الذي قاله أبو جعفر هو الصواب؛ فإن الآيات عامة في هذا والصواب أنها تعم الزكاة وغيرها ومن أهم ما ينفق وأعظم ما ينفق الزكاة هذا أعظم شيء، ركن الإسلام فأهم شيء هو الزكاة، (.......) ينفقون غير الزكاة في أهليهم وفي ضيوفهم وفي الفقراء والمساكين إلى غير هذا، هكذا أهل الإيمان قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274] وقال تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7] فهذا لا يخص الزكاة بل يعم الزكاة وغيرها، والمؤمن ليس قاصرًا على الزكاة ولا مكتفيًا بالزكاة بل ينفق في البر والإحسان ويواسي الفقير ويصل الرحم وينفق على أولاده وأهله ويكرم الضيف ويعمر المساجد ويعمر المدارس، وينفق في شتى أعمال الخير فهكذا المؤمن لأنه مثل ما قال قتادة: هذه الأموال أمانات وودائع سوف تنتقل عنها وتتنقل عنك فبادر وسارع وأنفق قبل أن تحل بك كارثة أو بمالك أو بكما جميعًا، فالمؤمن والعاقل ذو الرشد ينتهز الفرص وينفق ويحسن حسب طاقته وحسب ما آتاه الله.
(قُلْتُ) كَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ حَقُّ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدِهِ وَالِابْتِهَالِ إِلَيْهِ وَدُعَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْفَاقُ هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِمْ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْقَرَابَاتُ وَالْأَهْلُونَ وَالْمُمَالِيكُ، ثُمَّ الْأَجَانِبُ، فَكُلٌّ مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ وَأَصْلُ الصَّلَاةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدُّعَاءُ.
قَالَ الْأَعْشَى:
لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا | وَإِنْ ذبحت صلّى عليها وزمزما |
وَقَابَلَهَا الرِّيحُ فِي دَنِّهَا | وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمَ |
أَنْشَدَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ مُسْتَشْهِدًا عَلَى ذَلِكَ.
وقال الآخر، وهو الأعشى أيضا:
تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحِلًا | يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا |
عَلَيْكِ مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي | نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعًا |
ومن هذا الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح: إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصل، وفي اللفظ الآخر: فليدع، وهي تفسير ليصل، يعني إذا كان مفطرًا فليطعم وهذا هو الأفضل، وإن كان صائمًا فليصل أي ليدع لصاحب الوليمة، ومن هذا قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] يعني ادع لهم وبرّك عليهم.
قال ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ سُمِّيَتْ صَلَاةً لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَتَعَرَّضُ لِاسْتِنْجَاحِ طَلِبَتِهِ مِنْ ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه من حاجاته.
الشيخ: وهذا واضح لأنها كلها دعاء الصلاة كلها دعاء، ما بين دعاء عبادة كالركوع والسجود والقراءة، ودعاء مسألة وضراعة كما يقول في سجوده وبين السجدتين وفي التحيات من الدعاء (......)
(.......)
وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ أَيْ يُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ، وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ: أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْآخِرَةُ لِأَنَّهَا بَعْدَ الدنيا.
وقد اختلفت المفسرون في الموصوفين هنا، هَلْ هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَمَنْ هُمْ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ حَكَاهَا ابْنُ جرير:
أحدها: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ أَوَّلًا هُمُ الْمَوْصُوفُونَ ثَانِيًا وَهُمْ كُلُّ مُؤْمِنٍ، مُؤْمِنُو الْعَرَبِ وَمُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ.
وَالثَّانِي: هُمَا وَاحِدٌ وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَى هَذَيْنِ تَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةُ عَلَى صِفَاتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى:1-5]
وكما قال الشاعر:
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ | وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ |
فَعَطَفَ الصِّفَاتِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَالْمَوْصُوفُ وَاحِدٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَوْصُوفِينَ أَوَّلًا مُؤْمِنُو الْعَرَبِ وَالْمَوْصُوفُونَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ لمؤمني أَهْلِ الْكِتَابِ، نَقَلَهُ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
واختاره ابن جرير رحمه الله وَيُسْتَشْهَدُ لِمَا قَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ [آلِ عِمْرَانَ:199] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [القصص:52-54] وبما ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِي وَرَجُلٌ مَمْلُوكٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ وَرَجُلٌ أَدَّبَ جَارِيَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا.
وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ فَمَا اسْتَشْهَدَ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ إِلَّا بِمُنَاسَبَةٍ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَكَمَا أَنَّهُ صَنَّفَ الْكَافِرِينَ إِلَى صنفين كافر ومنافق فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ صَنَّفَهُمْ إِلَى عَرَبِيٍّ وَكِتَابِيٍّ.
(قُلْتُ) وَالظَّاهِرُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ فِيمَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاثة عشر في المنافقين فهذه الآيات الأربع عامات فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ اتَّصَفَ بِهَا مِنْ عَرَبِيٍّ وَعَجَمِيٍّ وَكِتَابِيٍّ مِنْ إِنْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ وَلَيْسَ تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِدُونِ الْأُخْرَى.
وَلَيْسَ تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِدُونِ الْأُخْرَى بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْأُخْرَى وَشَرْطٌ مَعَهَا، فَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ إِلَّا مَعَ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وَالْإِيقَانِ بِالْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ إلا بذاك وقد أمر الله الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]
وقال تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [الْعَنْكَبُوتِ:46]
وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [النِّسَاءِ:47]
وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الْمَائِدَةِ:68]
وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:185]
وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء:152] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى جميع أمر الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ، لَكِنْ لِمُؤْمِنِي أهل الكتاب خصوصية وذلك أنهم يؤمنون بِمَا بِأَيْدِيهِمْ مُفَصَّلًا فَإِذَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَآمَنُوا بِهِ مُفَصَّلًا كَانَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْإِيمَانُ بِمَا تَقَدَّمَ مُجْمَلًا كَمَا جَاءَ فِي الصحيح إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدّقوهم وَلَكِنْ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ إِيمَانُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ بِالْإِسْلَامِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ مِنْ إِيمَانِ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَهُمْ وَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ أَجْرَانِ مِنْ تِلْكَ الحيثية فغيرهم يَحْصُلُ لَهُ مِنَ التَّصْدِيقِ مَا يَنِيفُ ثَوَابُهُ عَلَى الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ حُصِّلَا لَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أُولئِكَ أَيْ الْمُتَّصِفُونَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ مِنَ الَّذِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَالْإِيمَانِ بِمَا أنزل إِلَى الرَّسُولِ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْإِيقَانِ بالدار الآخرة، وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة وترك المحرمات عَلى هُدىً أي على نُورٍ وَبَيَانٍ وَبَصِيرَةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،الشيخ: وهذه بشارة من الله جل وعلا لأهل الإيمان والهدى والاستقامة أنهم قد استقروا على الهدى وثبتوا على الهدى وأنهم الفائزون بالفلاح والظفر والحصول على الخير في العاجل والآجل يعني هؤلاء المتقون الذين آمنوا بالغيب وما غاب عنهم من أمر الله وصفاته وأمر الآخرة والمغيبات كلها التي أخبر بها الرب أو أخبر بها رسوله محمد عليه الصلاة والسلام فهم مصدقون بذلك مؤمنون بذلك وهم مع هذا يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله من الزكاة وغيرها وهم مع ذلك يؤمنون بما أنزل الله على نبيه ﷺ وما أنزل من قبله على الرسل الماضين وهم مع هذا أيضاً بالآخرة موقنون مصدقون إيقانًا حملهم على أداء الفرائض والابتعاد عن المحارم؛ لأن من مقتضى اليقين والإيمان الصادق مقتضى ذلك للتنفيذ، يعني مقتضى هذا الايمان العظيم بالغيب هو اليقين بالاخرة والتصديق بالمنزل مقتضى هذا الايمان وموجبه أداء ما فرضه الله وترك ما حرمه الله والاستعداد الكامل لهذا الأمر الذي وعدوا به وسوف ينتقلون إليه وهو أمر الآخرة، هؤلاء الذين هم هذه صفاتهم على هدى من ربهم أولئك على هدى من ربهم يعني أولئك قد استقروا وثبتوا على الهدى قال على هدى يعني استقروا عليه وثبتوا عليه.
وأولئك هم المفلحون، يعني على نور وعلى هداية وعلى بصيرة وهم أهل الفلاح يعني الفلاح الكامل، ولهذا حصر الفلاح فيهم فقال: وأولئك هم المفلحون كأنه لا مفلح غيرهم لكمال فلاحهم ولكمال ظفرهم بالخير وحصولهم على أسباب السعادة جعلهم كأنهم هم الفالحون وحدهم، لأنه أتى بها في جملة إسمية مؤكدة بواو الفصل أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون يعني هم أهل الفلاح والفلاح في لغة العرب الحصول على المطلوب، فمن حصل على مطلوبه أفلح ومن حصل على الجنة والسلامة والنجاة من النار فقد أفلح.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَاسْتِقَامَةٍ على ما جاءهم به وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا.
وقال ابن جرير: وأما معنى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ فإن معنى ذلك فإنهم عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ بتسديده إياهم وتوفيقه لهم وتأويل قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ الْمُنْجَحُونَ الْمُدْرِكُونَ مَا طَلَبُوا عِنْدَ اللَّهِ بِأَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مِنَ الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَالْخُلُودِ فِي الْجَنَّاتِ وَالنَّجَاةِ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْعِقَابِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ قَوْلًا عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَعَادَ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِلَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ الْآيَةَ، على ما تقدم من الخلاف، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَأَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَاخْتَارَ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مُؤْمِنِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِمَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَمَّا الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنَ التَّرْجِيحِ أَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً وَالْإِشَارَةُ عَائِدَةٌ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.الشيخ: وهذا هو الصواب، فإن الثناء على الجميع وأنه لا يتم هذا إلا بهذا لا يتم الإيمان بالغيب مع إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلا مع الإيمان بما أنزل على محمد وبما أنزل من قبله واليقين بالآخرة هذا وصف للجميع، ومن قال بأنه أراد به أهل الكتاب فمراده مع ما تقدم يعني من الإيمان السابق، فالمراد بهذا كله وصف الجميع، وصف المؤمنين من العرب والعجم من أهل الكتاب وغيرهم، فجميع المؤمنين من العرب والعجم والجن والإنس جميع المكلفين من جميع الأجناس كلهم داخلون في هذه الأوصاف من آمن بالله جل وعلا يعني بالغيب الذي هو داخل فيه الإيمان بالله والإيمان بجميع ما أخبر الله به ورسوله عما مضى وعما سيكون وأقام الصلاة وأنفق مما رزقه الله وآمن بما أنزل على محمد ﷺ من القرآن العظيم والسنة المطهرة وبما أنزل على من قبله من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى وغير ذلك الإيمان بالمنزل على جميع الأنبياء وأيقن بالآخرة وأنها حق واستعد لها هؤلاء هم المفلحون جميعًا جنًا كانوا أو إنسًا عربًا أو عجمًا.
وَقَدْ نُقِلَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وقال ابن أبي حاتم: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حدثني عبيدالله بن الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ وَاسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ عمرو عَنْ عبداللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَقِيلَ لَهُ: يَا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو وَنَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَكَادُ أَنْ نَيْأَسَ أَوْ كما قَالَ، فَقَالَ: أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَمْ ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ-إلى قوله-الْمُفْلِحُونَ هَؤُلَاءِ أَهْلُ الْجَنَّةِ، قَالُوا: إِنَّا نَرْجُو أَنْ نَكُونَ هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ-إِلَى قَوْلِهِ-عَظِيمٌ هَؤُلَاءِ أَهْلُ النَّارِ قَالُوا: لَسْنَا هُمْ يَا رَسُولَ الله، قال: أجل.