الأصول التي يبني عليها المفتي فتواه

ومن العلوم التي يبني عليها الفتوى ويعتمدها في إفتائها بين أهل العلم تلك الأصول التي يجب أن يلتزم بها المفتي والحاكم، وكان أحمد رحمه الله بنى فتواه على أصول خمسة ذكرها أصحابه، وذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه الإعلام، وذكرها غيره، وهي في الحقيقة واضحة من كلام أئمة الحديث وكلام أهل الفتوى وأهل العلم علم الأحكام عندما يتأملها طالب العلم، فقد بنى رحمه الله مذهبه على تلك الأصول التي بينها أصحابه وهي خمسة:

الأصل الأول: النصوص من الكتاب والسنة وهذا مجمع عليه بين أهل العلم، فإن الفتوى والقضاء وغير ذلك يجب أن يبنى على هذه الأصول في أحكام الله ، فالعلم قال الله قال رسوله، فعلى المفتي والحاكم والمدرس والمرشد وغير ذلك عليهم أن يعنوا بالكتاب والسنة، وأن تكون أحكامهم وفتاواهم وتوجيههم وإرشادهم وأمرهم ونهيهم على هذا الأساس، فيتدبروا القرآن، ويعنى بالسنة ويستنبط الأحكام منهما ويستعين بكلام أهل العلم من الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة الأربعة وأتباعهم ولا يقتصر ذلك على الأئمة الأربعة وأتباعهم، بل يكون عند طالب العلم عناية بكلام السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والأئمة الآخرين كالأوزاعي وإسحاق بن راهوية وأبي ثور والثوري وغيرهم من أهل العلم، فيستعين بكلامهم ويوازن بين كلام العالم والعالم في مسائل الخلاف ويعرض ذلك على الدليل الذي فهمه أو القاعدة التي فهمها حتى يتميز له أرجح القولين أو الأقوال، وحتى يطمئن إلى أحد القولين أو الأقوال، ثم يفتي أو يحكم، ومن هذا الباب تنوع فتاوى الأئمة وأقوالهم وأقوال الصحابة قبلهم كل هذا من أسباب النظر في الأدلة، واختلاف الفهم والرأي، فقد ينظر العالم في الأدلة في وقت فيظهر له رأي، ثم يعيد النظر، فيظهر له رأي آخر، ثم يعيد النظر فيبين له أمر ثالث، ولهذا قد يقع للعالم في المسألة الواحدة ثلاثة أقوال أو ثلاث روايات أو أكثر من ذلك، فالواجب على المفتي وعلى الحاكم، ونحوهما ألا يتسرع في مسائل الخلاف، أما مسائل الإجماع فالأمر فيها واسع والحمد لله، الأمر فيها بين لكن في مسائل الخلاف هي محل العناية، فالواجب أن يتحرى فيما دل عليه الكتاب والسنة أولًا.

فإن لم يجد نظر في فتاوى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا هو الأصل الثاني لأحمد رحمه الله، وهو أصل آخر عند الجمهور، وهو النظر في فتاوى الصحابة رضي الله  عنهم وأرضاهم، فهم أعلم الناس بالسنة، وأعلمهم بالكتاب العزيز وأقربهم إلى الخير، وأبعدهم عن الخطأ، فإذا اجتمع رأيهم على شيء فهو الصواب.

وإن اختلفوا نظر العالم في أقوالهم، وهذا هو الأصل الثالث لأحمد رحمه الله، وللأكثر من أهل العلم، ينظر في أقوالهم ويتحرى ما هو الأقرب إلى الدليل الذي فهمه من الكتاب والسنة أو القاعدة التي فهمها، فما كان أقرب إلى أصول الشريعة وقواعدها أخذ به من أقوالهم، وهذا يحتاج إلى عناية وصبر، وسؤال الله التوفيق والهداية والتجرد من الهوى، فإن لم يجد نظر في المرسلات والأحاديث الضعيفة التي لم تتوافر فيها شروط الصحة، وهذا أصل رابع هذا المقام قد يقدمه العالم على أقوال الصحابة، وقد يؤخره على حسب اجتهاده، فقد يبين للعالم صحة الحديث وأنه صالح للحجة، فيقدم على أقوال الصحابة، وقد يضعف ولا يقوى فيقدم عليه أقوال الصحابة لأنهم أمس بالمقام، وأعلم بسنة الرسول ﷺ وأقرب الناس عهدًا إلى التشريع، هذا المقام مقام عظيم، فإن التضعيف يختلف فيه أهل العلم، فقد يقوى الضعف وقد يضعف، وقد يتأيد المرسل بمرسل آخر أو بحديث فيه ضعف، وقد لا يتأيد هذا المقام الرابع مقام يحتاج إلى عناية من المفتي والقاضي ونحوهما بجمع الأدلة وضم بعضها إلى بعض، فإن ترجح عنده ثبوت ذلك عن الرسول ﷺ، وأن هذه الأدلة المتنوعة يطمئن إلى أن معناها صحيح وأن مثلها ينبغي أن يقدم على قول الصحابي قدمها وإلا قدم أقوال الصحابة في المقام على تلك الأحاديث التي فيها الضعف أو فيها المراسيل، فالمقام مقام عظيم جدًا، والغالب أن من تجرد لله وأصلح نيته ونظر في الأدلة وجمع بعضها إلى بعض واعتنى بما قاله أهل العلم في كتب الحديث فإنه في الغالب يوفق ويهدى إلى الصواب، ويعلم الراجح من المرجوح، ويتضح له حال تلك المرسلات أو الأحاديث التي فيها الضعف، هل يعتمد مثلها؟ أو لا يعتمد.

أما الأمر الخامس وهو القياس وهذا مثل ما قال الشافعي وغيره عند الضرورة إذا لم يجد مساغًا إلا القياس رجع إليه، ومهما وجد قبله ما يدل على الحكم أخذ به من هذه الأصول الأربعة.