الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد سمعنا جميعًا هذه الندوة المباركة التي تولاها صاحبا الفضيلة: الشيخ صالح الأطرم، والشيخ صالح الفوزان، في موضوع السحر وعلاجه، وطرق اتقاء شره، وقد بين الشيخان ما يجب في هذا الباب، وأجادا وأفادا، ضاعف الله مثوبتهما، وزادنا وإياكم وإياهما علمًا وهدى وتوفيقًا، ونفعنا جميعًا بما سمعنا وبما نعلم.
لا ريب أن السحر من الجرائم العظيمة، ومن أنواع الكفر، ومما يبتلى به الناس قديمًا وحديثًا في الأمم الماضية، وفي الجاهلية، وفي هذه الأمة، وعلى حسب كثرة الجهل وقلة العلم وقلة الوازع الإيماني والسلطاني يكثر أهل السحر والشعوذة، وينتشرون في البلاد للطمع في أموال الناس، والتلبيس عليهم، ولأسباب أخرى، وعندما يظهر العلم ويكثر الإيمان ويقوى السلطان الإسلامي يقل هؤلاء الخبثاء، وينكمشون، وينتقلون من بلاد إلى بلاد لالتماس المحل الذي يظن فيه باطلهم، ويتمكنون فيه من الشعوذة والفساد.
وقد بين الشيخان نوع السحر وحكمه، فالسحر سمي سحرًا لأن أسبابه خفية؛ لأن السحرة يتعاطون أشياء خفية يتمكنون بها من التخييل على الناس، والتلبيس على الناس، والتمثيل على عيونهم، وإدخال الضرر عليهم، وسلب أموالهم إلى غير ذلك بطرق خفية لا يفطن لها في الأغلب، ولهذا يسمى آخر الليل سحرًا كما سمعتم؛ لأنه يكون في آخر الليل عند غفلة الناس وقلة حركتهم، ويقال للرئة سحر لأنها في داخل الجسم وخفية، وسمعتم معناه في الشرع، وفي عرف الناس، وأنه يتكون من أشياء يفعلها السحرة، يتكون من عقد ينفثون فيها، ويكون من أعمال أخرى يتوصلون إليها من طريق الشياطين، فيعملون أعمالًا قد تغير عقل الإنسان، وقد تسبب مرضًا له، وقد تسبب تفريقًا بينه وبين زوجته، فتقبح عنده ويقبح منظرها فينفر منها ويكرهها، وهكذا هي قد يعمل معها ما يبغض زوجها إليه وينفرها من زوجها.
وهو كفر صريح بنص القرآن حيث قال : وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، فأخبر عن كفرهم بتعليمهم الناس السحر قال بعدها: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [البقرة:102]، ثم قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، يعني هذا السحر وما يقع منه من الشر كله بقدر سابق بمشيئة ربنا لا يغلب جل وعلا، ولا يقع في ملكه ما لا يريد، بل لا يقع شيء في هذه الدنيا إلا بقدر، ولا في الآخرة، كله بقدر سابق، لحكمة بالغة شاءها ، فقد يبتلى هؤلاء بالسحر، ويبتلى هؤلاء بالمرض، ويبتلى هؤلاء بالقتل إلى غير ذلك، ولله الحكمة البالغة فيما يقضي ويقدر وفيما يشرعه سبحانه لعباده، ولهذا قال سبحانه: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102] يعني بإذنه الكوني القدري، لا بإذنه الشرعي، الشرعي يمنعهم من ذلك، ويحرم عليهم ذلك، لكن بالإذن القدري الذي مضى به علم الله وقدره السابق أنه يقع من فلان السحر، ويقع من فلانة، ويقع على فلان وعلى فلانة، كما مضى بقدره بأن فلان يصاب بقتل يصاب بمرض كذا يصاب بمرض كذا يوم في بلد كذا يرزق كذا يحرم كذا يغتني يفتقر كله بمشيئة الله وقدره إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22].
فهذه الشرور التي قد تقع من السحرة ومن غيرهم لا تقع عن جهل، فربنا هو العالم بكل شيء لا يخفى عليه خافية جل وعلا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، فهو يعلم كل شيء، ولا يقع في ملكه ما لا يريد ، ولكن له الحكمة البالغة والغايات المحمودة فيما يقضي ويقدر مما يقع في الناس من عز وذل وإزالة ملك وإقامة ملك ومرض وصحة وسحر وغيره، وسائر الأمور التي تقع في العباد كلها عن مشيئة وعن قدر سابق.
وهؤلاء السحرة قد يتعاطون أشياء تخيلية كما قال : قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، يخيل إلى الناظر أن هذه العصي وأن هذه الحبال حيات تسعى في الوادي، وهي حبال وعصي، لكن غيروا وضعوا أشياء تعلموها تغير الحقائق على الناس بالنظر إلى أبصارهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، قال في آية أخرى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116]، سحروا أعينهم وإلا الحقيقة ما تغيرت، هي حبال وهي عصي ...... يعني يفعلون أشياء تجعل للإنسان ما يشعر بالحقيقة على ما هي عليه، يكون بصره لا يدرك الحقيقة، فقد يؤخذ ما في دكانه ولا يدري ما يعرف الحقيقة، فيرى الحجر دجاجة، أو يرى الحجر بيضة، أو يرى الحجر كذا وكذا، قد غير الأمر في عينيه سحرت عينه، وجعل هناك من الأشياء التي يتعاطونها من المواد التي تجعل عينيه لا تريان الحقيقة، تريان الحقيقة على غير ما هي عليه.