تفاضل الأعمال بعضها على بعض

لا ريب أن الأمر كما قال فضيلة...، فإن الله جل وعلا فضل بعض الأعمال على بعض، فالله فوات بين الأعمال الفرائض والنوافل، فمن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح القدسي الذي أشار إليه فضيلته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.. الحديث هذا يدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء الفرائض قبل النوافل هو أحب شيء إليه جل وعلا، وأنه ما تقرب المتقربون إليه بأحب إليه من أداء الفرائض، فالتقرب إليه بأداء الفرائض هو الواجب، وهو أحب شيء إليه ، ولهذا فرضه.

ومن العجب العجيب والأمر المنكر أن يتقرب العبد بالنوافل وأن يضيع الفرائض، هذا من علامات الهلاك والدبور، فالواجب أن يتقرب بالفرائض بالصلوات الخمس المفروضة، ويهتم بها أكثر من اهتمامه بالنوافل، يتقرب بصوم رمضان أعظم وأكبر من تحريه النوافل من الصيام، يتقرب بأداء الزكاة من ماله ويخرجها طيبة بها نفسه أعظم وأكبر من تقربه ببقية النوافل من الصدقات، وهكذا الحج، وهكذا الجهاد، وهكذا غير ذلك، فالمؤمن يعنى عناية كاملة بالفرائض قبل النوافل، ويعطيها حقها من العناية؛ لأن الله فرضها عليه، وجعل في تركها غضبه وعقابه، فليس الفرض كالنفل.

ومما يتعلق بتفضيل الأعمال بعضها على بعض ما روى الشيخان أيضًا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة أو قال: بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان، فجعل الأعمال متفاضلة، الإيمان بضع وسبعون شعبة، والإيمان هو الدين هو الإسلام، فإن الإيمان إذا أطلق دخل فيه الإسلام، وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان كما في قوله : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19] يعني والإيمان، فإن الإيمان هو التصديق بالقلوب، ويتفرع عنه العمل بالجوارح، وهذا هو الإسلام هو الانقياد لله بالجوارح وبالقلوب تعظيمًا وتوحيدًا وإخلاصًا وطاعة وامتثالًا، فالإسلام هو الإيمان، والإيمان هو الإسلام، وهو البر والتقوى، وهو الهدى والصلاح، وسمي دين الله إيمانًا لما فيه من التصديق بالله وبما شرع لعباده، وبما حرم عليهم، فسمي إيمانًا بذلك؛ لأنه التصديق، وسمي إسلامًا لما يتضمنه دين الله من الإسلام له سبحانه من الانقياد والذل، فإنه يقال: أسلم لكذا، أي انذل له وانقاد، وسمي المسلم مسلمًا لذله لله وانقياده لأمره وطاعته له ، ومن هذا قوله جل وعلا: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران:83] يعني ذل وخضع له ، ومن هذا قوله جل وعلا: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة:112] يعني أخضع قلبه وعمله وجميع جوارحه لله طاعة وتعظيمًا وإخلاصًا، وسمي برًا لأنه كله خير، لأن الإسلام والدين كله خير، كله طاعة، كله تعظيم لله، كله إحسان، ولهذا سمي برًا وسمي تقوى؛ لأن هذا الدين كله تتقى به عقوبة الله، ويتقى به غضب الله، فلهذا قيل له: تقوى؛ لأنه يقي أهله عذاب الله، ويقيهم غضبه، ويقيهم سوء المصير، وسمي هدى لأن الله هدى به العباد إلى خير أمر، وإلى أسباب النجاة، وإلى أسباب السعادة، هذا هو وجه هذه الأسماء.

فالأعمال متفاضلة، فأفضلها شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، هاتان الكلمتان هما أساس الملة، هما أساس الدين، هما أعظم أركان الإسلام، وأفضل أركان الإسلام كما في الحديث الصحيح، يقول عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس: شهادة ألا أله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، فبدأ بهذين الأمرين: بشهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وهكذا في حديث سؤال جبريل لما سأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الإسلام قال: الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، الحديث فبدأ ذلك بالشهادتين، وهكذا لما بعثه الله بدأ أهل مكة وغيرهم ممن وفد إليه بدأهم بالشهادتين، دعاهم إلى أن يوحدوا الله، إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، وإلى أن يشهدوا أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، قبل أن يأمرهم بالصلاة وغيرها، فعلم بذلك أن هاتين الشهادتين هما أهم الأمور، وهما أفضل الأعمال، وهما أفضل أركان الإسلام، وهما أفضل خصال الدين.

ثم يلي ذلك الصلاة، فإنها أفضل الأعمال وأهم الأعمال بعد الشهادتين، فعلم بهذا أن الأعمال متفاضلة، وأن واجبها أفضل من نافلتها، حق على أهل الإسلام أن يعنوا بهذا، وأن يجعلوه على بال، وألا يضيعوا هذا الواجب الذي هو أوضح من الشمس في رابعة النهار، وأن ينكروا على من ضيع ذلك واشتغل بالنوافل والمستحبات عما فرض الله عليهم، فإن هذا ضلال بعيد وكفر بواح، نسأل الله العافية، فإن من ضيع ما أوجب الله عليه من توحيده والإخلاص له أو ضيع ما أوجب الله عليه من الصلاة وتعمد ذلك أو أنكر وجوب ذلك واشتغل بغير ذلك فقد اشتغل ما لا ينفعه بما هو تعب عليه، فإن من وقع في الكفر بطلت أعماله فلم تنفعه أعماله التي يعملها بعد ذلك لخراب الأساس وفساد الأساس، كما قال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5] إلى غير ذلك من الآيات والأدلة.