وهكذا في الأماكن فضل بعضها على بعض؛ ليخصها المؤمنون بما تستحق، وليتنافسوا في ذلك، فجعل مكة أفضل البقاع، وجعلها أم القرى، وجعل الأعمال فيها عظيمة، ولها شأن في الفضل، وجعل الصلاة في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة، هذا فضل عظيم، وجعل الهم بالمعصية فيه متوعد صاحبه بالعذاب الأليم، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] يرد يعني: يهم ويقصد، فإذا كان من هم بالمعصية في البلد الحرام يستحق هذا الوعيد، فكيف بمن فعل؟ كيف من فعل وباشر المعصية فيه، هذا يدل على أن الأمر عظيم، وأن المعاصي في مكة خطرها عظيم، وأنها أعظم بكثير من المعاصي في أماكن أخرى، فعلى سكان مكة أن يحذروا ذلك غاية الحذر، وعلى من وصل إليها أو مر بها أو أقام بها ولو قليلًا أن يحذر حتى لا يقع في هذا البلاء العظيم.
وكما أن المعصية فيها تضاعف من جهة الكيفية ومن جهة شدة الإثم فإن الطاعات فيها تضاعف كيفية وكمية جميعًا، فالحسنات فيها مضاعفة، والسيئات فيها مضاعفة من جهة الكيفية لا من جهة العدد، فمن جاء بالسيئة فليس عليه إلا واحدة، كما قال : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، هذا هو المعتمد عند أهل السنة والجماعة، أن الحسنات تضاعف كمية وكيفية في بلد الله الحرام، وفي غيرها، أما السيئات فإنها تضاعف في الزمن الفاضل والمكان الفاضل كيفية لا كمية، فسيئة في رمضان أعظم في الإثم من سيئة في شعبان وشوال، وسيئة في البلد الحرام أو في مكة أو في المدينة أعظم من سيئة غيرهما من جهة الإثم لا من جهة التعدد.
وهكذا أخبر النبي ﷺ أنه حرم المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعا لأهلها في صاعهم ومدهم بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة، فأفضل البقاع بعد مكة المدينة المنورة، والله يختص بفضله من يشاء ، ومسجده ﷺ أفضل المساجد وأعظمها بعد مسجد الله الحرام، وقال فيه: صلاة في مسجدي هذا خير من ألف مما سواه إلا المسجد الحرام.
وهكذا المسجد الأقصى مسجد القدس مسجد إيلياء هو الثالث وهو الأخير في الفضل، هو بعد المسجدين في الفضل، وجاء في الحديث أن الصلاة فيه بخمسمئة صلاة هذا فضله سبحانه يخص به من يشاء جل وعلا.
وهكذا الأشخاص يقول جل وعلا: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253]، فضل الرسل بعضهم على بعض، وفضل العباد بعضهم على بعض، والأمم بعضهم على بعض، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، فكل من كان عمله أكثر صلاحًا وكان علمه أكثر وكان تقواه لله أكثر صار مفضلًا على غيره ممن دونه.