وقد سمعتم ما يتعلق بأمور الجاهلية في العدوى والطيرة لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول، وأنهم يتشاءمون بهذه الأمور، ويعتقدون فيها أمرًا باطلًا، فيظنون أن العدوى تعدي بطبعها، وأنه متى وقع البعير الأجرب في الإبل الصحاح جربت حتمًا، وهكذا تطيرهم، وهكذا زعمهم في الهامة، وهي البومة، وهكذا زعمهم في صفر، وهكذا في الأنواء والغول، كله أبطله الإسلام.
وليس معنى ذلك إنكار أن تكون المخالطة سببًا لا، قد جرت سنة الله أن المخالطة قد تؤثر، فإذا خلطت الجرب بالإبل الصحاح قد تجرب، قد يقع هذا كثيرًا، ولهذا نهى النبي ﷺ قال: لا يورد ممرض على مصح، يعني: لا يورد من الإبل المراض من جرب ونحوه على إبل مصحة، يعني على صحاح، بل يتباعد عن ذلك، ويتخذ الأسباب، فالأمراض التي عرف باختلاطها بالأصحاء تنتقل إليهم يجب إبعاد ذلك عنهم، وألا يتسبب في إلحاق الضرر بالأشياء الصحيحة، لكن مع اعتقاد أنه بيد الله جل وعلا، وأنه متى شاء لم تعد، فكم من جرباء خالطت صحاح وكم من شخص باشر الأمراض والمرضى ولم يصبه إلا الخير، فالأمور بيد الله جل وعلا.
ولهذا لما قال الأعرابي: يا رسول الله الإبل تكون كذا وكذا، يدخل فيها البعير الأجرب فتجرب كلها، قال: فمن أعدى الأول؟ يعني من الذي أنزل الجرب في الأول؟ هذا الأول الذي نزل به الجرب من أعداه؟ ما عنده جُرب، أنزل الله به المرض حتى صار أجربًا، فالذي أنزله في الأول هو الذي ينزله في الثاني إذا شاء سبحانه وتعالى، فالواجب الاعتقاد فيه سبحانه أنه مصرف الأمور ومدبرها، ثم الأخذ بالأسباب والبعد عن أسباب الشر.
فالأمراض التي يعرف أنها من أسباب الانتقال من المريض إلى الصحيح يبتعد عنها، كما قال النبي ﷺ: فر من المجذوم فرارك من الأسد يعني: ابتعد عن مخالطته مع أنه ﷺ أراد إبطال سنة الجاهلية، فأخذ بالمجذوم في بعض الأحيان، وقال: كل بسم الله ثقة بالله، وقال: ارجع فقد بايعناك، فالأخذ بالأسباب مطلوب، ولكن عند إرادة إبطال حال الجاهلية لا مانع من أن يخالط لإبطال عادات الجاهلية، وبيان أن الأمر بيد الله .
وقال ﷺ: لا يورد ممرض على مصح لا يخلط صاحب الإبل أو الغنم أو البقر المريضة في غنمه أو إبله أو بقره بالصحيحة تباعدًا لأسباب انتقال هذا المرض، ووجود العدوى، فإبطال العدوى من جهة أنها لا تعدي في طبعها وأن الأمراض لا تعدي بطبعها، وليس معناها أنه لا يوجد هذا الشيء، ولكن المقصود تصحيح العقيدة، وبيان أن الأمر بيد الله عز وجل، وأن انتقال هذا المرض إلى كذا وإلى كذا ليس بطبعه وليس باختياره، وليس بطبع أحد من الناس، ولا باختيار أحد من الناس، ولكنه أمر الله الذي قدر ذلك، وجعل هذا الاختلاط أو هذه المماسة أو هذا الهواء الذي انتقل من مكان إلى مكان أو ما أشبه ذلك جعله سببًا لانتقال هذا المرض من هذا المكان إلى هذا المكان.
ومن ذلك قوله ﷺ في الطاعون قال: من سمع به في بلد فلا يقدم عليه، فهذا من باب توقي الأسباب الضارة، من باب التوقي، ومن وقع وهو فيه فلا يخرج فرارًا منه إذا خرج لأسباب أخرى لا بأس، أما يخرج فرارًا لا.
وهكذا ما يقع لبعض الناس من التشاؤم من صفر، وقد أبطله النبي ﷺ قال: لا صفر قال جمع من أهل العلم: المراد بصفر هنا هو الشهر، وأن بعض الناس يتشاءم بالزواج فيه، أو بأشياء أخرى، فأبطل النبي ذلك عليه الصلاة والسلام، وقال بعض أهل اللغة: إن صفر حية في البطن -دابة في البطن- يقال لها: صفر، كانوا يرون أنها أعدى من الجرب، فأبطلها الإسلام، فالمقصود أن التشاؤم بصفر أو بدابة يعتقدون أنها في البطن كله باطل.
وهكذا التعلق بالأنواء وسؤالها أو الاستغاثة بها كله باطل، وهكذا الغول يزعمون أن الغيلان تفعل وتبطش وتفعل كذا وكذا ينسب الأمر إليها، ويعتقد أنها تتصرف بذاتها، كله باطل، بل هي متصرفة بإذن الله لا بإذن نفسها ولا بقدرتها، بل بإذن الله عز وجل.
وهكذا الطيرة يعتقدونها وهي باطلة لا أساس لها، قال فيها النبي ﷺ: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم يعني: لا حقيقة له، وهي التشاؤم بالمرئيات أو المسموعات حتى يمضي في حاجته أو يرجع، فالنبي ﷺ أبطل ذلك، وقال: أحسنها الفأل، الفأل لا بأس به، في اللفظ الآخر: ويعجبني الفأل هو يسمع كلامًا طيبًا أو يرى شيئًا حسنًا يمضي في حاجته لا يرجع عن حاجته، بل يمضي في حاجته ولا يضره ذلك، وإنما تفاءل به وسره الكلام الطيب، كالذي يطلب ضالة فيسمع إنسانًا يقول: يا موفق، أو يا ناجح، فيتفاءل وهو في حاجته.
وقال النبي ﷺ: إذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يمضي في حاجته لا يرجع عن حاجته، وإذا خاف من ذلك يقول: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، يعني: المصائب، ولا حول ولا قوة إلا بك.
فالرسول ﷺ دل الأمة على كل ما ينفعها، ويقربها من الله، ويبعدها من أمر الجاهلية، ومن شرورهم، ويبعدهم أيضًا مما يغضب الله من المعاصي، فهو دعاهم إلى كل خير، وأرشدهم إلى كل أسباب النجاة في الدنيا والآخرة، وحذرهم من أسباب الشر والهلاك والفساد في الدنيا والآخرة، وفي هذا المعنى يقول ﷺ: ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، فقد بلغ عليه الصلاة والسلام وهو أفضل الأنبياء وأكملهم بلاغًا عليه الصلاة والسلام، فقد بلغ البلاغ المبين، وأنذر الأمة من كل شر، ودعاها إلى كل خير، فجزاه الله عن هذه الأمة خيرًا، وصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، وجعلنا وإياكم من أتباعه بإحسان.