أهمية العدل وأداء الأمانات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه. أما بعد:

فقد سمعنا جميعًا هذه المحاضرة القيمة التي تفضل بها صاحب الفضيلة الشيخ: محمد بن عبدالرحمن الراوي، فيما يتعلق بموضوع العدل، وإقامة العدل في الأرض، وقد أجاد وأفاد وأحسن فيما أوضح وبين، زادنا الله وإياكم وإياه علمًا وهدى وتوفيقًا، وجزاه الله خيرًا عما قدم.

ولا ريب أن الموضوع هو كما أشار فضيلته إليه، الله جل وعلا أنزل كتبه العظيمة على أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، ومن جملة ذلك ما أنزل على خاتمهم وإمامهم وأفضلهم محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وهما طريق العدل، وسلم العدل وآية العدل تحكيمهما والعمل بهما والرجوع إليهما صغير وكبير والدقيق والجليل، ولهذا قال سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]، وهو العدل وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25] يعني لينفذ ما يقتضيه العدل، وما يدعو إليه العدل، فالناس بين أمرين: إما خاضع للحق وطالب للحق ومقتنع به، فهذا لا يحتاج إلى الحديد، بل يكفي الوعظ والتذكير والبيان والدلالة، وهو بإيمانه ورغبته في الخير يسارع إلى العدل فينصف من نفسه ويطلب الإنصاف من غيره ولا يرضى بالجور والظلم، والإنصاف من النفس من أعظم خصال الإيمان، ولو أن الناس أنصفوا من أنفسهم لاستراح الناس من تعب كثير، ولاستراح القضاة والأمراء والحكام من أعمال كثيرة متعبة، ولهذا قال عمار بن ياسر رضي الله عنه الصحابي الجليل: "ثلاث من استكملهن استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام في العالم، والإنفاق مع الإقتار"، والله جل وعلا قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].

فبأداء الأمانات والحكم بالحق والعدل تستقيم أمور العالم، وتأمن بلادهم، ويأمن العباد، وتنتهي المشاكل، ولكن الإنسان في الأغلب لا يؤدي الأمانة ولا يرضى بالعدل، هذا هو الغالب على البشر عدم أداء الأمانة وعدم الرضا بالعدل، من طبيعته الظلم والجهل، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، فهو يطمع في كل شيء لنفسه ولا ينصف من نفسه، فلهذا تقوم الحروب وتقع المشاكل لأداء الأمانة وللإنصاف والعدالة، ولما علم أصحاب النبي الكريم ﷺ ذلك وعرفوا ما في ذلك من الخير العظيم في العاجلة والآجلة استقام أمرهم وأدوا الأمانات وحكموا بالعدل وصاروا سادة الناس وملكوا الدنيا وأخضعوها لحكم الله ، فما بين مسلم قائم بأمر الله وما بين كافر مؤد للجزية ملتزم بالصغار أو مؤد للخراج كاف شره عن الناس لأنه رأى من الأمانة والعدل ما يمنعه وما يذله ويخضعه لما طلب منه.

فبالأمانة تؤدى الحقوق: حق الله، وحق العباد، وبالعدالة يردع الظالم وينصف المظلوم، ولما ضعف الأمر في هذين الجانبين اختلت الأمور وتفرق الناس، وصاحب الهوى لا يرضى إلا لهواه، ولا يؤدي الأمانة التي عليه لكبره وخيلائه وغطرسته أو لجهله وعدم بصيرته، والحاكم الجاهل وصاحب الهوى لا يحكم العدل، وقد لا يستطيع إقامته لضعفه وعدم ما يعينه على إنفاذ الحق والحكم بالعدل في الآخرين، ولهذا قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء:135] أي العدل شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135]؛ لأن والي الأمر وبقية الرعية متى التزموا بهذا الأمر هدأت الأمور واطمأن الناس، ولم يجد صاحب الهوى والظلم سلطانًا لتنفيذ هواه وظلمه، وبذلك يحصل الأمن الكامل وتنفذ الأمور ويسود الحق وتنتشر الفضائل وتختفي الرذائل في كل مكان يسود فيه أداء الأمانة ويسود فيه حكم العدالة، ولهذا جمعهما سبحانه في هذه الآية العظيمة التي يقال لها: آية الأمراء إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] هذان جماع الأمر وجماع الخير في الراعي والرعية، وكل بلد وكل إقليم وكل دولة يسود فيها هذان الأمران ويتواصى بهما الراعي والرعية يستقر فيها الأمر وتأمن فيها السبل وتؤدى فيها الحقوق ويظهر فيها دين الله وتعلو فيها كلمته.

وكل واحد من المكلفين مسؤول عن نفسه ومحاسب، فالراعي عليه أعظم الواجب وأهم الواجب لأداء الأمانة ونصر الحق وإقامة العدل، وعلى كل واحد من الرعية أن يحاسب نفسه حتى يؤدي الأمانة، وحتى يؤدي العدالة، وينصف من نفسه، فيؤدي الحق بلا تعتعة وبلا أذى، ويمنع شره عن الناس، ويقف عند الحدود، ولهذا سمعتم الآية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [النساء:135]، يؤدي الحق ولا يحتاج إلى خصومة، بل يؤديه أو يستسمح صاحبه ويخبره بالموانع والأسباب وهو صادق مجتهد في أداء الحق، ولو كان الحق على والديه، أو على الأقربين منه غير الوالدين، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، لا يحابي غنيًا ولا فقيرًا، يؤخذ الحق من الغني والفقير ويدفع الحق للغني والفقير، كل يعطى حقه، فالله أولى بهما سبحانه، وهو الحاكم جل وعلا، هو الذي شرع الشرائع وأنزل الأحكام وأمر بالتنفيذ، ولهذا قال بعدها: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، يعني يجب أن يبتعد عن الهوى، قال تعالى لداود عليه الصلاة والسلام: وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50]، فاتباع الهوى رأس كل شر، وباب كل بلاء، ثم قال: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].

إذا الشاهد أو الحاكم أو الأمير أو غيرهم من المسؤولين لووا فيما لديهم ولم يؤدوا الحقوق كما هي ولم يؤدوا الشهادة كما هي ولم يؤدوا الأمانة كما هي أو أعرضوا عن ذلك وتناسوا ذلك وقعت الكارثة وحصل الفساد، فالشهادة تؤدى على وجهها ولا تكتم، والحق يؤدى ولا يبخس، والعدل يقام بين الناس كبيرهم وصغيرهم أميرهم ومأمورهم حتى يسود العدل، وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا -آية المائدة-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ [المائدة:8] يعني بالعدل وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ [المائدة:8] يعني يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8] يعني البغضاء والشحناء التي بينكم وبينهم، يعني احذروا أن يحملكم ما بينكم من البغضاء أو الشحناء على ترك العدل، بل لا بد من العدل ولو مع البغضاء والشحناء، الواجب عليك أن تعدل ولو مع عدوك وبغيضك، تعطيه حقه، ولو كان عدوًا بغيضًا تنصفه؛ كما في الآية الأخرى آية الأنعام وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152].

احكم بالحق ولو كان المحكوم عليه قريبًا تلزمه بالحق وتحكم بالحق في الخصم، وإن كان عدوا فالإنصاف مطلوب مع العدو ومع القريب ومع البغيض، ولهذا قال بعدها: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، هذا هو واجب المسلمين حكامًا محكومين وعامة وخاصة، كل عليه أن يحاسب نفسه، ولكن يغلب على أكثر الخلق أنه يطلب أداء الأمانة من غيره ويطلب العدالة من غيره ولكنه لا يقوم بهما هو، وهذا من ظلم الإنسان أيضًا أن يكون طالبًا لأداء الأمانة وطالبًا للعدالة وليس يؤديهما هو، فكيف تستقيم الأحوال؟ كيف يحصل لك مطالبك على وجه الأمانة والعدالة وأنت لا تنصف من نفسك ولا تؤدي الأمانة ولا تنصف في العدالة، ومن أجل هذه الأمور كما سمعتم في المحاضرة اختل أمر الناس، واختل نظام الناس، وظهرت بينهم المعاصي والشرور، واختل ميزان العدل بأسباب ضعف الإيمان وعدم القيام بالواجب إلا من رحم الله.

والمؤمن إذا نظر اليوم في العالم الإسلامي وغير الإسلامي عرف ما وقع في الناس من الشرور والفساد واختلال الأمن والعدل؛ لأنهم أعرضوا عن تحكيم كتاب الله وعن تحكيم سنة رسوله عليه الصلاة والسلام وعن القيام بما يجب من أداء الأمانات والحكم بالعدل؛ فلهذا وقع ما وقع من الشرور والفتن، وحل بهم ما حل من الفقر والتفرق والاختلاف والبغضاء والانقسام كله بأسباب أعمالهم وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وكلما كانت الدولة وكانت الأسرة وكانت الجماعة أقرب إلى الإنصاف وأقرب إلى أداء الأمانات وأقرب إلى الحكم بالعدل صارت أكثر خيرًا وأكثر أمنًا وأكثر صلاحًا وأكثر نعمًا، وانظروا هذه البلاد بحمد الله لما كان الخير فيها أكثر والحكم فيها يتحرى فيه حكم الشرع صار فيها من الأمن والخير والطمأنينة والصلاح والإصلاح أكثر مما في غيرها.

فمن أراد السعادة العاجلة والآجلة والأمن العاجل والآجل فعليه بكتاب الله وسنة ورسوله عليه الصلاة والسلام، وعليه بالاستقامة عليهما والثبات عليهما والدعوة إليهما وتحكيمهما وبذلك يحصل له كل خير الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] هكذا فمن آمن بالله ووحده واستقام على أمره فله الأمن في الدنيا والآخرة، وله الهداية في الدنيا والآخرة، وعلى حسب التفريط في هذا أو هذا ينقص الأمن وتنقص الهداية.

فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفق المسلمين في كل مكان للاستقامة على أمره وأداء الأمانة والحذر من الخيانة والاستقامة على العدل وترك الظلم، وأن يوفق قادة المسلمين في كل مكان حكامهم للحكم بشريعة الله والتحاكم إليها وإلزام الشعوب بها.