كمال الشريعة الإسلامية واستغناؤها عن بدع المبتدعين

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فقد سمعنا جميعًا هذه المحاضرة القيمة التي تولاها وقدمها لإخوانه صاحب الفضيلة: الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن ريان، في موضوع عظيم وجدير بالعناية، وهو كمال هذه الشريعة الإسلامية، واستغناؤها عن بدع المبتدعين، وزيادة الجهال وكفايتها للأمة في كل ما تحتاج إليه، ولقد أجاد وأفاد، وأبان ما ينبغي بيانه، فجزاه الله خيرًا، وضاعف مثوبته، وزادنا وإياكم وإياه علمًا وهدى وتوفيقًا، ونفعنا جميعًا بما سمعنا وعلمنا، ورزقنا جميعًا الاستقامة على ما يرضيه، والثبات على دينه، والعافية من مضلات الفتن.

إن الأمر وكما سمعتم هذه الشريعة التي جاء بها خير الخلق وأفضلهم وسيد ولد آدم وخاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام هي شريعة كاملة، ليست في حاجة إلى زيادة أحد من الناس، قال الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3]، فقد أكملها الله لعباده فيما يتعلق بالقلوب والأعمال والأقوال، وبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجون إليه، فما من شيء يقربهم من الله ويباعدهم من غضبه ويدنيهم من رحمته إلا بينه لهم عليه الصلاة والسلام، فلم يقبضه ربه جل وعلا إلا وقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده عليه الصلاة والسلام، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم.

فالأنبياء جميعًا قد بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة، ودلوا أممهم على كل ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وحذروهم من كل ما يضرهم، ونبينا ﷺ هو أفضلهم، وهو إمامهم، فقد دلهم على كل خير، وأنذرهم من كل شر عليه الصلاة والسلام، ولما خطب الناس في حجة الوداع في عرفات في يوم الجمعة في التاسع من ذي الحجة بين لهم ما يحتاجون إليه، وأبان لهم أن أمور الجاهلية مرفوضة، وأن دماء الجاهلية مرفوضة، وأن الربا مرفوض، ودعاهم إلى الثبات على الحق، والاستقامة على دين الله، وأوصاهم بالقرآن العظيم، وأن يتمسكوا به، قال: إني تارك فيكم مالم تضلوا إن اعتصمتم به كتاب الله، هكذا رواه مسلم في الصحيح، زاد الحاكم وغيره: وسنتي.

وعلمهم أشياء من مناسك حجهم، وعلمهم ما يتعلق بحق زوجاتهم عليهم، وحق الأزواج على زوجاتهم، وعلمهم أشياء في هذه الخطبة العظيمة، ثم قال لهم: وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟، قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، عليه الصلاة والسلام، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكبها إلى الناس، ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد عليه الصلاة والسلام.

فقد بلغ الناس ما بعثه الله به من أوامر ونواهي وشرائع وأعمال هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33] بالهدى: العلم النافع والأخبار الصادقة عما كان وما يكون، ودين الحق: الشرائع المستقيمة، والأحكام العادلة التي بعث بها عليه الصلاة والسلام، فما من خير ينفعهم في هذه العاجلة وفي الآخرة إلا دلهم عليه، وما من شر إلا حذرهم منه عليه الصلاة والسلام، ولهذا حذر من البدع.

وسمعتم في المحاضرة كمال هذه الشريعة، واستيفائها لحاجات الناس في العبادات والمعاملات والأخلاق والسيرة وسائر أحوال الأمة، ولهذا حذر الأمة من البدع؛ لأنه لا وجه لها، ولا حاجة إليها، بل هي في الحقيقة تشير إلى أن هناك نقصًا، وأن هذه المبتدع يريد أن يكمل، هذه بلية عظيمة، اعتقاد أحد من الناس أن الشريعة ناقصة كفر وضلال وردة عن الإسلام، فالمبتدعون وإن لم يقولوا هذا بالألسنة فالحال وظاهر العمل يقتضي ذلك، وإلا فما الداعي إلى هذه البدع.

فإن قالوا: إن الرسول جاء بها، فقد كذبوا، فعليهم الدليل، وإذا كان الرسول جاء بها لم تكن بدعة؛ لأن البدعة إنما هي ما أحدث في هذه الشريعة بغير دليل ولا برهان، هذه البدعة، قال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] ينكر عليهم سبحانه ذلك، ويعيبهم بذلك، ويحذرهم ويقول جل وعلا: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۝ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الجاثية:18-19]، ويقول جل وعلا: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3]، ويقول جل وعلا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، ويقول سبحانه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].

فالقرآن تبيان لكل شيء، وجاءت السنة تفسر ما قد يخفى، ويشكل، كما قال سبحانه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فالرسول يبين ما قد يخفى، ويشرح ما قد يخفى عليه الصلاة والسلام، وبعثه الله بأحكام وشرائع لم تذكر في القرآن، بل جاءت في الوحي الثاني وهو وحي السنة، فإن الله أعطى نبيه ﷺ القرآن ومثله معه، الوحي القرآن ووحي السنة، فإن قوله ﷺ تشريع، قال تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ۝ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ۝ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4]، فكما أوحى الله إليه القرآن أوحى إليه السنة، فما جاء في الصلاة وفي الصيام وغير ذلك والحج وغير ذلك كل ذلك وحي، كما أن القرآن وحي، فالله جل وعلا أوحى إليه بما شاء من أمره؛ ليبلغه الناس عليه الصلاة والسلام، وقد بلغ وبين عليه الصلاة والسلام، ولم يمت ولم يقبضه ربه حتى بلغ ما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام، فوجب على الناس على جميع الثقلين الاكتفاء بما بينه عليه الصلاة والسلام والسير على منهاجه وطريقه وشريعته والحذر من أي بدعة قولية أو فعلية، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فالسبل هي الطرق الخارجة عن دين الله يمينًا وشمالًا، وهي البدع والأهواء، والشبهات والشهوات التي بلي بها الناس.

وقد خط رسول الله خطًا مستقيمًا عليه الصلاة والسلام بين أصحابه، فقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطًا عن يمينه وعن شماله، فقال: هذه السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فسبيل الله هو دينه القويم، هو صراطه المستقيم الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، من الأوامر والنواهي، والشرائع والأحكام التي جاء بها الكتاب العظيم والسنة المطهرة الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام.

والله جعل وحيه نورًا وروحًا كما سمعتم في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، هو وحي من الله، روح تحصل به الحياة، ونور تحصل به البصيرة، فمن لم يرزق هذا الوحي فلا بصيرة ولا حياة، فهو كالأنعام أو أضل من الأنعام كما قال : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، فمن لم يرزق روح الوحي ونور الوحي فإنه في ضلاله وعماه وموته وظلمته، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122].

فالميت كافر، فإذا أسلم أحياه الله وأعطاه النور، فبالإسلام تحصل الحياة، وبالعلم والهدى تحصل البصيرة، فوحي الله الذي جاء به الكتاب العزيز والسنة المطهرة هو الحياة والنور، والروح به تحصل الحياة، وهو النور به تحصل البصيرة والعلم.