أما بعد:
فلا أدري ما السبب هذه الليلة في عدم حضور المقدم للندوة، وعسى أن يكون بخير وعافية، ولا ريب أن التذكير بالله والدعوة إليه من أهم المطالب ومن أعظم القربات في كل وقت، ولاسيما في الأوقات التي اعتيد الاجتماع فيها لسماع العظة والذكرى في هذه الليلة في هذا المسجد، وكأوقات أخرى يكون فيها الاجتماع لسماع العلم والعظة والتذكير بالله وبحقه، والله أنزل كتابه الكريم ذكرى وعظة وبشرى وشفاء لما في الصدور ورحمة لعباده ، وجعله تبينًا لكل شيء مما يحتاجه الناس في أمور دنياهم كما قال : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[النحل:89]، فجعله تبيانًا لكل شيء فيما يحتاجه الناس في أمور دينهم وأسباب نجاتهم وقيامهم بحق ربهم .
...... من أمراض النفاق والشك والريب والجهل، وجعله هدى لعباده يهتدون به إلى صراطه المستقيم إلى معرفة أسباب رضاه حتى يأخذوا بها، وإلى معرفة أسباب سخطه فيحذروها، وجعله رحمة لعباده المؤمنين؛ لأنهم بكتاب الله يأخذون وبه يعملون وبسبب ذلك يفوزون بالكرامة والنجاة والسعادة كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وقال : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيد [فصلت:44].
فأهل الإيمان لهم بشرى بهذا الكتاب العظيم وهو شفاء لما في الصدور، وهو رحمة لعباده المؤمنين، وذكرى وعظة، فجدير بأهل الإيمان أن يتعظوا بكتاب ربهم، وأن يتدبروه ويتعقلوه، وأن يتداووا به أمراض قلوبهم وأمراض مجتمعاتهم؛ حتى تستقيم القلوب على أمر الله، وحتى تستقيم المجتمعات على طاعة الله ورسوله، وبذلك يستحقون من ربهم فضلًا وإحساًنا، يستحقون كرامته وفضله وتوفيقه وهدايته وحفظه لهم من أسباب غضبه كما قال : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29]، وقال : أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24]، وهذا فيه حث على التدبر وتحذير من الإعراض والغفلة.
وأخبر في آية أخرى أن كتابه هدى إلى الطريقة التي هي أقوم قال : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، يعني: يهدي للسبيل التي هي أقوم وأسد وأصلح وأنفع للعباد من كل الطرق؛ لأنه كتاب من عزيز حكيم، ومن عليم حكيم، من رحيم كريم بين فيه لعباده الأعمال التي ترضيه سبحانه، وبين لهم الأعمال التي تجب عليهم، وبين لهم الأعمال التي تحرم عليهم، وبين لهم أحوال الماضين، وماذا جرى عليهم ولهم، وماذا فعل سبحانه بمن أطاع الرسل واتبع ما جاؤوا به من النصر والتأييد وحسن العاقبة، وماذا أنزل بمن عصاهم وخالف أوامرهم من أنواع العقوبات من الغرق والرياح المهلكة والصيحات والعواصف المهلكة وغير ذلك من أنواع العذاب؛ ليحذر أولو الألباب ولينتبهوا مما غفل عنه الغافلون وأعرض عنه غير أولي الألباب، وليأخذوا بأسباب النجاة والحفظ والعصمة.
ومما بين في كتابه العظيم قوله : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:71-72]، هذه من أجمع الآيات في كتاب الله في بيان صفات الناجين وصفات المؤمنين وأخلاقهم العظيمة حتى يأخذ بها الراغب في النجاة.