ثم تنظر بعد ذلك بعدما تعنى بهذه الصلاة وتعرف ما فيها من الخير العظيم تفكر أيضًا في أمر آخر وبخلق آخر شرعه الله لك بعد الصلاة وهو الزكاة، شرع الله لعباده خلقًا آخر وعملًا آخر فيه السعادتان سعادة العامل، وسعادة الذي دفعت إليه الزكاة، فيه إحسان إلى هذا وإلى هذا، تنفق من مالك وتخرج من مالك قطعة صغيرة وجزأ صغيرًا تواسي به إخوانك الفقراء والمحاويج، تواسي به الغرماء أهل الدين، تواسي به أبناء السبيل، تساعد به المجاهدين في سبيل الله، تشتري به الرقاب وتعتق به الرقاب، شيء جاد الله به عليك وأحسن به إليك تخرج منه شيئًا قليلًا يعطيك الله أفضل منه يخلف عليك بأجزل منه، ومع ذلك أنت تؤجر عليه، وتواسي به إخوانك المسلمين الذي أنت وإياهم شيء واحد وجسد واحد وبناء واحد قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فهي طهرة وزكاة لك ولمالك، ويقول سبحانه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويقول سبحانه: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن:17]، ففي هذا المال مصالح كثيرة لك أيها المخرج المنفق ولإخوانك المسلمين في مساعدتهم والإحسان إليهم وفي إعانة المسلمين، فإن الزكوات تصرف في مصالح كثيرة، وفي أصناف ثمانية، فأنت بهذا المال وبهذا الجزء القليل تنفع به جمًا غفيرًا، وتقيم به مصالح جمة: من عتق الرقاب، ووفاء ديون، وإحسان إلى عاملين في الزكاة، وإلى المجاهدين في سبيل الله، وإلى منقطعين بأسفارهم تصل إليهم وهم أبناء السبيل، إلى المؤلفة قلوبهم يخشى كفرهم وضلالهم فتعطيهم من هذه الزكاة ما يقوى به إيمانهم ويقوى به يقينهم، وما قد يترتب عليه من إسلام غيرهم، فأنت بهذا المال تعمل خيرًا عظيمًا وتكسب أجرًا جزيلًا.
ومع ذلك أيضًا في إخراج هذا المال يحصل لك خلق الأسخياء والكرماء، فإن السخاء والكرم من أعظم الأخلاق الكريمة، وإخراج الزكاة وصرفها في أصنافها وفي أهلها من السخاء، والجود من الكرم من الإنفاق المحبوب الذي قال فيه : وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقد قال فيه : آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، فالصدقات الزكاة هو تطوع فيها الخير العظيم هي من أفضل الأخلاق، ومن أعظم الأخلاق خلق الجود، وخلق السخاء، وخلق الكرم، والإحسان والبذل من أعلى الأخلاق وأفضلها، وهذا الخلق بعضه واجب وبعضه مستحب، فالخلق الواجب خلق الزكاة إخراج الزكاة الواجبة من مالك إلى أهلها هذا خلق كريم واجب، وسخاء واجب، وجود واجب في أهله أوجبه الله عليك طهرة لك ولمالك، وشكرًا لله على إنعامه عليك ، ومواساة لإخوانك المحاويج، وصرفًا لهذا المال في وجوه تنفعك وتنفع المسلمين.
والمستحب كذلك نفقة التطوع، وصدقات التطوع فيها خير كثير تسد حاجة الفقير، والإعانة على المشاريع الخيرية من تعمير المساجد والمدارس والربط والجسور والقناطر وغير هذا من المصالح العظيمة، والمشاريع الخيرية التي تنفق من مالك من تطوعاتك من غير زكاتك في تحقيقها وإيجادها ونفع المسلمين بها، فهذا الخلق العظيم إنما يعرف قدره من باشره وأنفق فيه يعرف ما فيه من الفضل وما يحصل فيه من التوسعة وتنفيس الكروب وتيسير الأمور وقضاء الحاجات التي لا تقضى ولا يحصل المقصود فيها إلا بهذا المال وإنفاق هذا المال.
وقد ذم الله الأشحاء والبخلاء وأثنى على الكرماء والأجواد، فمن أخلاق الأنبياء ومن أخلاقه ﷺ الجود والكرم والإحسان، فينبغي للمؤمن أن يكون هكذا متأسيًا برسول الله ﷺ مقتديًا بأخلاقه بالجود والكرم والإحسان، وسد الحاجات، وإعانة الملهوفين، وإعانة المظلومين، وقضاء دين المدينين، والإنفاق في وجوه الخير، ومشاريع الإصلاح، يرجو ثواب الله ويخشى عقاب الله ، فالإحسان والجود والكرم والإنفاق في أفضل العبادات ومن أرفع الأخلاق، والعبد على ما عوده الله عليه إن اعتاد الإنفاق والجود انشرح صدره لذلك، واتسعت نفسه لذلك، وصارت راحة في الإنفاق والجود والكرم، وإذا اعتاد البخل والشح ضاقت نفسه بالإنفاق وضاق صدره بالإنفاق واشتد عليه الإنفاق ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد ضرب النبي ﷺ للمنفق والبخيل ضرب مثلًا عظيمًا بينه ﷺ فقال: مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جنتان أو قال: جبتان من حديد، فكلما أراد المنفق أن ينفق اتسعت هذه الجبة وهذه الجنة واسترخت حتى تعفو أثره فينفق ويحسن وهو منشرح الصدر طيب النفس، وأما الآخر وهو الشحيح البخيل فكلما أراد أن ينفق ضاقت عليه هذه الحلقات ولزمت كل حلقة مكانها فهو يريد يوسعها فلا تتسع وجعل النبي يشير بأصابعه إلى ذلك. فهكذا من اعتاد البخل والشح بمثابة من عليه جبة من حديد، وعليها حلقات شديدة، كلما أراد أن ينفق ضاقت عليه ولزمت يديه، وضاقت عليه حلقاتها، وقلصت حلقاتها، فلا يستطيع أن ينفق، ولا أن يخرج يده، بخلاف من اعتاد الإنفاق وجبله الله على الجود والكرم فإنه مثل صاحب الجبة التي كلما اراد أن ينفق اتسعت وانشرحت واسترخت حتى تعفو أثره، فهو ينفق ويحسن ليس له مانع، وليس له من يحول بينه وبين ذلك.