ثم بعد ذلك من الأخلاق العظيمة التي شرعها الله لعباده خلق الصوم، فالصوم له شأن عظيم، وهو خلق كريم، صوم عن حاجات النفس المعتادة، يرجو ثواب الله، ويخشى عقاب الله، ويتذكر نعم الله، يصوم عن أكله وشربه عن زوجته عن جماع زوجته أشياء معتادة معروفة يحتاج إليها كثيرًا فيدعها يرجو ثواب الله ويخشى عقاب الله ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، خلق عظيم يصبر عليه الأخيار، يصبر عليه من يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، فهو يدع شهوته وطعامه وشرابه يبتغي فضل الله وجنته سبحانه وتعالى، هكذا المؤمن يدع شهوته يدع شرابه وطعامه من أجل الله عز وجل، فلهذا أعد الله له الكرامة، وجعل ثوابًا لعمله هذا المغفرة ودخول الجنة والنجاة من النار، لما في عمله من الصبر والمشقة العظيمة، ولاسيما في أيام الصيف الطويلة، ولاسيما في حق من لم يعتده، فإنه تشتد عليه الأمور، ويصبر يرجو ثواب الله ويخشى عقابه سبحانه وتعالى، ويتذكر نعم الله عليه الذي أعطاه وأحسن إليه وأباح له الفطر في أحدى عشر شهرًا يأكل ويشرب وينكح لا مانع له سوى شهر واحد، فيحمد الله الذي جعله شهرًا واحدًا ولم يكلف عباده بأكثر من ذلك، ثم جعل لهم في ذلك أجرًا عظيمًا وخيرًا كثيرًا، ثم أيضًا يعود نفسه بذلك صبرها على الشدائد، يعودها خلاف هواها في طاعة مولاها، يعودها أن تخالف الهوى في المصالح وما فيه العاقبة الحميدة وما فيه مرضات الله وما فيه من الإحسان لعباد الله، فإن كثيرًا من الناس لا يصبر على مخالفة الهوى بل من طبعه اتباع الهوى .......، فشرع الله الصوم ليعتاد المؤمن تحمل المشاق في سبيل الله تحمل المشاق في خلاف هواه ليرضي مولاه، فإن هذا أمر واقع وهو جهاد فيحتاج إلى صبر على القتال والكر والفر وتحمل الجوع والظمأ ومفارقة الأهل والأوطان لإعلاء كلمة الله والجهاد في سبيله ولصد الأعداء والدفاع عن دين الله وعن حوزة المسلمين، تأتي مشاق أخرى وحاجات أخرى في طلب الرزق الحلال يكدح ويصبر على المشاق ويطلب الرزق الحلال في الصيف والشتاء في الأوقات الأخرى يرجو أن يعف نفسه وأن يغنيها عن الحاجة إلى الغير، تأتي مشاق أخرى في أسباب أخرى فإذا هو قد عود نفسه الصبر على المشاق والصبر على الظمأ والصبر على الجوع.
ثم في الصوم تذكير له بنعمة عظيمة بالنعم العظيمة التي أعطاه الله إياها وحرمها كثيرًا من الناس، يجد حوله من هاهنا ومن هاهنا فقراء ليس عندهم ما يقوم بحالهم وهو قد أنعم الله عليه متى شاء الأكل أكله، متى شاء الشرب شربه، متى شاء جماع أهله وجد ذلك، وهناك رجال ونساء قد حرموا من ذلك، فيحمد الله الذي أنعم عليه وأحسن إليه وهو يجود على عباد الله وينفق مما أعطاه الله.
ففي الصوم مصالح كثيرة، ونعم كثيرة، وتذكير بنعم الله، وتعليم للعبد كيف يعالج الأمور، كيف يعالج الشدائد، كيف يصبر على العظائم إذا ابتلي بها لا بد من صبر لا بد من تحمل للمشاق والجود والجوع والظمأ ومخالفة الهوى في معالي الأمور وفي مكارم الأخلاق وفي الجهاد والصبر على مقارعة الأعداء وفي الإحسان إلى عباد الله وفي طلب الرزق وفي الأسفار التي يحتاج إليها لطلب الرزق أو للجهاد أو لغير ذلك أو لطلب العلم.
ثم في الصوم أيضًا من المصالح العظيمة أن تعرف ضعفك وأنك ضعيف مسكين وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، وأن هذه القوة التي أعطاك الله إياها تنهار وتزول عند ذهاب الطعام والشراب، وعند تأخر ذلك، وطول الوقت تبقى ضعيفًا في غاية الحاجة إلى الشراب في غاية الحاجة إلى الطعام، ولو طالت المدة لذهبت هذه النفس، ولخرجت الروح، وصرت إلى الموت، وأنت الرجل القوي الذي تأخذ وتعطي، وتأمر وتنهى، وتسافر وتركب الأهوال في هذا الأمر الذي فرضه الله عليك وهو ترك الطعام والشراب في بياض النهار، تعرف نفسك تعرف ضعفك تعرف أنك مسكين وأنك شجرة محتاجة إلى الطعام والشراب في هذا تبق،ى وبترك ذلك والحيلولة بينك وبين ذلك تنتهي وتزول، فتشكر الله وتحمده سبحانه على ما أنعم وأحسن جل وعلا.
ثم شرع لك أنواعًا من الصوم، وهذا من الأخلاق العظيمة الكريمة، أنواعًا من الصوم ليست فريضة تدرك بها فضل الصوم وأجر الصوم والأخلاق التي تستفاد من الصوم، تصوم يوم الاثنين، يوم الخميس، ثلاثة أيام من كل شهر، يوم عرفة، يوم عاشوراء ويوم قبله أو بعده، تصوم ستًا من شوال تتبعها رمضان، تصوم يومًا وتفطر يومًا كصوم داود عليه الصلاة والسلام، كل هذه أنواع من الصوم لك فيها أجر عظيم، وتعرف بها فضل الصوم، وتعرف ما فيه من المشقة، وما فيه من المصالح، وأنت بحمد الله ليست ملزمًا بذلك، ولكنه من باب الترغيب في الفضائل وتحصيل المصالح.