فالقرآن قد تلقته الأمة جميعًا عن الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم-، فهو حق ثابت، وهو كلام الله ، ليس فيه مرية ولا شك، بل تلقته الأمة كلها جيلًا عن جيل وقرنا عن قرن، تلقاه أصحاب النبي ﷺ عن الرسول ﷺ، وتلقاه الرسول عن جبرائيل، وجبرائيل عن الله ، فأجمعت عليه الأمة، وأنه كلام الله حرفًا ومعنى، حروفه ومعانيه من دون زيادة ولا نقص، بل حفظه على هذه الأمة.
هذا الكتاب العظيم كما قال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] حفظ الله على الأمة كتاب ربهم، وتلقوه عن أصحاب نبيهم ﷺ، وهكذا جيلًا عن جيل، وقرنًا عن قرن، إلى أن وصل إلينا محفوظًا حروفه ومعانيه -ولله الحمد والمنة-، وله أحكامه العظيمة.
أما السنة فتلقاها الصحابة أيضًا عن نبيهم ﷺ، ثم تلاقها من بعدهم، لكن وقع فيها من كذب وافترى على النبي ﷺ في جميع القرون الأحاديث الكثيرة .......، فتلقاها العلماء وبينوا صحيحها من سقيهما، وثابتها من غير ثابتها، وعامها وخاصها، إلى غير ذلك، حتى محصوا ما ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وبينوا ما صح عنه عليه الصلاة والسلام، وبينوا ما كذبه الكذابون وافتراه المفترون، بينوا الصحيح من السقيم والضعيف، إلى غير ذلك، حتى محضوا سنة رسول الله ﷺ، وخلصوها من كذب الكذابين وافتراء المفترين وجهل الجاهلين، فصارت أصلًا ثانيًا يعتمد عليه في إثبات الأحكام وبيان الحلال والحرام مما جاء به عليه الصلاة والسلام من قول وفعل من أقواله وأفعاله وتقريراته عليه الصلاة والسلام، فهي أصل ثاني من هذه الحيثية، من حيث أنها كلام الرسول ﷺ، وإن كانت وحيًا من الله من جهة المعنى لكنها كلامه عليه الصلاة والسلام ينقله إلى الصحابة، ومن بعد الصحابة نقلوه إلى من بعدهم، وهكذا فهو كلام النبي ﷺ وهو جاءه من عند الله وحيًا كما قال : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4].
فهو وحي من الله من جهة المعنى، وأما اللفظ فهو ألفاظ النبي عليه الصلاة والسلام، ما عدا الأحاديث القدسية التي نقلها الرسول عن ربه فهذا يقال عنها: إنها من كلام الله، ولكن لها أحكام أخرى غير أحكام القرآن، فهي كلام الله لفظًا ومعنى، لكن ليست مثل القرآن بالإعجاز وألا يمسها إلا طاهر إلى غير ذلك، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن أبي ذر عن النبي ﷺ يقول الله عز وجل: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم... الحديث. وما أشبه هذا الحديث هذه يقال لها الأحاديث القدسية التي نقلها الرسول عن ربه ، فهي قول الله لفظًا ومعنى، لكن نقلها النبي ﷺ عن الله غير نقل القرآن وغير كلام الرب الذي هو القرآن، فالقرآن له أحكامه، والأحاديث القدسية لها أحكامها عند أهل العلم.
والنوع الثالث: أحاديثه ﷺ وكلامه الذي لم ينسبه عن الله، ولم يقل إنه كلام الله، كقوله ﷺ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى هذا من كلامه ﷺ، ولكنه في المعنى وحي من الله، فالله الذي قال له يقول هذا ويعلم الناس هذا، وهكذا قوله ﷺ: لا تقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول، وقوله ﷺ: البيعان بالخيار حتى يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما، وهكذا بقية الأحاديث هي كلامه ﷺ ولكنها وحي من الله في المعنى؛ لأنه جل وعلا أمر نبيه أن يبلغ الناس ذلك، وأن يرشدهم إلى هذه الأحكام التي أمره بها .
فالقرآن هو كلام الله المنزل غير المخلوق منه بدأ وإليه يعود، والسنة كلام الرسول ﷺ من جهة ألفاظها، وإن كانت وحيا من الله من جهة المعنى، والأحاديث القدسية هي من كلام الله نقلها الرسول ﷺ عن ربه ، فلها أحكام خاصة غير أحكام القرآن، وغير أحكام السنة التي هي من كلامه عليه الصلاة والسلام، وهو مع السنة كأصل واحد كما سمعتم من المحاضر، فالسنة مع القرآن شيء واحد من حيث وجوب الحجة، من حيث أن الواجب أخذ الأحكام عنهما، فهما أصل واحد في المعنى من جهة وجوب الأحكام التي في القرآن والسنة، ومن جهة أن السنة تبين القرآن وتخصص العام وتوضح المجمل وتشرح ما قد يخفى من كلام الله وتقيد المطلق إلى غير ذلك، فهي بهذا المعنى مع القرآن شيء واحد؛ لأن الأحكام تتلقى عنهما عن كتاب الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، فالقرآن إذا أطلق شيئًا وجاءت السنة بالقيد عمل بما في السنة مثل قوله جل وعلا: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11]، هكذا جاء القرآن في الميراث، وقال النبي ﷺ: لا يرث مسلم كافرًا ولا كافر مسلمًا، وهذا نص عن النبي ﷺ، وهو من حكم الله ، ومن وحي الله ، وصارت هذه السنة مقيدة لقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ [النساء:11] يعني: في أولادكم الذين هم على دينكم، فإذا كان ولده ليس على دينه فإنه لا يرثه، إذا مات المسلم وله ولد ليس على دينه بل تنصر صار وثنيًا أو شيوعيًا لم يرثه؛ لأن السنة دلت على ذلك، فإن الرسول قال: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
وهكذا قوله جل وعلا: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ [النساء:12] الآية، هذا إذا اتفق الدين، فإذا كان الزوج مسلمًا والزوجة يهودية أو نصرانية؛ لأن الله أباح نكاح محصنات أهل الكتاب فإنها لا ترث من زوجها المسلم؛ لأن دينها غير دينه، هذا من باب تقييد الكتاب بالسنة، السنة قيدت الكتاب وبينت بعض الشروط التي لم تذكر في الكتاب، ولكن جاءت السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام والرسول قال: إني أوتيت القرآن ومثله معه، والله يقول جل وعلا: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فالرسول يبين للناس ما نزل إليهم بأمر الله ووحيه ، يبين للناس أحكام الله، فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه، فهما بهذا المعنى كالأصل الواحد الذي يتلقى عنه المؤمنون أحكام الشريعة.
والمقصود من هذا كله بيان حصول السعادة والراحة والطمأنينة في كتاب الله في الدنيا والآخرة، في الدنيا بامتثال أحكامه والإيمان بأنه كلام الله، فالنفوس مطمئنة بما جاء عن الله وعن رسوله النفوس مطمئنة؛ لأنها عن طريق قويم وعلى صراط مستقيم فالنفوس مستريحة وسعيدة في امتثال أحكام الله والأخذ بما أمر به سبحانه وترك ما نهى عنه، فكل مؤمن سعيد بهذا مطمئن مرتاح القلب والضمير بهذه الدار، ثم ينتقل من هذه الدار إلى راحة الآخرة إلى راحة الجنة ونعيم الجنة والسعادة في الجنة، فينتقل من سعادة إلى سعادة، ومن حياة طيبة إلى حياة طيبة، وإن جرى عليه في الدنيا ما جرى، وإن جرى عليه أمراض في الدنيا، وإن أصابه فقر في الدنيا، وإن أصابه أشياء مما يكره في الدنيا لكنه يتلذذ بها؛ لأنها نشأت وأصابته وهو في طاعة الله، وفي طريق الله، وفي سبيل الله، وفي صراطه المستقيم، فإنها لا تضره ولا تهمه ولا تكدر عليه هذه السعادة التي هو يشعر بها، ويعلم أنه فيها على بينة، وعلى هدى مستقيم، وفي هذا يقول في كتابه العظيم: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
فالمؤمن في حياة طيبة إذا عمل الصالحات عن إيمان وعن إخلاص لله وعن موافقة للشريعة فهو في حياة طيبة وإن كان مريضًا، وإن كان فقيرًا، وإن كان معادًا من الخصوم أعداء الله، فهو في حياة طيبة؛ لأنه يشعر أنه عبد لله، وأنه مطيع لله، وأنه في صراط الله المستقيم، وأنه على الطريقة التي رضاها له ، وهو مرتاح النفس مطمئن النفس سعيد بما هو عليه من عمل صالح، وتقوى لله ، وسيره في طريق الهدى إلى دار الكرامة ودار النعيم، وهكذا يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فبين أن ما يدعو إليه الله ورسوله هو الحياة، والواجب الاستجابة لله ولرسوله لأن الله ورسوله إنما يدعوان إلى الحياة الطيبة إلى السعادة.
ويقول جل وعلا في كتابه العظيم- أيضًا-: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] يعني: لا يستويان، الكافر الذي هو مثل الميت فهو في ظلمة لا يستوي مع من أحياه الله بالإيمان والهدى وجعله في نور بين الناس في الظلم.
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122] يعني: بالإسلام والدين والهدى، وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122]، ضد الظلمة التي فيها الكافر وضد الموت الذي فيه الكافر.
ويقول جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فجعل وحيه سبحانه روحًا للعباد تحصل به الحياة السعيدة الطيبة، وجعله نورًا يحصل به العلم والنور والهدى والبصيرة، هكذا دين الله، وهكذا كتاب الله، وهكذا سنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، هما في الحقيقة طريق النور وطريق الحياة الطيبة وطريق السعادة العاجلة والآجلة لمن وفق لهما واهتدى بهداهما.
فالقرآن أمر بالسنة، القرآن الكريم أمر بسنة الرسول ﷺ، فلهذا صار مع السنة المنهج العظيم الذي يجب اتباعه، فهما شيء واحد في وجوب الاتباع والاستقامة عليهما والأخذ بأحكامها، وهما أصلان في النظر إلى أن كل واحد له أحكام تخصه بينها أهل العلم وجاءت بها الأدلة الشرعية، ولهذا قال : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، فأمر بهذا وهذا، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، فلا بد من هذا وهذا.
وقال : فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] يعني: عن أمر الرسول ﷺ، وقال : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]، فدل على أن الذي يخالف ما قاله الله أو رسوله فقد تعرض لشدة العقاب، والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على أن الواجب على المكلفين أن يطيعوا الله ورسوله في كل شيء، فالرسول هو المبلغ عن الله، فما في القرآن فهو كلام الله على العباد طاعته، وما جاء به الرسول وثبت عنه من الطرق الصحيحة فهو أيضًا عن الله ووحي من الله ويبلغه رسول الله، فعلى المبلغين أن يقبلوا ما بلغهم به رسوله عليه الصلاة والسلام، وبهذا يحصل لكل مؤمن السعادة العاجلة في هذه الدار قبل يوم القيامة.
فالمؤمنون الذين عرفوا الحق بأدلته وكانوا على بصيرة في دينهم هم في نعيم عاجل، وفي جنة عاجلة، وفي سعادة عاجلة في هذه الدار قبل يوم القيامة، هم في هذه الدار في نعيم في لذة؛ لأنهم مطمئنون على هدى وعلى طريق مستقيم، وأنهم ينتقلون من هذه الدار إلى روضة من رياض الجنة في البرزخ، ثم إلى الجنة والسعادة، فهم في راحة وطمأنينة وسعادة عاجلة قبل سعادة يوم القيامة، بخلاف الكافرين المعرضين فهم في عذاب وقلق في هذه الدار، وإن تنعموا بالدنيا وشهواتها فإن في قلوبهم من القلق والضيق والحسرة ما لا يعلمه إلا الله ، ولهذا كثير منهم ينتحرون لما يجدون من الشر في قلوبهم، والقلق والضيق الذي يحسون به؛ لأنهم لا يعرفون...... وليس هناك عندهم ما يطمئنون إليه ولا يستريحون إليه ولا يسعدون به سوى سعادة البهائم بالأكل والشرب والنكاح ونحو ذلك، فهم في ظلمة في شقاء في قلق في تعب وفي ضيق وفي عذاب معجل كما قال : فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، وقال : وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:21].
فأهل الإيمان وأهل الصدق وأهل البصائر هم في سعادة في نعيم مقدم ومعجل في هذه الدار وفي القبر ويوم القيامة، والكافر المعرض عن الله المكذب بدين الله المبتلى هو في عذاب معجل في هذه الدار وفي البرزخ وفي يوم القيامة -نسأل الله العافية والسلامة-.
رزقنا الله وإياكم البصيرة والهدى، ووفقنا جميعًا للتمسك بكتابه، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والفقه فيهما، والعمل بهما، والدعوة إليهما، والثبات عليهما، وأعاذنا جميعًا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.