توحيد الألوهية

لكن هذا ما يكفي، ولهذا جعل قسمًا مستقلًا؛ لأن المشركين لما أقروه ما كفاهم حتى يعترفوا بأنه المستحق للعبادة حتى يخصوه بالعبادة بدعائهم وخوفهم ورجائهم وسجودهم وذبحهم ونذرهم وغير ذلك، يعني حتى يخصوا الله ربهم بعباداتهم لأنه خلقهم ليعبدوه وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وأرسل الرسل لهذا الأمر؛ ليدعوا الناس إلى العبادة، ويوضحوا لهم معنى العبادة وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فهم مخلوقون ليعبدوا الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] الآية يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

فهم مخلوقون ليعبدوا الله، وليتقوه ، ما خلقوا للأكل والشرب أو لشق الأنهار أو غرس الأشجار أو لتعمير الدور أو غير هذا لا، خلقوا ليعبدوا الله، ليطيعوا أوامره، لينتهوا عن نواهيه، ليقفوا عند حدوده، ليعلموا أنه ربهم وإلههم الحق، وإنه الغالب على كل شيء، والعالم لكل شيء ، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12].

فهذا التوحيد لا بد منه، وهو توحيد العبادة، وهو أعظم الأقسام الثلاثة، وهو القسم الذي جاء الرسل بالدعوة إليه وبيانه مع بيان الأقسام الأخرى، لكن هذا هو الأساس والأعظم، لكن القسمين الآخرين معلومان للكفار ومقرون بهما، لكن الذي نازعوا فيه هو توحيد العبادة، تخصيص الله بعباداتهم، كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى، منهم من يدعو الشمس والقمر، ومنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو أصحاب القبور، ومنهم من يدعو غير ذلك من أقسام المخلوقات، فالله جل وعلا بعث الرسل لينبهوا هؤلاء الناس، وليعلموهم، وليدعوهم أن ربهم واحد، يجب أن يعبدوه وحده ، ويخصوه بالعبادة، ويطيعوا أمره، وينتهوا عن نهيه .

والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، العبادة هي طاعة أوامره وترك نواهيه، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يعني إلا ليطيعوا أمري ويخصوني بالعبادة دون غيري ، فهو خلقهم ليعبدوه ليطيعوا أمره لينتهوا عن نهيه ليتابعوا رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، كما خلق من قبلهم من الأمم كذلك ليعبدوه وحده ويتابعوا رسلهم وينقادوا لما جاءت به رسلهم من نوح إلى محمد، وهكذا آدم وذريته بعد نوح كلهم خلقوا ليعبدوا الله وأمروا بذلك، فينبغي لكل مؤمن وكل عاقل أن يعلم هذا الأمر، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، كما قال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].

فالسجود لله والركوع لله والذبح لله والنذر لله والخوف والرجاء ونحو ذلك، فجميع المخلوقات ليس لها حق في العبادة لا شمس ولا قمر ولا سماء ولا أرض ولا كوكب ولا جن ولا إنس ولا صنم ولا غير ذلك، فالعبادة حق الله وحده، ليس للأنبياء فيها حق، ولا الملائكة، ولا الجن، ولا الإنس، ولا الكواكب، ولا غير ذلك، العبادة حق الله وحده وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98] وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ۝ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2-3]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5] في آيات كثيرات.

فهذا هو توحيد العبادة، وهو القسم الثاني من أقسام التوحيد، وهو الذي دعت إليه الرسل، وأنكره المشركون، أنكروه لجهلهم، فصاروا يعبدون مع الله آلهة أخرى، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فيتقربون للأصنام أو الكواكب أو الملائكة أو بعض الموتى ممن يسمونهم أولياء ويسمونهم صالحين يدعونهم مع الله، يأتي عند قبره يقول: يا سيدي فلان انصرني، اشف مريضي، المدد المدد، هذه عبادة غير الله، هذا الشرك بالله نعوذ بالله، أو يأتي الجن يدعوهم من دون الله أو يستغيث بالجن أو بالملائكة أو بالكواكب من شمس وقمر ونجوم أو بالأصنام المنحوتة من جبل أو من شجر أو من غير ذلك أو من حديد أو من غير ذلك، هكذا وقع الشرك في الناس وهم أقسام في ذلك، فالرسل بعثوا لينقذوهم من هذا البلاء؛ ليخلصوهم من هذا الشرك، ويأمروهم بعبادة الله وحده ، هو ربهم وإلههم الذي خلقهم وأوجدهم من العدم، وغذاهم بالنعم، عليهم أن يعبدوه وحده ، يقول جل وعلا لمحمد ﷺ: قُلْ يا أيها الرسول للناس إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، والنسك يعني الذبح، جعله قرين الصلاة، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162] يعني ذبحي، وقيل في معنى نسكي يعني عبادتي كلها لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، وقال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ۝ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:1-2]، وقال: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون:117]، وقال سبحانه: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106].

فدعاء الأموات والاستغاثة بالأموات أو بالملائكة أو بالجن أو بالكواكب شرك أكبر، هكذا السجود لهم، هكذا الركوع لهم، هكذا الذبح لهم، هكذا النذر لهم، وهكذا الأحياء، الاعتقاد في الأحياء أنهم يتصرفون في الكون وينفعون ويضرون أو أن أحدًا منهم يعبد من دون الله كذلك شرك أكبر نعوذ بالله، إنما يجوز مع الحي من قدر عليه فقط، يجوز للمؤمن وغير المؤمن مع الحي ما قدر عليه، يجوز أنك تقول للحي القادر: يا فلان ساعدني في كذا، أعني على كذا، ما في بأس، هذا بينك وبين أخيك، هذه أمور عادية، الأسباب المعروفة الأسباب الحسية غير داخلة في هذا، لكنها مع الأحياء ما هي مع الأموات، دعاء الأموات ودعاء الغائبين شرك أكبر مطلقًا، لكن مع الأحياء، تقول: يا فلان أعني على بناء هذا البيت، أعني على إصلاح السيارة، أعني على المزرعة، أقرضني كذا وكذا، أو غير ذلك من الأمور العادية، يسمعك أو بالمكاتبة تكتب له أو بالإبراق بالبرقية أو بالتلكس أو بالهاتف بالتلفون هذه أمور عادية بين الناس ليس من الشرك، إذا كنت تطلب منه الذي يقدر عليه، أما تقول لإنسان: يا فلان أدخلني الجنة وأنجني من النار هذا ما هو بيده ولو هو يسمعك، هذا بيد الله سبحانه وتعالى، لا يصلح هذا، أو تعتقد في ذلك أنه يتصرف في الكون، وأنه ينفع ويضر دون الله، وأن عنده قدرة أن يدخل فلان الجنة وينجي فلان من النار بأمره هذا لا يصلح لأحد من الناس، هذا بيد الله ، هذا كله من توحيد العبادة الذي هو محل البحث، والذي جاءت الرسل بتقريره وبيانه وإيضاحه للناس.

ومن هذا يعلم أن ما في البردة المعروفة للبوصيري حيث قال:

يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

 هذا شرك أكبر نعوذ بالله، غلط في ذلك الشاعر المسكين الجاهل حتى وقع في الشرك الأكبر، يقول: "يا أكرم الخلق" يعني النبي ﷺ "مالي من ألوذ به سواك" ما له أحد نسي الله بالكلية "مالي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم" يعني يوم القيامة.

إن لم تكن في معادي آخذًا بيدي فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم

يعني معناه أن الرسول إذا ما أخذ بيده فهو هالك، هذا يقال لله ما هو للرسول، الرسول يجب اتباعه وطاعته، الرسول علينا اتباعه وطاعته هو المبلغ عن الله لكن ليست النجاة بيده إنما النجاة في اتباعه والأخذ بشريعته، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [النساء:13] طاعته واتباع شريعته هذه هي أسباب الجنة، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31]، ويقول ﷺ: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله من يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى، ما قال من عبدني دخل الجنة، قال: من أطاعني دخل الجنة، مبلغ عن الله، من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى خرجه البخاري في الصحيح.

وأبلغ من هذا قوله سبحانه: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۝ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء: 13-14]، وقال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، ما قال من يعبد الرسول، قال من يطع الرسول فقد أطاع الله، العبادة حق الله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] إلى غير ذلك.