ويقول سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110] هذا يعم الرجال والنساء كما أن نص صريح في سورة براءة وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71]، وهكذا قوله ﷺ: من رأى منكم منكرًا من تعم الرجال والنساء من أدوات العموم، من رأى منكم منكرًا يعم المرأة في بيتها وفي طريقها وفي سوقها وفي محل بيعها وشرائها وفي محل عملها، فالمدرسة والطبيبة والموظفة في أي عمل والموظف والمدرس وغيرهم كلهم عليه واجبه ونصيبه في التعليم والإرشاد، ولكن بالأسلوب الحسن، بالكلام الطيب، بالحكمة، بالعبارات الجيدة التي تؤثر في القلوب، غير عنف، ولا كلام سيئ، يقول النبي ﷺ: إن الله يحب الرفق في الأمر كله.
دخل بعض اليهود ذات يوم على النبي ﷺ فقالوا: السام عليك يا محمد، يعني: كأنهم يقولون: السلام، وهم يقولون: السام، يعني: الموت. فقالت عائشة رضي الله عنها: عليكم السام واللعنة، وفي اللفظ الآخر: عليكم السام، ولعنكم الله، وغضب عليكم. قال النبي ﷺ: مهلًا يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله، إن الله يبغض الفحش والتفحش، عليك بالرفق فإنه لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه، قالت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال: ألم تسمعي ما قلت لهم؟ فإنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا. هكذا يقول ﷺ لما قالوا: السام عليكم. قال: وعليكم.
فإذا كانوا أرادوا الموت فهو على الجميع، الموت لا بد منه، وإن كانوا أرادوا شيئًا آخر، قال: وعليكم، يستجاب لنا ولا يستجاب لهم، قال: يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا؛ لأنهم ظالمون، فهم يهود، فقالوا: السام عليك يا محمد. فغضبت عائشة رضي الله عنها عند ذلك، فقالت ما قالت، فأنكر عليها وأمرها بالرفق.
فهكذا الداعي إلى الله والمعلم والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجتهد غاية الاجتهاد في اختيار الأساليب والألفاظ المناسبة، التي يرجى من ورائها أن يهدي الله بها العاصي من الرجال والنساء حتى يقبل الحق وحتى يدخل قلبه بغير استئذان، وحتى يميل إليه. أما إذا كان بطرق أخرى فقد ينفر منك، وقد يتكلم كلامًا شرًا من منكره، فعلى الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مهما كانت الحال أن يرفق، وأن يتخير الألفاظ المناسبة، كما قال الله : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125] الحكمة بالعلم، قال الله وقال رسوله، بيان الحق والموعظة الحسنة الترغيب والترهيب حتى يقبل الحق، والجدال بالتي هي أحسن لأجل إزالة الشبهة، وكشف ما قد يلبس به الشيطان على بعض الناس، فيزيل ذلك الداعي إلى الله، والآمر بالجدال بالتي هي أحسن، وقال : وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] وهم اليهود والنصارى، أهل الكتاب نهانا أن نجادلهم إلا بالتي هي أحسن قال: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، ثم قال بعدها: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت:46]، يعني: إلا الظالمين فلا مانع من الانتقال معهم إلى غير الأحسن لظلمهم وعدوانهم.
إذا اعتدى صاحب المنكر وظلم ينتقل معه إلى شيء آخر من سجنه من ضربه من الشدة عليه هذا محل آخر، لكن ما دام الأمر في دعوته وتوجيهه إلى الخير وبيان خطئه وغلطه ومنكره قد يكون بالأساليب التي يرجى من ورائها انتفاعه واقتناعه ورجوعه إلى الحق، فإذا أساء وتعدى وظلم انتقل معه إلى أمر آخر من ضرب وسجن وغير هذا مما يستحقه.
وهذا كله مثل ما تقدم يعم جميع المسلمين، يعم أهل البيت فيما بينهم، ويعم الآباء والأم والإخوة الكبار، ويعم من لديهم ممن له قول، وممن يسمع له من عم أو زائر أو ضيف أو غير ذلك، فيرى المنكر يتكلم بما يعينه الله عليه من الحق، وهكذا يعم الإخوان في طرقاتهم وفي مساجدهم فيما بينهم، ويعم أهل الأسواق في دكاكينهم ومباسطهم ومحل بيعهم وشرائهم، ويعم أهل السيارة الراكبين فيها وأهل الطائرة والقطار وغيرهم، كل على حسب حاله، وكل يبذل المستطاع في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف وإنكار المنكر فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
فإذا حصل هذا التعاون وهذ التناصح بين المسلمين قل الشر وانتشر الخير واختفت الرذائل وانتشرت الفضائل، ومتى غفل الناس وأعرض الناس ...... بالسكوت، فهذه هي علامة الهلاك، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقول النبي ﷺ: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه. خطب الصديق أول ما استخلف في الصحابة بعد موت النبي ﷺ فقال: "أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإني سمعت النبي ﷺ يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه.
ويقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78-79]، لعنوا بسبب عدم تناهيهم عن المنكر. فيجب على أهل الإسلام أينما كانوا من الرجال والنساء التآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، والصدق في ذلك، والصبر في ذلك، وبذلك يوفقون ويعانون، وتقل الشرور، وتختفي المنكرات، وتظهر الخيرات، ويحصل لهم من الله الرضا والكرامة والعز والاستمرار في الخير والعافية من العقوبة، وعند التواكل والتهاون والإعراض والغفلة وطلب تحقيق كل إنسان شهوته ومراده الباطل هذه علامات الهلاك، وهذه أيضًا أسباب العقوبات العامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.