وقد تولاها صاحبا الفضيلة: الشيخ محمد بن عبدالرحمن الراوي، والدكتور محمد رأفت سعيد، فيما يتعلق بدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وقد سمعتم جميعًا ما قاله الشيخان في هذا الموضوع العظيم، وقد أجادا وأفادا وأحسنا، جزاهما الله خيرًا، وضاعف مثوبتاهما، وزادنا وإياكم وإياهما علمًا وهدى وتوفيقا، فلقد أوضحا جميعًا ما ينبغي للدعاة في دعوة غير المسلمين.
والخلاصة من كلامهما جميعًا أن الدعوة تكون بالقول والعمل، وتكون بالأخلاق والإحسان، كما تكون بالتوجيه إلى ما ينفع العبد في الدنيا والآخرة، وكما تكون ببيان محاسن الإسلام وما فيه من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة، تكون أولًا بالأعمال الطيبة، والقدوة الحسنة، والسيرة الحميدة، حتى ينظر المدعو الداعي على خير حال، وحتى يتأسى بأعماله وصفاته وأخلاقه الكريمة قبل أن يسمع كلامه، وحتى يكون الانتفاع بهذا وهذا، بالقول والسيرة الطيبة، وبالإحسان إلى المدعوين وسد خلتهم، وعلاج جريحهم، والحرص على انتشالهم مما هم فيه من الباطل، وتسليمه للأعداء الذين يحرصون كل الحرص على أن يأخذوهم إليهم ويضموهم إليهم بما يفعلون من أنواع الإحسان إليهم، فإذا كان أعداء الله يحرصون على انتشال هؤلاء وأخذهم من أيدي المسلمين بما يفعلون من إقامة المستوصفات والمستشفيات ودور الإحسان بالطعام والشراب والكساء إلى غير ذلك فالمسلمون يجب أن يكونوا هكذا، وأن يعالجوا مرضى القلوب، ومرضى الأبدان، بالعلاجين، فلا يغني هذا عن هذا، ولا هذا عن هذا، كل يبذل ما يستطيع، ويكون العلاج بالإحسان وسد جوعة الجائع وعلاج المريض وغير هذا من وجوه الإحسان، ويكون أيضًا بالتوجيه إلى ما جاء به الإسلام من الأخلاق الكريمة، والصفات الحميدة، والدين الحق، وببيان ما هم فيه من الباطل، وببيان عورة ما هو فيه من الباطل، وما فيه من الشر والفساد؛ حتى ينفروا منه، وحتى يعلموا بطلانه.
هكذا يكون الدعاة إلى الله كل بحسب طاقته، فالرسول ﷺ وأصحابه في مكة كانت دعوتهم بالكلام، والسيرة الحميدة، والصبر، ليس في أيديهم القوة، وليس في أيديهم المال الكثير حتى يبذلوه، ولكن بالصبر والتوجيه إلى الخير، وبيان محاسن الإسلام، وبيان بطلان ما هم فيه من الشرك، وعبادة الأوثان والأصنام، وبيان صفة الأوائل صفة الرسل الكرم وأتباعهم بإحسان، وأن فيهم القدوة لمن عرف حالهم وسيرتهم حتى يتأسى بهم المسلمون، وحتى يصبروا على ما أصابهم من الشدة والجوع والعذاب، التأسي بأولئك الأخيار من الرسل وأتباعهم، وعند القدرة يواسى الفقير، ويعالج المريض، وتبنى المستشفيات والمستوصفات، ويبذل المال للمؤلفة قلوبهم، إلى غير ذلك من أنواع الإحسان، فهذا مطلوب، وهذا مطلوب، وعلى المسلمين جميعًا وعلى ولاة أمرهم أن يقوموا بذلك، وعليهم أن يبدؤوا بأنفسهم، عليهم أن يبدؤوا بأنفسهم فيعالجوا ما بهم من أمراض: أمراض القلوب، وأمراض الأخلاق، فيستقيموا على دين الله، ويؤدوا حق الله، ويبتعدوا عن محارم الله، حتى يتأسى بهم غيرهم، حتى يرى فيهم غيرهم الأخلاق الكريمة، والصفات الحميدة، والطاعة لله ولرسوله، والكف عن محارم الله، والاستقامة على طاعة الله ورسوله، وحتى يرى فيهم أعداؤهم مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والصبر على ما هو لله ، والكف عن محارم الله سبحانه وتعالى، كل هذا مطلوب.
فإذا استقام المسلمون على دينهم وصبروا عليه ودعوا إليه بالأخلاق الكريمة والصفات الحميدة وأعمال جليلة وعلم نافع وبصيرة نافذة أجابهم غيرهم، وسلم لهم غيرهم القيادة، وبادروا إلى الاستجابة إلى ما يدعون إليه، فعلى الداعي إلى الله أن يعرف هذه الأمور، وأن يتبصر وأن يصبر ويصابر حتى يكون لدعوته الأثر العظيم، وحتى تكون له العاقبة الطيبة، وحتى يتقبلها المدعوون بكل انشراح، وبكل رغبة، وبكل مبادرة، أما أن يدعوهم إلى الأخلاق الكريمة وهو يخالفها، أو يدعوهم على جهالة وقلة بصيرة، فهذا قل أن يستمع له، وقل أن يفيد، بل يضر أكثر، ويفسد أكثر، إلا من رحم الله، فالمؤمن عليه أن يبدأ بنفسه ويجاهدها، وعليه أن يصبر ويتحمل حتى يدعو إخوانه المسلمين الذين قصروا في الاستقامة فيتأسوا بهم، ويستقيموا على ما دعاهم إليه، ثم ينتقل من ذلك إلى دعوة غيرهم من الكفرة ليستجيبوا لداعي الله، ولما يحييهم إلى توحيد الله والإخلاص له، وإلى أداء ما أوجب الله، وإلى ترك ما حرم الله، فيقيم الأدلة القولية والعملية حتى يستجيب له أولئك المدعون، وحتى تكون أخلاقه وأخلاق أتباعه والدعاة معه أخلاقًا كريمة، وصفات حميدة، يتأسى بها المدعو، وينشرح لها صدره، ويعلم أن هذا الداعي قد دعا إلى خير وقد عمل بخير.
ومن نظر في سيرة الرسول ﷺ وأصحابه عرف ذلك، فهم صبر على الحق، صبر على ترك شهواتهم، صبر على الجوع، صبر على كل ما يفوتهم من الحظ العاجل؛ لأنهم يريدون وجه الله والدار الآخرة، فهم صابرون في جنب الله، مجتهدون في طاعة الله، حريصون على هداية الناس إلى دين الله ، فلذلك نجحوا وأفلحوا، وصارت لهم العاقبة الحميدة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:45-47].
فالحاصل أن الدعوة إلى الله تحتاج إلى صبر، وإلى علم، وبصيرة وإلى أخلاق كريمة، وإلى صفات حميدة، كما قال جل وعلا: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، وقال سبحانه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وقال شعيب لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فعلى المؤمن وعلى الداعي إلى الله جل وعلا أن يجتهد، ولكن لا يمنعه ما فيه من قصور من الدعوة إلى الله بالحسنى وبالعلم والبصيرة، وأن يجتهد في استكمال ما فاته من الخير والحرص على تحصيل ما ينقصه من العلم والفضل، فلو قصر الأمر على الكمل لتعطل هذا الباب في الأغلب، ولكن لا بد من الجهاد، ولا بد من الدعوة، ولا بد من الصبر، ولا بد من الجهاد أيضًا لاستكمال ما يفوت الداعي من صفات حميدة وأعمال جليلة وصبر ومصابرة، فليس من شرط الداعية أن يكون كاملًا، وليس من شرط المجاهد أن يكون كاملًا، وليس من شرط الآمر والناهي أن يكون كاملًا، ولكن عليه أن يجتهد في ذلك، وأن يصبر ويتحمل حتى يكون ذلك أكثر ثمرة في دعوته، وأكمل في تحصيل المراد، وأبعد عن الخيبة فيما يدعو إليه، ويريد نجاحه، وحصوله من الناس.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وجميع الدعاة إلى الله سبحانه لما فيه رضاه، ولما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعًا وقادتهم حتى يكونوا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم في أعدائهم، حتى يتأسى بهم أعداؤهم، وحتى يعرفوا صحة ما هم عليه بأخلاقهم الكريمة، وصفاتهم الحميدة، وإخلاصهم لله وصبرهم وإحسانهم إلى عباد الله.