الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لما قدم المدينة وجد اليهود وهم من سكانها ذاك الوقت وجدهم يصومون يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من المحرم، وسألهم عن ذلك، فقالوا: إنه يوم نجا الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه يعني بالغرق فصامه موسى شكرًا لله، فنحن نصومه، وقال عليه الصلاة والسلام: نحن أحق وأولى بموسى منكم، ثم صامه وأمر بصيامه عليه الصلاة والسلام.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي ﷺ يصومه، فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومون فسألهم عن ذلك الحديث، فهذا يدل على أن قريشًا كانت تصومه في الجاهلية ويعرفونه، لكن أحب الرسول أن يستثبت من اليهود، وأن يسألهم عما لديهم في هذا علاوة على ما كان عند العرب في هذا الأمر مما تلقوه عن بني إسرائيل.
وقد ثبت عنه ﷺ أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: يكفر الله به السنة التي قبله، وسئل عن صوم يوم عرفة فقال: يكفر الله به السنة التي قبله والتي بعده، فصوم يوم عاشوراء من القربات، وقد أمر به النبي ﷺ، وأكد فيه لما قدم المدينة قبل أن يفرض رمضان، وأمر الناس بصيامه، وأمر من أفطر أن يمسك ذلك اليوم، فلما فرض الله جل وعلا رمضان ترك ذلك، فلم يؤكد على الناس في صيامه، ولكنه كان يصومه ﷺ ويحرض الناس على صيامه من غير تأكيد، فعلم بذلك أن المستقر في هذا الأمر هو أن صومه أمر مستحب، وأمر مطلوب ومشروع، لكنه ليس بواجب، إنما الواجب رمضان، وأما صوم يوم عاشوراء فهو مستحب وقربة، وهكذا يوم عرفة أفضل منه وقربة عظيمة، هكذا صوم الاثنين والخميس قربة عظيمة أيضًا، ومن أفضل الطاعات، وهكذا صوم ثلاثة أيام من كل شهر أيضًا من القرب العظيمة، وإذا صامها أيام البيض صار ذلك أفضل، وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
وقد ثبت في الصحيحين أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان يصوم الدهر، فبلغ ذلك النبي ﷺ فدعاه وقال له: لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الدهر وأمره أن يصوم في كل شهر ثلاثة أيام، وقال له: ذلك صيام الدهر، فقال: يا رسول الله إني أقوى على أكثر من ذلك فقال: صم يومًا وأفطر يومين، فقال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومًا، قال: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، هذا شطر الدهر صوم داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا عليه الصلاة والسلام، فبين بهذا عليه الصلاة والسلام أفضل صيام التطوع، وأن أفضل صيام التطوع أن يصوم المسلم يومًا ويفطر يومًا هذا أفضل الصيام من جهة التطوع يكون في شطر الدهر صائمًا ويكون في الشطر الثاني مفطرًا، والتزم عبدالله بن عمرو بذلك فكان يصوم يومًا ويفطر يومًا ، فلما كبرت سنه ورق عظمه قال: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله ﷺ، ولكنه لم يحب أن يغير شيئًا فارق عليه النبي ﷺ، فكان يصوم أيامًا عديدة، ثم يفطر ما يقابلها يتقوى بهذا على هذا.
فصوم يوم عاشوراء من جملة الأيام المشروعة، ويستحب أن يصومه المسلم اقتداء برسول الله ﷺ، ورجاء الفضل الذي وعد الله به الصوام بالأجر العظيم، وأن الله يكفر به السنة التي قبله، ولا شك أن هذا فضل عظيم وخير كثير في عمل قليل، وثبت عنه ﷺ أنه قال في آخر حياته: لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع، قال العلماء يعني مع العاشر مخالفة لليهود، وفي المسند عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، يعني مخالفة لليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، وفي لفظ: صوموا يومًا قبله ويومًا بعده، فهذا يدل على أن الأفضل أن نخالف اليهود، ونضيف إليه يومًا قبله أو يومًا بعده، حتى لا نكون موافقين لهم؛ لأنا أمرنا أن نخالف اليهود والنصارى في كل شيء، وشرع الله لنا ألا نتشبه بهم بأعمالهم وأقوالهم؛ بسبب كفرهم بالله، وعنادهم للحق، وضلالهم، ومخالفتهم لكتبهم، وتكذيبهم لنبي الله محمد عليه الصلاة والسلام، وبسبب كفرهم العظيم ومخالفتهم لأنبيائهم وكتبهم شرع الله لنا أن نخالفهم، وألا نتشبه بهم في أعمالهم ولا في أقوالهم ولا في أعيادهم، ومن جملة أعمالهم صوم يوم عاشوراء، وهو يوم عظيم وفاضل، لكن شرع لنا أن نضيف قبله يومًا أو بعده يومًا، أو نصوم قبله أو بعده يومًا، ثلاثة أيام من الشهر فيحصل بذلك المخالفة وتحصل بذلك أيضًا صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
وفي هذا الشهر يكون التاسع والعاشر الخميس والجمعة أو الجمعة والحادي عشر يكون السبت، وإذا صام الثلاثة جميعًا كان ذلك أفضل وأفضل؛ لما فيه من زيادة العمل الصالح والمخالفة.