1- كتاب التوحيد

كتاب التوحيد
وقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36].
وقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً[الإسراء: 24].
وقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً[النساء: 36].
قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً إلى قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً الآية [الأنعام: 151-153].
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشِّرهم فيتكلوا أخرجاه في الصحيحين.

الشيخ:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذا الكتاب العظيم، وهو كتاب التوحيد ألفه الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في نجد ألفه حال كونه ساكنًا في الحريملاء، ودعا إلى الله وأرشد الناس إلى توحيد الله، وكان يقرأه الناس ويعلمهم لما فشا في نجد من الشرك ودعاء الأموات وأصحاب القبور والأشجار والأحجار وغير هذا مما فعله المشركون، وكانت نجد فيها من الشركيات الشيء الكثير، وهكذا في الحجاز وفي اليمن وفي غير ذلك؛ فقام رحمه الله بالدعوة إلى الله جل وعلا في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري، وصبر على الدعوة في ذلك وشرح للناس حقيقة التوحيد وحذرهم من الشرك رحمه الله، ثم انتقل إلى عيينة وأقام فيها مدة طويلة يدعو إلى توحيد الله ويقرر التوحيد ويحذر من الشرك وعبادة الأوثان، ثم سعى مع أمير العيينة إلى هدم قبة زيد بن الخطاب التي كانت في الجبيلة وكان زيد ممن قتل أيام قتال مسيلمة زيد بن الخطاب أخو عمر رضي الله عنهما، وكان أهل نجد يعبدون قبره في الجبيلة، فهدمه الله على يد الشيخ محمد ودعاة الهدى، وانتشر التوحيد والدعوة إلى الله عز وجل وصار هذا الكتاب يقرأه الشيخ رحمه الله الناس وهكذا تلاميذه يعلمونه الطلبة حتى يفهموا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ثم انتشرت الدعوة في الحجاز وفي غير الحجاز، ونقلها أهل العلم إلى اليمن وإلى الهند وإلى غيرها نقلها علماء الحق وانتشرت الدعوة في العراق وفي الشام وانتفع به الجم الغفير ولله الحمد.
ولم تزل هذه الدعوة سارية وماشية إلى يومنا هذا على يد علماء الحق علماء السنة في نجد وفي اليمن وفي الهند وفي باكستان وفي العراق وفي الشام وفي غيرها.

وهذه دعوة الرسل، دعوة الرسل هي الدعوة إلى توحيد الله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] هذه دعوة الرسل، دعوة الناس إلى توحيد الله والإخلاص له، وذلك هو تحقيق معنى لا إله إلا الله أي لا معبود حق إلا الله، فالرسل تدعوا إلى توحيد العبادة كما أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية فالرسل دعتهم إلى توحيد العبادة كما أقروا بتوحيد الربوبية، وأن الله هو المستحق أن يعبد كما أنه سبحانه هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وهم يعرفون هذا يعرفه المشركون: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87]، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [يونس: 31] هم مقرون بهذا، معترفون بأنه سبحانه خالقهم ومدبر الأمور ورازق العباد، ولكنهم وقعوا في الشرك الأكبر شرك العبادة، والله خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، فهذه الحكمة في خلق الجن والإنس الحكمة والغاية المطلوبة أن يعبدوا الله وحده، وأن يقروا بمعنى لا إله إلا الله، وأنه لا معبود حق إلا الله، وأنه لا يجوز صرف العبادة لأصحاب القبور ولا للأشجار والأحجار ولا الأصنام ولا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم العبادة حق الله، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] يعني إلا ليخصوني بالعبادة، والعبادة هي توحيد الله وطاعته وهي الإسلام وهي الهدى وهي الإيمان والتقوى وهي البر، قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 136]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: 1]، فالعبادة هي توحيد الله هي التقوى هي الإيمان بالله ورسوله، هي الإسلام الذي هو الذل لله والانقياد لعظمة الله وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه جل وعلا.
فهذه العبادة هي السر في خلق الجن والإنس وهي الحكمة في خلقهم وإيجادهم ليعبدوا الله وحده، معناه ليذلوا له ويخصوه بالعبادة بدعائهم وخوفهم ورجائهم وذبحهم ونذرهم واستغاثتهم وصلاتهم وصومهم وغير هذا كله لله وحده، قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] يعني أمر ربك وأوصى ألا تعبدوا إلا إياه، وقال سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [النساء: 36] يعني خصوا الله بالعبادة، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36]، فالحكمة في خلق الجن والإنس هي العبادة، والحكمة في إرسال الرسل هي العبادة، الله خلق الخلق ليعبدوه وأرسل الرسل جميعًا من أولهم إلى آخرهم يدعون الناس إلى توحيد الله وطاعته وتخصيصه سبحانه بالعبادة والإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام، وخاتمهم هو محمد ﷺ هو خاتمهم وأفضلهم.

فالعبادة هي توحيد الله والإخلاص له على الشريعة التي جاء بها نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.
وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا  وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام: 151]، قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه يعني كأنه أوصى بها وختمها فليقرأ هذه الآيات ﷺ، يعني قل يا أيها الناس تعالوا، يعني هلموا وأقبلوا. أَتْلُ، أي أقص مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، ثم بينه فقال: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، يعني حرم عليكم الإشراك به.
ثم ذكر بعد ذلك مسائل أخرى قال: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام: 151، 152] ثم قال سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ، يعني الزموه وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، أي الطرق التي أحدثها الناس فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، يعني تميل بكم عن سبيله ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
هذه الوصايا العشر التي أشار إليها ابن مسعود رضي الله عنه وبينها الله في هذه الآيات الثلاث، ولهذا قال عبدالله: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه يعني كأنه أوصى بها وختمها فليقرأ هذه الآيات؛ فإن الله وصى بهذا، والرسول وصى بهذا، الرسول يوصي بما وصى الله به، ويأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه؛ فلهذا قال جل وعلا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7].
وقوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا، أي هلموا وأقبلوا أَتْلُ، يعني أقص مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، لا: صلة، المعنى حرم عليكم أن تشركوا به شيئًا، يعني حرم عليكم الشرك.
ثم قال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، يعني أوصاكم بالوالدين إحسانًا، وحق الوالدين عظيم، قرنه الله بحقه في آيات، كما قال سبحانه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14]، وقال جل وعلا: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36]، وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23] فحق الوالدين عظيم ولهذا أوصى الله بحقهما مع حقه جل وعلا.
ثم قال سبحانه: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ، هذه الثالثة يعني احذروا أن تقتلوا أولادكم من إملاق كما تفعل الجاهلية، كان بعض الجاهلية يقتل ولده إذا خشي الفقر، وبعضهم يقتل البنت خشية العار، فأنكر الله عليهم هذا وحذرهم منه. قال: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ، يعني من فقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، الرزق بيد الله جل وعلا.
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ، وهي المعاصي مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ لا المعاصي الظاهرة والباطنة، الواجب الحذر منها، والظاهرة كالزنا وشرب الخمر وعقوق الوالدين وأشباه ذلك، والباطنة كالكبر والخيلاء ونحو ذلك مما يتعلق بأمراض القلوب نسأل الله العافية.
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، يعني احذروا قتل المعصومين إلا بحق.
ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، يعني وصاكم بهذه الأشياء لتعقلوا عن الله وتفهموا.
ثم قال: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، هذه السادسة، اليتيم حقه عظيم فالواجب حماية ماله وحفظ ماله وأن لا يقرب إلا بالتي هي أحسن، يعني التجارة فيه وطلب الربح فلا يجوز التلاعب بأموال اليتامى ولهذا قال: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وهي التجارة فيه والتسبب فيه.
حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، يعني حتى يبغ الحلم حتى يرشد.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، هذه السابعة والثامنة إيفاء الكيل والميزان فالواجب على المسلمين أن يوفوا الكيل والميزان وألا يبخسوا الكيل والميزان وألا يظلموا الناس بل يجب إيفاء الكيل وإيفاء الميزان، بالقسط بالعدل، فهو جل وعلا قال: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، يعني كل واحد يجتهد في وفاء الكيل والميزان على المتبع من دون بخس ونقص هذا الواجب على جميع المسلمين، بعض الناس إذا كال للناس بخس، وإذا كال لنفسه استوفى هذا عمل المطففين الذين توعدهم الله بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1-3] يجب على المؤمن إذا وزن أو كال أن ينصف وأن يعطي الحق الذي عليه وألا يبخس، هذا هو الواجب على كل مسلم.
والواجب أيضاً على كل مسلم أن يعدل في كل شيء سواء مع القريب أو مع البعيد: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، بعض الناس قد يحيف مع القريب أو مع الصديق، فالواجب على الحاكم وعلى المصلح أن يعدل مع القريب ومع البعيد هذا الواجب على الجميع: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى، ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء: 135] يعني بالعدل.
ثم أتى بالعاشرة فقال: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا، يعني بما عهد الله إليكم وأوصاكم به من توحيده وطاعته واتباع شريعته يجب الوفاء بذلك: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
قال أولاً: تَعْقِلُونَ، ثم تَذَكَّرُونَ، ثم تَتَّقُونَ؛ لأن العبد إذا تعقل الأمور وأبصرها حقيقة تذكر ما له وما عليه، وإذا تذكر اتقى ربه وأدى حقه سبحانه وتعالى.
فالواجب التعقل ثم التذكر، ثم التقوى، لا بدّ أن يتعقل النصوص ويتفهمها ثم يعمل.
وفي حديث معاذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وكان رديفه على حمار: أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟.

في حديث معاذ فوائد، منها:
جواز ركوب الدابة والإرادف عليها، وأنه لا بأس أن يردف على البعير أو الحمار أو البغل لا بأس كما أردف النبي صلى الله عليه وسلم على بعيره وعلى البغلة وعلى الحمار لا حرج إن كانت الدابة تطيق لا بأس بالإرداف.
وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم كونه ركب الحمار، فدل على تواضعه ﷺ، وكذلك أردف عليه فبعض المتكبرين لا يركب الحمار ولا يردف، والنبي ﷺ ركب الحمار وركب البغل، وركب البعير وأردف عليه الصلاة والسلام.
أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم!.
هذا يفيد الأدب أن من سئل عما لا يعلم يقول: الله أعلم! في حياة النبي ﷺ يقول: الله ورسوله أعلم، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام يقول: الله أعلم، أو يقول: لا أدري، هذا الواجب على الإنسان لا يتنطع ولا يتكلف إن علم قال، وإن لم يعلم يقول لا أدري أو الله أعلم.
قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا هذا حق فرض وإلزام، حق لازم على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به؛ لأنه خلقهم لهذا وأمرهم بهذا فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُم [البقرة:21]، وقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] الحق عليهم واجب وفريضة أن يعبدوا الله ويخصوه بجميع العبادات من صلاة وصوم ودعاء وذبح ونذر وغير ذلك هذا حق الله على عباده.

أما حقهم عليه فحقهم عليه ألا يعذبهم إذا أدوا حقه حقهم عليه حق تفضل وإحسان فهذا من جوده وكرمه تفضل، الأول حق إيجاب وإلزام والثاني حق تفضل وإحسان. فمن حقهم عليه الذي تفضل به جل وعلا أنهم إذا عبدوه وخصوه بالعبادة وأدوا حقه أنه لا يعذبهم سبحانه وتعالى، فمن مات على التوحيد والإيمان فهو موعود بالجنة والنجاة من النار، لكن إن كان له ذنوب وسيئات وأصر عليها ولم يتب فهو على خطر من دخول النار، كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] فالشرك لا يغفر، من مات عليه فله النار والعياذ بالله، وأما المعاصي فتحت المشيئة إن شاء ربنا غفر لصاحبها وإن شاء عذبه على قدرها، ثم يخرجه الله من النار والعاصي لا يخلد في النار، إذا مات على التوحيد لا يخلد، وإن عذب فإنه يعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج من النار إلى الجنة كما ثبت في الأحاديث المتواترة عن رسول الله ﷺ أن كثيرًا من العصاة يدخلون النار ويشفع فيهم ﷺ، ويشفع فيهم الشفعاء، ثم يخرجون من النار بعدما امتحشوا، بعدما احترقوا، بعدما أصابتهم النار فيلقون في نهر الحياة؛ فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، وبعض الناس لا يدخل النار من أهل التوحيد بل يعفى عنه، فهم تحت مشيئة ربهم عز وجل.
قال معاذ: أفلا أبشر الناس؟! يعني: أن من مات على التوحيد لا يعذب؟! قال: لا تبشرهم فيتكلوا! هذا في أول الإسلام ثم بشرهم النبي ﷺ أن من مات على التوحيد فله الجنة، لكن إن كانت له ذنوب وسيئات لم يتب منها؟ فهو على خطر قد يعذب، وإن مات على التوحيد والإيمان وعدم المعاصي فهو إلى الجنة فضلاً من الله ورحمة منه وإحسانًا جل وعلا.
ولهذا خبّر معاذ بهذا في آخر حياته، خبّر بما أخبر به النبي ﷺ؛ لأن النبي ﷺ بلغ الناس في الأحاديث الكثيرة أن من مات على التوحيد فهو موعود بالجنة، لكن إن كانت له ذنوب فهو على خطر من دخول النار إذا لم يتب.
وفق الله الجميع.