15- باب قول الله تعالى: {أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون}

باب: قول الله تعالى:
أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ۝ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 191-192]
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13].
وفي الصحيح عن أنس، قال: "شُج النبي ﷺ يوم أحد، وكسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنَزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128]، وفيه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ الآية [آل عمران: 128].
وفي رواية: "يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنَزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ.
وفيه عن أبي هريرة قال: "قام فينا رسول الله ﷺ حين أنزل عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]  قال: يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا. يا عباس بن عبدالمطلب، لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله ﷺ، لا أغني عنكِ من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئا.

الشيخ:
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فهذا الباب يريد المؤلف رحمه الله فيه إيضاح بطلان الشرك وأنه لا يجوز الشرك بالله مطلقًا مع أي أحد من الناس، وأن الواجب إخلاص العبادة لله وحده، وأنه لو كان الشرك يجوز لأحد لكان للأنبياء؛ لأنهم أفضل الناس وخير الناس، ومع هذا الأنبياء لا يجوز أن يعبدوا من دون الله وتصيبهم مصائب وتحل بهم المصائب كما تحل بغيرهم، فوجب على المكلفين إخلاص العبادة لله وحده وأنه سبحانه هو المستحق لأن يعبد دون كل من سواه كما قال عز وجل: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163]، وقال تعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه: 98] فيقول رحمه الله: باب قول الله تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] يريد بهذه الترجمة بيان بطلان الشرك من جميع الوجوه وأن العبادة حق الله وحده، لا تصرف لأحد لا للعباد ولا للرؤساء ولا للأنبياء ولا للملائكة ولا لغيرهم كلهم عبيد لله، يقول جل وعلا: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 93] كلهم عبيده سبحانه وتعالى فلا يجوز أن يُعبدوا معه، ولهذا قال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ۝ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ [الأعراف: 191-192] هذه صفات أربع تدل على بطلان عبادتهم من دون الله:
أنهم لا يخلقون شيئًا عاجزون فالخلاق هو الله وحده.
الصفة الثانية: أنهم مخلوقون مربوبون مقهورون، وهم يخلقون فهم مخلوقون.
الثالثة: أنهم لا يستطيعون لهم نصرًا، لا يستطيعون نصر أنفسهم من أعدائهم إذا أراد الله بهم شيئًا غلبهم أعداؤهم، فهم لا يستطيع نصر أنفسهم ولا نصر غيرهم.
فهذه الصفات الأربعة كلها متوفرة في غير الله سبحانه وتعالى.
مخلوق ليس بخالق، لا ينصر نفسه ولا ينصر غيره، فلا يستطيعون نصر من والاهم ولا نصر أنفسهم فبطلت عبادتهم من دون الله وصاروا بهذا عاجزين لا يصلحون أن يعبدوا من دون الله ولا يُتعلق عليهم.
قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13] القطمير هو الفلاة التي على النواة كلها ملك لله: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] فمن دعوا من دون الله لا يسمعون دعاءك إلا جماد وإلا ميت وإلا غائب بعيد لا يسمعك وإن سمع لم يستجب. لأنه بين ميت وغائب وشجر وحجر ونحو ذلك.
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا ؛ لأنهم عاجزون، لو سمع ما استجاب لك إلا فيما يقدر عليه، وما يقدر عليه فلا بأس ليس من الشرك إذا كان تقول له: سلفني كذا، أقرضني كذا، ساعدني في كذا، أو توكله على عمل يستطيع فلا بأس، لكن تدعوه في شيء لا يستطيعه هذا هو الشرك الأكبر، أو تدعو غائبًا تعتقد أنه يسمع دعاءك وهو غائب بغير واسطة بل لاعتقاد أنه يصلح لهذا وأن هذا السر فيه، كما يظنه بعض الصوفية الهالكين هذا هو الشرك الأكبر.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ لو قدر أنهم سمعوا ما استجابوا؛ لأنهم إما جماد وإما ميت وإما غائب لا يسمع، أما الحاضر ففيه تفصيل، الحاضر إن كان يسمع ويستطيع فلا بأس، كما قال الله تعالى: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص: 15] الإسرائيلي استغاث موسى على القبطي، أو تقول لإنسان: يا فلان أغثني من غلامك الذي تعدي عليّ أو من زوجتك أو من كلبك أو من ولدك أو ما أشبه ذلك، أو تستعيذ به في الحرب، تقول: عندك هذه الثغرة، أو تستعين به في غرس الشجرة، أو في إصلاح السيارة في أشياء يستطيعها لا بأس هذا أمر أجمع المسلمون على جوازه لا حرج فيه، ولا تستقيم الأمور إلا بهذا، لكن المقصود من هذا الذي فيه الذم والعيب هو دعاء الغائبين والأموات والعاجزين أو الجمادات هذا هو الشرك الأكبر.

وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه أنس بن مالك خادم النبي ﷺ قال: شج النبي ﷺ يوم أحد، الشجة ما يقع في الرأس يقال له شجة وهو شج يوم أحد، قال: وكسرت رَباعيته، والرباعية الضرس الرابع في الفم، وكسرت البيضة على رأسه يوم أحد، وأصابه نكبة عظيمة يوم أحد من المشركين فصبروا والحمد لله، قال تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران: 140] أصابهم يوم بدر ما أصابهم، والحروب سجال تارة يدال العدو ابتلاء وامتحانًا، وتارة ينصر المسلمون وهو الأغلب، فقال عند هذا ﷺ لما رأى الدم: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم استبعد فلاحهم مع شدة بغضهم وعداوتهم له وحربهم له، فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128] الآية. يعني الأمر إلى الله فهو الذي يدبر الأمور، وهو الذي قدر يوم أحد، وقدر ما حصل من مصائب فله الحكمة البالغة، فالأمر إليه وليس إليك يا محمد ولا إلى غيرك.
فدل ذلك على الأنبياء لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا هذا الشاهد، وأنه لا يصلح أن يدعون من دون الله ما داموا قد يُقتلون وقد يصلبون وقد يجرحون وقد يُغلبون، فدل ذلك على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئًا وأن العبادة حق الله وحده هذا الشاهد.

وفي الصحيح عن ابن عمر أن النبي ﷺ كان إذا رفع رأسه من الفجر يدعو على جماعة من قريش قبل الفتح يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام ويلعنهم؛ لأنهم رؤساء الكفار ذاك الوقت، فقال الله في حقهم: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران: 128] يعني دعوت أو لم تدع الأمر ماض، أمر الله ماض فيهم، فهداهم الله وأسلموا، أسلم  صفوان بن أمية، وأسلم الحارث بن هشام، وأسلم سهيل بن عمرو، وأسلم أبو سفيان وكانوا من كبار الكفرة ومن صناديدهم ومن أئمتهم ثم هداهم الله فأسلموا، الأمر بيد الله جل وعلا، وهكذا لما نزل قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] يخاطب النبي ﷺ قام على الصفا وناداهم: يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا قبل أن يهاجر، اشتروا أنفسكم من الله بالتوحيد والإيمان لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب -عمه صلى الله عليه وسلم- يا عم رسول الله، لا أغني عنكِ من الله شيئًا، يا صفية -عمة رسول الله- لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنك من الله شيئًا، المعنى استقيموا على توحيد الله واستقيموا على طاعة الله ولا تعتمدوا عليّ لأني رسول الله، لا هذا حق الله، فالواجب طاعته واتباع شريعته والرسل عليهم البلاغ، لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا فمنهم من قُتل كما قتل اليهود جماعة من الأنبياء ويصيبهم الجراح وتصيبهم الأمراض.

أيوب وهو نبي الله مكث في المرض مدة طويلة، ونبينا أصابه ما أصابه يوم أحد عليه الصلاة والسلام، فالأنبياء يصيبهم ما يصيب الناس، يبتلون وتكون لهم العاقبة الحميدة فأمر الله أن يبلغ قريشًا أنه لا يملك لهم من الله شيئًا كونه قريبا لهم وكونه منهم وكونه من قريش لا يغني عنهم من الله شيئا حتى يسلموا ويوحدوا، وكون العباس عمه وصفية عمته وفاطمة بنته ما يغني عنهم من الله شيئًا حتى يسلموا، حتى ينقادوا لشرع الله، فالشاهد من هذه الترجمة كلها بيان أن العبادة حق الله وحده وأنها لا تصلح لأحد من الناس لا للأنبياء ولا لغيرهم بل هي حق الله يجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يعبدوا الله وحده في دعائهم وصلاتهم وصومهم وزكاتهم وصدقاتهم وغير ذلك، عليه الاعتماد سبحانه وهو المستحق لأن يعبد كما قال عز وجل: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117]، وقال تعالى: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18]، وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106].
نسأل الله للجميع التوفيق .

الأسئلة:

س: في بعض النسخ: يقول أبو هريرة: قام فينا رسول الله ﷺ؟
ج: يعني في الصحابة وإلا هو أسلم متأخرًا يعني يروي عن الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن أكثر رواياته عن الصحابة.