وفيه عن أبي هريرة قال: قام رسولُ الله ﷺ حين أنزل عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] فقال: يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسَكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أُغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمّة رسول الله، لا أُغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئتِ، لا أُغني عنك من الله شيئًا.
قوله: "وفيه" أي: وفي "صحيح البخاري".
قوله: "عن أبي هريرة" اختُلف في اسمه، وصحح النووي أنَّ اسمه عبدالرحمن بن صخر، كما رواه الحاكمُ في "المستدرك" عن أبي هريرة قال: "كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فسُميت في الإسلام: عبدالرحمن".
وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة: أن النبي ﷺ سمَّاه عبدالله.
وهو دَوْسِي، من فضلاء الصحابة وحُفَّاظهم، حفظ عن النبي ﷺ أكثر مما حفظه غيره، مات سنة سبعٍ أو ثمانٍ أو تسعٍ وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
قوله: "قام رسولُ الله ﷺ" في الصحيح من رواية ابن عباسٍ: "صعد رسولُ الله ﷺ على الصَّفا".
قوله: "حين أنزل عليه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ" عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون، أو قبيلته؛ لأنهم أحقُّ الناس ببرِّك وإحسانك الدِّيني والدُّنيوي، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقد أمره الله تعالى أيضًا بالنَّذارة العامَّة، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس:6]، وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ [إبراهيم:44].
قوله: "يا معشر قريش" المعشر: الجماعة.
قوله: "أو كلمة نحوها" هو بنصب "كلمة" عطف على ما قبله.
قوله: اشتروا أنفسكم أي: بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، وطاعته فيما أمر به، والانتهاء عمَّا نهى عنه، فإنَّ ذلك هو الذي يُنجي من عذاب الله، لا الاعتماد على الأنساب والأحساب؛ فإنَّ ذلك غير نافعٍ عند ربِّ الأرباب.
قوله: لا أُغني عنكم من الله شيئًا فيه حُجَّة على مَن تعلق على الأنبياء والصَّالحين، ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه، أو يدفعوا عنه؛ فإنَّ ذلك هو الشِّرك الذي حرَّمه الله تعالى، وأقام نبيَّه ﷺ بالإنذار عنه، كما أخبر تعالى عن المشركين في قوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فأبطل الله ذلك، ونزَّه نفسه عن هذا الشِّرك.
وسيأتي تقرير هذا المقام إن شاء الله تعالى.
وفي "صحيح البخاري": يا بني عبد مناف، لا أُغني عنكم من الله شيئًا.
الشيخ: وهذا من الإنذار والبلاغ العظيم للعام؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَأَنْذِرِ النَّاسَ [إبراهيم:44]، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، وصعد الصفا وأنذرهم عليه الصلاة والسلام، وأخبرهم أنه لا يُغني عنهم من الله شيئًا، كونهم من عشيرته لا يُغني عنهم من الله حتى يُسلموا وينقادوا للحقِّ، حتى بنته، حتى عمّه.
المقصود أنَّ الواجب على الجميع هو تقوى الله، وألا يتعلَّقوا بأنسابٍ، أو أقارب، أو غير ذلك، بل يجب على كل مُكلَّفٍ أن يتَّقي الله، وأن يعبد الله وحده، وألا يكون تعلقه على المخلوقين من أنبياء، أو ملائكة، أو مؤمنين، أو جنّ، أو غير هذا، الواجب التَّعلق بالله، والعبادة له وحده لا شريكَ له، وأن جميع التَّعلقات التي يتعلق بها الناسُ لا تنفعهم عند الله، إلا إذا أنابوا إلى الله وأسلموا له، هذا هو الذي يُنجيهم من عذاب الله؛ ولهذا عمم عليهم بقوله: اشتروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، لا فرق بين عمةٍ، أو عمٍّ، أو بنتٍ، أو أخٍ، أو غير ذلك، الواجب على الجميع أن يعبدوا الله وحده، وألا يتعلَّقوا على أقارب من أنبياء، أو إخوة صالحين، أو غير ذلك، نعم.
س: قوله : لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97] جعل البشارة لأهل التَّقوى، والنِّذارة ..؟
ج: ما في شك؛ لأنَّ مَن اتَّقى له البشارة، ومَن أبى ما فيه إلا النّذارة له، البشارة لأهل التقوى والإيمان، أما مَن مات على الكفر بالله ما له إلا النّذارة، نسأل الله العافية.
س: بعضهم يُسمِّي دُعاة النَّصارى: مُبشرين، وجماعة التبشير، هل يصحّ هذا؟
ج: يُسمون أنفسهم مُبشرين، وإلا هم في الحقيقة يُبشرون بالنار، هم يُبشرون بعذابٍ أليمٍ، قال الله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، نسأل الله العافية، هم يُبشرون بالنَّار.
قوله: يا عباس بن عبد المطلب بنصب "ابن"، ويجوز في "عباس" الرفع والنَّصب. وكذا في قوله: يا صفية، عمّة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمدٍ.
قوله: سليني من مالي ما شئتِ بيَّن رسولُ الله ﷺ أنه لا يُنجي من عذاب الله إلا الإيمانُ والعمل الصالح.
وفيه: أنه لا يجوز أن يُسأل العبدُ إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا، وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنَّجاة من النار ونحو ذلك من كلِّ ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يُطلب إلا منه تعالى، فإنَّ ما عند الله لا يُنال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه ورضيه.
الشيخ: ولهذا قال لفاطمة: سليني من مالي ما شئتِ، لا أُغني عنكِ من الله شيئًا؛ لئلا تظنّ أن قربها منه وأنها بنته أنَّ هذا ينفعها عند الله ولو لم تعمل، لا ينفع، فلا بدَّ من توحيد الله وطاعته، سواء كانت بنتًا أو عمةً أو أختًا أو غير ذلك، هذا أبوه مات في الجاهلية، ولا نفعه كون محمدٍ ابنه، قال: إنَّ أبي وأباك في النار، وهذا عمُّه أبو لهب: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]، وهذا عمّه أبو طالب ما نفعه قربه، لا بدَّ من إسلامٍ وإيمانٍ وتقوى، ودخول في دين الله؛ فلهذا نبَّه عمَّته وعمَّه، ونبَّه عمَّه العباس، ونبَّه بنته على أنَّ هذه القرابة لا تنفعهم عند الله إن لم يُسلموا وينقادوا للشَّرع، وإلا فهم كغيرهم من الناس، نسأل الله السَّلامة.
س: .............؟
ج: مات في الجاهلية، قال فيه النبيُّ: إنَّ أبي وأباك في النار، واستأذن ربَّه أن يستغفر لأمه فلم يُؤذن له.
س: .............؟
ج: لا، الظاهر أنهم ما هم من أهل الفترة، ظاهر الحديث أنه بلغهم الحقّ فلم يستجيبوا.
فإنَّ ما عند الله لا يُنال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه ورضيه لعباده أن يتقرَّبوا إليه به، فإذا كان لا ينفع بنته وعمَّه وعمَّته وقرابته إلا ذلك، فغيرهم أولى وأحرى، وفي قصة عمِّه أبي طالب مُعتبر.
فانظر إلى الواقع الآن من كثيرٍ من الناس: من الالتجاء إلى الأموات، والتَّوجه إليهم بالرغبات والرهبات، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، فضلًا عن غيرهم، يتبين لك أنهم ليسوا على شيءٍ: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]، أظهر لهم الشيطانُ الشركَ في قالب محبَّة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشِّرك في الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
ولا ريب أنَّ محبة الصَّالحين إنما تحصل بمُوافقتهم في الدِّين، ومُتابعتهم في طاعة ربِّ العالمين، لا باتِّخاذهم أندادًا من دون الله، يُحبونهم كحبِّ الله؛ إشراكًا بالله، وعبادةً لغير الله، وعداوةً لله ورسوله والصَّالحين من عباده، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:116- 117].
قال العلامةُ ابن القيم رحمه الله في هذه الآية بعد كلامٍ سبق: "ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أُمِرَ به، وهو محضُ التوحيد، فقال: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
ثم أخبر أنَّ شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد الوفاة لا اطِّلاع له عليهم، وأنَّ الله المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم، فقال: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117]، وصف الله سبحانه بأنَّ شهادته فوق كل شهادةٍ وأعمّ" اهـ.
الشيخ: وهذه الوفاة هي رفعة إلى السَّماء، توفيتني يعني: قبضتني ورفعتني إلى السماء؛ لأنه حيٌّ لم يمت، وسوف يموت في آخر الزمان إذا نزل عليه الصَّلاة والسَّلام.
س: مَن يقول أنه تُعرض عليه الأعمال ﷺ؟
ج: غلط، الحديث ضعيف، الذي جاء في هذا ليس بصحيحٍ، وإنما الصلاة تُعرض عليه عليه الصلاة والسلام، صلاتنا تُعرض عليه.
قلتُ: ففي هذا بيان أنَّ المشركين خالفوا ما أمر الله به رسلَه من توحيده الذي هو دينهم الذي اتَّفقوا عليه، ودعوا الناس إليه، وفارقوهم فيه إلا مَن آمن، فكيف يُقال لمن دان بدينهم، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده: إنه قد تنقَّصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربَّه، واتَّبع فيه رسله عليهم السلام، ونزَّه به ربَّه عن الشِّرك الذي هو هضم للربوبية، وتنقّص للإلهية، وسُوء ظنٍّ برب العالمين؟!
والمشركون هم أعداء الرسل وخُصماؤهم في الدنيا والآخرة، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرؤوا من كل مُشركٍ ويكفروا به، ويبغضوه ويُعادوه في ربهم ومعبودهم: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149].
الشيخ: ولهذا قال سبحانه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4]، هذا هو الواجب على الجميع: البراءة من عبادة غير الله، وبغضهم في الله.