04 كتاب التوحيد من قوله: وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي"

وعن النَّواس بن سمعان قال: قال رسولُ الله ﷺ: إذا أراد الله تعالى أن يُوحي بالأمر تكلَّم بالوحي، أخذت السَّماوات منه رجفة -أو قال: رعدة- شديدة؛ خوفًا من الله ، فإذا سمع ذلك أهلُ السَّماوات صعقوا وخرُّوا لله سُجَّدًا، فيكون أول مَن يرفع رأسه جبريل، فيُكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمرّ جبريل على الملائكة، كلما مرَّ بسماءٍ سأله ملائكتُها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل، فينتهي جبريلُ بالوحي إلى حيث أمره الله .

هذا الحديث رواه ابنُ أبي حاتم بسنده، كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره.

والنَّواس بن سمعان -بكسر السين- ابن خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري، صحابي، ويقال: إنَّ أباه صحابي أيضًا.

قوله: إذا أراد الله أن يُوحي بالأمر .. إلى آخره، فيه النَّص على أنَّ الله تعالى يتكلم بالوحي، وهذا من حُجَّة أهل السنة على النُّفاة، بقولهم: لم يزل الله مُتكلِّمًا إذا شاء.

قوله: أخذت السَّماوات منه رجفة السَّماوات مفعول مُقدَّم، والفاعل "رجفة"، أي: أصاب السَّماوات من كلامه تعالى رجفة، أي: ارتجفت. وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى، كما روى ابنُ أبي حاتم عن عكرمة، قال: إذا قضى الله أمرًا تكلَّم تبارك وتعالى؛ رجفت السَّماوات والأرض والجبال، وخرَّت الملائكةُ كلهم سُجَّدًا.

قوله: "أو قال: رعدة شديدة" شكٌّ من الراوي: هل قال النبيُّ ﷺ: رجفة، أو قال: رعدة؟ والراء مفتوحة فيهما.

قوله: خوفًا من الله  وهذا ظاهر في أنَّ السماوات تخاف الله بما يجعل تعالى فيها من الإحساس ومعرفة مَن خلقها.

وقد أخبر تعالى أنَّ هذه المخلوقات العظيمة تُسبحه، كما قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44]، وقال تعالى: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:90]، وقال تعالى: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74].

الشيخ: وهذا يدل على أنَّ الله جعل فيها إحساسًا بهذا، فالملائكة تخشاه، إذا سمعت كلامه يُصيبها الرعدة والخوف، وهكذا الجبال والسماوات، كما قال جلَّ وعلا: وَإِنَّ مِنْهَا يعني: الحجارة لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74].

فالمقصود أنَّ الله جلَّ وعلا إذا تكلم أخذت السَّماوات رجفة، والملائكة يخافون كما تقدم في رواية البخاري عن أبي هريرة، فهو سبحانه يسمعوا كلامه، ويتكلم إذا شاء؛ ولهذا قال في كتابه الكريم: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164].

وهذا قول أهل السنة والجماعة قاطبةً: أنه سبحانه يتكلم إذا شاء كلامًا يليق بجلاله، لا يُشابه كلام خلقه، وأنَّ مَن أنكر ذلك من الجهمية والمعتزلة وغيرهم قد كفروا بالله وكذَّبوه جلَّ وعلا.

س: هذا خاصٌّ بالكلام بالوحي، أم في سائر كلام الله أخذ الرَّجفة؟

ج: على ما جاء في النص ..... غيره، الله أعلم.

وقد قرر العلامةُ ابن القيم رحمه الله أنَّ هذه المخلوقات تُسبح لله وتخشاه حقيقةً، واحتجَّ بهذه الآيات ونحوها.

الشيخ: وهذا هو الحقّ؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] تسبيحًا يليق بها، وهو يعلمه جلَّ وعلا، يعلم تسبيحها، وهو تسبيحٌ يليق بها، لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى.

وهكذا قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [الحج:18]، حتى السجود هو الذي يعلم جلَّ وعلا صفةَ ذلك، وما يحصل منها من سجودٍ وتسبيحٍ.

وفي البخاري عن ابن مسعودٍ قال: كنا نسمع تسبيحَ الطعام وهو يُؤكل.

وفي حديث أبي ذرٍّ: أن النبي ﷺ أخذ في يده حصيات، فسُمِع لهن تسبيحٌ. الحديث.

وفي الصحيح: قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبيُّ ﷺ قبل اتِّخاذ المنبر، ومثل هذا كثير.

قوله: صُعِقُوا وخرُّوا لله سُجَّدًا الصُّعوق هو الغشي، ومعه السُّجود.

فيكون أول مَن يرفع رأسه جبريل بفتح "أول" خبر يكون تقدم على اسمها، ويجوز العكس.

ومعنى جبريل: عبدالله، كما روى ابنُ جبير وغيره عن عليِّ بن الحسين قال: كان اسمُ جبريل: عبدالله، واسم ميكائيل عُبيدالله، وإسرافيل عبدالرحمن. وكل شيء رجع إلى "ايل" فهو مُعبّد لله .

وفيه فضيلة جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19- 21].

الشيخ: وهذا وصف جبرائيل عليه الصلاة والسلام: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، هذا وصفه عليه الصلاة والسلام، فالله خلق له ستمئة جناح، كل جناحٍ منها مدّ البصر، سبحان الخلَّاق العليم! والله أكبر.

قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله تعالى: إنه لتبليغ رسول كريم.

الشيخ: والمراد بقوله: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ۝ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ۝ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى [النجم:5- 7].

وقال أبو صالح في الآية: جبريل يدخل في سبعين حجابًا من نورٍ بغير إذنٍ.

ولأحمد بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن مسعودٍ قال: رأى رسولُ الله ﷺ جبريلَ في صورته وله ستمئة جناح، كل جناحٍ منها قد سدَّ الأفق، يسقط من جناحه من التَّهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم.

فإذا كان هذا عظم هذه المخلوقات، فخالقها أعظم وأجلّ وأكبر، فكيف يُسوَّى به غيره في العبادة: دعاءً وخوفًا ورجاءً وتوكلًا وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟

فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى، وقد قال تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ۝ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ۝ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ۝ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:26- 29].

قوله: ثم ينتهي جبريلُ بالوحي إلى حيث أمره الله من السماء والأرض وهذا تمام الحديث.

والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تُقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن الملك العظيم الذي تُصعق الأملاكُ من كلامه خوفًا منه ومهابةً، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته، وعلمه وقُدرته، وملكه وعزّه، وغناه عن جميع خلقه، وافتقارهم جميعهم إليه، ونفوذ قدره وتصرفه فيهم؛ لعلمه وحكمته، لا يجوز شرعًا ولا عقلًا أن يُجعل له شريكٌ من خلقه في العبادة التي هي حقّه عليهم، فكيف يُجعل المربوبُ ربًّا، والعبدُ معبودًا؟ أين ذهبت عقولُ المشركين؟ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الطور:43].

وقال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ۝ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ۝ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93- 95]، فإذا كان الجميعُ عبيدًا، فلم يعبد بعضُهم بعضًا بلا دليلٍ ولا برهانٍ، بل بمجرد الرأي والاختراع والابتداع؟!

ثم قد أرسل رسلَه من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشِّرك، وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله.

انتهى من شرح "سنن ابن ماجه".

الشيخ: وهذا لا شكَّ أنه هو الواجب على جميع المكلَّفين: أن يعبدوا الله وحده، وأن يخصُّوه بالعبادة، ولكن غلب على الأكثرين أن انحرفوا عن الحقِّ: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ:20]، وهذا يُوجب على العاقل الحذر والخوف والضَّراعة إلى الله دائمًا أن يُثبته على الإيمان، وألا يزيغ قلبه عن الهدى، إذا كان الأكثرون قد ضلّوا فأنت يا عبدالله على خطرٍ، فعليك أن تسأل ربَّك الثبات، وأن تضرع إليه، وأن تستقيم على طاعته، وأن تحذر أسباب الغواية، وأسباب الشرك، فالعبد ما دام في هذه الدار على خطرٍ فالواجب عليه أن يضرع إلى الله، ويسأله الثبات، وأن يبتعد عن أسباب الشر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

س: ..............؟

ج: الله أعلم.