قال المصنف: عن حصين بن عبدالرحمن قال: كنتُ عند سعيد بن جبير، فقال: أيُّكم رأى الكوكبَ الذي انقضَّ البارحة؟ فقلتُ: أنا. ثم قلتُ: أما إني لم أكن في صلاةٍ، ولكني لُدغتُ. قال: فما صنعتَ؟ قلت: ارتقيتُ. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدَّثناه الشَّعبي. قال: وما حدَّثكم؟ قلتُ: حدَّثنا عن بُريدة بن الحصيب أنه قال: "لا رقيةَ إلا من عينٍ أو حمةٍ". قال: قد أحسن مَن انتهى إلى ما سمع، ولكن حدَّثنا ابنُ عباسٍ، عن النبي ﷺ أنه قال: عُرضت عليَّ الأمم، فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط، والنبيَّ ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سوادٌ عظيم، فظننتُ أنهم أمَّتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. فنظرتُ فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: هذه أمَّتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ، ثم نهض فدخل منزله.
فخاض الناسُ في أولئك، فقال بعضُهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ. وقال بعضُهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام، فلم يُشركوا بالله شيئًا. وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسولُ الله ﷺ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكَّلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم قام رجلٌ آخر فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة.
هكذا أورده المصنفُ غير معزوٍّ، وقد رواه البخاري مُختصرًا ومُطوَّلًا، ومسلم واللَّفظ له، والترمذي، والنَّسائي.
قوله: "عن حصين بن عبدالرحمن" هو السّلمي، أبو الهذيل، الكوفي. ثقة، مات سنة ستٍّ وثلاثين ومئة، وله ثلاث وتسعون سنة.
وسعيد بن جبير هو: الإمام، الفقيه، من جلّة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مُرسلة. وهو كوفي، مولى لبني أسد، قُتل بين يدي الحجاج سنة خمسٍ وتسعين، ولم يُكمل الخمسين.
قوله: "انقضَّ" هو بالقاف والضَّاد المعجمة، أي: سقط.
"والبارحة" هي أقرب ليلةٍ مضت.
قال أبو العباس ثعلب: يُقال قبل الزَّوال: رأيتُ الليلة. وبعد الزَّوال: رأيتُ البارحة. وكذا قال غيره، وهي مُشتقة من برح إذا زال.
قوله: "أما إني لم أكن في صلاةٍ"، قال في "مغني اللَّبيب": "أما" بالفتح والتَّخفيف على وجهين:
أحدهما: أن تكون حرف استفتاحٍ بمنزلة "ألا"، فإذا وقعت "أن" بعدها كُسرت.
الثاني: أن تكون بمعنى: حقًّا، أو أحقّ.
وقال آخرون: هي كلمتان: الهمزة للاستفهام، و"ما" اسم بمعنى شيء، أي: أذلك الشيء حقّ؟ فالمعنى: أحقّ هذا؟ وهو الصواب. و"ما" نصب على الظَّرفيَّة.
الشيخ: وهي هنا بمعنى (على)، "أما إني لم أكن في صلاةٍ" بالتَّخفيف في هذا الحديث- حديث حصين.
وهذه تُفتح "أن" بعدها. انتهى.
والأنسب هنا هو الوجه الأول، والقائل هو حصين، خاف أن يظنّ الحاضرون أنه رآه وهو يُصلي، فنفى عن نفسه إبهام العبادة، وهذا يدل على فضل السَّلف، وحرصهم على الإخلاص، وبُعدهم عن الرياء والتَّزين بما ليس فيهم.
الشيخ: يعني: خاف أن يظنوا أنه قام يُصلي، فبين أنه إنما علم هذا بسبب اللَّدغة التي أطارت عنه النوم: "أما إني لم أكن في صلاةٍ، ولكني لُدغتُ".
قوله: "ولكني لُدِغْتُ" بضم أوله، وكسر ثانيه. قال أهلُ اللغة: يُقال: لدغته العقرب وذوات السُّموم، إذا أصابته بسمِّها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.
قوله: "قلت: ارتقيتُ" لفظ مسلم: "استرقيتُ" أي: طلبتُ مَن يرقيني.
قوله: "فما حملك على ذلك؟" فيه طلب الحُجَّة على صحة المذهب.
قوله: "حديث حدَّثناه الشعبي"، اسمه: عامر بن شراحيل الهمداني، وُلد في خلافة عمر، وهو من ثقات التَّابعين وفُقهائهم، مات سنة ثلاثٍ ومئة.
قوله: "عن بُريدة" بضم أوله، وفتح ثانيه، تصغير: بردة. ابن الحُصَيب -بضم الحاء، وفتح الصاد المهملتين- ابن الحارث الأسلمي، صحابي شهير. مات سنة ثلاثٍ وستين. قاله ابن سعدٍ.
قوله: "لا رقيةَ إلا من عينٍ أو حمةٍ"، وقد رواه أحمد وابنُ ماجه عنه مرفوعًا. ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعًا. قال الهيثمي: "رجال أحمد ثقات".
والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه.
والحُمَة -بضم المهملة وتخفيف الميم- سمّ العقرب وشبهها.
قال الخطَّابي: ومعنى الحديث: لا رقيةَ أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وقد رقى النبيُّ ﷺ ورُقِيَ.
الشيخ: يعني أنَّ هذا أولى وأشفى، وإلا فالرقية مطلوبة من جميع الأمراض. "لا رقيةَ إلا من عينٍ": يعني أولى وأشفى. وقد رقى النبيُّ ﷺ ورُقِيَ من غير العين والحمة، فالرقية من العلاج الشَّرعي؛ ولهذا قال ﷺ لما سألوه عن الرقى قال: اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركًا، وكان ﷺ عند النوم يرقي نفسه: ينفث في يديه ويقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص] والمعوذتين ثلاث مرات، ويمسح على ما استطاع من جسده، بادئًا برأسه ووجهه وصدره عليه الصلاة والسلام.
فالمقصود أنه ليس بقيد العين والحمة، الرقية من جميع الأمراض، لكن الأولى أن تكون من العين: عين العائن، النظرة يعني، والحمة: سمّ ذوات السُّموم.
وقد ثبت في الصَّحيح: أنَّ جماعةً من الصحابة مروا على حيٍّ من العرب وقد لُدغ سيدهم، فلم يجدوا له دواءً، فسألوا الركبَ من الصحابة: هل فيهم راقٍ؟ فقال بعضُهم: نعم، أبو سعيد، ولكنَّكم لم تقرونا، فلا نرقي إلا بجُعْلٍ. فجلعوا لهم جُعْلًا، ورقاه بالفاتحة، فشفاه الله ، وقبضوا الجُعْل وقدموا به المدينة على النبي ﷺ، وأخبروه بالواقع، فقال: أحسنتم، واضربوا لي معكم بسهمٍ؛ تطييبًا لنفوسهم.
المقصود أنَّ الرقية من الأسباب الشَّرعية، ولكنها في العين والحمة أولى من غيرها، نعم.
س: الحديث الذي ذكرتُم هل يُستنبط منه أنَّ الأُجرة بشرط الشِّفاء؟
ج: لا بأس، يقول: إن عافاه الله تُعطونا كذا وكذا.
س: ولو أخذ الأجرةَ من غير؟
ج: إذا شرطوا لا بأس، أما إذا كان بغير شرطٍ لا يُعطونهم ولو ما شُفي، أما إذا قال: إن عافاه الله ونفعه برقيته نُعطيه كذا وكذا.
س: ...............؟
ج: لا حرج فيه.
س: ..... حيّ من الكفَّار، أما المسلم فلا ينبغي أن يشترط عليه الدَّفع؟
ج: لا، هذا من كيسه، هذا التَّفصيل من كيسه، في الحديث الصحيح: إنَّ أحقَّ ما أخذتُم عليه أجرًا كتاب الله، الراقي قد يتعب، وقد يعطل نفسه لحاجة الناس، فإذا أخذ، لكن ينبغي له أن يتسامح ويرضى بالقليل، ولا يتكلف، ولا يُكلف الناس لما مَنَّ الله عليه بالقرآن والعلم، ينبغي له إذا تيسر له وقتٌ أن يرقي إخوانه، لكن من غير تكلفٍ، بالأجر اليسير، والشيء اليسير الذي لا يشقّ على الناس.
س: ما الحمة؟
ج: الحمة: سم من ذوات السّموم، سمّ الحيّة والعقرب، ولا حمة.
س: النبي عليه الصلاة والسلام رُقِيَ؟
ج: إيه، رقته عائشةُ، كانت ترقيه عليه الصلاة والسلام لما مرض، قالت: كنتُ أقرأ في يديه ثم أمسح بهما عليه. لما عجز عن ذلك عليه الصلاة والسلام.
س: ما ورد أنَّ جبريل رقى النبيَّ؟
ج: وجبريل رقى النبيَّ كذلك، رقته عائشة، ورقاه جبرائيل.
س: ...............؟
ج: طلب الرُّقية ترك الأولى، إلا عند الحاجة، إذا احتاج للاسترقاء لا بأس؛ لأنَّ هذا خبرٌ، ما هو نهيًا، هذا خبرٌ، والنبي ﷺ أمر عائشةَ أن تسترقي من العين، وأمر أم أولاد جعفر بن أبي طالب أن تسترقي من العين لأولاد جعفر، فدلَّ على أنه لا بأس بذلك، إذا استرقى قال: تقرأ عليَّ، لا بأس، لكن إذا وجد دواءً آخر وترك الاسترقاء أفضل؛ لأنه من أعمال السَّبعين، إذا ترك ذلك وتيسر له دواء آخر، أو قال هو: نُعطيك من دون سؤالٍ، لا بأس.
س: رقية المسلم على الكافر؟
ج: ما في حرج، ما في بأس، مثلما يُعطيه دواءً، ومثلما يصله إذا كان قريبًا له، الله جلَّ وعلا يقول: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8]، إذا كانوا ما هم بحربٍ لنا، بيننا وبينهم أمنٌ، أو عندنا بالأمن، لا بأس أن نصلهم ونُحسن إليهم، كما صرَّح به القرآن.
س: .............؟
ج: ولو، ولو، قد يهديه الله بأسباب ذلك.
س: .............؟
ج: هذا بعدما أدّوا الواجبات، وتركوا المحارم، هذا من الكمالات، والعُمدة على ترك المحرَّمات وأداء الفرائض، هذه العمدة في نجاتهم وسلامتهم، لكن هذا من الكمالات، من كمال إيمانهم تركوا الحاجة إلى الناس والاسترقاء، وتركوا الكيَّ والطيرة التي هي من الشِّرك الأصغر، من الكمالات، وأما العُمدة على الله، ثم على ترك المحارم، وأداء الفرائض، هذه أسباب نجاتهم وسعادتهم.
س: هل يُقاس على ترك الاسترقاء وترك الاكتواء: ترك التَّطعيمات؟
ج: الدَّواء لا بأس به، الاسترقاء فيه سؤال الناس، أما الدَّواء والحاجة إلى الأطباء فلا بأس، فالنبي ﷺ أذن بالدَّواء وقال ﷺ: ما أنزل اللهُ داءً إلا أنزل له شفاءً، علمه مَن علمه، وجهله مَن جهله، وقال: لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركًا اللهم صلِّ عليه.
س: ..............؟
ج: هي التي فعلته، هي كانت تفعل لما ثقل، وجبرائيل كذلك، رقاه جبرائيل عليه الصلاة والسلام.
س: قوله ﷺ: تداووا عباد الله، ولا تداووا بحرام؟
ج: يدل على أنه مستحبٌّ، تعاطي العلاج مستحبّ؛ لأنَّ البقاء في المرض قد يشقّ عليه، ويشقّ على أهله، كونه يتداوى إذا تيسر أفضل؛ لأنه من تعاطي الأسباب، مثلما يتعاطى الأسباب الأخرى: يستدفئ، يلبس الملابس المناسبة، ويأكل الأكل المناسب، يتباعد عن أسباب الشَّر، وعن أسباب الضُّر، نعم.
س: ...............؟
ج: هذا استرقاء فقط، العلاج يتعالجون، لكن هذا الاسترقاء والكي فقط، البقية يتعاطون الأسباب الأخرى، ثم الاسترقاء لا يمنع أيضًا؛ لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام أمر به.
س: ...............؟
ج: تعاطي الأسباب أولى وأفضل، الرسول رأسهم تعاطى الأسباب عليه الصلاة والسلام.
س: ...............؟
ج: غير صحيحة، شاذة، "لا يرقون" غير صحيحةٍ.
الشيخ: مَن انتهى إلى ما سمع فقد أحسن، مَن أخذ بالعلم واستقام عليه فقد أحسن، المسيء الذي يعمل بالجهل، أو يغلبه الجهل ولا يعمل به، هذا المسيء، أما مَن أخذ بالعلم واستفاد منه فهذه طريقة الرسل وأتباعهم.
قوله: "ولكن حدَّثنا ابن عباس" هو عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، ابن عم النبي ﷺ، دعا له فقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل، فكان كذلك. مات بالطائف سنة ثمانٍ وستين.
قال المصنف رحمه الله: وفيه عُمق علم السلف؛ لقوله: "قد أحسن مَن انتهى إلى ما سمع"، ولكن كذا وكذا. فعلم أنَّ الحديث الأول لا يُخالف الثَّاني.
س: قوله: "قد أحسن مَن انتهى إلى ما سمع" هذا في العلم أو في الفُتيا؟ لو أنَّ رجلًا استفتى عالـمًا، ثم وجد عالـمًا آخر من هذا، نقول: يكتفي بما سأل ولا يسأل الثاني؛ انتهاءً بما سمع من الأول؟
ج: إذا اقتنع بالدليل وظهر له صحَّته، أما إذا كان عنده شكٌّ لا، يسأل حتى يزول الشَّك؛ حتى يستفيد أكثر.
قوله: "عُرضت عليَّ الأمم"، وفي الترمذي والنَّسائي من رواية عبثر بن القاسم، عن حصين بن عبدالرحمن: أنَّ ذلك كان ليلة الإسراء.
قال الحافظ: فإن كان ذلك محفوظًا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضًا.
قلتُ: وفي هذا نظر.
الشيخ: الصواب أنَّ الإسراء مرة واحدة في مكة، والعروج كذلك مرة واحدة، هذا هو الصواب الذي عليه أهل العلم: أُسري به مرة واحدة من مكة إلى المسجد الأقصى، وعُرج به إلى السَّماء مرة واحدة، وفيه فرض الصَّلوات الخمس، ومَن قال بالتَّعدد فقد غلط، ولا وجهَ له.
قوله: فرأيتُ النبيَّ ومعه الرهط، والذي في "صحيح مسلم": "الرهيط" بالتَّصغير لا غير، وهم الجماعة دون العشرة. قاله النَّووي.
قوله: والنبي ومعه الرَّجل والرَّجلان، والنبي وليس معه أحد فيه الردّ على مَن احتجَّ بالكثرة.
الشيخ: لأنَّ العُمدة على الحقِّ، فالحق يجب الأخذُ به وإن كان أصحابُه قليلين، والكثرة لا ينبغي الاغترار بها، بل الواجب اتِّباع الحقِّ وإن قلَّ أهله، وترك الباطل وإن كثر أهله، كما قال جلَّ وعلا: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فالعُمدة اتِّباع الحقِّ، ما قام عليه الدليل وجب الأخذُ به، ولو ما عليه إلا واحد، ولو ما عليه أحد، يجب الأخذ بالحقِّ واتِّباع الحقِّ وإن قلَّ أهله في كل زمانٍ.
قوله: إذ رُفع لي سوادٌ عظيم المراد هنا: الشخص الذي يُرى من بعيدٍ.
قوله: فظننتُ أنهم أُمَّتي؛ لأنَّ الأشخاص التي تُرى في الأفق لا يُدرك منها إلا الصورة.
وفي "صحيح مسلم": ولكن انظر إلى الأفق، ولم يذكره المصنِّف؛ فلعله سقط في الأصل الذي نُقل الحديثُ منه. والله أعلم.
قوله: فقيل لي: هذا موسى وقومه أي: موسى بن عمران كليم الرحمن، وقومه: أتباعه على دينه من بني إسرائيل.
قوله: فنظرتُ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمَّتك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ أي: لتحقيقهم التوحيد.
وفي رواية ابن فُضيل: ويدخل الجنةَ من هؤلاء من أمَّتك سبعون ألفًا.
وفي حديث أبي هريرة في "الصحيحين": أنهم تُضيء وجوههم إضاءةَ القمر ليلة البدر.
وروى الإمامُ أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة: فاستزدتُ ربي فزادني مع كل ألفٍ سبعين ألفًا. قال الحافظ: وسنده جيد.
قوله: "ثم نهض" أي: قام.
قوله: "فخاض الناسُ في أولئك" خاض: بالخاء والضَّاد المعجمتين. وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه الاستفادة وبيان الحقِّ، وفيه عمق علم السَّلف؛ لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعملٍ. وفيه حرصهم على الخير. ذكره المصنف.
الشيخ: وهذا مثلما قال المؤلف فيه حرص الصحابة على العلم، وأنهم لما أخبرهم النبي ﷺ بالسبعين خاضوا في أولئك، يعني: في أسباب هذا الفضل، وأسباب هذا الخير، فهذا فيه دلالة على أنه يُشرع لأهل العلم ولأهل الإيمان الخوض في مسائل العلم، والاستفادة، والمذاكرة؛ حتى يستفيد كلُّ واحدٍ ما قد يجهله في أمور دينه من طهارةٍ، وصلاةٍ، وصومٍ، وجهادٍ، ومُعاملات، ونكاح، وغير ذلك، فهي عموم الدِّين، ينبغي لأهل الإيمان وأهل العلم في مجالسهم المذاكرة للعلم؛ حتى يستفيد مَن يجهل، وحتى يتثبت مَن عنده علم، يزداد علمًا، نعم.
س: ...............؟
ج: ما له مفهوم، جاء في بعض رواياته: أعطاه الله مع كل ألفٍ سبعين ألفًا، وفي بعض الرِّوايات: مع كل واحدٍ، المقصود مَن استقام دينه فهو على هذا الخير العظيم: دخل الجنَّة بغير حسابٍ ولا عذابٍ.
قوله: "فقال: هم الذين لا يسترقون" هكذا ثبت في "الصحيحين"، وهو كذلك في حديث ابن مسعود في "مسند أحمد". وفي روايةٍ لمسلم: ولا يرقون.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: هذه الزيادة وهمٌ من الراوي، لم يقل النبيُّ ﷺ: "ولا يرقون"، وقد قال النبيُّ ﷺ وقد سُئل عن الرُّقى: مَن استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه، وقال: لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركًا.
قال: وأيضًا فقد رقى جبريلُ النبيَّ ﷺ، ورقى النبيُّ ﷺ أصحابَه.
قال: والفرق بين الراقي والمسترقي: أنَّ المسترقي سائل، مُستعطٍ، مُلتفت إلى غير الله بقلبه، والرَّاقي محسن.
قال: وإنما المراد وصف السَّبعين ألفًا بتمام التَّوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم. وكذا قال ابن القيم.
الشيخ: قوله: "ولا يرقون" مثلما قال شيخُ الإسلام: رواية وهمٍ، ليست صحيحةً: "لا يرقون، ولا يسترقون"، إنما الثابت: لا يسترقون بالسين، وهو الطلب والاستجداء، أما "يرقون" فهي وهم من بعض الرُّواة.
والرقية مشروعة، فالإنسان يفرح لأخيه أن يرقي أخاه ويحتاج إلى ذلك، كما رقى النبيُّ ﷺ أصحابَه، ورقاه جبرائيل، ورقته عائشة، وأقرَّها، فلا بأس بذلك، ولا نقصَ في ذلك.
وهكذا الاسترقاء لا بأس به عند الحاجة، النبي ﷺ أمر عائشة أن تسترقي عند الحاجة، وأمر أم أولاد جعفر أن تسترقي، وهذا فيه فضل، فقط من باب الفضل، وليس فيه نهي.
فالاسترقاء لا بأس به، لكن تركه أفضل عند عدم الحاجة إليه، أفضل ألا يسترقي عند عدم الحاجة إذا تيسر له دواء آخر.
وأما الكي فيُكره ولو من غير سؤالٍ، الكي نوع من التَّعذيب، يُكره إلا عند الحاجة، إذا تيسر دواء آخر أولى، فإن دعت الحاجةُ للكي فلا بأس.
س: ...............؟
ج: لا، ما يخرج عن السَّبعين، مَن استقام على دين الله فهو منهم، مَن استقام على دين الله وسلم من المعاصي فهو منهم.
س: إذا كان المريضُ أنثى تشكو ألـمًا في موضعٍ من بدنها، فقام الراقي بوضع يده على موضع الألم منها، وهي ليست بمحرمٍ؟
ج: يأتي البحثُ إن شاء الله، يأتي البحثُ إن شاء الله في غير هذا المجلس.
قوله: ولا يكتوون أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم؛ استسلامًا للقضاء، وتلذُّذًا بالبلاء.
قلتُ: والظاهر أنَّ قوله: لا يكتوون أعمّ من أن يسألوا ذلك، أو يُفعل ذلك باختيارهم.
الشيخ: هذا هو الأولى، قوله: "لا يسألون أن يكويهم" ليس بجيدٍ، الصواب: لا يكتوون مطلقًا، لا بسؤالٍ، ولا بغير سؤالٍ إلا عند الحاجة؛ ولهذا قال ﷺ: الشفاء في ثلاثة: كيّة نار، أو شرطة محجم، أو شربة عسلٍ، وما أُحبّ أن أكتوي، وفي لفظٍ: وأنهى أمتي عن الكيِّ؛ لأنَّ الكيَّ نوعٌ من التَّعذيب، فإذا تيسر أنه يُستغنى عنه فهو أفضل، وإذا دعت الحاجةُ إليه فلا بأس، وقد كوى جماعةٌ من الصَّحابة.
أما الكيّ في نفسه فجائز، كما في الصحيح عن جابر بن عبدالله: أن النبي ﷺ بعث إلى أُبي بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه.
وفي "صحيح البخاري" عن أنسٍ: أنه كوى من ذات الجنب والنبي ﷺ حي.
وروى الترمذي وغيره عن أنسٍ: أن النبي ﷺ كوى أسعد بن زُرارة من الشَّوكة.
وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباسٍ مرفوعًا: الشفاء في ثلاثٍ: شربة عسلٍ، وشرطة محجمٍ، وكيَّة نارٍ، وأنا أنهى أمَّتي عن الكيِّ. وفي لفظٍ: وما أُحبُّ أن أكتوي.
قال ابنُ القيم رحمه الله: قد تضمنت أحاديثُ الكي أربعة أنواع:
أحدها: فعله.
والثاني: عدم محبَّته.
والثالث: الثناء على مَن تركه.
والرابع: النَّهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإنَّ فعله يدل على جوازه، وعدم محبَّته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أنَّ تركه أولى وأفضل، وأما النَّهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة.
الشيخ: وهذا عند الحاجة، إذا كان عند الحاجة زالت الكراهة.
س: ...............؟
ج: ما أعرف حاله، أقول: لا أعرف حاله.
قوله: ولا يتطيرون أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها.
قوله: وعلى ربهم يتوكلون ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال، وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يُثمر كلّ مقامٍ شريفٍ: من المحبَّة، والرجاء، والخوف، والرضا به ربًّا وإلـهًا، والرضا بقضائه.
واعلم أنَّ الحديث لا يدل على أنهم لا يُباشرون الأسباب أصلًا، فإنَّ مُباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحدٍ عنه، بل نفس التَّوكل: مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3] أي: كافيه. وإنما المراد أنهم يتركون الأمورَ المكروهة مع حاجتهم إليها؛ توكُّلًا على الله تعالى: كالاكتواء، والاسترقاء، فتركهم له لكونه سببًا مكروهًا، لا سيَّما والمريض يتشبَّث -فيما يظنّه سببًا لشفائه- بخيط العنكبوت.
الشيخ: سبق أنَّ الرسول ﷺ أمر بالاسترقاء، فدلَّ على أنه ترك الأولى فقط، وأنه إذا دعت الحاجةُ فلا بأس، فإذا دعت الحاجةُ إلى أن يطلب من أخيه أن يرقيه فلا بأس، كما أمر النبيُّ عائشةَ أن تسترقي لما أصابها المرض، وكذلك أم أولاد جعفر بن أبي طالب قال: استرقي لأولاد أخي.
س: ..............؟
ج: فعله أولى؛ لأنَّ الرسول أمر به، والأمر أفضل من الثَّناء.
وأما مُباشرة الأسباب والتَّداوي على وجهٍ لا كراهةَ فيه فغير قادحٍ في التَّوكل، فلا يكون تركه مشروعًا؛ لما في "الصحيحين" عن أبي هريرة مرفوعًا: ما أنزل اللهُ من داءٍ إلا أنزل له شفاء، علمه مَن علمه، وجهله مَن جهله.
وعن أسامة بن شريك قال: كنتُ عند النبي ﷺ وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله، أنتداوى؟ قال: نعم، يا عباد الله تداووا، فإنَّ الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً، غير داءٍ واحدٍ، قالوا: وما هو؟ قال: الهرم. رواه أحمد.
الشيخ: والتَّداوي وفعل الأسباب أمر فطري ضروري، بل واجب، يجب على الإنسان أن يأخذ بالأسباب التي لا بدَّ منها، كما يأكل ويشرب، ويستدفئ في البرد، ويستظلّ من الشمس، وغير ذلك، بعضها واجب، وبعضها مستحب، فالنبي ﷺ لما أصابه الإغماءُ اغتسل ثلاث مرات، كل مرة يقول: لعله ينشط حتى يُصلي بالنَّاس. وتعاطى الأسباب هو وغيره، تعاطى الأسباب، وركب الدابَّة، واستظلَّ من الشمس، وأمر بالقبَّة في عرفة يستظلّ من الشمس، ولما كان يرمي ظلَّله أسامةُ بن زيد وبلال بثوبٍ عن الشمس، هذا شيء لا يُحصى من الأنبياء وغير الأنبياء، ويوم أحد لبس درعين؛ اتِّقاء سلاح المشركين.
ولما كان يُكلمهم يوم الحديبية جعل المغيرةُ بن شعبة على رأسه يحرسه وهو يُكلمهم يوم الحديبية، فلما مدَّ عروةُ بن مسعودٍ يدَه إلى لحية النبي ﷺ قمعها المغيرةُ بجفير السيف وقال: كفّ يدك عن رسول الله ﷺ.
فالمقصود أنَّ تعاطي الأسباب أمر فطري ضروري، ما بين واجبٍ، وما بين مُستحبٍّ، وما بين مُباحٍ، لكن الأسباب المكروهة هي التي تُترك، المشتبهة، والتي يُستغنى عنها وهي مكروهة، أو تركها أولى: كالاسترقاء، إذا تيسر غيرها.
الشيخ: يعني مع الأسباب، يعتمد على الله مع الأسباب، التوكل يجمع أمرين:
أحدهما: الاعتماد على الله صدقًا، وأنه مُصرف الأمور، ومُقدر الأشياء، بيده كل شيءٍ.
والأمر الثاني: تعاطي الأسباب، مع الأخذ بالأسباب، فهو يعتمد على الله ويُصلي ويصوم ويتعاطى ما أوجب الله عليه؛ حتى يرجو بهذا دخول الجنة، يعتمد على الله في وعده بالجنَّة لمن اتَّقاه، ويأخذ بالأسباب من التَّقوى والطاعة لله، والاستقامة على دينه، وترك المعاصي، هذه أسباب، مع التوكل على الله بما وعده من دخول الجنة، والنَّجاة من النار، هكذا يتوكل على الله ويأكل ويشرب ويُسافر ويتَّجر ويزرع، يرجو ما وعد الله من البركة والخير والفائدة من الأسباب، هكذا لا يكون التَّوكل إلا بهذا، وإلا صار عجزًا، صار التَّوكل عجزًا، إذا ترك الأسبابَ صار توكله عجزًا، فلا بدَّ من ثقةٍ بالله، والاعتماد عليه، مع فعل الأسباب.
ولا بدَّ مع هذا الاعتماد من مُباشرة الأسباب، وإلا كان مُعطِّلًا للحكمة والشَّرع، فلا يجعل العبدُ عجزَه توكُّلًا، ولا توكله عجزًا.
وقد اختلف العلماءُ في التَّداوي: هل هو مُباح وتركه أفضل، أو مستحبّ، أو واجب؟
فالمشهور عن أحمد الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني.
الشيخ: وهو الاستحباب، وهو أفضل وأصحّ، التَّداوي والعلاج والأخذ بالأسباب مستحبٌّ، نعم.
الشيخ: يعني الاستحباب؛ استحباب التَّداوي وأخذ الأسباب، نعم.
واختاره الوزير أبو المظفر قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مُؤكد حتى يُدانى به الوجوب.
قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتَّداوي، ولا بأس بتركه.
وقال شيخُ الإسلام: ليس بواجبٍ عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبه طائفةٌ قليلةٌ من أصحاب الشَّافعي وأحمد.
فقوله: "فقام عُكَّاشة بن محصن" هو بضم العين وتشديد الكاف، و"مِحْصَن" بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين، ابن حُرْثان -بضم المهملة وسكون الراء بعدها مُثلثة- الأسدي، من بني أسد بن خُزيمة، كان من السَّابقين إلى الإسلام، ومن أجمل الرجال، هاجر وشهد بدرًا وقاتل فيها، واستُشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، واستُشهد في وقعة الجسر المشهورة.
قوله: "فقال: يا رسول الله، ادعُ الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم"، وللبخاري في روايةٍ: "فقال: اللهم اجعله منهم". وفيه طلب الدُّعاء من الفاضل.
قوله: "ثم قام رجلٌ آخر" ذكره مُبهمًا، ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه.
قوله: "فقال: سبقك بها عكاشة"، قال القرطبي: "لم يكن عند الثَّاني من الأحوال ما كان عند عكاشة؛ فلذلك لم يُجبه؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كلُّ مَن كان حاضرًا، فيتسلسل الأمر، فسدَّ الباب بقوله ذلك". اهـ.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه استعمال المعاريض وحُسن خلقه ﷺ.
الشيخ: كان أحسن الناس خلقًا ﷺ: سبقك بها عكاشة، ما قال: ما أنت منهم، بل قال: سبقك بها عكاشة.
قوله: "باب الخوف من الشِّرك، وقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]".
قال ابنُ كثير: "أخبر تعالى أنه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أي: لا يغفر لعبدٍ لقيه وهو مُشرك، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده". انتهى.
فتبين بهذه الآية أنَّ الشِّرك أعظم الذنوب؛ لأنَّ الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخلٌ تحت المشيئة: إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذَّبه به.
وذلك يُوجب للعبد شدّة الخوف من الشِّرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح، وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقّه لغيره، وعدل غيره به؛ كما قال تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]؛ ولأنه مُناقض للمقصود بالخلق والأمر، مُنافٍ له من كل وجهٍ، وذلك غاية المعاندة لربِّ العالمين، والاستكبار عن طاعته، والذلّ له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاحَ للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال ﷺ: لا تقوم السَّاعةُ حتى لا يُقال في الأرض: الله، الله رواه مسلم.
ولأنَّ الشِّرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية: من ملك الضُّر والنَّفع، والعطاء والمنع، الذي يُوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمَن علَّق ذلك بمخلوقٍ فقد شبَّهه بالخالق، وجعل مَن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا شبيهًا بمَن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، وإليه يُرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه، ومرجعها إليه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمةً فلا ممسكَ لها، وما يُمسك فلا مرسلَ له من بعده، وهو العزيز الحكيم، فأقبح التَّشبيه: تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات.
الشيخ: وهذا يدل على أنَّ الشِّرك هو أعظم الذنوب، فالواجب الحذر منه؛ ولهذا قال جلَّ وعلا في سورة النساء في آيتين: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وفي الآية الثانية: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:116]، فالشرك أعظم الذنوب؛ ولهذا في "الصحيحين" عن ابن مسعودٍ : قيل: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك.
وفي "الصحيحين" أيضًا عن أبي بكرة الثَّقفي: أن النبي ﷺ قال: ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، بدأ به، ثم قال: وعقوق الوالدين، وكان متَّكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور.
والمقصود أنَّ الشِّرك هو أعظم الذنوب وأقبحها، مَن مات عليه ولم يتب فله النار أبدًا، مُخلَّدًا فيها أبدًا، نسأل الله العافية، أما مَن مات على ما دون الشِّرك من المعاصي ولم يتب: كالزنا، والخمر، والعقوق، والغيبة، والنَّميمة، والربا، وأشباه ذلك، فهو تحت مشيئة الله: إن شاء اللهُ غفر له، وإن شاء عذَّبه عليها.
وكثيرٌ من العُصاة لا يُغفر لهم، بل يدخلون النار، كثيرٌ منهم يدخلون النار بمعاصيهم، ويُعذَّبون فيها، ويشفع فيهم الشُّفعاء: يشفع فيهم النبيُّ ﷺ وغيره من الشُّفعاء: كالملائكة، والأفراط، والمؤمنين، وبعض العُصاة قد يُغفر لهم بأعمالٍ صالحةٍ عظيمةٍ فعلوها، أو بشفاعة الشُّفعاء قبل دخولهم النار، أو بفضل رحمته ، لكن كثيرًا من العُصاة جاءت النصوصُ بأنهم يدخلون النار ويحترقون فيها، ويخرجون منها ويُلقون في نهر الحياة، قد امتُحِشُوا: قد احترقوا، فينبتون فيها كما تنبت الحبَّةُ في حميل السَّيل.
وقال في الحديث الصحيح: إنَّ الله حرَّم على النار أن تأكل آثارَ السُّجود من ابن آدم، دلَّ على أنه قد يدخلها أناسٌ مُصلون، ولكن عندهم معاصٍ، قد دخلوها بمعاصيهم، ولكنَّ الله حرَّم عليها أن تأكل آثار السجود من ابن آدم، ويخرجون وقد احترقوا: "امتُحِشُوا"، فيُلقون في نهر الحياة.
فالواجب على المؤمن الحذر من جميع السَّيئات، وأن يكون حذره من الشِّرك أعظم وأكبر؛ لأنه أعظم الذنوب؛ ولأنَّ صاحبه مُخلَّدٌ في النار أبد الآباد.
أما قوله سبحانه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53]، هذه في التائبين، هذه آية الزمر في التائبين، أجمع العلماءُ على أنها في التَّائبين، مَن مات على التوبة غفر اللهُ له الشِّرك وما دونه، أما آية النِّساء فهي في غير التَّائبين: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، هذه في غير التَّائبين، فمَن مات على الشِّرك خلّد في النار -نسأل الله العافية- ولم يُغفر له، وإذا مات على غير الشِّرك من المعاصي فهو تحت مشيئة الله: إن شاء اللهُ غفر له وأدخله الجنَّة بتوحيده وأعماله الصَّالحة، وإن شاء عذَّبه على قدر معاصيه التي مات عليها، ثم بعد التَّمحيص يُخرجه الله من النَّار.
س: هل يجوز أن يقول: اغفر لي ولوالدي وللمسلمين، وأدخلنا الجنَّةَ بلا حسابٍ؟
ج: إذا مات على التوحيد والإيمان يُرجى له دخولها بلا حسابٍ، لكن كونه يسأل الله للمسلمين لا بأس؛ لأنَّ الله قد يُدخل ناسًا الجنة بلا حسابٍ، يعفو عنهم إن كانت عندهم سيئات بأعمالٍ صالحةٍ عظيمةٍ فعلوها، تحت المشيئة.
س: ...............؟
ج: جاء في الحديث الصحيح: أنَّ الشَّهيد يُغفر له كل شيءٍ إلا الدَّين، جاء في الحديث الصحيح: أنَّ الله يغفر له كل شيءٍ إلا الدَّين، فإنه يُطالب به.
س: ...............؟
ج: يترك العمل حتى يستشهد؟! وإن كان ما استشهد؟! هذا ما يجوز، ترك العمل ما يجوز، عليه أن يعمل، وعليه أن يجتهد، وما يُدريه أنَّ الله يقبل منه؟
س: في بعض بلاد المسلمين يُوجد مَن يعمل أعمال شركية، وتربَّى ونشأ عليها، فهل يُعذرون بالجهل؟
ج: إذا كان بين المسلمين وعندهم مَن يُرشدهم إلى القرآن والسنة، وإلا فهم من أهل الفترة، أما إن كانوا بلغهم القرآنُ وبلغتهم السنة فغير معذورين.
س: ..............؟
ج: تارك الصلاة كافر، مُشرك؛ لأنَّ الرسول قال: بين الرجل وبين الكفر والشِّرك ترك الصلاة، فمَن أتى ناقضًا من النَّواقض دخل في الشِّرك: سبّ الله، أو سبّ الرسول، أو جحد تحريم الزنا، أو جحد تحريم الخمر، أو قال: إنَّ الصلاة غير واجبةٍ، أو أنَّ الزكاة غير واجبةٍ؛ صار مع الكفَّار، دخل في الكفَّار.
ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقصَ فيه بوجهٍ من الوجوه، وذلك يُوجب أن تكون العبادةُ كلها له وحده، والتَّعظيم والإجلال، والخشية والدُّعاء، والرجاء والإنابة، والتَّوكل والتَّوبة والاستعانة، وغاية الحبِّ مع غاية الذُّلِّ. كل ذلك يجب عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلًا وشرعًا وفطرةً أن يكون لغيره.
فمَن فعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبّه ذلك الغير بمَن لا شبيهَ له، ولا مثيلَ له، ولا ندَّ له، وذلك أقبح التَّشبيه وأبطله.
فلهذه الأمور وغيرها أخبر أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله.
وفي الآية ردٌّ على الخوارج المكفِّرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بأنَّ أصحاب الكبائر يُخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفَّار.
الشيخ: وهذا كلام المعتزلة والخوارج من أبطل الباطل؛ الخوارج يُكفرون بالمعاصي، فهذه الآية ردٌّ عليهم: أنَّ الله جلَّ وعلا قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فدلَّ على أنَّ صاحب الكبيرة غير كافرٍ، غير مُشركٍ، بل يُرجى له المغفرة، إذا مات على الزنا، أو على شرب الخمر، وهو مُوحد، مسلم، فليس ممن يُخلد في النار كما تقوله المعتزلة والخوارج، بل قولهم باطل؛ قول الخوارج: بتكفير العُصاة، وأنهم مُخلدون في النار. وقول المعتزلة: أنهم مُخلدون في النار، وأنهم في منزلةٍ بين المنزلتين: لا مسلمين، ولا كفَّار. قول باطل.
وأهل السنة والجماعة يقولون: مسلم، فالزاني مسلم، وشارب الخمر مسلم، إذا كان لم يأتِ بمُكفِّرٍ، لكنه عاصٍ، مسلم عاصٍ، تحت مشيئة الله، إذا كان يستحلّ الزنا، ولم يستحلّ الخمر، ولم يأتِ بناقضٍ من نواقض الإسلام، مجرد أنه شرب، أو زنا، أو اغتاب، أو فعل الربا لا يكفر بذلك، ولا يُخلد في النار إن دخل النار، بل هو تحت مشيئة الله، هذا هو الحقّ، وقول الخوارج من أبطل الباطل، وهكذا قول المعتزلة، قبَّحهم الله.
الشيخ: لأنَّ في آية الزمر عمَّم: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ لأنَّ المراد التَّائبين، يدخل فيها الشِّرك، وأما في آية النِّساء خصَّ، قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، ثم قال: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ؛ لأنَّ المراد بالآية هذه غير التَّائبين.
هذا مُلخص قول شيخ الإسلام.
قوله: "وقال الخليلُ عليه السَّلام: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم:35]".
الصنم: ما كان منحوتًا على صورةٍ، والوثن: ما كان موضوعًا على غير ذلك. ذكره الطبري عن مجاهد.
قلتُ: وقد يُسمَّى الصنمُ: وثنًا، كما قال الخليل : إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [العنكبوت:17].
ويُقال: إنَّ الوثن أعمّ. وهو قوي، فالأصنام أوثان، كما أنَّ القبور أوثان.
قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ أي: اجعلني وبني في جانبٍ عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها. وقد استجاب اللهُ تعالى دعاءه، وجعل بنيه أنبياء، وجنَّبهم عبادة الأصنام، وقد بيَّن ما يُوجب الخوف من ذلك بقوله: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم:36]، فإنه هو الواقع في كل زمانٍ، فإذا عرف الإنسانُ أنَّ كثيرًا وقعوا في الشِّرك الأكبر وضلّوا بعبادة الأصنام؛ أوجب ذلك خوفه من أن يقع فيما وقع فيه الكثيرُ من الشِّرك الذي لا يغفره الله.
قال إبراهيمُ التَّيمي: "مَن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟" رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فلا يأمن الوقوع في الشِّرك إلا مَن هو جاهل به وبما يُخلصه منه: من العلم بالله، وبما بعث به رسوله من توحيده، والنَّهي عن الشِّرك به.
الشيخ: وإذا كان إبراهيمُ يحذر ويسأل ربَّه أنَّ الله يُجنبه عبادة الأصنام، فغيره من باب أولى، يجب الحذر، وسؤال الله والضَّراعة إليه أن يُجنبه الشِّرك وسائر المعاصي، وأن يتفقه في الدِّين ويتعلم؛ حتى يكون على بينةٍ، حتى لا يقع في الشِّرك وهو لا يشعر، نسأل الله السَّلامة.
قال المصنف: وفي الحديث: أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر، فسُئل عنه فقال: الرياء.
أورد المصنفُ هذا الحديث مُختصرًا، غير معزوٍّ، وقد رواه الإمامُ أحمد والطبراني والبيهقي، وهذا لفظ أحمد: حدَّثنا يونس: حدَّثنا ليث، عن يزيد –يعني: ابن الهاد- عن عمرو، عن محمود بن لبيد: أنَّ رسول الله ﷺ قال: إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر، قالوا: وما الشِّرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناسَ بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً؟.
قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبيَّ ﷺ، ولم يصحّ له منه سماع فيما أرى.
وذكر ابنُ أبي حاتم أنَّ البخاري قال: له صُحبة، ورجَّحه ابنُ عبدالبر والحافظ.
الشيخ: ومراسيل الصَّحابة حُجَّة؛ لأنها محمولة على السَّماع، فقد سمعوا من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، محمود بن لبيد من صغار الصحابة، أدرك النبيَّ ولم يسمع منه.
وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدةٍ عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج.
مات محمود سنة ستٍّ وتسعين.
الشيخ: يعني فزال الإشكال، لما رواه محمود عن رافع بن خديج حصل الاتِّصال، وفيه الحذر من الرياء، وأن شرَّه عظيم، وهو من أخلاق المنافقين: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، فالواجب على القرَّاء الحذر، وعلى كل مؤمنٍ الحذر من الرياء في قراءته، أو صلاته، أو غير هذا من أعماله.
س: ...............؟
ج: يبطل العمل إذا قارنه.
س: ...............؟
ج: لا، الشِّرك الأكبر رياء المنافقين، أما الرياء هذا فهو الشِّرك الأصغر، مثلما سمَّاه النبي قال: أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر، هكذا سمَّاه النبيُّ ﷺ.
س: ...............؟
ج: كذلك إذا استمرَّ معه أبطله، أما إذا دافعه واستعاذ بالله من شرِّه ودافعه يسلم.
س: ...............؟
ج: رياء المنافقين، قصدهم رياء المنافقين هو الشِّرك الأكبر، الرياء الذي يعرض للمسلم هذا الشِّرك الأصغر.
س: إذا دخل الرياءُ بعدما انتهى من العمل؟
ج: هذا ما يلحقه، انتهى العمل.
قوله: إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر هذا من شفقته ﷺ بأمَّته ورحمته ورأفته بهم، فلا خيرَ إلا دلَّهم عليه وأمرهم به، ولا شرَّ إلا بيَّنه لهم، وأخبرهم به، ونهاهم عنه، كما قال ﷺ فيما صحَّ عنه: ما بعث اللهُ من نبيٍّ إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم .. الحديث.
فإذا كان الشِّركُ الأصغر مخوفًا على أصحاب رسول الله ﷺ مع كمال علمهم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه وما فوقه مَن هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟! خصوصًا إذا عرف أنَّ أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقرَّ به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمةُ الإخلاص عن كلِّ ما سوى الله.
الشيخ: وهذا مثلما قال المؤلفُ: إذا خاف ﷺ على الصَّحابة الشِّرك الأصغر، فغيرهم من باب أولى أن يخاف عليهم الشِّرك الأصغر والأكبر جميعًا؛ لكثرة الجهل، وبُعد الأخذ بآثار النبوة، ولا سيما غالب الأمصار اليوم، وغالب الناس اليوم يجهل التوحيد، ويجهل حقيقة الشرك الذي كان عليه المشركون، فتجدهم يُشاهدون مَن يدعون الموتى، ويستغيثون بالموتى، ولا يُحرِّك ساكنًا؛ لجهله، وقلَّة العلم، فإنَّ دعاء الموتى والاستغاثة بالموتى وبأصحاب القبور هو الشِّرك الأكبر، هو شرك قريش وأتباعهم، ومع هذا قلَّ مَن يتفطن له اليوم في غالب الأمصار؛ لقلة العلم، وكثرة الجهل، والعوائد الباطلة.
فالواجب على أهل العلم أن ينشروا العلم، وأن يُوضِّحوا للناس كتابةً ومحاضرةً ونصيحةً وغير ذلك؛ حتى ينتشر العلم، ولا سيما في المواضع التي يكثر فيها الشِّرك، ويقلّ فيها مَن يُنكر الشرك، فإنَّ الواجب على أهل العلم أن يحرصوا على إظهار الحقِّ، ودلالة الناس على الخير، وتنبيههم على ما قد يخفى عليهم من الشِّرك وغيره، نسأل الله السلامة.
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حُذيفة بن اليمان، عن أبي بكر، عن النبي ﷺ قال: الشِّرك فيكم أخفى من دبيب النَّمل، قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشِّرك إلا ما عُبد من دون الله، أو ما دُعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك، الشِّرك فيكم أخفى من دبيب النمل الحديث.
وفيه: "أن تقول: أعطاني الله وفلان، والنِّد أن يقول الإنسانُ: لولا فلان قتلني فلان". اهـ من "الدر".
الشيخ: "الدر المنثور" يعني، يعني: هذا من أنواع الشِّرك الأصغر: لولا الله وفلان، هذا من الله ومن فلان. سُئل عليه الصلاة والسلام: وما دواء ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم.
فالمؤمن يستعين بالله من ذلك: "اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك شيئًا وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم"، فالإنسان يُبتلى بهذه الأشياء، فالواجب الحذر والتَّفقه في الدِّين.
قول: لولا الله وأنت، ما شاء الله وأنت، هذا من الله ومنك. هذا من الشِّرك الخفي، من الشرك الأصغر، والصواب أن يقول: لولا الله ثم فلان، وهذا من الله ثم من فلان، ما شاء الله ثم شاء فلان.
س: إذا قالها بعض العامة بدون اعتقادٍ؟
ج: يُنبَّه ويُعلم، ويعفو الله.
س: الحديث هذا صحيح؟
ج: مشهور، ولا أعرف حال سنده، يحتاج إلى مراجعة أبي يعلى.
مداخلة: في تعليق في الحاشية: قال: رواه أبو يعلى في "المسند"، وعنه ابن السّني في "عمل اليوم والليلة"، وأخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، كما في "الدر المنثور"، وفيه ليث ابن أبي سليم، وهو مُدلس كما في "مجمع الزوائد".
وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري: أخرجه أحمد في "المسند"، وابن أبي شيبة في "المصنف"، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، كما في "المجمع". وشاهد من حديث معقل بن يسار، عن أبي بكر، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأبو يعلى في "المسند".
الشيخ: لمن هذه الحاشية؟
الطالب: الحاشية للشيخ الوليد بن عبدالرحمن الفريان.
الشيخ: الليث ابن أبي سليم ضعيف ......
الطالب: ...........
الشيخ: على كلٍّ شواهد هذا عديدة، مثل: الحديث الذي رواه البزار: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان، وجاء أيضًا من حديث ابن عباسٍ: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد.