قال: ولهما [أي البخاري ومسلم] عن سهل بن سعدٍ : أنَّ رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: لأُعطينَّ الرايةَ غدًا رجلًا يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فبات الناسُ يدوكون ليلتهم أيّهم يُعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ، كلهم يرجو أن يُعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الرَّاية، قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النَّعم.
"يدوكون" أي: يخوضون.
قوله: "عن سهل بن سعد" أي: ابن مالك بن خالد، الأنصاري، الخزرجي، السَّاعدي، أبي العباس، صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضًا، مات سنة ثمانٍ وثمانين، وقد جاوز المئة.
قوله: "قال يوم خيبر"، وفي "الصحيحين" عن سلمة بن الأكوع قال: كان عليٌّ قد تخلَّف عن النبي ﷺ في خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلَّف عن رسول الله ﷺ؟! فخرج عليٌّ فلحق بالنبي ﷺ، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال ﷺ: لأُعطين الراية -أو ليأخذنَّ الراية- غدًا رجلٌ يُحبه الله ورسوله، أو قال: يُحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فإذا نحن بعليٍّ وما نرجوه، فقالوا: هذا عليٌّ، فأعطاه رسولُ الله ﷺ الرايةَ، ففتح الله عليه.
الشيخ: وهذه منقبة لعليٍّ ، فهو يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله ، وهو رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، قُتِلَ شهيدًا ظلمًا على يد الخوارج.
وهذا الوصف يعمّ كل مؤمنٍ وكل مسلمٍ: "يُحبه الله ورسوله" هذا وصفٌ عامّ، فإنَّ المؤمنين يُحبون الله ورسوله، ويُحبهم الله ورسوله، ولكن كون الرسول ﷺ ينصّ على واحدٍ معينٍ ويقول فيه: إنه يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، هذه منقبة عظيمة؛ ولهذا تشوَّف لها الصحابة وحرصوا عليها، حتى قال: أين علي بن أبي طالب؟ فأعطاه الراية، وبصق في عينيه، وعافاه الله، فهذا يدل على منقبةٍ كبيرةٍ: كونه بعينه يُحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله رضي الله عنه وأرضاه.
الشيخ: جماعة من المؤرخين في السِّير يقولون: إنَّ اللِّواء هو الراية، والراية هي اللواء، البيرق يعني، وقومٌ فرَّقوا قالوا: اللواء غير الراية، فالراية سوداء، واللواء أبيض. يحتمل أنه يفعل هذا تارةً وهذا تارةً: تارة ينصب اللواء، وتارة الراية، يُنوع، ولا مانع أن يُسمَّى هذا راية، ويُسمَّى هذا راية، ويُسمَّى هذا لواء، وهذا لواء، فلعله كان يستعمل هذا تارةً، وهذا تارةً عليه الصلاة والسَّلام.
س: ...............؟
ج: البيرق، الذي يُسميه الناس: البيرق.
قوله: يُحبُّ الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله فيه فضيلة عظيمة لعليٍّ .
قال شيخُ الإسلام: ليس هذا الوصفُ مُختصًّا بعليٍّ ولا بالأئمة؛ فإنَّ الله ورسوله يُحب كلَّ مؤمنٍ تقيٍّ يُحب الله ورسوله، لكن هذا الحديثَ من أحسن ما يحتجّ به على النَّواصب الذين لا يتولونه، أو يُكفِّرونه، أو يُفسقونه: كالخوارج. لكن هذا الاحتجاج لا يتمّ على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصَّحابة كانت قبل ردَّتهم، فإنَّ الخوارج تقول في عليٍّ مثل ذلك، ولكن هذا باطل؛ فإنَّ الله تعالى ورسوله لا يُطلق مثل هذا المدح على مَن يعلم الله أنه يموت كافرًا.
الشيخ: الخوارج والرافضة في طرفي نقيض: فالخوارج جُفاة في حقِّ الصحابة، يسبُّونهم، ويعتقدون أنهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قاتلوا عليًّا، وقاتلوا مع قتلة عثمان، فهم من شرِّ الخليقة -قاتلهم الله- والرافضة ضدّهم: غلوا في عليٍّ وأهل البيت، وجعلوا فيهم نوعًا من الإلهية، وعبدوهم من دون الله، واعتقدوا فيهم الاعتقادات الباطلة.
فتلك الطائفتان ضالتان، والله ورسوله بريء منهما، والمسلمون بريئون منهما، فالخوارج جفوا، والرافضة غلوا، وأهل السنة والجماعة وفَّقهم الله للوسط، وفَّقهم الله للطريق المثلى، فلم يغلوا، ولم يجفوا، بل حبّوا الصحابة، وترضوا عنهم، وعرفوا أنهم خير الناس بعد الأنبياء، وأفضل الناس، ومن جُملتهم عليٌّ رضي الله عنه، والحسن، والحسين، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن جعفر، والعباس، كلهم من أهل البيت.
أهل السنة والجماعة يرون أنَّ الصحابة هم أفضل الناس، هم خير الناس، ولأهل البيت فضلهم الخاصّ مع الصُّحبة، هكذا أهل السنة والجماعة، لكن لا يغلون في أهل البيت، ولا يجفون في غيرهم من الصحابة، بل يُنزِّلونهم منازلهم، ويعتقدون أنهم خير الناس بعد الأنبياء، وأفضل الناس، لكن لا يجوز أن يُغلا فيهم، ولا يُعبدوا من دون الله، ولا أن يُقال: أنهم يعلمون الغيب، بل يجب أن يُعتقد فيهم أنهم خير عباد الله، وأفضل عباد الله بعد الأنبياء، ولكن ليس كلُّ واحدٍ منهم معصومًا، وليسوا يعلمون الغيب، ولا تجوز عبادتهم من دون الله، ولا الغلو فيهم، كل هذا باطل، ولا يجوز الجفاء في حقِّهم، وتكفيرهم، أو تفسيقهم كما تفعل الخوارج.
كلا الطائفتين ضالتان: الخوارج في الجفاء، والرافضة في الغلو، والذي عليه أهلُ السنة والجماعة هو الحقّ، وهو اعتقاد فضائلهم، والترضي عنهم، وأنهم خير الناس بعد الأنبياء، فلا غلو، ولا جفاء، هذا هو قول أهل الحقِّ.
س: هل الخوارج كفَّار؟
ج: المشهور عند العلماء أنهم عُصاة، والقول بتكفيرهم هو أظهر في الأدلة؛ لأنَّ الرسول قال فيهم: يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه، فظاهر السنة أنهم كفَّار، وهم الذين يُكفرون الصحابة ويُفسقونهم، ويُكفرون أهل الكبائر ويعتقدون خلودهم في النار، وهذه عقائد خبيثة باطلة، وقول مَن قال بتكفيرهم أظهر.
س: مَن سبَّ أبا بكرٍ فقط يكفر؟
ج: محل نظرٍ، على كل حالٍ فاسق، ويجب أن يُعزر.
س: الإباضية يا شيخ على نفس شاكلة الخوارج القدامى؟
ج: هم من بقية الخوارج، لكنَّهم لا يتظاهرون بتكفير العُصاة، لكن يقولون: إنهم مخلدون في النار، العاصي مُخلد في النار على طريقة الخوارج والمعتزلة.
على كل حالٍ هم على مذهب الخوارج والمعتزلة في تخليد العُصاة في النار، ولكنَّهم قد لا يُصرحون بتكفير العاصي، ويُنكرون الرؤية -رؤية الله يوم القيامة وفي الجنة- قولهم خبيث.
س: هناك مَن يقول أنَّ من الرافضة مَن بدعته مُكفرة، ومَن بدعته مُفسقة، هذا تقسيمٌ صحيحٌ؟
ج: الرافضة أقسام، ذكر الشَّهرستاني أنهم اثنان وعشرون قسمًا، الرافضة أقسام كثيرة، الشيعة، لكن الرافضة الإمامية يغلون في عليٍّ وفي أهل البيت، ويقولون: يعلم الغيب، ويعبدونهم، هؤلاء كفَّار، لكن بعض الشيعة دون ذلك: الذين يُفضلون عليًّا على عثمان، أو على الصديق وعمر، هؤلاء مُبتدعة، لا يكفرون بهذا، كذلك منهم الزيدية، من أقسام الشيعة وفرق الشيعة: يُفضلون عليًّا على عثمان.
س: ومَن يُكفرهم يُكفرهم بأعيانهم أو بالنوع؟
ج: مَن عُرف بعينه أنه يدَّعي علم الغيب، أو يغلو في آل البيت هو كافر بعينه، من جنس مَن عبد عليًّا أو غيره يكون كافرًا، أو زعم أنه يعلم الغيب يكون كافرًا.
وفيه إثبات صفة المحبَّة، خلافًا للجهميَّة.
قوله: يفتح اللهُ على يديه صريحٌ في البشارة بحصول الفتح، فهو علمٌ من أعلام النُّبوة.
قوله: "فبات الناسُ يدوكون ليلتهم" بنصب "ليلتهم"، و"يدوكون" قال المصنف: يخوضون. أي: فيمَن يدفعها إليه.
وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان.
قوله: "أيّهم" هو برفع "أيّ" على البناء؛ لإضافتها وحذف صدر صلتها.
قوله: "فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ، كلهم يرجو أن يُعطاها". وفي رواية أبي هريرة عند مسلم: أنَّ عمر قال: "ما أحببتُ الإمارةَ إلا يومئذٍ".
قال شيخُ الإسلام: إنَّ في ذلك شهادة النبي ﷺ لعليٍّ بإيمانه باطنًا وظاهرًا، وإثباتًا لموالاته لله تعالى ورسوله، ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبيُّ ﷺ لمعينٍ بشهادةٍ، أو دعا له أحبَّ كثيرٌ من الناس أن يكون له مثل تلك الشَّهادة، ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبيُّ يشهد بذلك لخلقٍ كثيرٍ، ويدعو لخلقٍ كثيرٍ، وهذا كالشَّهادة بالجنة لثابت بن قيس وعبدالله بن سلام، وإن كان شهد بالجنة لآخرين، والشَّهادة بمحبَّة الله ورسوله للذي ضُرب في الخمر.
قوله: "فقال: أين علي بن أبي طالب؟" فيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقد أحوالهم.
قوله: "فقيل: هو يشتكي عينيه" أي: من الرمد، كما في "صحيح مسلم" عن سعد بن أبي وقَّاص: فقال: ادعوا لي عليًّا فأُتِيَ به أرمد. الحديث.
وفي نسخةٍ صحيحةٍ بخطِّ المصنف: "فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه" مبني للفاعل، وهو ضمير مُستتر في الفعل راجعٌ إلى النبي ﷺ، ويحتمل أن يكون مبنيًّا لما لم يُسمَّ فاعله.
ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: "فأرسلني إلى عليٍّ، فجئتُ به أقوده أرمد".
قوله: "فبصق" بفتح الصاد، أي: تفل.
قوله: "ودعا له فبرأ" هو بفتح الراء والهمزة، أي: عُوفي في الحال عافية كاملة، كأن لم يكن به وجعٌ من رمدٍ ولا ضعف بصرٍ.
وعند الطبراني من حديث عليٍّ: "فما رمدتُ ولا صدعتُ منذ دفع النبيُّ ﷺ إليَّ الراية".
الشيخ: هذا من أعلام النبوة: كون الله جلَّ وعلا أبرأه بريقه الشريف فبرأ من وجعه بالحال، هذا من علامات النبوة، ومن دلائل أنه رسول الله حقًّا عليه الصلاة والسلام.
وفيه منقبة عظيمة لعليٍّ كما تقدم.
س: ..............؟
ج: كون الله جلَّ وعلا أبرأه في الحال هذا يدل على أنَّ الله هو الخالق الرازق، بيده تصريف الأمور، كونه أبرأه في الحال هذا يدل على قُدرته العظيمة، وأنه ربُّ العالمين، وأنه المستحقّ لأن يُعبد جلَّ وعلا، فكونه قبل دعاء نبيه في الحال شهادة للنبي ﷺ، وأنه رسول الله حقًّا، فأبرأ بريقه الشَّريف في الحال.
س: ..............؟
ج: مع الدعاء يبصق ويدعو ويقرأ.
الشيخ: ..... الصحابة حرصوا وحضروا وجاءوا لعلهم، وعليّ لم يتهيأ لها، بل جيء به أرمد، وقدر الله له أن يُعطى هذه الراية.
الشيخ: الأسباب مأمورٌ بها: المباحة والمشروعة والواجبة، كلها مأمورٌ بها، وهي من التَّوكل، يتوكل على الله، ويؤمن بأنه سبحانه يقدر الأشياء، ومع هذا يأخذ بالأسباب، يستعد، يأخذ السلاح ويستعدّ للقتال، ويبتعد عن الأخطار، ومع ذلك هو متوكل على الله جلَّ وعلا، وهكذا يأكل ويشرب ويستدفئ، وهو متوكل على الله جلَّ وعلا، وهكذا يضع الحرس على الأبواب والأغلاق، ويجعل الحرس على الجيش، وعلى السرية، وهكذا يأخذ بالأسباب مع الثقة بالله والتوكل عليه سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، هذا من أخذ الأسباب.
قوله: "وقال: انفُذ على رسلك" بضم الفاء، أي: امضِ. و"رِسلك" بكسر الراء وسكون السين، أي: على رفقك من غير عجلةٍ. و"ساحتهم" فناء أرضهم، وهو ما حولها.
وفيه الأدب عند القتال، وترك العجلة والطيش والأصوات التي لا حاجةَ إليها.
وفيه أمر الإمام عُمَّاله بالرفق من غير ضعفٍ ولا انتقاض عزيمةٍ، كما يُشير إليه قوله: حتى تنزل بساحتهم.
الشيخ: وهذا من الآداب الصَّالحة: الإنسان في الجيش يكون على هدوءٍ ورفقٍ وتأمُّلٍ، ويتقدم عن بصيرةٍ، ويتأخر عن بصيرةٍ، هذا هو المطلوب؛ ولهذا قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم يعني: حتى تنزل قربهم؛ لأنَّ هذا أشجع للجيش، وأوهن للعدو، إلا إذا خشي الفوت هذا شيء آخر، إذا كان الجيشُ أو السريةُ تخشى فوت العدو حينئذٍ يُشرع لها الإسراع لإدراكه قبل أن يتحصَّن.
س: التَّكبير في الغارة إذا أرادوا الغزو، فيلتحم القتال، فكبَّروا ورفعوا أصواتهم بذلك، هذا خلاف المستحبّ من الصَّمت؟
ج: ما أتذكر الآن، يحتاج إلى تأمُّلٍ.
الشيخ: قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45] يقتضي أنَّ الذكر مطلوبٌ عند اللقاء، سواء بالتكبير أو بغيره، لكن ما يلزم من هذا الصياح؛ لأنَّ الرسول قال لهم في تكبيرهم على المرتفعات قال: اربعوا على أنفسكم، يدل على أنه يكون بهدوءٍ، لا يكون فيه مُبالغة.
س: ..............؟
ج: يحتاج إلى تأمُّلٍ في سيرته ﷺ وسيرة أصحابه، الله جلَّ وعلا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، لكن هو ثبت عنه ﷺ أنه قال: اربعوا على أنفسكم، إنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، وفي لفظٍ: سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، فلا بدَّ من الجمع بينهما، وأن تكون الأذكارُ والتَّكبيرات وسطًا، ما فيها مُبالغة في الرَّفع.
س: ..............؟
ج: هذا من الذكر، لكن فقط ما فيه دلالة على الرفع الشَّديد.
وإن شئتَ قلتَ: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وما اقتضته الشَّهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة له ولرسوله ﷺ.
ومن هنا طابق الحديث الترجمة، كما قال تعالى لنبيه ورسوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
قال شيخُ الإسلام رحمه الله: والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له، والعبودية له. كذا قال أهلُ اللُّغة.
الشيخ: ولهذا سُمي: إسلامًا، سُمي: إيمانًا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [آل عمران:19]، سُمي: إسلامًا؛ لأنه استسلامٌ لله وذلٌّ، وانقيادٌ في طاعة أوامره، وترك نواهيه؛ فلهذا قيل له: إسلام، الدِّين هو الإسلام يعني، هو الذل لله، والانقياد لأوامره، وترك نواهيه، ويُسمَّى: إيمانًا؛ لأنه يصدر عن إيمانٍ بالقلوب وتصديق، فلا بدَّ من ذا وذا، لا بدَّ من إيمان القلوب وتصديقها، ولا بدَّ من خضوع الجوارح وانقيادها لطاعة الله وترك معصيته؛ فلهذا سُمي: إيمانًا، وسُمي: إسلامًا، ويُسمَّى: إحسانًا؛ لأنَّ المتقي لله والمنقاد لأمر الله والمؤمن بالله هو محسنٌ إذا أخلص لله، وذلَّ لله، وانقاد لأمر الله، وآمن بالله، فقد أحسن؛ فلهذا سُمي: إحسانًا، وهو أعلى: أن تعبد الله كأنك تراه، فالذي ذلَّ لله وانقاد له عن إيمانٍ وإخلاصٍ وصدقٍ كأنه يرى الله، قد حصل على درجة الإحسان.
س: ............؟
ج: مرتبتان: أحدهما أن يعبد الله كأنه يراه. والثاني: أن يعبد الله على أنه مُراقب من الله جلَّ وعلا، وأنه بمرأى من الله ومسمع.
الشيخ: يعني: إذا أشرك مع الله غيره صار الذلُّ مُشتركًا، والانقياد مُشتركًا، فصار شركًا، وهكذا في الإيمان: إذا اختلَّ الإيمانُ وصار خضوع وذلّ ولكن عن غير إيمانٍ لم ينفع، فلا بدَّ أن يكون صادرًا عن إيمانٍ، ولا بدَّ أن يكون مُوحِّدًا، ليس فيه شريكة لغير الله.
فأصله في القلب، والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمَن عبده وعبد معه إلهًا آخر لم يكن مسلمًا، ومَن استكبر عن عبادته لم يكن مسلمًا.
وفي الأصل هو من باب العمل: عمل القلب والجوارح.
وأما الإيمان فأصله تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب. انتهى.
الشيخ: وهذا صريحٌ، فالإيمان يكون بقول القلب وعمله، قوله: تصديقه واعترافه، وعمله: خوفه ورجاؤه ومحبَّته وشوقه إلى الله، ونحو ذلك من أعمال القلب.
س: الخلاف المعروف في من مات على الكفر، هل يقال أنه في النار؟
ج: مَن مات على الكفر: يهودي أو نصراني أو غيره، إذا مات على دينه فهو في النار، الله توعَّدهم بالنار، فالكفَّار في النار يقينًا، والمسلمون في الجنة يقينًا، أما الكلام في الواحد المعين: فلان ابن فلان، هو محل هل يُشهد له بالتَّعيين أم لا؟ إلا مَن شهد له الرسولُ ﷺ: اليهود في النار، والنصارى في النار، كل الكفَّار، كما أن المؤمنين في الجنة، قال الله جلَّ وعلا: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [التوبة:72]، فهم في الجملة موعودون بالجنة، لكن فلان ابن فلان كونه مؤمنًا، فالله الذي يعلم ما في قلبه، إلا إذا شهد له المعصومُ عليه الصلاة والسلام، أو شهد له القرآن، مثل: أبي لهب: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1].
س: ...............؟
ج: المقصود يكفيك أن تقول: مَن مات على اليهودية أو النَّصرانية أو الكفر فهو في النار، يكفي، أما المعين فالله أعلم، إلا إذا شاهدتَه حين مات يكفر بالله، فهذا بعينه.
فتبين أنَّ أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشِّرك في العبادة، وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله، كما قال تعالى عن نوحٍ أول رسولٍ أرسله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3].
وفيه مشروعية الدَّعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدَّعوة جاز قتالهم ابتداءً؛ لأنَّ النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارُّون، وإن كانوا لم تبلغهم الدَّعوة وجبت دعوتُهم.
الشيخ: وهذه القاعدة الشَّرعية: الدعوة الأولى واجبة، والدعوة الثانية مُستحبَّة، فإذا دعاهم وبلَّغهم وأبوا جاز قتالهم، فإن كرر عليهم الدَّعوة -كما فعل النبيُّ مع اليهود: كرر عليهم الدَّعوة- فلا بأس، طيب، هذا من الأفضل إذا رآه ولي الأمر، وإذا رأى ولي الأمر ألا يُكرر، وأن يُغير عليهم وهم غارُّون فلا بأس؛ لأنَّ الرسول أغار على بني المصطلق وهم غارُّون: قتل مُقاتلتهم، وسبى ذريتهم، فدلَّ ذلك على أنه يجوز إذا بُلِّغوا ودُعوا إلى الله وأصرُّوا واستكبروا جاز أن يُغار عليهم على غرَّةٍ.
الشيخ: كون هذا غزو النبي عام الفتح، غزا قريشًا وهم غارُّون، قال: اللهم عمِّ عنهم الأخبار.
قوله: وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه أي: الإسلام، إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لا بدَّ لهم من فعلها: كالصَّلوات والزكاة، كما في حديث أبي هريرة: فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا دماءَهم وأموالهم إلا بحقِّها.
ولما قال عمرُ لأبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: "كيف تُقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: أُمرتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقِّها؟! قال أبو بكر : فإنَّ الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يُؤدونها إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها".
الشيخ: وهذا يدل على فقه الصديق وعلمه العظيم؛ ولهذا عرف أنَّ الزكاة كالصلاة: إذا منعوا يُقاتلون، الله جلَّ وعلا أمر بقتالهم فقال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، دلَّ على أنهم إذا لم يُصلوا أو لم يُؤدوا الزكاة لا يُخلى سبيلهم.
وفي "الصحيحين" عن ابن عمر، عن النبي أنه قال: أُمرتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وهكذا غيره.
س: أحسن الله عملك، هل يمكن أن يقال أن تارك الزكاة تكاسلاً يكفر؟
ج: دلَّت الأحاديث على أنه ليس بكافرٍ تارك الزكاة؛ ولهذا يوم القيامة يُعذب بماله، ثم يرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، لو كان كافرًا ما يرى سبيله إلى الجنة، كان يرى سبيله إلى النار أبدًا، لما قال: ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار، دلَّ على أنه عاصٍ، وأنه تحت المشيئة.
وفيه بعث الإمام الدُّعاة إلى الله تعالى، كما كان النبيُّ ﷺ وخلفاؤه الراشدون يفعلون، كما في "المسند" عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته: "ألا إني والله ما أُرسل عُمَّالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أُرسلهم إليكم ليُعلموكم دينَكم وسُننَكم".
قوله: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعم» (أن) مصدرية، واللام قبلها مفتوحة؛ لأنها لام القسم، و(أن) والفعل بعدها في تأويل مصدر رُفع على الابتداء، والخبر (خير)، و(حُمْر) بضم المهملة وسكون الميم، جمع: أحمر، و(النَّعم) بفتح النون والعين المهملة، أي: خيرٌ لك من الإبل الحُمر، وهي أنفس أموال العرب.
قال النَّووي: "وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتَّقريب إلى الأفهام، وإلا فذرَّة من الآخرة خيرٌ من الأرض بأسرها وأمثالها معها".
وفيه فضيلة مَن اهتدى على يديه رجلٌ واحدٌ، وجواز الحلف على الخبر والفُتيا ولو لم يستحلف.
الشيخ: إذا كان للفائدة والتَّصديق يحلف لأجل تأكيد المقام، فلا بأس، قد حلف النبيُّ على مواضع كثيرةٍ لتأكيد المقام، وهنا: «والله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا» لتأكيد المقام، وأنَّ هداية واحدٍ فيه الخير العظيم؛ ولهذا قال ﷺ: فوالله لأن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعم، وفي الحديث الصحيح: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله.
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
قوله: "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" أراد المصنفُ رحمه الله تعالى بهذه الترجمة وما جاء بعدها من الآيات والحديث أن يزيد هذا المقام بيانًا وإيضاحًا، وإلا فقد تقدم في الآيات والأحاديث ما يُفسر "لا إله إلا الله" وما دلَّت عليه من التوحيد ونفي الشِّرك والتَّنديد.
وقوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57].
الشيخ: وهذا من عطف الدال على المدلول: باب تفسير التوحيد، هو شهادة أن لا إله إلا الله، من عطف الدال على المدلول؛ لأنَّ الشَّهادة دالَّة على التوحيد، والمدلول هو التوحيد، هو أراد بالترجمة تأكيد ما تقدم، وإيضاح ما تقدم بزيادةٍ؛ لأنَّ المقام مقامٌ عظيمٌ، مقام التوحيد، ومقام الشِّرك، فالمؤلف رحمه الله كرر الكلامَ في هذا في أبواب يُلاحظ المقام الذي بُلي الناس بالجهل به حتى وقعوا في الشِّرك على غير بصيرةٍ في زمانه، وفي غير زمانه، فمقام التوحيد مقام يحتاج إلى عنايةٍ كبيرةٍ وتكرارٍ وإيضاحٍ من الخطيب، ومن المذكِّر، ومن الواعظ، ومن المحاضر، المقام مقام عظيم، تلتبس فيه الأمور؛ ولهذا وقع الناسُ في الشرك إلا مَن رحم الله.
وقوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها، وهي قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [الإسراء:56].
قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: يقول تعالى: قُلِ يا محمد للمُشركين الذين عبدوا غير الله ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ من الأصنام والأنداد، وارغبوا إليهم؛ فإنهم لا يملكون كشف الضُّر عنكم، أي: بالكلية، وَلَا تَحْوِيلًا أي: ولا أن يُحولوه إلى غيركم، فإنَّ الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريكَ له.
الشيخ: وهذا أمر تهديدٍ، من باب التَّهديد، ادْعُوا من باب التَّهديد، مثل: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] من باب التهديد، وهكذا قوله: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40] من باب التهديد، يعني: فلن تضروا الله شيئًا، ولن تفوته، أنتم في قبضته، وهذا العمل الذي تعملونه خيبة لكم، وخسارة لكم، فإنكم إن دعوتموهم لا يملكون كشف الضُّر بالكلية، ولا تحويله من حالٍ إلى حالٍ، ولا من عضوٍ إلى عضوٍ، بل هم أعجز من ذلك، كلهم في أنفسهم يدعون الله إذا كانوا مؤمنين أولياء، مثل: الرسل، هم في أنفسهم يدعون الله، ويبتغون إليه الوسيلة، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، كيف يُدْعَون من دون الله وهم عبيدٌ يرجون رحمة الله، ويخافون عذابه؟! فإذا كانوا بهذه المثابة فكيف يُدعون؟! وإذا كان هؤلاء لا ينفعون، فغيرهم من باب أولى ألا ينفع: كالصنم، والخشب، والنجم، وأشباه ذلك.
الشيخ: ومما يقع فيه بعض الجهلة يقول: أن الإنسان مُخيَّر: إن شاء كفر، وإن شاء أسلم؛ لأنَّ الله يقول: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، وهذا من البلاء العظيم، نسأل الله العافية؛ لأنَّ هذا الأمر تهديد، ما هو للتَّخيير؛ ولهذا قال بعده: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [الكهف:29] يعني: إن شاء فليُؤمن وله الجنة، وإن شاء فليكفر وله النار، هو من باب التَّهديد والتَّحذير، وليس مُخيَّرًا، بل يجب أن يُسلم، ويجب أن يدخل في دين الله، ويجب أن يلتزم بالحقِّ.
وهكذا قوله جلَّ وعلا: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] هذا منسوخٌ، قبل أن يُفرض الجهاد، وإن كان الشَّخص يجب عليه أن يدخل في الإسلام وجوبًا، لكن هذا قبل أن يُشرع الجهاد: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لا يجوز إكراهه، وهو مع هذا يجب عليه أن يدخل في الإسلام؛ حتى يُنقذ نفسه من النار.
وقال آخرون من أهل العلم: إنَّ الآية في أهل الكتاب والمجوس، يعني: لا يُكرَهون، بل تُؤخذ منهم الجزية، وأنَّ هذه الآية غير منسوخةٍ، بل هي في أهل الكتاب.
والمقصود بكل حالٍ أنه ليس المراد التَّخيير، وليس المراد أنه لا بأس أن يبقى على الكفر، هذا لا يقوله مَن يعلم ما يقول، وإنما يقوله الجهلة، وهل يُؤذن للإنسان أن يبقى على الكفر حتى يدخل النار؟! نسأل الله العافية.
قال العُوفي: عن ابن عباسٍ في الآية: "كان أهلُ الشِّرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعُزيرًا، وهم الذين يدعون".
وروى البخاري في الآية عن ابن مسعودٍ قال: "ناسٌ من الجنِّ كانوا يُعبدون فأسلموا".
وفي روايةٍ: "كان ناسٌ من الإنس يعبدون ناسًا من الجنِّ، فأسلم الجنُّ، وتمسك هؤلاء بدينهم".
وقول ابن مسعودٍ هذا يدل على أنَّ الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين.
وقال السّدي: عن أبي صالحٍ، عن ابن عباسٍ في الآية قال: "عيسى وأمه وعُزير".
وقال مُغيرة: عن إبراهيم: كان ابنُ عباسٍ يقول في هذه الآية: "هم عيسى وعُزير والشَّمس والقمر".
وقال مجاهد: "عيسى وعُزير والملائكة".
الشيخ: وهذا هو الصَّواب؛ لأنه قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57]، هؤلاء المدعوون صالحون: عيسى وأمه والعُزير كلهم صالحون يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهي القُربة إليه بطاعته، الوسيلة هي القُربة إليه بطاعته: بتوحيده، بالصلاة، بالصوم، وغيرها من العبادات.
وهكذا قول ابن مسعودٍ: أنهم ناسٌ من الجنِّ فأسلموا، وتمسَّك الإنسُ بعبادتهم. يدخل في الآية، يعني: يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مما أسلم، فالآية فيمَن يعبدون ناسًا يعبدون الله، وهم صالحون في أنفسهم، فإذا كانوا صالحين -أنبياء أو ملائكة أو نحوهم- ومع هذا لا ينفعونهم، فغيرهم من باب أولى.
وقوله: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] لا تتم العبادةُ إلا بالخوف والرَّجاء، فكل داعٍ دعا دعاء عبادةٍ أو استغاثةٍ لا بدَّ له من ذلك: فإما أن يكون خائفًا، وإما أن يكون راجيًا، وإما أن يجتمع فيه الوصفان.
قال شيخُ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الآية لما ذكر أقوال المفسرين: "وهذه الأقوال كلها حقّ؛ فإنَّ الآية تعمّ مَن كان معبوده عابدًا لله، سواء كان من الملائكة، أو من الجنِّ، أو من البشر. والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التَّمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز؟ فيُريه رغيفًا، فيقول: هذا. فالإشارة إلى نوعه، لا إلى عينه، وليس مُرادهم بذلك تخصيص نوع من شمول الآية.
الشيخ: نعم، مثلما قال رحمه الله: الآية شاملة، سواء كان المعبودون ملائكةً، أو كانوا أنبياء، أو صالحين من الإنس، أو من الجنِّ، الآية تعمُّهم، كلهم داخلٌ في قوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، الآية تعمّ الجميع، فمَن عبد غير الله، وذلك المعبود ممن يعبد الله، وممن يخافه ويرجوه؛ دخل في الآية، وإذا كان هذا شركًا فعبادة غيره من الكفرة أو من الجمادات شرك من باب أولى.
فالآية خطاب لكل مَن دعا من دون الله مدعوًّا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه.
فكل مَن دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصَّالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها؛ فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول مَن دعا الملائكة والجنّ، فقد نهى الله تعالى من دُعائهم، وبيَّن أنهم لا يملكون كشف الضُّر عن الدَّاعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية، ولا يُحولونه من موضعٍ إلى موضعٍ: كتغيير صفته أو قدره؛ ولهذا قال: وَلَا تَحْوِيلًا [الإسراء:56]، فذكر نكرةً تعمّ أنواع التَّحويل.