فكل مَن دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصَّالحين، أو دعا الملائكة، فقد دعا مَن لا يُغيثه، ولا يملك كشف الضُّر عنه ولا تحويله". اهـ.
وفي هذه الآية ردٌّ على مَن يدعو صالحًا ويقول: أنا لا أُشرك بالله شيئًا، الشِّرك: عبادة الأصنام.
قال: وقوله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26- 28].
قال ابنُ كثير: يقول تعالى مُخبرًا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحُنفاء، ووالد مَن بُعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي: هذه الكلمة وهي: عبادة الله وحده لا شريكَ له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي "لا إله إلا الله"، جعلها في ذُريته، يقتدي به فيها مَن هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: إليها.
قال عكرمة ومجاهد والضَّحاك وقتادة والسّدي وغيرهم في قوله: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذُريته مَن يقولها.
وروى ابنُ جرير عن قتادة: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي قال: "كانوا يقولون: الله ربنا، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، فلم يبرأ من ربِّه". رواه عبد بن حميد.
وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قال: "الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذُريته مَن يعبد الله ويُوحده".
قلتُ: فتبين أنَّ معنى "لا إله إلا الله " توحيد الله بإخلاص العبادة له، والبراءة من كلِّ ما سواه.
قال المصنفُ رحمه الله: "وذكر سبحانه أنَّ هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله".
الشيخ: يعني أنَّ كلمة التوحيد تتضمن البراءة من عبادة غير الله، ومُوالاة الله بالعبادة، وأنَّ قوله "لا إله إلا الله" فيها الولاء والبراء: "فلا إله" براءة من الشرك ومن عبادة غير الله، و"إلا الله" مُوالاة لله، وعبادة له، وإيمان بأنه المستحقّ لأن يُعبد ، وأكثر الخلق يتكلم بها ولا يدري معناها، معناها البراءة من الشرك، وبراءة مما عليه أهل الشرك، وإيمان بالله، وتوحيد له، ومُوالاته؛ لأنه سبحانه هو المعبود بالحقِّ جلَّ وعلا؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].
س: قوله: لا يزال في ذُريته مَن يقول: لا إله إلا الله؟
ج: الظاهر يعني غالبًا؛ لأنَّ الواقع خلاف ذلك، الواقع خلاف ذلك، لكن غالبًا لا يزال فيهم مَن يعبد الله، وهذا تعمّه الفترة، وتعمّه الجهالة، كما في عهد قريش: قد كان فيهم زيد بن نُفيل، بقي على التوحيد، ولكن الجهالة عمَّت، وندر مَن يعرف هذه الكلمة.
س: يعني يبقى طائفةٌ عليها؟
ج: قد يكون الأغلب، وقد يكون يبقى طائفة، ولكن قد لا يعرفها الناس، قد لا يكون لها قوة وظهور؛ ولهذا عمَّت الجهالة في عهد قريش، وبعث الله إليهم نبيَّه بعد فترةٍ.
قال المصنف رحمه الله: "وذكر سبحانه أنَّ هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله".
وفي هذا المعنى يقول العلامةُ الحافظ ابن القيم رحمه الله في "الكافية الشافية":
وإذا تولاه امرؤ دون الورى | طرًّا تولاه العظيم الشَّان |
قال: وقوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]. الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العُبَّاد.
وهذه الآية قد فسَّرها رسولُ الله ﷺ لعدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلمًا دخل على رسول الله ﷺ فقرأ عليه هذه الآية، قال: فقلتُ: إنهم لم يعبدوهم! فقال: بلى؛ إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وحلَّلوا لهم الحرام فاتَّبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم. رواه أحمد، والترمذي وحسَّنه، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني من طرقٍ.
الشيخ: وهذه من باب الحسن، يشدّ بعضُها بعضًا؛ ولأنهم قلَّدوهم في الشِّرك، حتى في الشِّرك أطاعوهم، حتى في الشرك عبدوا الأوثان والأصنام بطاعة أحبار السُّوء ورهبان السُّوء، نسأل الله العافية.
الشيخ: يعني: قلَّدوهم واستنصحوهم، ولم ينظروا في الأدلة، بل تابعوا أحبارهم ورُهبانهم حتى في الشرك، نسأل الله العافية.
ومما يُوضح هذا: انظر الآن اليهود أُمَّة كبيرة في المدينة وقت النبي ﷺ، ومع هذا أصرُّوا على كفرهم وضلالهم؛ طاعةً لأحبارهم ورُهبانهم، ولم ينقادوا لاتِّباع محمدٍ ﷺ، مع ظهور الآيات، وظهور المعجزات، ونزول الفرقان، ثم استمرُّوا إلى الآن، ندر وقلَّ أن يُسلم منهم أحد، نسأل الله العافية.
وهكذا ضلال النَّصارى، لكن النصارى أسهل منهم، وأقرب إلى الخير من اليهود؛ ولهذا لا يزال النَّصارى يُسلم منهم الجمُّ الغفير في كل وقتٍ.
ولهذا قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، فإنَّ الحلال ما أحلَّه الله، والحرام ما حرَّمه الله، والدِّين ما شرعه الله.
فظهر بهذا أنَّ الآية دلَّت على أنَّ مَن أطاع غير الله ورسوله، وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرَّم الله، أو تحريم ما أحلَّه الله، وأطاعه في معصية الله، واتَّبعه فيما لم يأذن الله، فقد اتَّخذه ربًّا ومعبودًا، وجعله لله شريكًا، وذلك يُنافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلَّت عليه كلمةُ الإخلاص: "لا إله إلا الله"؛ فإنَّ الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم: عبادةً لهم، وسمَّاهم: أربابًا، كما قال تعالى: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أي: شُركاء لله تعالى في العبادة، أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:80].
فكل معبودٍ ربّ، وكل مُطاعٍ ومُتَّبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتَّخذه المطيع المتّبع ربًّا ومعبودًا، كما قال تعالى في آية الأنعام: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].
الشيخ: واضح في هذا: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فإنَّ طاعتهم كفر وضلال، يعني: طاعتهم في الكفر وعبادة غير الله كفر وضلال؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، فهم بطاعتهم إياهم وتقليدهم إياهم في الكفر والضَّلال كفَّار، نسأل الله العافية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، حتى ولو في استحلال ما حرَّم الله غير الشِّرك، لو أطاعوهم في استحلال الزنا كفروا، أو أطاعوهم في تحليل الخمر كفروا، وهكذا إذا أطاعوهم فيما يكفر كفروا مثلهم، نسأل الله العافية.
س: إذا منعوا من المباح فهل هذا من الطَّاعة؟
ج: فيه تفصيل: إذا حرَّموا ما أحلَّ الله فهذا محل نظرٍ في تكفيرهم، إذا حرَّموا ما أحلَّ الله قد يُقال في هذا: أنه مثل مَن استحلَّ ما حرَّم الله، إذا حرَّم ما أحلَّ الله. وقد يقال: له شُبهة، قد يكون منعه لأنه يضرّه هذا الشيء: هذا الطعام، أو هذه الفاكهة، قد تكون له شبهة في المنع منه، لكن إذا أحلَّ ما حرَّمه الله، أو استحلَّ إسقاط ما أوجب الله؛ هذا ما فيه شبهة.
وهذا هو وجه مُطابقة الآية للترجمة، ويُشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، والله أعلم.
قال شيخُ الإسلام في معنى قوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]: "وهؤلاء الذين اتَّخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرَّم الله، وتحريم ما أحلَّ الله، يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدَّلوا دين الله، فيتَّبعونهم على هذا التَّبديل، فيعتقدون تحليل ما حرَّم الله، أو تحريم ما أحلَّ الله؛ اتِّباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل. فهذا كفر، وقد جعله اللهُ ورسوله شركًا، وإن لم يكونوا يُصلون لهم ويسجدون لهم.
فكان مَن اتَّبع غيره في خلاف الدين، مع علمه أنه خلاف للدين، واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله الله ورسوله؛ مُشركًا مثل هؤلاء.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتًا، لكنَّهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلمُ ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصٍ، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: إنما الطَّاعة في المعروف.
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مُجتهدًا قصده اتِّباع الرسل، لكن خفي عليه الحقُّ في نفس الأمر، وقد اتَّقى الله ما استطاع، فهذا لا يُؤاخذه الله بخطئه، بل يُثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربَّه، ولكن مَن علم أنَّ هذا أخطأ فيما جاء به الرسول، ثم اتَّبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيبٌ من هذا الشِّرك الذي ذمَّه الله، لا سيما إن اتَّبع ذلك هواه، ونصره باليد واللسان، مع علمه أنه مخالفٌ للرسول، فهذا شرك يستحقّ صاحبه العقوبة عليه.
الشيخ: والواجب على المؤمن تقوى الله، وأن يعتني بالأدلة، لكن إذا كان عن اجتهادٍ ورغبةٍ في الخير وصدقٍ؛ فإن الله جلَّ وعلا يُثيبه على اجتهاده ويغفر له خطأه، كما قال ﷺ: إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر، فهكذا العالم المجتهد الذي يريد الله والدار الآخرة، ولكن أخطأ في اجتهاده، فله أجر الاجتهاد، ويعفو الله عن خطئه، وهكذا مَن تابعه في ذلك يظنّ أنه مُصيب ومُجتهد وطالبٌ للحقِّ؛ يغفر الله له، أما إذا قلَّده واتَّبعه عن هوى، وعن قصدٍ، وهو يعلم أنه مُخطئ، فهذا له نصيبه ممن ذمَّهم الله وعابهم، نسأل الله العافية.
س: ..............؟
ج: المقصود في الأحكام، العقيدة واضحة.
س: الشِّرك هنا أصغر وإلا أكبر؟
ج: كفر أكبر، إذا استحلَّ ما حرَّم اللهُ يكون أكبر، أو أسقط ما أوجب اللهُ يكون أكبر.
س: الذي تابع المفتي .....؟
ج: هذا يكون تقليدًا، يكون معصيةً، تعصُّب، إلا إذا استحلَّ ما حرَّم الله يكفر، وهو يعلم أنه ما حرَّم الله، أو استحلَّ إسقاط ما أوجب الله وقال: ما هو بواجبٍ. وهو يعلم؛ يكون كفرًا أكبر.
س: هل يكون من هذا الحكم العوامّ الذين يتَّبعونهم يظنون أنهم مُجتهدون؟
ج: إذا كان في المعاصي قد يُعفا عنهم إذا ما وُجد من يدلهم، أما فيما يتعلق بالشِّرك وهم بين المسلمين لا يُعذرون؛ لأنَّ عليهم أن يسألوا، وعليهم أن يتبصَّروا.
ولهذا اتَّفق العلماءُ على أنه إذا عرف الحقَّ لا يجوز له تقليد أحدٍ في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التَّقليد للقادر على الاستدلال، وإن كان عاجزًا عن إظهار الحقِّ الذي يعلمه، فهذا يكون كمَن عرف أنَّ دين الإسلام حقٌّ وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحقِّ لا يُؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنَّجاشي وغيره.
وقد أنزل الله في هؤلاء آيات من كتابه: كقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران:199]، وقوله: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:83]، وقوله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف:159].
وأما إن كان المتَّبع للمُجتهد عاجزًا عن معرفة الحقِّ على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله: من الاجتهاد في التقليد؛ فهذا لا يُؤاخذ إن أخطأ، كما في القبلة.
الشيخ: كما في اجتهاد القبلة نعم، إذا بذل وسعه واجتهد في المسائل العامَّة التي يقع فيها الخلاف والخطأ في بعض واجبات الصلاة أو الصيام أو غيرها من المعاملات، أو ما أشبه ذلك، نعم.
س: ..............؟
ج: العامي العاجز يُقلد العلماء، يسألهم ويُقلدهم إذا كان ما عنده قُدرة، أما صاحب العلم لا يُقلد، ينظر في الأدلة الشَّرعية.
س: ..............؟
ج: يجتهد في اتِّباع مَن يظنّ أنه أقرب للحقِّ، وتطمئن نفسه إليه؛ لأنه عامّ.
س: قول النبي ﷺ: أنا بريء ممن أقام بين أظهر المشركين؟
ج: بريء من كلِّ مسلمٍ يُقيم بين المشركين إذا كان قادرًا، أما إذا عجز يتَّقي الله، فإذا استطاع هاجر، وإذا عجز فهو معذور، لكن يتَّقي الله.
س: المقلد إذا قلَّد أحد العلماء في مسألةٍ، وغيره من العلماء يرى قولًا آخر، فقلَّده اتِّباعًا للأهون، هل هذا من الهوى؟
ج: اتِّباع الهوى ما يجوز، عليه أن يتحرى مَن هو أتقى لله وأورع حتى يُقلده إذا كان عاجزًا.
س: مثل بعض الجماعات تبين لهم طريق السنة وطريق ..... لكنه مصمم على اتباع الجماعة؟
ج: الذي يتَّبع الهوى له نصيبه من وعيد الله، لا بدَّ أن يتَّقي الله ويتبع ما يراه أقرب إلى الحقِّ، إذا كان عامِّيًّا يشوف العلماء، والذي في نفسه أنه أقرب إلى الخير وأتقى الله يتبعه.
وأما مَن قلَّد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علمٍ أنَّ معه الحقّ، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبًا لم يكن عمله صالحًا، وإن كان متبوعه مُخطئًا كان آثمًا، كمَن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار.
وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدِّينار والدِّرهم والقطيفة والخميصة؛ فإنَّ ذلك لما أحبَّ المال منعه من عبادة الله وطاعته، وصار عبدًا له، وكذلك هؤلاء، فيكون فيهم شركٌ أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك.
وفي الحديث: إن يسير الرياء شرك، وهذا مبسوطٌ عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشِّرك على كثير من الذنوب". انتهى.
وقال أبو جعفر ابن جرير في معنى قول الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا [فصلت:9]: "أي: وتجعلون لمن خلق ذلك أندادًا، وهم الأكفاء من الرجال تُطيعونهم في معاصي الله". انتهى.
قلتُ: كما هو الواقع من كثيرٍ من عُبَّاد القبور.
قال: وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
قال العماد ابن كثير رحمه الله: "يذكر اللهُ حال المشركين به في الدنيا، ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا لله أندادًا، أي: أمثالًا ونُظراء يعبدونهم معه، ويُحبونهم كحبِّه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضدَّ له، ولا ندَّ له، ولا شريكَ معه.
وفي "الصحيحين" عن عبدالله بن مسعودٍ قال: قلتُ: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك".
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ولحبِّهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يُشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده، ويتوكلون عليه، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه.
ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك، فقال تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة:165].
قال بعضُهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذابَ لعلموا حينئذٍ أنَّ القوة لله جميعًا، أي: أنَّ الحكم له وحده لا شريكَ له، فإنَّ جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسُلطانه.
وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165]، كما قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25- 26]، يقول: لو علموا ما يُعانون هناك وما يحلّ بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عمَّا هم فيه من الضَّلال.
ثم أخبر عن كفرهم بأعوانهم، وتبرؤ المتبوعين من التَّابعين، فقال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص:63]، ويقولون: سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41].
والجنّ أيضًا يتبرأون منهم، ويتنصَّلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5- 6]" انتهى كلامه.
الشيخ: وهذا من الخسارة والهلاك والعقوبات الشَّنيعة: كونهم في النار، ويتبرأ منهم معبودوهم، فيجمع لهم بين الحسرتين: عذاب وبراءة المعبودين منهم، فالله جلَّ وعلا هو المستحقّ لأن يُعبد ويُدعا ويُستغاث به، والذين اتَّخذوا الملائكة أو أصحابَ القبور أو النّجوم أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات أندادًا: أحبوهم مع الله، واستغاثوا بهم، هم يوم القيامة أعداؤهم وخصومهم، وإنما الحقّ والصواب أن يخصّوا الله بالعبادة، وأن يعبدوه وحده، وأن يتقرَّبوا إليه بما شرع، وأن يحذروا عبادة غيره؛ لهذا خُلقوا، وبهذا أُمِروا، وهذا هو طريق السَّعادة، وطريق الجنة.
ولهذا أخبر سبحانه أنَّ هؤلاء الضَّالين المتَّخذين الأنداد مع الله والعابدين معه سواه يخسرون غاية الخسران، هم أخسر الناس: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة:166]، ما بقي لهم سبب يتعلَّقون به؛ لأنَّ معبوديهم تبرأوا منهم، والله غضب عليهم، وأمر بإدخالهم النار، فهم في غايةٍ من النَّدامة والحسرة، نسأل الله العافية؛ ولهذا قالوا: لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].
س: ...............؟
ج: قد يقع هذا، وهذا قد يقع: يتعوَّذون منهم، وقد تقع عبادتهم خوفًا منهم، مثلما يعبدون الأموات، ويعبدون الملائكة، ويعبدون الأصنام، ويعبدون الكواكب، يصير شركُهم متنوعًا، الحاصل أنَّ جميع معبوداتهم كلها تبرأوا منهم، باطلة، والرسل يتبرأون منهم، وعبادتهم لها باطلة، وأولياء الله يتبرأون منهم، والجن يتبرأون منهم، والملائكة يتبرأون منهم، نسأل الله العافية.
س: بعض الذين يُوصون بأن تُعظم قبورهم: إما بضريحٍ، أو بشيءٍ من هذا، عليهم إثم ما يُعبدون به؟
ج: هذا دعوة إلى أسباب الشِّرك، نسأل الله العافية، عليهم إثم ذلك، يعني: ساعون في هذا الشيء، مُتسببون.
الشيخ: هذا ما ينفعهم، حبُّهم لله ما ينفعهم لما أشركوا بالله وجعلوا معه الأنداد من الملائكة وغيرهم، وعبدوهم مع الله، فهذا باطل، ما ينفعهم، إذا دعوا الله ودعوا غيره ما ينفعهم، أحبوا الله وأحبوا غيره حبًّا خاصًّا يُوقعهم في الشِّرك، هذا ما ينفعهم، وإنما ينفعهم حبّ الله إذا أخلصوا لله العبادة، خصُّوه بالعبادة وبالمحبَّة، ولم يُحبوا معه غيره محبةً تجعلهم يعبدونه معه، أما حبّهم في الله، وحبّ الرسول في الله، وحبّ المؤمنين في الله، مع إخلاص العبادة لله، هذا ينفعهم، هذا واجبٌ، واجب الحبّ في الله، والبُغض في الله، لكن المحبَّة للأنداد والأصنام التي تجعل المحبَّ يعبدهم مع الله، ويستغيث بهم، هذا هو الشِّرك، نسأل الله العافية.
ففي الآية بيان أنَّ مَن أشرك مع الله تعالى غيره في المحبَّة فقد جعله شريكًا لله في العبادة، واتَّخذه ندًّا من دون الله، وأنَّ ذلك هو الشِّرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى في أولئك: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].
وقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ [البقرة:165] المراد بالظلم هنا الشرك. كقوله: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82] كما تقدم.
فمَن أحبَّ الله وحده، وأحبَّ فيه وله فهو مُخلص، ومَن أحبَّه وأحبَّ معه غيره فهو مُشرك، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21- 22].
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: فمَن رغب إلى غير الله في قضاء حاجةٍ أو تفريج كربةٍ، لزم أن يكون محبًّا له، ومحبَّته هي الأصل في ذلك. انتهى.
فكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" تنفي كلَّ شركٍ في أي نوعٍ كان من أنواع العبادة، وتُثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى، وقد تقدم بيان أنَّ "الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب بالمحبَّة وغيرها من أنواع العبادة"، فـ"لا إله إلا الله" نفت ذلك كله عن غير الله، وأثبتته لله وحده. فهذا هو ما دلَّت عليه كلمة الإخلاص مُطابقةً، فلا بدَّ من معرفة معناها واعتقاده وقبوله، والعمل به باطنًا وظاهرًا، والله أعلم.
الشيخ: وهذا هو الذي خفي على عُبَّاد القبور، وعلى أشباههم من الجهلة، فظنوا أنَّ مجرد النُّطق يكفي، وأنه متى قال "لا إله إلا الله" كفى، ولو أشرك بالله، هؤلاء المنافقون يقولون: "لا إله إلا الله"، واليهود والنصارى يقولون: "لا إله إلا الله"، وقد نقضوا هذه بعبادة عُزير، وعبادة المسيح، ونقضها المنافقون بكفرهم وضلالهم، فلا تنفع مَن قالها إلا إذا أخلص لله العبادة، وجعل الإلهية لله وحده، خصُّوه بالعبادة دون كلِّ ما سواه، هذا هو التوحيد: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]، فلا بدَّ من إخلاص العبادة لله وحده، فلا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا ينذر إلا لله، ولا يسجد إلا لله، ولا يذبح إلا لله: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162- 163]، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].
فإذا عبد الله وعبد معه سواه: صلَّى لله، ودعا غير الله، وذبح لغير الله، فقد جمع عبادة غير الله مع عبادة الله، والتوحيد: أن يخصَّ الله بالعبادة، فيكون مُوحِّدًا لله، أي أن يخصَّ الله بالعبادة دون كلِّ ما سواه، فإذا صرف بعضَها لغير الله: من وليٍّ، أو رسولٍ، أو ملكٍ، أو جنيٍّ، أو حجرٍ، أو كوكبٍ، فقد أشرك بالله غيره، نسأل الله العافية.
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "فتوحيد المحبوب: أن لا يتعدد محبوبه، أي: مع الله تعالى بعبادته له، وتوحيد الحبّ: أن لا يبقى في قلبه بقية حبٍّ حتى يبذلها له، فهذا الحبّ -وإن سُمي عشقًا- فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرّة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه من كلِّ ما سواهما، وأن تكون محبَّتُه لغير الله تابعةً لمحبَّة الله تعالى، فلا يُحب إلا الله، ولا يُحب إلا لله، كما في الحديث الصحيح: ثلاثٌ مَن كنَّ فيه الحديث.
ومحبة رسول الله ﷺ هي من محبَّة الله، ومحبَّة المرء إن كانت لله فهي من محبَّته، وإن كانت لغير الله فهي مُنقصة لمحبَّة الله، مُضعفة لها.
ويصدق هذه المحبَّة بأن تكون كراهيتُه لأبغض الأشياء إلى محبوبه -وهو الكفر- بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشدّ، ولا ريبَ أنَّ هذا من أعظم المحبَّة؛ فإنَّ الإنسان لا يُقدم على محبَّة نفسه شيئًا، فإذا قدَّم محبَّة الإيمان بالله على نفسه، بحيث لو خُير بين الكفر وإلقائه في النار، لاختار أن يُلقى في النار ولا يكفر؛ كان أحبَّ إليه من نفسه.
وهذه المحبَّة هي فوق ما يجده العُشَّاق المحبون من محبَّة محبوبيهم، بل لا نظيرَ لهذه المحبَّة، كما لا مثلَ لمن تعلَّقت به، وهي محبَّة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد، وتقتضي كمال الذل والخضوع والتَّعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرًا وباطنًا. وهذا لا نظيرَ له في محبَّة مخلوقٍ، ولو كان المخلوقُ مَن كان.
ولهذا مَن شرَّك بين الله تعالى وبين غيره في المحبَّة الخاصَّة كان مشركًا شركًا لا يغفره الله؛ كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
والصحيح أنَّ معنى الآية: أنَّ الذين آمنوا أشدّ حبًّا لله من أهل الأنداد لأندادهم. كما تقدم أنَّ محبَّة المؤمنين لربهم لا يُماثلها محبَّة مخلوقٍ أصلًا، كما لا يُماثل محبوبهم غيره، وكل أذًى في محبَّة غيره فهو نعيمٌ في محبَّته، وكل مكروهٍ في محبَّة غيره فهو قرّة عينٍ في محبَّته.
ومَن ضرب لمحبَّته الأمثال التي في محبَّة المخلوق للمخلوق: كالوصل، والهجر، والتَّجني بلا سببٍ من المحبِّ، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوًّا كبيرًا؛ فهو مُخطئٌ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت". انتهى.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: مَن قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله.
قوله: (في الصحيح) أي: "صحيح مسلم" عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه، عن النبي ﷺ .. فذكره.
وأبو مالك اسمه: سعد بن طارق، كوفي ثقة، مات في حدود الأربعين ومئة.
وأبوه طارق بن أشيم -بالمعجمة والمثناة التَّحتية، وزن أحمر- ابن مسعود الأشجعي، صحابي له أحاديث. قال مسلم: "لم يروِ عنه غير ابنه".
وفي "مسند الإمام أحمد" عن أبي مالكٍ قال: وسمعتُه يقول للقوم: مَن وحَّد الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله .
ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي، عن أبيه.
ورواه أحمد عن عبدالله بن إدريس قال: سمعتُ أبا مالكٍ قال: قلتُ لأبي .. الحديث.
ورواية الحديث بهذا اللَّفظ تُفسر "لا إله إلا الله".
الشيخ: والمعنى أنَّ قوله: مَن وحَّد الله تفسير لقوله: مَن قال: لا إله إلا الله، مَن قال: "لا إله إلا الله" عن توحيدٍ وإخلاصٍ، وكفرٍ بما يُعبد من دون الله؛ حرم دمه وماله، يُبين أنَّ المجيء بكلمة التوحيد لا بدَّ فيها من المعنى، مَن قالها بدون معنى وبدون عملٍ بمقتضاها لا تنفعه، كالمنافقين وأشباههم، ولكن مَن قالها عن اعتقادٍ لمعناها، وتوحيدٍ لله، وإخلاصٍ له، وكفر بما يُعبد من دون الله، يعني: تبرأ من الشِّرك وأهله، فهذا تنفعه، وتكون من أسباب دخوله الجنة ونجاته من النار؛ لأنه إذا قالها عن توحيدٍ وعن صدقٍ أدَّى حقَّها، أدَّى ما أوجب الله، وترك ما حرَّم الله.
قوله: "مَن قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله" اعلم أنَّ النبي ﷺ علَّق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين:
الأول: قول "لا إله إلا الله" عن علمٍ ويقينٍ، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم.
والثاني: الكفر بما يُعبد من دون الله، فلم يكتفِ باللَّفظ المجرد عن المعنى، بل لا بدَّ من قولها والعمل بها.
قلتُ: وفيه معنى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا [البقرة:256].
قال المصنف رحمه الله تعالى: "وهذا من أعظم ما يُبين معنى: لا إله إلا الله؛ فإنه لم يجعل التَّلفظ بها عاصمًا للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريكَ له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يُضيف إلى ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله، فإن شكَّ أو تردد لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألةٍ ما أجلها! ويا له من بيانٍ ما أوضحه! وحجّة ما أقطعها للمُنازع!" انتهى.
الشيخ: وهذا معنى قوله سبحانه: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا [البقرة:256]، فلا بدَّ من الإيمان بالله، ولا بد من اعتقاد بطلان عبادة غير الله، لا بدَّ أن يؤمن بالله وحده، ويخصّه بالعبادة، ولا بدَّ أن يؤمن ببطلان عبادة غيره، وأنَّ ما عليه أهل الشرك باطل: من عبادة الأصنام والأوثان والنجوم وغير ذلك.
فالتوحيد يشمل أمرين:
أحدهما: توحيد الله والإخلاص له.
والأمر الثاني: الكفر بما يُعبد من دون الله، والإيمان بأنَّ عبادة غير الله باطلة، وأنَّ الحقَّ هو عبادة الله وحده، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].
قلتُ: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: "لا إله إلا الله"، فلا يصح قولها بدون هذه الخمس التي ذكرها المصنف رحمه الله أصلًا.
قال تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، وقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشِّرك، ويُخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قُوتلوا إجماعًا.
وذكر ابنُ كثيرٍ رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14]، فقال: قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عباد بن أحمد -وساق بسنده- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، قال: مَن شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله. الحديث.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة مرفوعًا: أُمِرْتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويُؤمنوا بي وبما جئتُ به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله.
وفي "الصحيحين" عن ابن عمر قال: قال رسولُ الله ﷺ: أُمِرْتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله.
وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال، وآية براءة.
وقد أجمع العلماءُ على أنَّ مَن قال: "لا إله إلا الله" ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمُقتضاها؛ أنه يُقاتل حتى يعمل بما دلَّت عليه من النَّفي والإثبات.
قال أبو سليمان الخطَّابي رحمه الله في قوله: أُمِرْتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله: "معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان، دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: "لا إله إلا الله"، ثم يُقاتلون، ولا يُرفع عنهم السيف".
وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمَن قال: "لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأنَّ المراد بذلك مُشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يُقرّ بالتوحيد، فلا يُكتفى في عصمته بقول: "لا إله إلا الله"؛ إذ كان بقولها في كفره. انتهى مُلخَّصًا.
الشيخ: والخلاصة من هذا أنه لا بدَّ من الاستجابة لله ورسوله، وأنَّ مجرد قول "لا إله إلا الله" مع عدم الانقياد لمعناها لا ينفعه، فلا بدَّ من قول "لا إله إلا الله"، ولا بدَّ من العمل بها: ترك الشرك، ترك التَّعلق بغير الله: كاليهود والنصارى وأشباههم، والمنافقون، إذا قالوها ما تنفعهم حتى يخلعوا عبادة غير الله، وحتى يُؤمنوا بالله وحده، وأما مجرد قولها لا يُجدي عليهم شيئًا إذا لم يُحققوا معناها: بتوحيد الله، والإخلاص له، والإيمان برسوله محمدٍ ﷺ، وأنه رسول الله حقًّا إلى جميع الناس.
س: ................؟
ج: إذا قالوها باللِّسان ما ينفعهم؛ لأنَّ دينَهم التَّثليث.
وقال النَّووي: لا بدَّ مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول ﷺ، كما جاء في الرواية: ويُؤمنوا بي وبما جئتُ به.
وقال شيخُ الإسلام لما سُئل عن قتال التتار فقال: "كل طائفةٍ ممتنعةٍ عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم؛ فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشَّهادتين، ومُلتزمين بعض شرائعه؛ كما قاتل أبو بكر والصحابة مانعي الزكاة، وعلى هذا اتَّفق الفقهاء بعدهم".
قال: "فأيما طائفةٍ امتنعت عن بعض الصَّلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحجّ، أو عن التزام تحريم الدِّماء، أو الأموال، أو الخمر، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومُحرماته التي لا عذرَ لأحدٍ في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحدُ بجحودها؛ فإنَّ الطائفة الممتنعة تُقاتل عليها، وإن كانت مُقرَّةً بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء".
قال: "وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البُغاة، بل هم خارجون عن الإسلام". انتهى.
قوله: "وحسابه على الله" أي: الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشَّهادة، فإن كان صادقًا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقًا عذَّبه العذاب الأليم.
وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمَن أتى بالتوحيد، ولم يأتِ بما يُنافيه ظاهرًا، والتزم شرائع الإسلام؛ وجب الكفُّ عنه.
قلتُ: وأفاد الحديثُ أنَّ الإنسان قد يقول: "لا إله إلا الله" ولا يكفر بما يُعبد من دون الله، ولم يأتِ بما يعصم دمه وماله، كما دلَّ على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث.
الشيخ: وهذا يدل على مثل ما قال شيخ الإسلام: أن الطائفة الممتنعة عن شرائع الإسلام أو عن بعضها تُقاتل حتى تلتزم؛ ولهذا لما امتنع أتباعُ مُسيلمة ومَن شاكلهم عن اتباع الرسول ﷺ قاتلهم الصحابةُ، ولما امتنع قومٌ من الزكاة وقالوا: لا نُؤديها، قاتلوهم حتى يُؤدُّوها؛ لأنَّ امتناعهم من أدائها نوع جحدٍ لها، فلا بدَّ أن يلتزموا بأحكام الإسلام، فكل طائفةٍ أبت وأصرَّت على ألا تُصلي، أو لا تُزكي، أو لا تصوم رمضان، على ولي الأمر أن يُجاهدهم حتى يلتزموا بشرع الله؛ لأنَّ قتالهم على هذا نوع جحودٍ ونوع إنكارٍ، نسأل الله العافية.
س: .................؟
ج: هذا لا بدَّ أن يُبين لهم، أقول: يُوضح لهم، الدُّعاة إلى الله يُوضِّحون لهم، إن كانوا صادقين يُوضِّحون لهم؛ حتى يتبرؤوا من دين النَّصرانية.