05 ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ الْحَكِيمِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِأَمْرٍ وَلَا يُعِينَهُ عَلَيْهِ، فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مَعَ حِكْمَتِهِ. فَمَنْ أَمَرَهُ وَأَعَانَهُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ بِهِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ خَلْقُهُ وَأَمْرُهُ إِنْشَاءً وَخَلْقًا وَمَحَبَّةً، فَكَانَ مُرَادًا بِجِهَةِ الْخَلْقِ، وَمُرَادًا بِجِهَةِ الْأَمْرِ. وَمَنْ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَ ذَلِكَ الْمَأْمُورُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرُهُ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ خَلْقُهُ؛ لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَعَلُّقِ الْخَلْقِ بِهِ؛ وَلِحُصُولِ الْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِخَلْقِ ضِدِّهِ، وَخَلْقُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ يُنَافِي خَلْقَ الضِّدِّ الْآخَرِ، فَإِنَّ خَلْقَ الْمَرَضِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ ذُلُّ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَدُعَاؤُهُ، وَتَوْبَتُهُ، وَتَكْفِيرُ خَطَايَاهُ، وَيَرِقُّ بِهِ قَلْبُهُ، وَيُذْهِبُ عَنْهُ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ وَالْعُدْوَانَ؛ يُضَادُّ خَلْقَ الصِّحَّةِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ مَعَهَا هَذِهِ الْمَصَالِحُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ خَلْقُ ظُلْمِ الظَّالِمِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَظْلُومِ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ بِالْمَرَضِ، يُضَادُّ خَلْقَ عَدْلِهِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الْمَصَالِحُ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ هُوَ فِي أَنْ يَعْدِلَ.

وَتَفْصِيلُ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ تَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَتِهَا عُقُولُ الْبَشَرِ.

وَالْقَدَرِيَّةُ دَخَلُوا فِي التَّعطِيلِ عَلَى طَرِيقَةٍ فَاسِدَةٍ:

.........

وَالْقَدَرِيَّةُ دَخَلُوا فِي التَّعليلِ عَلَى طَرِيقَةٍ فَاسِدَةٍ: مَثَّلُوا اللَّهَ فِيهَا بِخَلْقِهِ، وَلَمْ يُثْبِتُوا حِكْمَةً تَعُودُ إِلَيْهِ.

الشيخ: قوله: (والقدرية دخلوا في التَّعليل) التعليل أو التَّعطيل، الأمر محتمل، يحتمل التعليل: دخلوا في التعليل؛ تعليل أفعال الربِّ وأفعال العباد.

والتعطيل: دخلوا في تعطيل الرب عن الحكمة؛ حتى ألجأهم هذا الدّخول إلى أن قالوا: إنَّ العبد يخلق فعله. تعليل حكم الله، وارتفعت صدورهم في أن تكون حكمة الله دخلت في عدم تمكينهم وعدم توفيقهم إلى طاعة الله ورسوله، فهم عطَّلوا من هذه الحيثية، يعني: عطلوا الله من الصِّفات والحكمة المقتضية عدم توفيق هؤلاء وعدم هدايتهم.

............

والتعليل يعني: دخلوا في التعليل؛ تعليل حكم الله، وتعليل حكمة الرب جلَّ وعلا، وتعليل حكمته في أفعال العباد، فقاسوا الله على خلقه، وهذا منهم غلط قبيح؛ لأنَّ الرب عزَّ وجل له أحكام وأسرار يطلع على بعضها البشر، وبعضها لا يطلع عليها البشر؛ لكونه سبحانه هدى مَن شاء، وأضلَّ مَن شاء.

قالوا: لو قلنا: "إنه هو الذي أضلَّهم" لكان ضدّ العدل، فالمعنى أنهم هم الذين أضلوا أنفسهم، ما أضلَّهم الله! وهذا يُنافي ما جاء في نصوص القرآن: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37]، وأخبر عن نفسه أنه أضلَّ مَن شاء، وهدى مَن شاء، ولا يلزم من هذا نفي العدل، فهو سبحانه الحكم العدل وإن اقتضت حكمته أن لا يهدي هؤلاء، وأن يُضلَّ أولئك، فهم قالوا: المخلوق لو فعل كذا وكذا ما يقتضي فعله شيئًا يضرّه لكان ظالمًا له، فقاسوا الربَّ على المخلوق.

والجبرية ما اتسعت صدورهم ولا عقولهم لهذا، ولم يروا محيصًا عن هذا الأمر إلا أن يقولوا: العبد مجبور، وليس لله حكمة، وليس لله أسرار في هذا، وإنما هو يفعل ما يشاء، فالعبد مجبور بمثابة الرعدة: كيد المرتعش، المرتعش ليس له فيها تصرف، وبمثابة الريشة في مهب الرياح تلعب بها هكذا وهكذا، وأغصان الشجرة، وهذا غلو في إثبات القدر؛ حتى سلبوا العبدَ قُدرته واختياره، وسلبوا الربَّ حكمته.

والأولون -وهم القدرية النُّفاة- غلوا في النَّفي، وهو إثبات العدل في زعمهم؛ حتى سلبوا الربَّ حكمته في إضلال مَن شاء، وإسلام مَن شاء، وزعموا أنه لا حقَّ له في ذلك، فدخلوا في التَّعطيل؛ تعطيل الرب جلَّ وعلا من خلق أفعال العباد، وصاروا مشركين للثانوية الذين قالوا بالشرك في الربوبية بهذا المعنى؛ ولهذا سموا: مجوس هذه الأمة؛ لكونهم أثبتوا خالقين: خلق العبد لأفعاله، هذا نوع مُشاركة في الربوبية.

قَوْلُهُ: (لَا تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]، قَالَ فِي "الصِّحَاحِ": تَوَهَّمْتُ الشَّيْءَ: ظَنَنْتُهُ، وَفَهِمْتُ الشَّيْءَ: عَلِمْتُهُ.

فَمُرَادُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ وَهْمٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمٌ.

قِيلَ: الْوَهْمُ مَا يُرْجَى كَوْنُهُ، أَيْ: يُظَنُّ أَنَّهُ عَلَى صفةِ كَذَا. وَالْفَهْمُ: هُوَ مَا يُحَصِّلُهُ الْعَقْلُ وَيُحِيطُ بِهِ.

وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ سُبْحَانَهُ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا نَعْرِفُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَحَدٌ، صَمَدٌ، لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [البقرة:255].

الشيخ: وما ذاك إلا لأنَّ الشيء إنما يُدرك فهمه وتبلغه الأوهام إذا كان له نُظراء، فيُقاس هذا على هذا، يُقاس النَّظير على النَّظير، فإذا عرفت زيدًا وعمرًا وخالدًا وغيرهم من البشر، توهمتَ أن فلانًا مثلهم في كذا، أو مثلهم في كذا، أو كذا، وما يتعلق بالإبل، أو في البقر، أو في الغنم، أو في أنواع الطيور، عرفت من هذا ما هو معروف بصفاته، فتقيس عليه الآخر، وأنه يُقاربه أو يُدانيه أو مثله، والرب ليس له شريك، ولا مثيل، ولا جنس، حتى يمكن أن تبلغه الأوهام أو تُدركه الأفهام؛ فبهذا لا يمكن أن تبلغه أوهامك، وما تتوهمه أنه على كذا، وأنه كذا، ليس لك قُدرة على هذا، ولا يحيط به فهمك وعلمك؛ لأنَّ علمك وفهمك لم يُدرك له ربًّا حتى تقيس عليه، فلم يبقَ عندك إلا السمع والنَّقل، وهو أنَّك تعلمه بما نقل، وبما سمعت من آيات وأحاديث الصِّفات، فليس لك قُدرة إلا هذا، فلا تعلم من ربّك إلا ما جاء به النَّقل من صفات تفصيلية، ولكن تعلم بعقلك وفهمك أنه كامل، وأنه قادر، وأنه على كل شيء قدير، وأنه عالم بما عرفت من خلقه، وبرؤية غيرك؛ لأنَّ هذا الخلق بهذا التصوير وهذا التفصيل وهذه الحكم وهذه الأسرار وهذه المنافع إنما صدرت عن حكمةٍ وعن علمٍ وعن قدرةٍ.

س: ...........؟

ج: ولهذا قال العلماء: الصِّفات توقيفية، أسماء الرب وصفاته توقيفية، ليس للعقول دخل في إثباتها بالتفصيل.

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۝ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:23- 24].

قَوْلُهُ: (وَلَا يُشْبِهُ الْأَنَامَ) هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الصِّفَاتِ كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْبِدَعِ، فَمِنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي "الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ": لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ. لَا يُشْبِهُه شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا خِلَافُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ؛ يَعْلَمُ لَا كَعِلْمِنَا، وَيَقْدِرُ لَا كَقُدْرَتِنَا، وَيَرَى لَا كَرُؤْيَتِنَا. انْتَهَى.

وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَيْسَ فِيمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهٌ.

وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهُويَه: مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بشيءٍ فَشَبَّهَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ.

الشيخ: وهذا كله موافق للنصوص؛ لأنَّ الله عزَّ وجلَّ أثبت لنفسه الصِّفات، ونفى عن نفسه المماثلة، فدلَّ ذلك على الأمر الوسط، وهو أنه سبحانه موصوف بالصِّفات الكاملة، مُنزه عن صفات النَّقص والعيب، فالذين شبَّهوا الله بخلقه غلوا في الإثبات، والذين عطَّلوا الصِّفات غلوا في التَّنزيه، وكلا الطرفين باطل وضلال، والحق الوسط، وهو أنه سبحانه موصوف بصفات الكمال، مُنزه عن صفات النَّقص والعيب؛ ولهذا قال : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فنفى وأثبت: نفى عن نفسه المماثلة للمخلوقات، وأثبت لنفسه صفات لا تُشابه صفات المخلوقين.

وهكذا قال أهلُ العلم: كأبي حنيفة وغيره: يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقُدرتنا، ويسمع لا كسمعنا، ويُبصر لا كبصرنا، وهكذا؛ لأنَّ صفاته كاملة لا تُشابه صفات المخلوقين، وصفات المخلوقين ناقصة يعتريها الزوال والذَّهاب والنَّقص، فالبصير يكون أعمى، والسميع يكون أصم، والناطق يكون أخرس، وغير هذا من الآفات، بخلاف صفات ربنا، فإنَّ لها الكمال المطلق من كل الوجوه.

وَقَالَ: علامَةُ جَهْمٍ وَأَصْحَابِهِ دَعْوَاهُمْ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا أُولِعُوا بِهِ مِنَ الْكَذِبِ: أَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ، بَلْ هُمُ الْمُعَطِّلَةُ.

الشيخ: هم مُعطلة ومُشبهة أيضًا، هم معطلة في نفس الأمر، وهم مُشبهة أيضًا؛ لأنهم شبَّهوا الله بالنَّاقصات والمعدومات والجمادات، فلهم تشبيه أقبح من تشبيه أولئك المشبهة.

وَكَذَلِكَ قَالَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ: عَلَامَةُ الْجَهْمِيَّةِ تَسْمِيَتُهُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ: مُشَبِّهَةً، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ نُفَاةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ إِلَّا يُسَمِّي الْمُثْبِتَ لَهَا: مُشَبِّهًا، فَمَنْ أَنْكَرَ أَسْمَاءَ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ غَالِيةِ الزَّنَادِقَةِ الْقَرَامِطَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُقَالُ لَهُ: عَالِمٌ وَلَا قَادِرٌ- يَزْعُمُ أَنَّ مَنْ سَمَّاهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مُشَبِّهٌ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الِاسْمِ يُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ فِي مَعْنَاهُ.

وَمَنْ أَثْبَتَ الِاسْمَ وَقَالَ: هُوَ مَجَازٌ، كَغَالِيَةِ الْجَهْمِيَّةِ، يَزْعُمُ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ حَقِيقَةً، قَادِرٌ حَقِيقَةً: فَهُوَ مُشَبِّهٌ.

وَمَنْ أَنْكَرَ الصِّفَاتِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ، وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا كَلَامٌ، وَلَا مَحَبَّةٌ، وَلَا إِرَادَةٌ- قَالَ لِمَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ: إِنَّهُ مُشَبِّهٌ، وَإِنَّهُ مُجَسِّمٌ.

وَلِهَذَا كُتُبُ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ، كُلُّهَا مَشْحُونَةٌ بِتَسْمِيَةِ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ: مُشَبِّهَةً، وَمُجَسِّمَةً، وَيَقُولُونَ فِي كُتُبِهِمْ: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمُجَسِّمَةِ قَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ: الْمَالِكِيَّةُ، يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَقَوْمًا يُقَالُ لَهُمُ: الشَّافِعِيَّةُ، يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ. حَتَّى الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ مِنْهُمْ: كَعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَالزَّمَخْشَرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا، يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنَ الصِّفَاتِ وَقَالَ بِالرُّؤْيَةِ: مُشَبِّهًا. وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ قَدْ غَلَبَ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ غَالِبِ الطَّوَائِفِ.

الشيخ: وهذا كله من التَّنفير من الصِّفات للدَّعوة إلى مذهبهم الباطل، وهكذا سنة الله في عباده، كل مَن أثبت شيئًا رمى مقابله بما لا ينبغي؛ ليدَّعي لنفسه أنه هو الذي أصاب، فمَن تجرد لتأييد الدليل، والأخذ بالدليل، وعدم التقليد الأعمى، قالوا: إنه خرج عن المذاهب، وأنه يسبُّ المذاهب، وأنه مذهب خامس، وأنه، وأنه، وهكذا كل مَن ادَّعى شيئًا من الأمور التي يزعم أنها هي الحقّ يرمي مخالفه بضدِّ ذلك، فالجهمية والمعتزلة والأشعرية والقدرية وغيرهم كلهم يرمون مقابلهم بالتَّجسيم والتَّشبيه؛ ليزعموا لأنفسهم أنهم هم المصيبون، وأنهم الذين نزَّهوا الله، وقد غلطوا وخسروا وباءوا بالكذب على الله وعلى عباده.

وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنِ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورِينَ: أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ بِنَفْيِ التَّشْبِيهِ نَفْيَ الصِّفَاتِ، وَلَا يَصِفُونَ بِهِ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الصِّفَاتِ، بَلْ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ لَا كَعِلْمِنَا، وَيَقْدِرُ لَا كَقُدْرَتِنَا، وَيَرَى لَا كَرُؤْيَتِنَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، فَنَفَى الْمِثْلَ، وَأَثْبَتَ الوصفَ.

وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الشَّيْخِ إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ نَفْيُ التَّشْبِيهِ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الصِّفَاتِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا: أَنَّ الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقِيَاسٍ تَمْثِيلِيٍّ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ، وَلَا بِقِيَاسٍ شُمُولِيٍّ يَسْتَوِي أَفْرَادُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَثَّلَ بِغَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ هُوَ وَغَيْرُهُ تَحْتَ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ يَسْتَوِي أَفْرَادُهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا سَلَكَتْ طَوَائِفُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ لَمْ يَصِلُوا بِهَا إِلَى الْيَقِينِ، بَلْ تَنَاقَضَتْ أَدِلَّتُهُمْ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّنَاهِي الْحَيْرَةُ وَالِاضْطِرَابُ؛ لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ فَسَادِ أَدِلَّتِهِمْ أَوْ تَكَافيهَا.

الشيخ: أصل هذه الكلمة: تكافئها ..... همزة، حوَّلها إلى ما ترى، ومعناها: تساويها.

وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْأَوْلَى، سَوَاء كَانَ تَمْثِيلًا أَوْ شُمُولًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60].

الشيخ: شموليًّا ..... بالياء أو بعدمها.

مِثْل: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثبت لِلْمُمْكِنِ أَوْ لِلْمُحْدَثِ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَهُوَ مَا كَانَ كَمَالًا لِلْوُجُودِ غَيْرَ مُسْتَلْزِمٍ لِلْعَدَمِ بِوَجْهٍ، فَالْوَاجِبُ الْقَدِيمُ أَوْلَى بِهِ. وَكُلُّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، ثَبَتَ نَوْعُهُ لِلْمَخْلُوقِ وَالْمَرْبُوبِ الْمُدَبَّرِ، فَإِنَّمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ خَالِقِهِ وَرَبِّهِ وَمُدَبِّرِهِ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ، وَأَنَّ كُلَّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا تَضَمَّنَ سَلْبَ هَذَا الْكَمَالِ، إِذَا وَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُحْدَثَاتِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَفْيُهُ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ: أَنَّ مِنْ غُلَاةِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ أو الْأَسْمَاءِ، فيَقُولُونَ: وَاجِبُ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ كَذَا، وَلَا يَكُونُ كَذَا. ثُمَّ يَقُولُونَ: أَصْلُ الْفَلْسَفَةِ هِيَ التَّشبيهُ بِالْإِلَهِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ.

الشيخ: التَّشبه أحسنت، التَّشبه بالإله يعني: بالكرم والجود والعلم، وكذا، وكذا.

وَيَجْعَلُونَ هَذَا غَايَةَ الْحِكْمَةِ وَنِهَايَةَ الْكَمَالِ الْإِنْسَانِيِّ، وَيُوَافِقُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُطْلِقُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ، وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ.

تعليق: لا نعرف له أصلًا في شيءٍ من كتب السنة، ولا في "الجامع الكبير" للسيوطي.

الشيخ: هذا لا أصلَ له، هكذا قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولو صحَّ لكان هذا في الصِّفات التي يُحبها الربُّ من المخلوقين، لا يُحمل على العموم، لو صحَّ لكان المعنى في الصِّفات التي يُحب الرب أن يتخلق بها المخلوق، وهكذا التَّشبه بالإله فيما يُحبه ويرضاه، مثل: الكرم والجود والعلم والإحسان ونحو ذلك؛ لأنه يُحب المحسنين، يحب المقسطين، يحب الأجواد، التَّشبه بالله في هذا معناه: الامتثال لأوامره التي يُحبها، والمبادرة إلى الصِّفات التي يرضاها، لا في كل شيءٍ، فلا يُشبه بالإله بأنه يُؤله ويُعبد! ولكن في أنه يجود على العباد ويُحسن ويتكرم ويرحم ويعطف، إذا عطف على أخيه وأحسن إليه ورأف به، هذا شيء مطلوب، هكذا إذا عدل في أحكامه شيء مطلوب.

فَإِذَا كَانُوا يَنْفُونَ الصِّفَاتِ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَخَلَّقُ الْعَبْدُ عَلَى زَعْمِهِمْ؟!

وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَعَالَى، لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، لَكِنَّ الْمُخَالِفَ فِي هَذَا النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةُ وَالِاتِّحَادِيَّةُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَنَفْيُ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ مُشَابَهَتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ فَلِذَلِكَ اكْتَفَى الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: "وَلَا يُشْبِهُ الْأَنَامَ"، وَالْأَنَامُ: النَّاسُ، وَقِيلَ: كُلُّ ذِي رُوحٍ. وَقِيلَ: الثَّقَلَانِ. وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [الرحمن:10] يَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ أَكْثَرَ مِنَ الْبَاقِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الشيخ: يعني الجهم بن صفوان ............

آيات الصِّفات وأحاديثها أوضح من الشمس في رابعة النَّهار، ومعانيها أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن أصحاب البدع من المشبهة والمعطلة هم الذين شوَّشوا على الناس، وأدخلوا ما لا ينبغي، وإلا فأمر الصِّفات أوضح الأشياء وأبينها، وليس في الكتاب والسنة شيء أوضح من ذلك، لكن نعوذ بالله من الخذلان ومن طاعة الهوى والشيطان.

...............

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَعْلَمُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ الصَّادِقُ الْبَارُّ، قَالَ لَهَا لَمَّا جَاءَهُ الْوَحْيُ: إِنِّي قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي.

تعليق: الذي في الأصل وهو في مطبوعة مكة: على عقلي، وقد قال الشيخُ أحمد شاكر في ذلك: هو خطأ فاحش، لعله من النسخ، بل هو كلام غير معقولٍ، وحاشا رسول الله ﷺ أن يقول هذا، بل إنَّ بعض العلماء فسَّر خشيته على نفسه في هذا الحديث بأنه خشي الجنون، واستنكره الحافظ في "الفتح" قال: وأبطله أبو بكر ابن العربي، وحُقَّ له أن يبطل.

الشيخ: الظاهر والله أعلم أنه خشي على نفسه الموت؛ لأنَّ جبرائيل غطَّه غطًّا قويًّا، قال العلماء: حتى يعده لتحمل المشاقّ في سبيل الدَّعوة إلى الله عزَّ وجل، غطَّه، ثم غطَّه، ثم غطَّه، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] علَّمه أول سورة العلق.

فالمقصود أنه عليه الصلاة والسلام خاف من هذا الأمر العظيم؛ لشدة ما أصابه من جبرائيل عليه الصلاة والسلام، قد يُبتلى المؤمن بالشَّدائد ليكون مُعدًّا لها وأهلًا لها بعد ذلك، فهو أُعدَّ لتحمل المشاقّ والأثقال والعظائم من أول ما أوحى الله إليه؛ ولهذا لما جاء إلى خديجة قال: زملوني، زملوني، دثِّروني، دثِّروني؛ لشدة ما أصابه، فقالت له: "كلا والله لا يُخزيك الله أبدًا". عرفت منه الأخلاقَ العظيمة والصِّفات الحميدة التي صاحبها من سنة الله في عباده أنه لا يُخزى، بل يكون له فضل من الصِّفات الحسنة والذكر الجميل والفضل بين الناس لأعماله العظيمة: "إنك لتصدق الحديثَ، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتُعين على نوائب الحقِّ". فذكرت هذه الصِّفات العظيمة التي من شأنها أنَّ صاحبها يرفع الله ذكره، ويُعلي قدره، ويكون له شأن بين الناس.

فَقَالَتْ: "كَلَّا، وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ". فَهُوَ لَمْ يَخَفْ مِنْ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، فَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ ﷺ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ، وَإِنَّمَا خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لَهُ عَارِضُ سُوءٍ، وَهُوَ الْمَقَامُ الثَّانِي، فَذَكَرَتْ خَدِيجَةُ مَا يَنْفِي هَذَا، وَهُوَ مَا كَانَ مَجْبُولًا عَلَيْهِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ اللَّهِ أَنَّ مَنْ جَبَلَهُ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ وَنَزَّهَهُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُخْزِيهِ.

وَكَذَلِكَ قَالَ النَّجَاشِيُّ لَمَّا اسْتَخْبَرَهُمْ عَمَّا يُخْبِرُ بِهِ، وَاسْتَقْرَأَهُمُ الْقُرْآنَ فَقَرَأوا عَلَيْهِ: "إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ".

وَكَذَلِكَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لَمَّا أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا رَآهُ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصَّرَ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْإِنْجِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: "أَيْ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ مَا يَقُولُ"، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا رَأَى، فَقَالَ: "هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى".

وَكَذَلِكَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، طَلَبَ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ قَدْ قَدِمَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الشَّامِ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ، وَأَمَرَ الْبَاقِينَ إِنْ كَذَبَ أَنْ يُكَذِّبُوهُ، فَصَارُوا بِسُكُوتِهِمْ مُوَافِقِينَ لَهُ فِي الْأَخْبَارِ، سَأَلَهُمْ: هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَقَالُوا: لَا، قَالَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَقَالُوا: لَا، وَسَأَلَهُمْ: أَهُوَ ذُو نَسَبٍ فِيكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَقَالُوا: لَا، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْهِ كَذِبًا، وَسَأَلَهُمْ: هَلِ اتَّبَعَهُ ضُعَفَاءُ النَّاسِ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟

...........

فَذَكَرُوا أَنَّ الضُّعَفَاءَ اتَّبَعُوهُ، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سُخْطَةً لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَقَالُوا: لَا، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَسَأَلَهُمْ عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَقَالُوا: يُدَالُ عَلَيْنَا مَرَّةً، وَنُدَالُ عَلَيْهِ أُخْرَى، وَسَأَلَهُمْ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، وَسَأَلَهُمْ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَقَالُوا: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ.

وَهَذِهِ أَكْثَرُ مِنْ عَشْرِ مَسَائِلَ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَقَالَ: سَأَلْتُكُمْ: هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، قُلْتُ: لَوْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكُمْ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِيكُمْ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، فَقُلْتُ: لَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكُمْ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَع الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكُمْ: أَضُعَفَاءُ النَّاسِ يَتْبَعُونَهُ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَقُلْتُمْ: ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، يَعْنِي: فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ.

الشيخ: يعني: هذا الوصف الأغلبي؛ لأنَّ أبا بكرٍ من أشراف الناس، وهكذا عمر، وهكذا عثمان، لكن في الأغلب اتَّبعه الضُّعفاء.

ثُمَّ قَالَ: وَسَأَلْتُكُمْ: هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَقُلْتُمْ: بَلْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكُمْ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سُخْطَةً لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ.

الشيخ: لأنَّه دين الله، دين الفطرة والعدالة، دين الخير والسَّعادة، إذا باشر القلوبَ وعرفته القلوب لا ترتد عنه.

وهذا يدل على أنَّ الرجل قد درس أمور الأنبياء وأخلاق الأنبياء وما كانوا عليه مما وصل إليه من الكتب السابقة، ومما عرفه من أعيان الناس وجُلسائه ومَن له دراية بأحوال الماضين؛ ولهذا سأل عن الأسئلة التي تُعينه وتُقرب إليه ما يُريده من معرفة نبوته ﷺ أو عدم ذلك؛ ولهذا لما سألهم الأسئلة عرف وأيقن أنه رسول الله، وقال: "ما كنتُ أظنه يُبعث فيكم، ولو أمكنني أن أصل إليه لفعلتُ ذلك، ولو كنتُ بين يده لغسلتُ عن قدمه، ولئن كان كما قلتُم ليملكنَّ موضع قدمي هاتين". وكل هذا وقع.

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ وَالْحَقِّ، فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالْبَاطِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَنْكَشِفَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، فَيَرْجِعَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَيَمْتَنِعَ عَنْهُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَالْكَذِبُ لَا يَرُوجُ إِلَّا قَلِيلًا ثُمَّ يَنْكَشِفُ.

وَسَأَلْتُكُمْ: كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ فَقُلْتُمْ: إِنَّهَا دُوَلٌ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى، وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَهَا، قَالَ: وَسَأَلْتُكُمْ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَقُلْتُمْ: لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَهُوَ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِعَادَةِ الرُّسُلِ وَسُنَّةِ اللَّهِ فِيهِمْ أَنَّهُ تَارَةً يَنْصُرُهُمْ، وَتَارَةً يَبْتَلِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَغْدِرُونَ -عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ عَلَامَاتُ الرُّسُلِ، وَأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ لِيَنَالُوا دَرَجَةَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَقْضِي اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.

الشيخ: وهذا رواه مسلم في "الصحيح" من حديث صُهيب الرومي .

وما ذاك إلا لأنَّ العبدَ بين أمرين: بين شدَّةٍ ورخاءٍ، وبين النِّعَم والمصائب، فالله يمتحن العبادَ بهذا وهذا، كما قال : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5]، والصبَّار كثير الصبر عند البلايا، والشكور كثير الشكر عند النِّعَم والفضائل والمسرات، والمؤمن هكذا: صبور عند المحن والبلاوي والشدة والفقر والمرض ونحو ذلك، وشكور عند النِّعم: كالصحة والعافية والمال والسلطان وغير ذلك.

فالواجب على المؤمن أن ينتبه لهذا، وأن يحذر الجزعَ عند البلاء، والبطر عند الرخاء، بل يكون في الرخاء شكورًا مستقيمًا على أمر الله، وفي البلايا والمحن صبورًا عارفًا بأنَّ ربَّه حكيم عليم، فلا يجزع ولا يتعاطى ما لا ينبغي عند حلول المصائب، وأغلب الخلق لا يصبر عند البلاء، ولا يشكر عند الرخاء، هذا حال الأكثر، نسأل الله السلامة؛ ولهذا قال: وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرًا له.

فينبغي للمؤمن أن تكون هذه المسألة على باله دائمًا، لا يتنقل بين السرَّاء والضَّراء.

وهناك أمر ثالث أيضًا يُصيبه؛ وهو الذنوب والمعاصي، فهو بين النِّعم، وبين المصائب، وبين الذنوب التي يقترفها، والواجب عند الذنب التوبة والاستغفار، وعند النعم الشكر، وعند البلايا والمحن الصبر، ومَن رُزق هذه الأمور الثلاثة وما شرعه الله فيها؛ وهو الصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والتوبة عند الذنب؛ تمَّت سعادته وأفلح غاية الفلاح، والله المستعان.

وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ مَا فِي إِدَالَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْحِكْمَةِ فَقَالَ: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الْآيَاتِ [آل عمران:139]، وَقَالَ تَعَالَى: الم ۝ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ الْآيَاتِ [العنكبوت:1- 2]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى سُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ وَحِكْمَتِهِ الَّتِي بَهَرَتِ الْعُقُولَ.

الشيخ: وفي هذا المعنى بخصوصه يقول : أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا يعني: من أين أتتنا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] بسبب ما فعلتُم من الفشل والنزاع ومخالفة الرُّماة تنازعوا واختلفوا ولم يثبتوا كما أمرهم الرسولُ ﷺ؛ ولهذا قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا يعني: يوم بدر، يوم بدر أسروا سبعين، وقتلوا سبعين قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بسبب أعمالكم وذنوبكم.

وفي الآية الأخرى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ثم قال بعده: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ۝ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:166- 168] فبيَّن الحِكَم في الابتلاء.

قَالَ: وَسَأَلْتُكُمْ عَمَّا يَأْمُرُ بِهِ، فَذَكَرْتُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّهُ مِنْكُمْ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ، وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَذَهَبْتُ إِلَيْهِ، وَإِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ.

وَكَانَ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كَافِرٌ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بُغْضًا وَعَدَاوَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ.

قَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي وَنَحْنُ خُرُوجٌ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ لَيُعَظِّمُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ ﷺ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ وَأَنَا كَارِهٌ.

الشيخ: الحمد لله، اللهم ارضَ عنه، أسلم وحسن إسلامه.

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ: أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بِمَجْمُوعِ أُمُورٍ، قَدْ لَا يَسْتَقِلُّ بَعْضُهَا بِهِ، بَلْ مَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ شِبَعٍ وَرِيٍّ وَشُكْرٍ وَفَرَحٍ وَغَمٍّ فَأُمُورٌ مُجْتَمِعَةٌ.

............

تعليق: في المطبوعة: شفيع ووزير. وهو خطأ، وبهذا تُصحح الجملة ويستقيم الكلام.

لَا يَحْصُلُ بِبَعْضِهَا، لَكِنْ بِبَعْضِهَا قَدْ يَحْصُلُ بَعْضُ الْأَمْرِ ...........

الشيخ: ببعضها قد يحصل بعض الأمر، لكن ما يحصل بمجموعها، قد يحصل ببعضها بعض المطلوب.

س: ............؟

ج: ما يحصل للإنسان من شكرٍ أو جزعٍ أو فرحٍ أو غمٍّ أو مسارٍّ أو كسلٍ في أمورٍ مجتمعةٍ لا يحصل ببعضها لو انفرد، لكن بحسب مجموعها، يعني: حصل لك نِعَم متعددة من صحَّةٍ ونصرٍ وتوفر أولادٍ وأشباه ذلك، ما يحصل هذا الذي حصل لك بوجود بعضها، فالذي يحصل بالنِّعَم والولاية والأولاد يحصل من هذا نِعَم كثيرة وسرور كثير وراحة وطُمأنينة وقضاء حاجات ونصر على أعداء، لو تخلَّى بعضُها عنك -هذه الأمور- ولم يحصل لك إلا بعضها؛ ما حصل لك ذاك المجموع الذي حصل سابقًا، وإن حصلت لك أشياء مُترتبة على أمورٍ متعددةٍ لو فات بعضُها لم يحصل ذلك الشيء الذي ذهب، لكن قد يحصل ببعضها بعضُ الشيء.

س: ..............؟

ج: هذه المسائل التي جمعها هرقل وسأل عنها: هل كان في آبائه من ملكٍ؟ هل قال هذا القول أحدٌ قبله؟ هذه الأمور لما اجتمعت غلب على الظنِّ، وتفيد الفائدة العظيمة فيما سأل عنه هرقل، لكن وحدها لا تكفي، هل كان في آبائه من ملك؟ لا يدري عن صحَّة ما ادَّعاه من النبوة، كونه ليس في آبائه مَن ادَّعى النبوة لا يكفي، لكن لما اجتمعت هذه الأمور: لم يعهدوا عليه الكذب، ولا قال هذا القول أحدٌ قبله، ومَن دخل في دينه لم يخرج عنه، يزيدون ولا ينقصون، إلى آخر ما سأل عنه، هذه المجموعة تُوجب لمن تأمَّلها بقطع صحة النُّبوة.

وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِخَبَرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ؛ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُحَصِّلُ لِلْقَلْبِ نَوْعَ ظَنٍّ، ثُمَّ الْآخَرُ يُقَوِّيهِ، إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْعِلْمِ، حَتَّى يَتَزَايَدَ وَيَقْوَى. وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَنَحْو ذَلِكَ.

الشيخ: هذا واضح ......... مَن سمع شيئًا ثم جاء الثاني وأيَّد الخبر، ثم جاء الثالث وأيَّد الخبر، كلما جاء واحدٌ زاد الخبرَ ثقةً وطمأنينةً حتى يبلغ العلم واليقين بأنَّ هذا حصل، وهكذا إذا روى الإنسانُ حديثًا جيدًا أنَّ النبي قال كذا، ثم جاء صحابي آخر فروى مثله، ثم ثالث، كل واحدٍ يُقوي الخبر، ويُقوي الإيمان بصحته، فالأمور تحتاج إلى مجموعٍ حتى لا يحصل ذلك الشيء لبعضها إذا انفرد، فالأدلة تقوى بكثرتها، وتضعف بقلَّتها، هكذا الغموم والهموم، والفرح والسرور، والطُّمأنينة واليقين، وغير ذلك، كلما كثرت أسبابها حصل مُقتضاها، وكلما قلَّت الأسباب ضعف المقتضى.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبْقَى فِي الْعَالَمِ الْآثَارَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ بِأَنْبِيَائِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكَرَامَةِ، وَمَا فَعَلَهُ بِمُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ: كَثُبُوتِ الطُّوفَانِ، وَإِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا بَعْدَ نَبِيٍّ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَقِصَّةِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَمَنْ بَعْدَهُ، يَقُولُ فِي آخِرِ كُلِّ قِصَّةٍ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ۝ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8- 9].

وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ أَقْوَامًا اتَّبَعُوهُمْ، وَأَنَّ أَقْوَامًا خَالَفُوهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ نَصَرَ الرُّسُلَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ، وَعَاقَبَ أَعْدَاءَهُمْ؛ هُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْعُلُومِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَجْلَاهَا، وَنَقْلُ أَخْبَارِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مِنْ نَقْلِ أَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ مِن مُلُوكِ الْفُرْسِ وَعُلَمَاءِ الطِّبِّ: كَبُقْرَاطَ وَجَالِينُوسَ وَبَطْلَيْمُوسَ وَسُقْرَاطَ وَأَفْلَاطُونَ وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ.

وَنَحْنُ الْيَوْمَ إِذَا عَلِمْنَا بِالتَّوَاتُرِ مِنْ أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَوْلِيَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِمْ؛ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ عَلَى الْحَقِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:

  • مِنْهَا: أَنَّهُمْ أَخْبَرُوا الْأُمَمَ بِمَا سَيَكُونُ مِنِ انْتِصَارِهِمْ وَخِذْلَانِ أُولَئِكَ وَبَقَاءِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ.
  • وَمِنْهَا: مَا أَحْدَثَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ نَصْرِهِمْ وَإِهْلَاكِ عَدُوِّهِمْ، إِذَا عُرِفَ الْوَجْهُ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ: كَغَرَقِ فِرْعَوْنَ، وَغَرَقِ قَوْمِ نُوحٍ، وَبَقِيَّةِ أَحْوَالِهِمْ؛ عُرِفَ صِدْقُ الرُّسُلِ.
  • وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَتَفَاصِيلِ أَحْوَالِهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كَذَّابٍ جَاهِلٍ، وَأَنَّ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهُدَى وَالْخَيْرِ وَدَلَالَةِ الْخَلْقِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ، وَمَنْعِ مَا يَضُرُّهُمْ مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَاحِمٍ بَرٍّ يَقْصِدُ غَايَةَ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلْخَلْقِ.

وَلِذِكْرِ دَلَائِلِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ، وَقَدْ أَفْرَدَهَا النَّاسُ بِمُصَنَّفَاتٍ: كَالْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ.

بَلْ إِنْكَارُ رِسَالَتِهِ ﷺ طَعْنٌ فِي الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَنِسْبَتُهُ لَهُ إِلَى الظُّلْمِ وَالسَّفَهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ جَحْدٌ لِلرَّبِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْكَارٌ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُحَمَّدٌ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ صَادِقٍ، بَلْ مَلِكٌ ظَالِمٌ، فَقَدْ تَهَيَّأَ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ وَيَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَمِرَّ حَتَّى يُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ، وَيَفْرِضَ الْفَرَائِضَ، وَيُشَرِّعَ الشَّرَائِعَ، وَيَنْسَخَ الْمِلَلَ، وَيَضْرِبَ الرِّقَابَ، وَيَقْتُلَ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ، وَيَسْبِيَ نِسَاءَهُمْ، وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَيَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَفْتَحَ الْأَرْضَ، وَيَنْسِبَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ.

وَالرَّبُّ تَعَالَى يُشَاهِدُهُ وَهُوَ يَفْعَلُ بِأَهْلِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ، وَيُعْلِي أَمْرَهُ، وَيُمَكِّنُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَةِ الْبَشَرِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُجِيبُ دَعَوَاتِهِ، وَيُهْلِكُ أَعْدَاءَهُ، وَيَرْفَعُ لَهُ ذِكْرَهُ، هَذَا وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَأَبْطَلَ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَبَدَّلَهَا، وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَهُ، وَاسْتَمَرَّتْ نُصْرَتُهُ عَلَيْهِمْ دَائِمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ، وَلَا يَقْطَعُ مِنْهُ الْوَتِينَ.

فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا صَانِعَ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَبِّرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مُدَبِّرٌ قَدِيرٌ حَكِيمٌ لَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَقَابَلَهُ أَعْظَمَ مُقَابَلَةٍ، وَجَعَلَهُ نَكَالًا لِلصَّالِحِينَ؛ إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُلُوكِ غَيْرُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ؟

وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَأَظْهَرَ دَعْوَتَهُ وَالشَّهَادَةَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَذَّابِينَ قَامَ فِي الْوُجُودِ، وَظَهَرَتْ لَهُ شَوْكَةٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، بَلْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَقَطَعُوا دَابِرَهُ وَاسْتَأْصَلُوهُ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ.

الشيخ: كما جرى للأسود العنسي، وطليحة، وسجاح، وغيرهم ممن ادَّعى النبوة كاذبًا؛ سلَّط الله عليه مَن أهلكه وقطع دابره، وهكذا سنة الله في العباد، فهو سبحانه يُملي بعض الإملاء لمن غلا وتعدَّى، ثم يأخذه أخذ عزيز مُقتدر ، فإملاء الله لنبيه ﷺ وإظهار الله لدعوته وشريعته وتأييده ونصر أتباعه كله من أظهر الدلائل القطعية الواضحة والبراهين الساطعة على صدقه، وأنه رسول الله حقًّا، بخلاف مَن ادَّعى النبوة كاذبًا، وكان من المفترين الضَّالين، وتسليط الله عليهم، وبيان كذبهم، كل هذا من الدلائل على كذبهم، وعلى أنه هو الرحمن الرحيم، وهو العزيز الحكيم، وهو القادر على كلِّ شيءٍ، وهو فوق العباد .

فسنة الله في العباد هكذا؛ تأييد الصَّالحين المتقين ورفع شأنهم، وإن جرى عليهم ما جرى فالعاقبة لهم، بخلاف الظالمين والمجرمين، وإن صارت لهم شوكة، وصارت لهم رياسة، فإنَّ مآلها إلى أن ينتقم منهم، وإلى أن يصيروا عبرةً لمن ظلم وافترى، كما جرى للأمم الماضية: أمة نوح، وأمة هود، وأمة صالح، وأمة شعيب، وأمة لوط، وما جرى لفرعون وقارون ولغيرهم ممن ظلم وتعدَّى؛ صارت العاقبةُ السيئة عليهم، والدائرة عليهم.

حَتَّى إِنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؛ قَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ۝ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:30- 31]، أَفَلَا تَرَاهُ يُخْبِرُ أَنَّ كَمَالَهُ وَحِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ تَأْبَى أَنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبَادِهِ، كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24] وَهُنَا انْتَهَى جَوَابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أَخْبَرَ خَبَرًا جَازِمًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ: أَنَّهُ يَمْحُو الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُ الْإِرْسَالَ وَالْكَلَامَ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ.

وَقَدْ ذَكَرُوا فُرُوقًا بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، وَأَحْسَنُهَا: أَنَّ مَنْ نَبَّأَهُ اللَّهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ إِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ فَهُوَ نَبِيٌّ رَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُبَلِّغَ غَيْرَهُ فَهُوَ نَبِيٌّ وَلَيْسَ بِرَسُولٍ.

فَالرَّسُولُ أَخَصُّ مِنَ النَّبِيِّ، فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ، وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا، وَلَكِنَّ الرِّسَالَةَ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، فَالنُّبُوَّةُ جُزْءٌ مِنَ الرِّسَالَةِ؛ إِذِ الرِّسَالَةُ تَتَنَاوَلُ النُّبُوَّةَ وَغَيْرَهَا، بِخِلَافِ الرُّسُلِ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَغَيْرَهُمْ، بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَالرِّسَالَةُ أَعَمُّ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا، وَأَخَصُّ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهَا.

الشيخ: هذا هو المشهور؛ أن الرسول هو الذي يأتيه الوحي من السماء بالشرائع والأحكام، ويُؤمر بالتبليغ: كمحمدٍ ﷺ وهود وصالح ونوح وموسى وعيسى وغيرهم، وأما النبي فلم يُؤمر، بل يأتيه الوحي من السماء من صلاةٍ وغيرها، لكن لا يُؤمر بالتبليغ، بل يشرع الله له أعمالًا، وقد يكونون متعددين، قد يكون في بلدٍ وإقليمٍ عدة أنبياء لهم شرائع شرعها الله ، ولكن لم يُؤمروا بالتبليغ للناس، بل يعملون بها بأنفسهم، ومَن شاء تبعه في ذلك، هذا قول مشهور عند أكثر الناس.

والقول الثاني: أن النبيَّ هو الذي يتبع شريعةَ غيره، ويُسمَّى: رسولًا أيضًا، كل نبيٍّ وكل رسولٍ يُوحى إليهم ويُؤمرون بالتبليغ، كلهم مأمورون بالتبليغ، وكلهم يرشدون الناسَ، وكلهم مُوجهون ومأمورون بأن يُعلِّموا ويرشدوا، لكن مَن كان تابعًا لغيره بشريعةٍ سابقةٍ: كأنبياء بني إسرائيل بعد التَّوراة، فهو تابع للتوراة، مَن جاء بعد موسى فهو تابع للتوراة، وإن شُرع له بعض التَّخفيف، كما شُرع لعيسى بعض التَّخفيف، لكن عيسى ومَن قبله من أنبياء بني إسرائيل كلهم تابعون لشريعة التَّوراة بعدما أنزل الله التَّوراة، هؤلاء يُسمون: أنبياء، ويسمون: رسلًا، أنبياء لأنَّ الله أوحى إليهم، ورسلًا لأنهم مأمورون بالتبليغ، ومَن كان رسولًا مُستقلًّا جاء بشريعةٍ مستقلةٍ، هذا أخص باسم الرسول، ويُسمَّى: نبيًّا، لكنَّه أخص باسم الرسول.

معنى هذا أن الرسول أعظم وأكبر شأنًا؛ لأنه يأتي بشرائع مُستقلة يعمل بها ويدعو إليها: كهود ونوح وصالح وإبراهيم ولوط وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، هؤلاء جاءوا بشرائع عظيمةٍ مُستقلةٍ ليست تابعةً لغيرها، هؤلاء رسل وأنبياء، أما داود وسليمان وعيسى وزكريا ويحيى وأشباههم ممن جاءوا بعد موسى هؤلاء أنبياء، ويُسمون: رسلًا أيضًا، لكن يغلب عليهم اسم النبوة؛ لأنهم جاءوا تابعين لشريعة التَّوراة، فهم أنبياء بما جاءهم من الوحي، ورسل لأنَّهم مأمورون بتبليغ هذه الشريعة، شريعة التَّوراة، والأخذ بها والإلزام بها، فهم رسل وأنبياء.

وهذا القول أظهر، وإن كان ليس هو الأشهر، بل الأول، لكن هذا القول الثاني أوضح وأقرب للمعنى، ويُؤيده قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ [الحج:52]، فدلَّ على أن الأنبياء يُرسلون، فالرسول هو الرسول المستقلّ الذي جاء بشريعةٍ مُستقلةٍ، ليس تابعًا لنبيٍّ قبله، والنبي تابعٌ لما أنزله قبله، ولكنه أيضًا مأمور بالتبليغ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ في سورة الحج، هذا يدل على أن النبي يُسمَّى: مُرسلًا، رسول مرسل، ونبي مرسل.

فمَن قال: "إن النبي لا يُرسل ولا يُؤمر بالتبليغ" ليس بجيدٍ للتعليل السابق، بل الأظهر والأبين والأصح أنَّ كلمة الرسول تنطبق على جميع الأنبياء، وعلى جميع الرسل المستقلين، كلهم مرسلون.

ثم أي فائدةٍ صغيرةٍ أو كبيرةٍ إذا كان يُوحى إليه لنفسه فقط ولا يُؤمر بالتبليغ؟

فإن الفائدة تكون أقلَّ، بخلاف ما إذا أُمر بالتبليغ؛ فإن الفائدة تكون أعظم وأنفع للعالم، فكيف يقال: إن النبيَّ هو المقتصر على نفسه، الذي لا يُؤمر بتبليغ الناس إلا مَن تابعه باختياره فقط؟!

فمَن تأمَّل هذا عرف أنَّ القول بأنَّ الرسول يشمل مَن استقلَّ ومَن كان تابعًا لشريعةٍ قبله، كلهم يُسمون: رسلًا، فليس هناك نبي لا يُسمَّى: رسولًا، بل جميع الأنبياء يُسمون: رسلًا، كلهم، لكن مَن كان مُستقلًّا: كنوح وهود وصالح ومحمد عليه الصلاة والسلام وأشباههم، هؤلاء أخصّ باسم الرسالة، وتُطلق عليهم الرسالة أكثر، ومَن كان تابعًا لغيره ولشريعة غيره فهو أخصّ باسم النبوة، ويُسمَّى: رسولًا أيضًا؛ ولهذا قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52].

س: إنزال الزبور على داود والإنجيل على عيسى؟

ج: ...........