07 القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً

قَوْلُهُ: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ، مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26]، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ).

هَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرِيفَةٌ، وَأَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، ضَلَّ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِمَنْ تَدَبَّرَهُمَا، وَشَهِدَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ الَّتِي لَمْ تُغَيَّرْ بِالشُّبُهَاتِ وَالشُّكُوكِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ.

وَقَدِ افْتَرَقَ النَّاسُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ عَلَى تِسْعَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ مَعَانِي، إِمَّا مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الصَّابِئَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ.

وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، خَلَقَهُ اللَّهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ، هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّهِ كَانَ تَوْرَاةً، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ كُلَابٍ.

الشيخ: ابن كلاب من المتكلمين أبو محمد عبدالله بن كلاب.

وَمَنْ وَافَقَهُ، كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ.

الشيخ: أبو الحسن الأشعري في مقاله الأول قبل أن يرجع إلى كلام أهل السنة، يعني يقولون: إنه معنى قائم بالله، وأنَّ الله لا يتكلم بشيءٍ ، وإنما هو معنى قائم بالله، فإن عُبر عنه من طريق الرسل بالعربية صار قرآنًا، وإن عُبر عنه بالعبرانية صار توراةً، وإن عُبر عنه بالسريانية صار إنجيلًا، وإن عُبر عنه بلغة داود كان زبورًا، وهكذا.

وهذا من أبطل الباطل، وأضل الضَّلال، فإنَّ القرآن هو كلام الله مُنزل غير مخلوقٍ، سمعه جبرائيل من الله ، وسمعه محمد من جبرائيل، وألقاه إلى الأمة عليه الصلاة والسلام، فالله يتكلم إذا شاء بالقرآن وغير القرآن، تكلم ويتكلم إذا شاء ، وليس في كلامه نقصٌ ولا عيبٌ، ولا مُشابهة لكلام البشر، بل كذاته، ذاته سبحانه لا تُشبه الذَّوات، وهي قائمة بنفسها، مصرف الأكوان، مُدبر الأكوان بذاته جلَّ وعلا، ولا تُشبه ذاته ذوات المخلوقات، هكذا كلامه وسمعه وبصره، وهذا من صفاته، كلها حق، لا يُشبه فيها صفات البشر، ولكن يُؤتى الناس من جهلهم وضلالهم وقلَّة بصيرتهم، ويُؤتون من عُجمتهم وقلَّة البصيرة وقلَّة العلم، وإلا فالرب من كماله ومن صفات كماله ومن أسباب استحقاقه للعبادة ومن أدلة أنه ربُّ العالمين كونه يتكلم.

وقد عاب الله الأصنام لأنها لا تتكلم، عاب الله الأصنام وآلهة المشركين من الأصنام والكواكب وأشباه ذلك بأنها لا تتكلم، لا ترجع إليهم قولًا، ولا تملك لهم ضرًّا ولا نفعًا، فعابها بهذا، عابها بكونها لا تنطق ولا تتكلم، ولكن أهل الشرك وأهل الباطل وأهل البدع في ضلالٍ وعمًى.

وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ أَزَلِيَّةٌ مُجْتَمِعَةٌ فِي الْأَزَلِ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

الشيخ: وهذا باطل أيضًا، هذا الكلام لا يستقلّ بنفسه، الكلام لا بدَّ له من مُتكلم، حروف ومعانٍ مُستقلة.

س: ............؟

ج: هذا لا يُعقل، ما هنا صوت إلا من مُتكلم، ولا حرف ولا معنى إلا من صاحب معنى، فهم يتكلَّمون عن عالمٍ آخر، لا يعقلون، والله سمَّاه: كلامًا: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وقال: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [الفتح:15].

وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ، لَكِنْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا، وَهَذَا قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.

وَسَادِسُهَا: أَنَّ كَلَامَهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا يُحْدِثُهُ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ، وَهَذَا يَقُولُهُ صَاحِبُ "الْمُعْتَبَرِ"، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ فِي "الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ".

الشيخ: وهذا باطل أيضًا، كلها باطلة ما عدا قولًا واحدًا، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وأنه كلام الله، الله يتكلم إذا شاء، وأنه كلم مَن شاء من رسله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، وأنه أنزل عليهم الكتب التي تكلم بها ، وأنه يُكلم الناس يوم القيامة، ويُكلم أهل الجنة، وكلَّم آدم سابقًا، وهو كلَّم موسى أيضًا، وكلَّم محمدًا ﷺ، وفرض عليه الصَّلوات الخمس، هذا حق، فينبغي ألا تُذكر هذه الأقوال إلا بالرد والإبطال والتَّشنيع على قائليها.

وَسَابِعُهَا: أَنَّ كَلَامَهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى قَائِمًا بِذَاتِهِ هُوَ، مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ.

وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِالذَّاتِ، وَبَيْنَ مَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَصْوَاتِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَمَنْ تَبِعَهُ.

وَتَاسِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ وَمَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِهِ بِصَوْتٍ يُسْمَعُ، وَأَنَّ نَوْعَ الْكَلَامِ قَدِيمٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ قَدِيمًا، وَهَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ.

الشيخ: وهذا هو الحق؛ أن جنس الكلام قديم، الله تكلَّم به، والقرآن من كلامه سبحانه، وهكذا التوراة من كلامه، وهكذا ما يكون يوم القيامة حين يقول لآدم: أخرج بعث النار من كلامه، هكذا ما يقوله لأهل الجنة: يا أهل الجنة، هل رضيتُم؟ وهكذا كل ما يقع في الجنَّة، وحين يقول لأهل النار: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، كل هذا من كلامه .

وَقَوْلُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ) إِنَّ -بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ).

الشيخ: يعني نقول: إنَّ الله واحدٌ لا شريكَ له، ونقول: إنَّ القرآن كلام الله؛ لأنَّ ما بعد القول يكسر: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، ذكر أهلُ العلم بالنَّحو واللُّغة أنَّ "إن" بعد قال ويقول تُكسر.

ثُمَّ قَالَ: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى) وَكَسْرُ هَمْزَةِ "إِنَّ" فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهَا مَعْمُولُ الْقَوْلِ، أَعْنِي: قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ).

وَقَوْلُهُ: (كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا) رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ تَزْعُمُ أَنَّ الْقُرْآَنَ لَمْ يَبْدُ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ، قَالُوا: وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ: كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الْمُضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَانٍ وَأَعْيَانٌ، فَإِضَافَةُ الْأَعْيَانِ إِلَى اللَّهِ لِلتَّشْرِيفِ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ: كَبَيْتِ اللَّهِ، وَنَاقَةِ اللَّهِ، بِخِلَافِ إِضَافَةِ الْمَعَانِي: كَعِلْمِ اللَّهِ، وَقُدْرَتِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَجَلَالِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَكَلَامِهِ، وَحَيَاتِهِ، وَعُلُوِّهِ، وَقَهْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَخْلُوقًا.

الشيخ: وخلاصة هذا أنَّ المضاف إلى الله على قسمين:

أحدهما: معانٍ لا تقوم بذاتها، إنما تقوم بغيرها: كالعلم والكلام ونحو ذلك، فإضافتها إلى الله من باب إضافة الصِّفة إلى الموصوف، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق، بل من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، مثل: كلام الله، علم الله، علو الله، قُدرة الله، هذه إضافة وصفٍ إلى موصوفه، مثل: كلام زيد، كلام عمرو، كل هذا وصف إلى موصوفه.

الثاني: إضافة عينٍ قائمةٍ إلى الله، مثل: بيت الله الكعبة، ومثل: رسول الله، ومثل: ناقة الله، هذه إضافة مخلوقٍ إلى خالقه، إضافة تشريفٍ وتكريمٍ: كقوله في عيسى: إنه روح الله، هذا من إضافة التَّشريف، ومن باب إضافة مخلوقٍ إلى خالقه.

فالأعيان إذا أُضيفت إلى الله فهي من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، وإذا كانت مشرفةً -كبيت الله وناقة الله- فهذا من باب التَّشريف، وإذا كانت غير ذلك فمن باب إضافة المخلوق إلى خالقه، مثل: أرض الله، وسماء الله، يعني: الأرض التي خلقها الله، والسماء التي خلقها سبحانه وتعالى، ويُقال في الخمس لأنَّه مال الله، ويقال في الكعبة على سبيل التَّشريف: بيت الله، فهي إضافة مخلوقٍ إلى خالقه على سبيل التَّشريف والتَّكريم، وهكذا ناقة الله التي هي ناقة صالحٍ.

س: إضافة المعاني تُسمَّى: إضافة؟

ج: إضافة المعاني من باب إضافة صفةٍ إلى موصوفها، وأما إضافة الأعيان فمن باب إضافة المخلوق إلى خالقه.

لكن الأعيان قسمان:

  • أعيان ليس لها تشريف خاصّ، مثل: أرض الله، وسماء الله، هذا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه فقط.
  • وأعيان لها شرف، ولها فضل، هذه إضافتها إلى الله من باب إضافة التَّشريف والتَّكريم وإظهار الفضل، مع كونها إضافة مخلوقٍ إلى خالقه، فهي تجمع بين الأمرين، مثل: ناقة الله، ومثل: رسول الله، ومثل: بيت الله، ومثل مال الخمس: مال الله.
وَالْوَصْفُ بِالتَّكَلُّمِ مِنْ أَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَضِدُّهُ مِنْ أَوْصَافِ النَّقْصِ، قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148].

الشيخ: يعني: عابهم؛ لأنهم عبدوا مَن لا يتكلم، فدلَّ على أنَّ الله يتكلم إذا شاء : أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [طه:89] يعني: العجل، فعابه بأنه لا يرجع قولًا، ولا يتكلم، ولا يملك ضرًّا ولا نفعًا.

فَكَانَ عُبَّادُ الْعِجْلِ مَعَ كُفْرِهِمْ أَعْرَفَ بِاللَّهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لِمُوسَى: وَرَبُّكَ لَا يَتَكَلَّمُ أَيْضًا.

وَقَالَ تَعَالَى عَنِ الْعِجْلِ أَيْضًا: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَعُلِمَ أَنَّ نَفْيَ رُجُوعِ الْقَوْلِ وَنَفْيَ التَّكَلُّمِ نَقْصٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ أُلُوهِيَّةِ الْعِجْلِ.

وَغَايَةُ شُبْهَتِهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَلْزَمُ مِنْهُ التَّشْبِيهُ وَالتَّجْسِيمُ.

فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذَا قُلْنَا أَنَّهُ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ انْتَفَتْ شُبْهَتُهُمْ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يس:65]، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ، وَلَا نَعْلَمُ كَيْفَ تَتَكَلَّمُ.

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21]، وَكَذَلِكَ تَسْبِيحُ الْحَصَا وَالطَّعَامِ، وَسَلَامُ الْحَجَرِ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَا فَمٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الصَّوْتُ الصَّاعِدُ مِن لديه، الْمُعْتَمِدُ عَلَى مَقَاطِعِ الْحُرُوفِ.

الشيخ: "من لديه" يعني: من لدى المخلوق، يعني: ما يلزم من الكلام أن يكون المخلوقُ مثل الخالق، وأن يكون الخالقُ مثل المخلوق، هذا كالحجر يتكلم، كما قال النبيُّ ﷺ أنه يعرف حجرًا بمكة كان يُسلم عليه قبل أن يُوحى إليه، ما يلزم من كون الحجر يتكلم أنه مثل كلامنا، وأنه يُشبهنا، كذلك الجذع حين حنَّ حنينه المعروف لما تركه النبيُّ ﷺ وخطب على المنبر، ما يلزم أن يكون الجذعُ مثل بني آدم، أو مثل الله ، بل الجذع له حنينه، والحجر له حنينه، وهكذا بقية المخلوقات لها كلامها وعلمها وإحساسها وغير ذلك، ولا يلزم من هذا أن يكون الله مُشبهًا لها إذا تكلَّم أو علم أو قدر أو غير ذلك من صفاته ، وإذا قلنا بهذا معناه: لزم نفي جميع الصِّفات، وأن يُجرد سبحانه من جميع الصِّفات، هذا لازم هذا القول الشَّنيع.

س: من لديه أو من لدنه؟

ج: من لدنه، النون حُرفت.

وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا) أَيْ: ظَهَرَ مِنْهُ، وَلَا نَدْرِي كَيْفِيَّةَ تَكَلُّمِهِ بِهِ.

وَأَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: (قَوْلًا)، أَتَى بِالْمَصْدَرِ الْمُعَرِّفِ لِلْحَقِيقَةِ، كَمَا أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى التَّكْلِيمَ بِالْمَصْدَرِ الْمُثْبِتِ النَّافِي لِلْمَجَازِ فِي قَوْلِهِ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ؟!

الشيخ: وهكذا قوله: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، فهو يُبين أنَّ هذا مُنزل من عنده، وأنه صدر منه ابتدأً منه جلَّ وعلا.

وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِأَبِي عَمْرِو ابْنِ الْعَلَاءِ -أَحَدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ: أُرِيدُ أَنْ تَقْرَأَ: "وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى" بِنَصْبِ اسْمِ اللَّهِ؛ لِيَكُونَ مُوسَى هُوَ الْمُتَكَلِّمَ لَا اللَّهُ! فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: هَبْ أَنِّي قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةَ كَذَا، فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟! فَبُهِتَ الْمُعْتَزِلِيُّ.

الشيخ: يعني: لا يمكن في هذا التَّغيير؛ لأنه مفعول مُقدر "وكلَّمه".

س: ..............؟

ج: شبّه عليهم، قد يكون بعضهم عاند من أجل التَّشكيك في الإسلام، وقد يكون بعضُهم مُلحدًا يعرف أنه مُبطل، ولكنه أراد التَّشكيك، وبعضهم لبس عليه، يُشير بهذا إلى اعتقاده الفاسد؛ كيف يُكلم مَن لا يتكلم؟! حتى مَن لا يتكلم لا يكلم الجمادات، لا تخاطب، ما يقال لها: ماذا عندك؟ وماذا قلت؟ وماذا تُريدين؟ لأنَّها تتكلم، فالذي فرَّ منه يلزمه لو قرأ: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا هل موسى جاهلٌ حتى يُكلم مَن لا يتكلم؟! مع أنَّ قوله باطل؛ فالمتكلم هو الله ؛ ولهذا أكَّد كلامه تَكْلِيمًا، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253].

وَكَمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى تَكْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَغَيْرِهِمْ؛ قَالَ تَعَالَى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58].

فَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ، فَإِذَا الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَتَبْقَى بَرَكَتُهُ وَنُورُهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ.

الشيخ: جنس هذا المعنى في الصحيح، وتكليمه أهل الجنة، وقوله: هل رضيتُم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى ربنا؟ ألم تُبيض وجوهنا؟ ألم تُدخلنا الجنة؟ ألم تبعثنا من النار؟ فيقول: ألا أُعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ما هو أفضل يا ربنا؟ فيقول: أُحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا.

الطالب: الحديث السابق المُحشي قال: الحديث ضعيف.

الشيخ: أيش قال؟

الطالب: قال: ضعيف، أخرجه ابن ماجه، وكذا أبو نعيم في "الحلية"، وإسناده ضعيف، كما قال الذهبي في "العلو"، فيه أبو عاصم العباداني، واسمه: عبدالله بن عبيدالله، قال الذهبي: واهٍ. عن الفضل الرقاشي، وهو منكر الحديث كما في "التقريب".

ومنه يتبين أنَّ قول الشيخ أحمد شاكر فيما يأتي: إسناده جيد. غير جيد، وأورده ابنُ الجوزي في "الموضوعات" من رواية ابن عدي، ثم قال: موضوع، الفضل رجل سوءٍ. وتعقبه السيوطي في "اللآلئ" بأن ابن ماجه أخرجه، وهذا لا شيء، وبأنَّ ابن النجار أخرجه من حديث أبي هريرة ونحوه، وفيه سليمان ابن أبي كريمة، قال السيوطي: قال ابن عدي: عامَّة أحاديثه مناكير، فلم أرَ للمُتقدمين فيه كلامًا، قلت: وضعَّفه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل".

قلت: وهذا وإن كان ينفي أن يكون الرقاشي تفرد بالحديث فلا يرفع عنه الضعف. والله أعلم.

الشيخ: لكن يُغني عنه الأحاديث الصَّحيحة، لو أتى بها المؤلفُ لكفى، في "الصحيحين" من الأحاديث الصحيحة ما لو أتى بها المؤلف لكفى، في "الصحيحين" من كلام الله لأهل الجنة ما لا يُحصى، تكليم الله لأهل الجنة ثابت من غير هذا الطريق، وتكليمه لآدم في "الصحيحين"، يقول الله: يا آدم، وغير هذا مما يتعلق بكلامه سبحانه كثير جدًّا.

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُ صِفَةِ الْكَلَامِ، وَإِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ، وَإِثْبَاتُ الْعُلُوِّ، وَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ كَلَامُ الرَّبِّ كُلُّهُ مَعْنًى وَاحِدًا؟! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77]، فَأَهَانَهُمْ بِتَرْكِ تَكْلِيمِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ تَكْلِيمَ تَكْرِيمٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ إِذْ قَدْ أَخْبَرَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ فِي النَّارِ: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].

الشيخ: كل النصوص التي فيها: ولا يُكلمهم، ولا، ولا، معناه فيه تكريم لهم، وفيه خير لهم، بل كلام فيه شرٌّ عليهم، وإلا فهو سبحانه يُكلم الخلقَ كما جاء في حديث "الصَّحيحين": ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمه ربُّه ليس بينه وبينه ترجمان الحديث. فهو يكلم الناس جلَّ وعلا، ولكن أولياءه وأهل طاعته يُكلمهم كلام تكريم، وكلام إحسان، وكلام رضا، وأعداءه وأهل سخطه يُكلمهم كلامًا يضرُّهم ولا ينفعهم، كلام غاضب عليهم، لا ينظر إليهم، ولا يُزكيهم، ولهم عذاب أليم، نسأل الله السَّلامة.

فَلَوْ كَانَ لَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ لَكَانُوا فِي ذَلِكَ هُمْ وَأَعْدَاؤُهُ سَوَاءً، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَخْصِيصِ أَعْدَائِهِ بِأَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ فَائِدَةٌ أَصْلًا.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ": "بَابُ كَلَامِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ"، وَسَاقَ فِيهِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ.

فَأَفْضَلُ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: رُؤْيَةُ وَجْهِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَتَكْلِيمُهُ لَهُمْ. فَإِنْكَارُ ذَلِكَ إِنْكَارٌ لِرُوحِ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى نَعِيمِهَا وَأَفْضَلِهِ الَّذِي مَا طَابَتْ لِأَهْلِهَا إِلَّا بِهِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، وَالْقُرْآنُ شَيْءٌ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ "كُلّ" فَيَكُونُ مَخْلُوقًا! فَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ كُلَّهَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يَخْلُقُهَا الْعِبَادُ جَمِيعَهَا، لَا يَخْلُقُهَا اللَّهُ، فَأَخْرَجُوهَا مِنْ عُمُومِ كَلٍّ، وَأَدْخَلُوا كَلَامَ اللَّهِ فِي عُمُومِهَا، مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، بِهِ تَكُونُ الْأَشْيَاءُ الْمَخْلُوقَةُ، إِذْ بِأَمْرِهِ تَكُونُ الْمَخْلُوقَاتُ، قَالَ تَعَالَى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54]، فَفَرَّقَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا بِأَمْرٍ آخَرَ، وَالْآخَرُ بِآخَرَ، إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ بَاطِلٌ.

وَطَرْدُ بَاطِلِهِمْ: أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ صِفَاتِهِ تَعَالَى مَخْلُوقَةً: كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ صَرِيحُ الْكُفْرِ، فَإِنَّ عِلْمَهُ شَيْءٌ، وَقُدْرَتَهُ شَيْءٌ، وَحَيَاتَهُ شَيْءٌ، فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِ كَلٍّ، فَيَكُونُ مَخْلُوقًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

الشيخ: وهذا شأن أهل الباطل، لازم أقوالهم التَّناقض والباطل المتتابع، والله جلَّ وعلا بيَّن أنه خالق كل شيءٍ، فهو بصفاته هو الخالق، وما عداه مخلوق، فهو سبحانه حي، قيُّوم، متكلم إذا شاء، سميع، بصير، إلى غير ذلك، فهو بصفاته هو الخالق ، هو ربّ العالمين، وما سواه من البشر وغير البشر فهو مخلوق لله عزَّ وجلَّ، فالله هو الخلَّاق، وما سواه مخلوق، والعباد بأفعالهم مخلوقون، العبد بفعله مخلوق، ومن جملة ذلك حسناته وسيئاته، وصلواته، وحركاته في الصلاة، وفي الصوم، وفي غير ذلك مخلوقة، وهكذا سيئاته: زناه وكفره ومعاصيه كلها مخلوقة، وهي منسوبة إليه، والله خلقها جلَّ وعلا مشيئةً وإرادةً كونيةً وقُدرةً كاملةً، وهي منسوبة إليهم؛ لأنهم باشروها وفعلوها.

فهو الخلَّاق وما سواه مخلوق، والفعل خلقه سبحانه وتعالى، والعبد بأفعاله مخلوق: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، وأفعالهم منسوبة إليهم، فهم المصلون، وهم الصائمون، وهم العاصون، وهم الزناة، وهم السَّارقون، وهم الذاكرون، وهم الغافلون، فصفاتهم تُنسب إليهم؛ لأنها أفعالهم، وهم بصفاتهم وأفعالهم مخلوقون لله .

وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ يَقُومُ بِغَيْرِهِ؟! وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْجَمَادَاتِ كَلَامَهُ! وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا خَلَقَهُ فِي الْحَيَوَانَاتِ، ولَا يُفَرَّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ نَطَقَ وَأَنْطَقَ، وَإِنَّمَا قَالَتِ الْجُلُودُ: أَنْطَقَنَا اللَّهُ [فصلت:21]، وَلَمْ تَقُلْ: نَطَقَ اللَّهُ، بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكُلِّ كَلَامٍ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ، زُورًا كَانَ أَوْ كَذِبًا أَوْ كُفْرًا أَوْ هَذَيَانًا! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ طَرَدَ ذَلِكَ الِاتِّحَادِيَّةُ، فَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ:

وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ

وَلَوْ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ أَحَدٌ بِصِفَةٍ قَامَتْ بِغَيْرِهِ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ لِلْبَصِيرِ: أَعْمَى، وَلِلْأَعْمَى: بَصِيرٌ؛ لأنَّ البصير قد قام وصفُ العمى بغيره، وَالْأَعْمَى قَدْ قَامَ وَصْفُ الْبَصَرِ بِغَيْرِهِ!

وَلَصَحَّ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّفَاتِ الَّتِي خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْوَانِ وَالرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَبِمِثْلِ ذَلِكَ أَلْزَمَ الْإِمَامُ عَبْدُالْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ، بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمَ مَعَهُ مُلْتَزِمًا أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ نَصِّ التَّنْزِيلِ، وَأَلْزَمَهُ الْحُجَّةَ، فَقَالَ بِشْرٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِيَدَعْ مُطَالَبَتِي بِنَصِّ التَّنْزِيلِ، وَيُنَاظِرْنِي بِغَيْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَهُ وَيَرْجِعْ عَنْهُ وَيُقِرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ السَّاعَةَ وَإِلَّا فَدَمِي حَلَالٌ. قَالَ عَبْدُالْعَزِيزِ: تَسْأَلُنِي أَمْ أَسْأَلُكَ؟ فَقَالَ بِشْرٌ: اسْأَلْ أَنْتَ، وَطَمِعَ فِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: يَلْزَمُكَ وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثٍ لَا بُدَّ مِنْهَا: إِمَّا أَنْ تَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقُرْآنَ -وَهُوَ عِنْدِي أَنَا كَلَامُهُ- فِي نَفْسِهِ، أَوْ خَلَقَهُ قَائِمًا بِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، أَوْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ؟ قَالَ: أَقُولُ: خَلَقَهُ كَمَا خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا. وَحَادَ عَنِ الْجَوَابِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: اشْرَحْ أَنْتَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَدَعْ بِشْرًا فَقَدِ انْقَطَعَ. فَقَالَ عَبْدُالْعَزِيزِ: إِنْ قَالَ: خَلَقَ كَلَامَهُ فِي نَفْسِهِ، فَهَذَا مُحَالٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ الْمَخْلُوقَةِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ. وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ، فَيَلْزَمُ فِي النَّظَرِ وَالْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ كَلَامُهُ، فَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمُ قَائِلَهُ أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ! وَإِنْ قَالَ: خَلَقَهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ، فَهَذَا مُحَالٌ: لَا يَكُونُ الْكَلَامُ إِلَّا مِنْ مُتَكَلِّمٍ، كَمَا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إِلَّا مِنْ مُرِيدٍ، وَلَا الْعِلْمُ إِلَّا مِنْ عَالِمٍ، وَلَا يُعْقَلُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ يتَكَلّم بذاته. فَلَمَّا اسْتَحَالَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، عُلِمَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلَّهِ.

هَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ عَبْدِالْعَزِيزِ فِي "الْحَيْدَةِ".

الشيخ: وهذا واضح؛ لأنَّ الأمور الثلاثة لا محيدَ عنها؛ فإن قال: إنه قائم بنفسه، وإنه خلقه في نفسه، فالذي في النَّفس ليس هو الكلام، وإنما يُسمَّى: متكلِّمًا إذا نطق وتكلَّم وسمع كلامه، ثم هو ليس محلًّا للحوادث ، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته جلَّ وعلا، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته ، بل هو مُنزَّه عن ذلك، وهو مُستقلٌّ بجميع صفاته جلَّ وعلا.

وإن قال: خلقه قائمًا بنفسه، فالكلام لا يقوم بنفسه، الكلام عرضٌ لا يقوم بنفسه، بل لا بدَّ أن يكون من مُتكلم.

وإن قال: خلقه في غيره، فلزم أن يكون كل كلام للغير كلامًا لله، فعُلم بذلك الصواب: أنه كلامه، وأنه صفته، وأنه ليس واحدًا من هذه الثلاث؛ لم يخلقه في نفسه، ولا خلقه قائمًا بنفسه، ولا خلقه قائمًا بغيره، بل هو كلامه ، يتكلم به إذا شاء، ليس بمخلوقٍ .......

الطالب: عبدالعزيز المكي هو عبدالعزيز بن يحيى الكناني، أحد الفقهاء، من أصحاب الشافعي، قدم بغداد أيام المأمون، وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في خلق القرآن بحضرة الخليفة المأمون، وصنَّف كتاب "الحيدة" أثبت فيه نصَّ مُناظرته لبشر .....، لكن في ثبوت هذه المناظرة نظر؛ فإنه تفرد بروايتها محمد بن الحسن .....، وقد اتهمه الخطيبُ بأنه يضع الحديثَ، وذكر الذهبي أنه هو الذي وضعها. فراجع "الميزان".

وَعُمُومُ كُلٍّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِحَسَبِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ؛ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25]، وَمَسَاكِنُهُمْ شَيْءٌ، وَلَمْ تَدْخُلْ فِي عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ دَمَّرَتْهُ الرِّيحُ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ يَقْبَلُ التَّدْمِيرَ بِالرِّيحِ عَادَةً وَمَا يَسْتَحِقُّ التَّدْمِيرَ.

وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ بِلْقِيسَ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]، الْمُرَادُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُلُوكُ، وَهَذَا الْقَيْدُ يُفْهَمُ مِنْ قَرَائِنِ الْكَلَامِ؛ إِذْ مُرَادُ الْهُدْهُدِ أَنَّهَا مَلِكَةٌ كَامِلَةٌ فِي أَمْرِ الْمُلْكِ، غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إِلَى مَا يَكْمُلُ بِهِ أَمْرُ مُلْكِهَا، وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ.

وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:102] أَيْ: كُلّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ، وَكُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَدَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ حَتْمًا، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ الْخَالِقُ تَعَالَى، وَصِفَاتُهُ لَيْسَتْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَصِفَاتُهُ مُلَازِمَةٌ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، لَا يُتَصَوَّرُ انْفِصَالُ صِفَاتِهِ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ الْإِشَارَةُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ: (مَا زَالَ قَدِيمًا بِصِفَاتِهِ قَبْلَ خَلْقِهِ)، بَلْ نَفْسُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَخْلُوقًا، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [الزخرف:3]، فَمَا أَفْسَدَهُ مِنِ اسْتِدْلَالٍ! فَإِنَّ (جَعَلَ) إِذَا كَانَ بِمَعْنَى "خَلَقَ" يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:30- 31].

وَإِذَا تَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَى "خَلَقَ"؛ قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا [النحل:91]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر:91]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [الإسراء:39]، وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19]، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. فَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.

الشيخ: يعني: بيَّناه، وأنزلناه قرآنًا عربيًّا، يعني: أنزلناه بهذا الوصف، وتكلمنا به بهذا الوصف بلغة العرب؛ لأنَّ كلَّ رسولٍ يُرسَل بلسان قومه، فالله جعل كتابه بلسان العرب ليفقهوه ويفهموه وتقوم عليهم الحُجَّة به، فهو كلامه ، فأنزل بلغة اليهود التوراة -توراة بني إسرائيل- والتي ينطق بها النَّصارى الإنجيل، فأنزل كل كتابٍ باللغة التي ينطق بها القوم الذين أُرسل إليهم النبي، فلما كانت العربُ لها لسان والرسول منهم نزل بلُغتهم، وإن كان يعمّهم ما يعمّ غيرهم، فهو منهم وبينهم، فنزل بلُغتهم، ثم تترجم المعاني من اللُّغة التي نزل بها إلى اللُّغات الأخرى للتفسير والتَّوجيه والإرشاد وإقامة الحُجَّة.

س: ما معنى: إذا كان مُتعدٍّ لمفعولين؟

ج: يعني: بمعنى صيَّر وأنزل ونحو ذلك، ليس بمعنى: خلق، قد يقول قائل: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224] أي: تخلقوا الله؟ هذا لا يقوله عاقل: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [الزخرف:19] جعلوا الملائكة أي: خلقوا الملائكة إناثًا؟ لا يصلح.

المقصود أنه إذا كان مُتعدٍّ لمفعولين فمعناه التَّصيير والاعتقاد: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ يعني: اعتقدوهم وصيَّروهم في أذهانهم وفي اعتقادهم كذا وكذا: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ يعني: لا تُصيروا الله في أيمانكم، فتحتجوا بالأيمان التي تقولونها ضدّ الخير، تأتي صيَّر بمعنى: اعتقد، على حسب المقال.

وَمَا أَفْسَدَ اسْتِدْلَالَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشَّجَرَةِ، فَسَمِعَهُ مُوسَى مِنْهَا! وَعَمُوا عَمَّا قَبْلَ هَذِهِ الْكَلِمَة وَمَا بَعْدَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ، وَالنِّدَاءُ هُوَ الْكَلَامُ مِنْ بُعْدٍ، فَسَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ النِّدَاءَ مِنْ حَافَّةِ الْوَادِي، ثُمَّ قَالَ: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَيْ: أَنَّ النِّدَاءَ كَانَ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ عِنْدِ الشَّجَرَةِ، كَمَا يَقُولُ: سَمِعْتُ كَلَامَ زَيْدٍ مِنَ الْبَيْتِ، يَكُونُ "مِنَ الْبَيْتِ" لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، لَا أَنَّ الْبَيْتَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ!

وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي الشَّجَرَةِ لَكَانَتِ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَة: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، وَهَلْ قَالَ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْرُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟

وَلَوْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَدَا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ لَكَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] صِدْقًا، إِذْ كُلٌّ مِنَ الْكَلَامَيْنِ عِنْدَهُمْ مَخْلُوقٌ قَدْ قَالَهُ غَيْرُ اللَّهِ!

وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ: أَنَّ ذَاكَ كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الشَّجَرَةِ، وَهَذَا كَلَامٌ خَلَقَهُ فِرْعَوْنُ!

فَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَاعْتَقَدُوا خَالِقًا غَيْرَ اللَّهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الشيخ: يعني أنهم في أنفسهم فرَّقوا فقالوا: ذاك كلام الشجرة، وهذا كلام فرعون، فتناقضوا؛ يعني: يلتزمون أنه كلام الشجرة، فإذا قالوا: هو بنطقها، وهو كلام الله، لزم أن يكون ينطق فرعون وهو كلام الله أيضًا، فلا يُسمَّى: كلام الشجرة لو وُجد، كما أنَّ كلام فرعون وهو كلامه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] وقد كذب في ذلك.

وإذا قالوا: إنه كلام الله ولو صدر من الشجرة، لزمهم أن يكون كلامُ الله ما قاله فرعون كذلك، فهذا مثل هذا.

ومعلوم أنَّ الكلام الذي صدر من الشجرة في الوادي هو كلام الله ، وليس كلام الشجرة، ولا من نفس الوادي، وإنما هو كلام الله، فهكذا ما صدر من الرب من القرآن الذي أُنزل على محمدٍ، والتوراة التي أُنزلت على موسى؛ هو كلام الله ، وليس صادرًا من موسى، ولا من محمدٍ، ولا من غيرهم من المخلوقين.

أما ما يصدر من فرعون أو من زيدٍ أو من عمرٍو فهو منسوبٌ إليهم، فيلزمهم إذا قالوا: إن الشجرة قال: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ [القصص:30] أن ينسبوا ما قاله فرعون إلى الله وأنه كلامه، إذا كان كلام الله ففرعون صادق؛ لأنه كلام الله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى؛ لأنَّ الله هو ربنا الأعلى، وهو لا يقول هذا، إنما يُريد نفسه أنه هو ربهم الأعلى ........

وَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ: أَنَّ ذَاكَ كَلَامٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الشَّجَرَةِ، وَهَذَا كَلَامٌ خَلَقَهُ فِرْعَوْنُ! فَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَاعْتَقَدُوا خَالِقًا غَيْرَ اللَّهِ.

الشيخ: بهذا يستقيم ..... يعني: أنهم في أنفسهم فرَّقوا فقالوا: ذاك كلام الشجرة، وهذا كلام فرعون، فتناقضوا.

وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

س: قوله تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ [القصص:30] المُناداة من شاطئ الوادي الأيمن تُشير إلى العلو؟

ج: سمعها موسى من هذه الناحية، وهو كلام الله ، خاطبه الله من تلك النَّاحية، وليس كلام الناحية، ولا كلام الشجرة، ولا كلام الوادي، وهو قادر على كل شيءٍ، وأن يُسمعه موسى من أي مكانٍ، كما أسمعه محمدًا ﷺ مما جاء به جبرائيل، وتلاه عليه جبرائيل، فجبرائيل مبلغ، وكذلك كونه سمعه من ذلك المكان هذا من قُدرة الله جلَّ وعلا، وهو كلام الله بلفظه.

س: الذين يستدلون بهذه الآية على عدم العلو؟

ج: هو ممكن أن يقال: كما أنه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، ينزل للقضاء بين عباده، يمكن أن يقال: إنه نزل نزولًا خاصًّا يليق به ، وخاطبه من هناك على هيئةٍ يعلمها .

ويمكن أن يقال: إنه صدر الكلام من الله جلَّ وعلا وتكلَّم به وهو فوق العرش، وظهر لموسى من ذلك المكان، سواء كان بيد ملك تكلَّم مُبلِّغًا عن الله ، فيكون نطق به الملك وتكلَّم به الملك مُبلِّغًا، كما نطق به جبرائيل مُبلِّغًا، وكما بلغنا محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فهو كلام الله من حيث الابتداء، وكلام الرسول أو جبرائيل أو غيره من الملائكة من جهة التَّبليغ، كما جاءت به السنة في النزول.

فبقي أن يُقال: إنه كلام الله تكلَّم به، ولم يُشاهده موسى، ولكنه سمع الكلام من ذلك الجانب بإذن الله ، سواء كان ذلك الجانب ملكًا تكلَّم هناك وسمعه موسى، أو هو نزول خاصّ كنزوله إلى السماء الدنيا، ونزوله يوم القيامة نزولًا خاصًّا، ولا يلزم منه عدم العلو، فإن النزول الخاصَّ الذي يظهر الله به يوم القيامة لا يُنافي علوه وفوقيَّته ، كما أنَّ نزوله إلى السماء الدنيا لا يُنافي علوه وفوقيَّته، فهو فوق العرش، والنزول الذي أخبر به عن نفسه في السماء الدنيا، والنزول الذي يكون يوم القيامة لفصل القضاء لا يُنافي العلو، فالعلو ثابت لله على الوجه اللائق به ، وهذا النزول الذي أخبرنا به أيضًا لا نُكيفه، ولا نعرف كيفيته، قد يكون نزولًا خاصًّا حصل به ظهور كلامٍ من ذلك الجانب مع علوه، فهو لا يُشابه المخلوقين.

ولا يلزم على صفات المخلوقين إذا صار في مكانٍ لزم خلو المكان الآخر، هذا يلزم المخلوقين، أما في حقِّه سبحانه فلا يلزم؛ لأنه ليس مثل المخلوقين، ولا صفاته مثل صفات المخلوقين، فهو سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا كما يشاء، وهو فوق العرش ، نزوله يليق به، لا يعلم كيفيته إلا هو ، كذلك نزوله يوم القيامة للقضاء بين عباده نزولًا يليق بجلاله وعظمته، لا نعلم كيفيَّته.

وقد راجعتُ كلام أهل التفسير في قصة موسى والنِّداء في سورة القصص، وفي سورة طه، وفي سورة مريم، ولم أجد كلامًا شافيًا واضحًا في هذا، وإنما عموم وإطلاقات ليس فيها الكلام الشَّافي.

فالمقام يحتاج إلى مزيدٍ من العناية للوقوف على الحقِّ في قصة موسى وخطاب الله له في السور الثلاث: في سورة طه، والقصص، ومريم، ولكن فيما يظهر ويتبادر هو هذا؛ أنه أمر الله له بذلك المكان من ناحية الوادي، ويكون هذا من تبليغ ملكٍ قد بلغه؛ كما بلَّغ جبرائيل، وكما بلَّغ غيرُه من الرسل، بعض الملائكة قد ينزلون بأشياء، وقد يكون نزولًا خاصًّا سمعه موسى ولم يره، ولما طلب الرؤية قال: انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143]، فسمع الكلام ولم يرَ الذات، وهذا النزول خاصٌّ، الله أعلم بكيفيته: هل هو نزول بالذات ولا يُنافي العلو الذي هو في الغالب وهو مُستقر؟ أم هو نزول بمعنى: إنزال ملكٍ تكلم بكلامه وأسمعه موسى؟

س: الذي يظهر أنَّ موسى عليه السلام سمع كلام الله بغير وحيٍ، وهذه خاصية موسى عليه السلام؛ أنه كليم الرَّحمن؟

ج: ليس بلازمٍ، سمع كلام الله جلَّ وعلا، وليس بلازمٍ من جهة الصَّحاري، قد يكون سمعه في مواضع أخرى، وهذا يصدق عليه أنه سمع كلام الله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] مثلما كلَّم محمدًا ﷺ بواسطةٍ، لا يلزم من هذا أن يكون رؤيةً أو ذاتًا حضرت إليه، المقصود أنه سمع الكلام: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا، سواء من فوق، أو من أي مكان، كما أنَّ محمدًا سمع كلام الله وهو فوق السَّماوات حين فرض الله عليه الصَّلوات الخمس، ولم يرَ ربَّه، فلا يلزم من الكلام الرُّؤية.

س: لا تلازم بين الكلام وبين النُّزول، نقول: إنَّ موسى سمع كلام الله وهو فوق العرش، وأظهره الله له فسمعه من حافة الوادي؟

ج: الله أعلم، لا تلازم بين الكلام وبين النزول، وهذا ممكن، وهو ظاهر كلام السلف، لا يلزم من ذلك النزول عن العرش، ولا مُفارقة للعرش، كما قالوا في غير هذا في مسألة النزول إلى السماء الدنيا، ولكن كلامهم على الصِّفات ليس بواضحٍ كما ينبغي، فإنهم ردُّوا على الجهمية والمبتدعة جميعًا، ولكن ليس هناك جواب واضح، كما يظهر لي في سورة طه ومريم والقصص في هذا الكلام الذي سمعه موسى، فهو كلام الله بلا شكٍّ، ولكن هل هو الكلام الذي تكلَّم به سبحانه فوق العرش وسمعه موسى من هذه الناحية كما هو ظاهر كلامهم؟ أم هناك كيفية أخرى حصل منها هذا الكلام، كما يُقال في مسألة النزول إلى السماء الدنيا؟ هذا هو محل النَّظر والبحث.

س: المُؤوِّلة استدلوا بهذه الآية على نفي العلو؟

ج: قد احتجُّوا بها على نفي العلو، ولكن لا يلزم من ذلك، كما لا يلزم من نزوله إلى السماء الدنيا نفي العلو، فالعلو حاصلٌ، وما يقع من نزولٍ إلى السماء الدنيا، أو نزولٍ يوم القيامة والمجيء يوم القيامة لا يُنافي العلو.

فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَهُ: إِمَّا جِبْرَائِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ.

قِيلَ: ذِكْرُ الرَّسُولِ مُعَرِّفٌ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ مُرْسِلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ أَوْ نَبِيٍّ، فَعُلِمَ أَنَّهُ بَلَّغَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ بِهِ، لَا أَنَّهُ أَنْشَأَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ.

وَأَيْضًا فَالرَّسُولُ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ جِبْرِيلُ، وَفِي الْأُخْرَى مُحَمَّدٌ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلتَّبْلِيغِ، إِذْ لَوْ أَحْدَثَهُ أَحَدُهُمَا امْتَنَعَ أَنْ يُحْدِثَهُ الْآخَرُ.

وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ: رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان:18] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي أُرْسِلَ بِتَبْلِيغِهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ، بَلْ هُوَ أَمِينٌ عَلَى مَا أُرْسِلَ بِهِ، يُبَلِّغُهُ عَنْ مُرْسِلِهِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَّرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ بَشَرٌ، فَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَنْشَأَهُ؛ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: أَنَّهُ قَوْلُ بَشَرٍ، أَوْ جِنِّيٍّ، أَوْ مَلَكٍ.

الطالب: قال الشيخ أحمد شاكر: الآية التي ذكرها الشارح: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40، التكوير: 19] جاءت مرتين: في سورة الحاقة، وليس فيما بعدها الوصف بوصف أمين، والأخرى في سورة التكوير ثم بعدها: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:20- 21].

تعبير الشارح بقوله: وأيضًا فَقَوْلُهُ: رَسُولٌ أَمِينٌ [الدخان:18] فيه شيء من التساهل، لم يرد به ..... التلاوة، وإنما أراد المعنى فقط، ولو قال: وأيضًا فوصف الرسول بأنه أمين كان أدق وأجود.

الشيخ: كلامه صحيح.

وَالْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا، لَا مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا. وَمَنْ سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ ...

قَالَ: هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ.

وَمَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرئٍ مَا نَوَى قَالَ: هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ.

وَإِنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2- 5] قَالَ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُ خَبَرُ ذَلِكَ، وَإِلَّا قَالَ: لَا أَدْرِي كَلَامُ مَنْ هَذَا؟ وَلَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ لَكَذَّبَهُ.

وَلِهَذَا مَنْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا يَقُولُ لَهُ: هَذَا كَلَامُ مَنْ؟ هَذَا كَلَامُكَ أَوْ كَلَامُ غَيْرِكَ؟

وَبِالْجُمْلَةِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ كُلُّهُمْ -مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ- مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ، أَوْ أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ، وَمَتَى شَاءَ، وَكَيْفَ شَاءَ، وَأَنَّ نَوْعَ الْكَلَامِ قَدِيمٌ؟

الشيخ: والكلام الأخير هو كلام السلف، الله يتكلم إذا شاء، متى شاء، وليس معنى واحدًا، بل هو معانٍ؛ فمعاني آيات فصلت غير معاني: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ [النساء:23]، هكذا هو معانٍ متعددة، أنزله الله جلَّ وعلا لبيان الحقِّ للناس، والتشريع للناس، وإرشادهم إلى ما ينفعهم.

وهكذا ما جاء في التَّوراة، وما جاء في الإنجيل كلام متنوع، فالذي يتعلق بالقصص عن الأمم معنى، والذي يتعلق بتحريم المحرمات معنى، والذي يتعلق بالأوامر والنَّواهي معنى، والذي يتعلق بالجنَّة له معنى، والذي يتعلق بالنار له معنى، فمن قال: "إنه معنى واحد" فقد أعظم على الله الفرية، وقد أتى بقولٍ لا وجهَ له عند العقلاء، بل هو من أكذب الأقوال وأضلّها، فليس يقول عاقل: إن قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2- 3] مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، ولا يقول عاقل: إن قوله: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] مثل قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى [الزمر:21]، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40]، وما أشبه ذلك.

فهو معانٍ متنوعة، أرسل الله بها أنبياءه ورسله لإرشاد البشر وتوجيه البشر إلى ما فيه نجاتهم وسعادتهم، وأكمل هذه الكتب وأعظمها: القرآن العظيم، فهو أشملها وأشرفها، وأكثرها وأعظمها إعجازًا.

وَقَدْ يُطْلِقُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْقُرْآنِ: أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلَقٍ مُفْتَرًى مَكْذُوب.

الشيخ: للتلبيس؛ حتى يظنَّ الجاهلُ أنه مُوافق لهم.

بَلْ هُوَ حَقُّ وَصِدْقٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

 

س: لو قيل: إنَّ قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] إنَّ الرسول قاله من عنده؛ لكان أولى أن يُقال: إن جبريل أيضًا قاله من عند نفسه؟

ج: لا يستقيم هذا؛ لأنَّ الله أخبر عن هذا وهذا، فخبر عن الرسولين، ثم لا يقال: هذا قول الرسول، قول محمد، قول جبريل؛ لأنَّ الرسول مُبلغ عن المرسل.

وَالنِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي كَوْنِهِ مَخْلُوقًا خَلَقَهُ اللَّهُ، أَوْ هُوَ كَلَامُهُ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَقَامَ بِذَاتِهِ؟

وَأَهْلُ السُّنَّةِ إِنَّمَا سُئِلُوا عَنْ هَذَا، وَإِلَّا فَكَوْنُهُ مَكْذُوبًا مُفْتَرًى مِمَّا لَا يُنَازِعُ مُسْلِمٌ فِي بُطْلَانِهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَشَايِخَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اعْتِقَادَهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ لَمْ يَتَلَقَّوْهُ لَا عَنْ كِتَابٍ وَلَا عن سُنَّةٍ، وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ أَنَّ عَقْلَهُمْ دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ تَلَقَّوْا مِنَ الْأَئِمَّةِ الشَّرَائِعَ.

وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى فِطَرِهِمُ السَّلِيمَةِ وَعُقُولِهِمُ الْمُسْتَقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ، وَلَكِنْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ أُغْلُوطَةً مِنْ أَغَالِيطِهِ فَرَّقَ بِهَا بَيْنَهُمْ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176].

الشيخ: وفي هذا المعنى ما رواه مسلم في "الصحيح" عن عياض بن حمار المجاشعي، عن النبي ﷺ أنه قال: يقول الله : إني خلقتُ عبادي حُنفاء، فاجتالتهم الشَّياطين عن دينهم، وأمرتهم أن يُشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم.

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إِذَا شَاءَ، كَيْفَ شَاءَ، وَأَنَّ نَوْعَ كَلَامِهِ قَدِيمٌ.

الشيخ: معنى "نوع كلامه قديم" ليس كل الكلام قديمًا، جنس الكلام ونوع الكلام قديم، لم يزل يتكلم ، لكن ليس جميع الكلام قديمًا، بل هناك كلام صار وتكلم به الربُّ بعد الذي تكلم به ، مثل: كلامه مع موسى، مثل: كلامه مع محمد، مثل: كلامه مع آدم، ومثل: كلامه يوم القيامة للناس وفي الجنة، كل هذا كلام جديد، وهذا معنى قوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2] عند جمعٍ من أهل العلم: "محدث" يعني: جديد، نزل وصار بعد أن لم يكن، تكلم الله به أخيرًا، ولم يتكلم به سابقًا.

وأما مَن قال: إنَّ هذا الكلام كله قديم، وأن المعنى القائم بالله قديم، ثم أنزله بعد ذلك، هذا من أقبح الغلط والضَّلال، فالله جلَّ وعلا لم يزل يتكلم إذا شاء ، ولم يزل يقول متى شاء، وكيف شاء ، فليس بأخرس لا يتكلم، ولو كان كذلك لكان عيبًا وقدحًا في إلهيته ، وقد عاب الله الأصنام بأنها لا تتكلم، ولا تعي، ولا تفهم، ولا تنفع، ولا تضرّ.

س: من قال: إنه قديم، بمعنى: أنَّ الله يعلم ما سيتكلم به؟

ج: هو يعلم كل شيء ، لكن ليس المعنى هكذا، يعلم ما يكون في الجنة، ويعلم ما يكون يوم القيامة، ولكن العلم غير الوجود، مثلما أنه يعلم أعمال العباد، ويعلم الشقي والسعيد، والصالح من الفاسد، والموحد من غيره، لكن لا يُؤاخذهم بهذا العلم حتى يعملوا، فإذا عملوا تعلَّق بذلك الثواب والعقاب، فهو يعلم أنَّ أبا لهب شقي، وأن أبا جهل شقي، وأن أبا بكر الصديق سعيد، ولكن بعدما وُجد منهم هذا استحقَّ مَن أطاع الثواب، واستحق مَن عصى العقاب، فهو لا يُؤاخذ بما علم، ولكن يُؤاخذ بما فعله المكلَّف بعد ذلك.

س: هل "القديم" من اسماء الله؟

ج: ليس من أسماء الله المعروفة، ولكن يُؤتى به للرد على مَن قال بخلق القرآن، هذا المقصود به، يؤتى به من باب الرد، مثلما يقال: شيء وموجود؛ للرد على مَن أنكر وجوده.

س: استعمل كثيرًا؟

ج: في كلام أهل البدع الغالب، معنى "القديم" لا يلزم من القدم الكلي الأزلية، كل شيء مضى عليه دهرٌ حتى صار بعد شيءٍ جديدٍ قيل له: قديم، كما قال تعالى: كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] إذا أتى العرجون الجديد، وهكذا يقال: ثوب قديم، إذا توسخ وحلَّ وضعف؛ ولهذا جاء في النصوص الأول، والأول الذي لا يسبقه شيء: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الحديد:3].

س: القيُّوم؟

ج: القيوم الذي لم يزل كذلك، الأزلي والمستقبل: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255].

وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ مَكْتُوبٌ، وَفِي الْقُلُوبِ مَحْفُوظٌ، وَعَلَى الْأَلْسُنِ مَقْرُوءٌ، وَعَلَى النَّبِيِّ ﷺ مُنَزَّلٌ، وَلَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، والقرآن غير مخلوقٍ.

الشيخ: يعني: مهما كان التَّصرف في الصدور، أو في الصحف، أو من التلاوة، كله كلام الله لا يختلف، المحفوظ في الصدور هو كلام الله، والمسموع هو كلام الله، والمقروء من القارئ كلام الله، والمكتوب كلام الله المنزل، هو كلام الله جلَّ وعلا لكن نفس صوت المخلوق، لفظ المخلوق الذي خلقه الله، هذا هو لفظه بالمخلوق، أما المصوت به والملفوظ به فهو كلام الله ، وأصواتنا مخلوقة مثلما قال القحطاني: أصواتنا واللَّفظ مخلوقان.

س: ذات القرآن يُقال: منزل؟

ج: يقال: منزل، ويقال: ملفوظ به، ويقال: مكتوب، ويقال: محفوظ.

وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ فِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ إِخْبَارًا عَنْهُمْ، وَكَلَامُ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ مَخْلُوقٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُهُمْ، وَسَمِعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَلَّمَ مُوسَى كَلَّمَهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا خِلَافُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ: يَعْلَمُ لَا كَعِلْمِنَا، وَيَقْدِرُ لَا كَقُدْرَتِنَا، وَيَرَى لَا كَرُؤْيَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُ لَا كَكَلَامِنَا. انْتَهَى.

فَقَوْلُهُ: (وَلَمَّا كَلَّمَ مُوسَى كَلَّمَهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ) يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ حِينَ جَاءَ كَلَّمَهُ، لَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ أَزَلًا وَأَبَدًا يَقُولُ: يَا مُوسَى، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، فَفُهِمَ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِهِ: أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُسْمَعَ، وَإِنَّمَا يَخْلُقُ اللَّهُ الصَّوْتَ فِي الْهَوَاءِ. كَمَا قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَغَيْرُهُ.

الشيخ: هذه أشياء زيَّنها الشيطانُ لبعض الناس؛ فقالوا: إنَّ هذا الملفوظ حكاية عن كلام الله، وعبارة عن كلام الله، وكلام الله معنى قائم بالله، هذا من أقبح الكلام وأكذبه، فالكلام القائم بالذات غير الكلام الذي يُسمع، وكلام الله سمعه أنبياؤه: سمعه موسى، سمعه ..... النبي ﷺ لما عُرج به إلى السماء، ويسمعه الناس يوم القيامة، يسمعه أهل الجنة، غير المعنى القائم بالله.

وَقَوْلُهُ: (الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ يَزَلْ) رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ أَنَّهُ حَدَثَ لَهُ وَصْفُ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا.

وَبِالْجُمْلَةِ: فَكُلُّ مَا تَحْتَجُّ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ إِذَا شَاءَ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَهُوَ حَقٌّ يَجِبُ قَبُولُهُ.

وَمَا يَقُولُ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ، وَالصِّفَةُ لَا تَقُومُ إِلَّا بِالْمَوْصُوفِ. فَهُوَ حَقٌّ يَجِبُ قَبُولُهُ وَالْقَوْلُ بِهِ.

فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِمَا فِي قَوْلِ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الصَّوَابِ، وَالْعُدُول عَمَّا يَرُدُّهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ مِنْ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا.

فَإِذَا قَالُوا لَنَا: فَهَذَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْحَوَادِثُ قَامَتْ بِهِ.

قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ مُجْمَلٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ قَبْلَكُمْ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهَذَا الْمَعْنَى بِهِ تَعَالَى مِنَ الْأَئِمَّةِ؟ وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، وَنُصُوصُ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا، مَعَ صَرِيحِ الْعَقْلِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ خَاطَبُوا النَّاسَ وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَالَ وَنَادَى وَنَاجَى وَيَقُولُ، لَمْ يُفْهِمُوهُمْ أَنَّ هَذِهِ مَخْلُوقَاتٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، بَلِ الَّذِي أَفْهَمُوهُمْ إِيَّاهُ: أَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ، وَالْكَلَامُ قَائِمٌ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَقَالَهُ، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ: "وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى"، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ خِلَافَ مَفْهُومِهِ لَوَجَبَ بَيَانُهُ، إِذْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ.

وَلَا يُعْرَفُ فِي لُغَةٍ وَلَا عَقْلٍ قَائِلٌ مُتَكَلِّمٌ لَا يَقُومُ بِهِ الْقَوْلُ وَالْكَلَامُ، وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنَ التَّشْبِيهِ، فَلَا يُثْبِتُوا صِفَةً غَيْرَهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: يَعْلَمُ لَا كَعِلْمِنَا، قُلْنَا: وَيَتَكَلَّمُ لَا كَتَكَلُّمِنَا، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ.

الشيخ: وإن زعموا أنهم فرُّوا من ذلك حذرًا من التَّشبيه فلا يُثبتوا صفة غيره، يعني: فلينتهوا عن هذا الشيء.

يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فرُّوا منه هم وغيرهم، هكذا كلهم إذا قالوا: إنا نفينا الكلامَ لئلا يُشابه المخلوقين! قيل لهم: أنتم أثبتم شيئًا، ماذا أثبتم؟ أثبتم العلم؟ هل علمه كعلم المخلوقين؟ قالوا: لا يُقاس الكلام كذلك، أثبتم إرادةً؟ قالوا: نعم، هل إرادته مثل إرادة المخلوقين؟ قالوا: لا، فهو كذلك الكلام، وهكذا الاستواء، وهكذا الرحمة، وهكذا الغضب، وهكذا الكراهة، أهل السنة والجماعة يُثبتون صفاته، لكن على وجهٍ لا يُساويه غيره ، كما قال : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11]، هذه آيات عظيمة محكمة قاطعة تبطل شبهة المشبهين، وضلال الضَّالين، وتشبيه الملبسين، نسأل الله العافية.

س: قولهم هذا يلزم حلول الحوادث بالرب ، وهذا نفي بتخصيص؟

ج: هذا كلام مجمل، إذا قيل بالحوادث: إنها الصِّفات، قيل: هذه الصِّفات، والصِّفات ثابتة لله، قد يكون لها حوادث لا أصلَ لذلك للتدليس والتَّلبيس.

وإذا أردتُم بالحوادث أن صفات المخلوقين لا تقع به، وأن ما يقع بالمخلوقين من النَّقص لا يحلّ بالله: من بكاءٍ، ومن كلامهم هم، ومن أفعالهم هم، ومن دمائهم، وما يتعلق بالمخلوقين؛ فلا حرج.

س: أو أنهم قصدوا شيئًا كان مُتَّصفًا قبل ذلك؟

ج: المقصود جنس الشيء الذي لا يليق به ، وإلا فهو يتكلم متى شاء ، فالحوادث لها معنيان: حوادث من صفات المخلوقين، هذه لا تحل به . وحوادث معناها صفات تتجدد، يفعلها إذا شاء، خلق آدم بعد أن لم يخلقه، هذا وصف الخلق، كما خلق السَّماوات قبل ذلك، وتجدد خلق آدم، ثم خلق بعد ذلك غير آدم، هذا وصف يتجدد، وهكذا الكلام؛ تكلم قبل خلق آدم، وتكلم حين خلق آدم، وتكلم مع موسى، وتكلم مع محمدٍ، كل هذه صفات متجددة.

س: يقصد مَن بالكلام على هذا؟

ج: الأشاعرة هم المعروفون بهذا، وإلا فالمعتزلة لا يُثبتون شيئًا من الصِّفات أبدًا، لكن المعروف بهذا هم الأشاعرة.

س: ألا يُثبتون الكلام؟

ج: يُثبتونه، لكن لهم فيه بعض التأويل؛ يُثبتون الصِّفات السبع، لكن يقولون: حكاية، ليس الملفوظ كلام الرب، لكنه حكاية عن كلام الرب. فيجعلون كلام الرب المعنى القائم بذاته، وهذا باطل، وهكذا الكلابية مثلهم؛ اختلفوا في اللفظ، الكلابية قالوا: حكاية أو عبارة، والأشعرية قالوا القول الثاني.

وَهَلْ يُعْقَلُ قَادِرٌ لَا تَقُومُ بِهِ الْقُدْرَةُ، أَوْ حَيٌّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَيَاةُ؟ وَقَدْ قَالَ ﷺ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ أَنَّهُ ﷺ عَاذَ بِمَخْلُوقٍ؟ بَلْ هَذَا كَقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَكَقَوْلِهِ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ، وَكَقَوْلِهِ: وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا، كُلُّ هَذِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا، وَإِنَّمَا أُشِيرُ إِلَيْهَا هُنَا إِشَارَةً.

الشيخ: رحمه الله، وجزاه الله خيرًا، وهذا من كلام ابن كثيرٍ، قال في مواضع: قال شيخنا ابن كثير، فهو من كلام ابن كثيرٍ، قد اعتنى به، وسار على نهجه.

تكلم على حديث: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ؟

الطالب: نعم: صحيح؛ رواه أحمد وابن السني عن عبدالرحمن بن حنبش مرفوعًا بسندٍ صحيحٍ.

الشيخ: ............

وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ، وَالتَّعَدُّدُ وَالتَّكَثُّرُ وَالتَّجَزُّؤُ وَالتَّبَعُّضُ حَاصِلٌ فِي الدَّلَالَاتِ، لَا فِي الْمَدْلُولِ.

وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ مَخْلُوقَةٌ، وَسُمِّيَتْ كَلَامَ اللَّهِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ وَتَأَدِّيهِ بِهَا، فَإِنْ عُبِّرَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ قُرْآنٌ، وَإِنْ عُبِّرَ بِالْعِبْرِيَّةِ فَهُوَ تَوْرَاةٌ، فَاخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ لَا الْكَلَامُ.

قَالُوا: وَتُسَمَّى هَذِهِ الْعِبَارَاتُ كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا!

وَهَذَا الْكَلَامُ فَاسِدٌ، فَإِنَّ لَازِمَهُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء:32] هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة:43]، وَمَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِي هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ! وَمَعْنَى سُورَةِ الْإِخْلَاصِ هُوَ مَعْنَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1].

الشيخ: يحتمل هذا المعنى، وعلى كل حالٍ هذا قول فاسد، القول بأنَّ كلام الله معنى قائم بالله، وأنه يختلف باختلاف الألفاظ والعبارات والدلائل، هذا من أفسد الأقوال شرعًا وعقلًا؛ فإنَّ الواحد منا لو كان كلامه لا يتغير، بل هو كلام واحد؛ لكان نقصًا في حقِّه، وكان آية عبرة؛ لأنَّ المعاني تختلف، وتختلف ألفاظها ودلائلها، فالزعم بأنَّ الكلام معنى واحد قائم بالله، وإنما تختلف عنه التَّعابير! هذا من أفسد الأقوال.

ثم هو يحتمل أن يكون معنى الكلام واحدًا، كما قال الشارحُ، فيكون معنى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] في زعم هؤلاء هو معنى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، وهو معنى: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2]، وهذا لا يقوله عاقل، مَن تأمَّل ما يقول يقف على هذا، إنما يقوله مَن لا يعقل.

والمعنى الثاني أن يقال: إن جميع الكتب مُتَّحدة في المعنى، وأن آية الغسل في القرآن موجودة في التوراة، وفي الإنجيل، وفي الزبور، وغير ذلك، وهكذا تبت، وهكذا والعصر، فإن عبر عن هذه السور وهذه المعاني بالعربية صار قرآنًا، وإن عبَّر عنها بالعبرانية صارت توراةً، وهكذا.

وهذا أيضًا فاسد، وإنه يلزم عليه أن تكون شرائعنا شرائعهم، وأن يكون ما أُمرنا به هو ما أُمروا به، وما نُهينا عنه هو ما نهوا عنه، والله يقول: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، فيكون في الفاتحة نظيره في التَّوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في القرآن مثلها.

فعُلم بهذا أن هذا القول فاسد من جميع الوجوه، لا من جهة اتِّحاد معنى هذا الكلام، ولا من جهة تنوع الكلام، فهو فاسد.

والصواب أنَّ الله جلَّ وعلا يتكلم إذا شاء، وأن التوراة غير الإنجيل، وأن الإنجيل غير الزبور، والزبور غير القرآن، والقرآن غير صحف إبراهيم وموسى، إلى غير ذلك، وأن الكلام معنى ولفظًا تكلم الله به ، فهو تكلم بالتوراة، وتكلم بالإنجيل معنى ولفظًا، حرفًا وصوتًا، وهكذا القرآن، وهكذا كلامه سبحانه يوم القيامة حين يُخاطب أهلَ الجنة، وحين يُخاطب آدم: أخرج بعث النار، كلام يُسمع، كلام له معنى، يسمعه آدم ويعيه، وهكذا كلامه مع أهل الجنة، وهكذا كلامه مع الناس: ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلمه ربُّه، ليس بينه وبينه ترجمان كلام مسموع، يسأله: ماذا فعلت يوم كذا وكذا؟ وماذا صار يوم كذا وكذا؟ ويقول لأهل الجنة: هل رضيتُم؟ فيقولون: يا ربنا، وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحدًا من خلقك؟ قال: أُعطيكم أفضل من ذلك، هذا معنى غير معنى: والعصر، قالوا: وما هو أفضل منه يا ربنا؟ قال: أُحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا.

ثم أيضًا هذا الفرار، هم ابتلوا بهذا فرارًا من التَّشبيه، يعني: إذا قلنا: إنه معانٍ، وإنه يتكلم بالألفاظ، كنا مُشبهين له بخلقه! وهذا من ضلالهم وجهلهم، فيُقال لهم أيضًا: المعاني لا تقوم إلا بمَن يفهمها ويعقلها، فإذا كان كلامُ الله له معنى، ويُعبر بكذا، ويُعبر بكذا، هذا لا يُعقل إلا فيمَن يعقل، فيمن يفهم، فيمن له علم، فالحجر والشجر لا يُقال: إنه يفهم كذا، ويفهم كذا، ويعقل كذا، ويكون في نفسه معانٍ يُعبر عنها بكذا، ويُعبر عنها بكذا، وهكذا البهيمة لا يقال فيها: إنها تفهم كذا، وتعقل كذا، ويُعبر عنها بكذا، فإذا قلتم هذا معناه: أن هذا تشبيه لله بالجمادات، وبكل ما يتنزه الله عنه من الحيوانات.

وَكُلَّمَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْقَوْلَ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ السَّلَفِ.

وَالْحَقُّ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْقُرْآنَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَنَاهَى.

الشيخ: لا يتناهى، ويتنوع، ليس معنى واحدًا، فمعنى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] غير معنى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، ومعنى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] غير معنى: وَالْعَصْرِ ۝ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1- 2]، ومعنى والعصر وأشباهها غير معنى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [النساء:23]، كل له معنى، هذا غير المعنى الآخر، ومخالف له، فلا يقول عاقل: إنَّ هذا معناه واحد، أبدًا لا يقول هذا إلا مَن لا عقلَ له.

س: المقصود بلا يتناهى: لا ينتهي؟

ج: لا يتناهى يعني: لا ينتهي، كلام كثير، كلام الله لا يقف عند حدٍّ.

فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ، إِذَا شَاءَ، كَيْفَ شَاءَ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27].

وَلَوْ كَانَ مَا فِي الْمُصْحَفِ عِبَارَة عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ، لَمَا حَرُمَ عَلَى الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ مَسُّهُ، وَلَوْ كَانَ مَا يَقْرَأهُ الْقَارِئُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ لَمَا حَرُمَ عَلَى الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ قِرَاءَتُهُ.

الشيخ: قوله "المحدث" فيه تسامح؛ لأنَّ المحدث لا يُمنع من قراءته، بل يقرأه المحدثُ عن ظهر قلبٍ، وإنما هو على الجنب فقط، والحائض والنُّفساء في قولٍ، وأما مسّ المصحف فيحرم على الجميع، فكلمة "المحدث" فيها تسامح.

بَلْ كَلَامُ اللَّهِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ، مَقْرُوءٌ بِالْأَلْسُنِ، مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا حَقِيقَةٌ، وَإِذَا قِيلَ: "فِيهِ خَطُّ فُلَانٍ وَكِتَابَتُهُ" فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى صَحِيحٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِذَا قِيلَ: "فِيهِ مِدَادٌ قَدْ كُتِبَ بِهِ" فُهِمَ مِنْهُ مَعْنًى صَحِيحٌ حَقِيقِيٌّ، وَإِذَا قِيلَ: "الْمِدَادُ فِي الْمُصْحَفِ" كَانَتِ الظَّرْفِيَّةُ فِيهِ غَيْرَ الظَّرْفِيَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ"، وَ"فِيهِ مُحَمَّدٌ وَعِيسَى"، وَنَحْو ذَلِكَ. وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ مُغَايِرَانِ لِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: "فِيهِ خَطُّ فُلَانٍ الْكَاتِبِ"، وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ مُغَايِرَةٌ لِمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: "فِيهِ كَلَامُ اللَّهِ".

وَمَنْ لَمْ يَتَنَبَّهْ لِلْفُرُوقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي ضَلَّ وَلَمْ يَهْتَدِ لِلصَّوَابِ، وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ فِعْلُ الْقَارِئِ، وَالْمَقْرُوءِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْبَارِي، مَنْ لَمْ يَهْتَدِ لَهُ فَهُوَ ضَالٌّ أَيْضًا، وَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا وَجَدَ فِي وَرَقَةٍ مَكْتُوبًا:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ ...

مِنْ خَطِّ كَاتِبٍ مَعْرُوفٍ، لَقَالَ: هَذَا مِنْ كَلَامِ لَبِيدٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا خَطُّ فُلَانٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا كُلُّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، وَهَذَا خَبَرٌ حَقِيقَةً، وَلَا تَشْتَبِهُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ بِالْأُخْرَى.

وَالْقُرْآنُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، فَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْقِرَاءَةُ، قَالَ تَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وَقَالَ ﷺ: زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ.

وَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَقْرُوءُ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وَقَالَ ﷺ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ.

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.

الشيخ: علَّق على الحديث؟

الطالب: قال: صحيح؛ رواه أبو داود وغيره من أصحاب السنن، والحاكم، وأحمد بسندٍ صحيحٍ عن البراء بن عازب. "صحيح أبي داود".

الشيخ: .............

فَالْحَقَائِقُ لَهَا وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَلَكِنَّ الْأَعْيَانَ تُعْلَمُ، ثُمَّ تُذْكَرُ، ثُمَّ تُكْتَبُ، فَكِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ وَاسِطَةٌ، بَلْ هُوَ الَّذِي يُكْتَبُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلَا لِسَانٍ.

.............

الشيخ: يعني: نقله من كتابٍ إلى كتابٍ، ولو ما ..... إنما قُصاراه أن ينقل من كتابٍ إلى كتابٍ، ومن كلامٍ إلى كلامٍ، وقد يكون كثيرًا مما ينقله مثله، قد ينقله من كتابٍ إلى كتابٍ، ومن مصحفٍ إلى مصحفٍ، يعني: قد ينقل الكلام وهو ما خطر في باله، إنما ينقله من مصحف إلى مصحف، ومن أوراق إلى أوراق، ما حفظه في ذهنه، ولا استقرَّ في قلبه.

فالحاصل أنه له وجود؛ فقد يوجد في الأذهان، وهو كلام الله، ويوجد في الصدور محفوظًا في القلب، وهو كلام الله، ويوجد في الكتابات في المصاحف، وهو كلام الله مقروءًا، وهو كلام الله منظورًا إليه في المصاحف، فهو كلام الله من حيث أنه المكتوب، والحرف المنظور إليه، والمداد شيء آخر، فالمكتوب هو كلام الله، ونفس حرف الكاتب، وصوت الكاتب، ومداد الكاتب شيء آخر.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، أَوْ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ، أَوْ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ وَاضِحٌ.

فَقَوْلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:196] أَيْ: ذِكْرَهُ وَوَصْفَهُ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ، إِذِ الْقُرْآنُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، لَمْ يُنْزِلْهُ عَلَى غَيْرِهِ أَصْلًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: فِي الزُّبُرِ، وَلَمْ يَقُلْ: فِي الصُّحُفِ، وَلَا فِي الرَّقِّ؛ لِأَنَّ الزُّبُرَ جَمْعُ زَبُورٍ، وَالزُّبُر هُوَ: الْكِتَابَةُ وَالْجَمْعُ، فَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَزْبُورِ الْأَوَّلِينَ، فَفِي نَفْسِ اللَّفْظِ وَاشْتِقَاقِهِ مَا يُبَيِّنُ الْمَعْنَى الْمُرَادَ، وَيُبَيِّنُ كَمَالَ بَيَانِ الْقُرْآنِ وَخُلُوصِهِ مِنَ اللَّبْسِ.

وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ [الأعراف:157] أَيْ: ذِكْرَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3]، وَ لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22]، وَ كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الظَّرْفِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْعَامَّةِ، مِثْلَ: الْكَوْنِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْحُصُولِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُقَدَّرُ: مَكْتُوبٌ فِي كِتَابٍ، أَوْ فِي رَقٍّ. وَالْكِتَابُ تَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ مَحَلُّ الْكِتَابَةِ، وَتَارَةً يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَكْتُوبُ.

وَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كِتَابَةِ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ، وَكِتَابَةِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فِيهِ، فَإِنَّ تِلْكَ إِنَّمَا يُكْتَبُ ذِكْرُهَا، وَكُلَّمَا تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ هَذَا الْمَعْنَى وَضَحَ لَهُ الْفَرْقُ.

وَحَقِيقَةُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَارِجِيَّةُ هِيَ مَا يُسْمَعُ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، فَإِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُ عَلِمَهُ وَحَفِظَهُ، فَكَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعٌ لَهُ، مَعْلُومٌ، مَحْفُوظٌ، فَإِذَا قَالَهُ السَّامِعُ فَهُوَ مَقْرُوءٌ لَهُ مَتْلُوٌّ، فَإِنْ كَتَبَهُ فَهُوَ مَكْتُوبٌ لَهُ مَرْسُومٌ.

وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا، لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ، وَالْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا: مَا قَرَأَ الْقَارِئُ كَلَامَ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وَهُوَ لَا يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنْ مُبَلِّغِهِ عَنِ اللَّهِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَنَّ الْمَسْمُوعَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ! فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: حَتَّى يَسْمَعَ مَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ. وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ.

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَكْتُوبَ فِي الْمَصَاحِفِ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، أَوْ حِكَايَةُ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِيهَا كَلَامُ اللَّهِ! فَقَدْ خَالَفَ الكتابَ والسنةَ وسلف الأمة، وكفى بذلك ضلالًا.