10 الدليل على أنَّ الإسراء بجسده في اليقظة

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1]، وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَيَكُونُ الْإِسْرَاءُ بِهَذَا الْمَجْمُوعِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَقْلًا، وَلَوْ جَازَ اسْتِبْعَادُ صُعُودِ الْبَشَرِ لَجَازَ اسْتِبْعَادُ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِنْكَارِ النُّبُوَّةِ، وَهُوَ كُفْرٌ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلًا؟

فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِصِدْقِ دَعْوَى الرَّسُولِ ﷺ الْمِعْرَاجَ حِينَ سَأَلَتْهُ قُرَيْشٌ عَنْ نَعْتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنَعَتَهُ لَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ عِيرِهِمُ الَّتِي مَرَّ عَلَيْهَا فِي طَرِيقِهِ، وَلَوْ كَانَ عُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ مَكَّةَ لَمَا حَصَلَ ذَلِكَ، إِذْ لَا يُمْكِنُ اطِّلَاعُهُمْ عَلَى مَا فِي السَّمَاءِ لَوْ أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ، وَقَدِ اطَّلَعُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَخْبَرَهُمْ بِنَعْتِهِ.

وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ صِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

قَوْلُهُ: (وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ حَقٌّ).

الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ تَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ، رَوَاهَا مِنَ الصَّحَابَةِ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ صَحَابِيًّا، وَلَقَدِ اسْتَقْصَى طُرُقَهَا شَيْخُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ -تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- فِي آخِرِ تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى بِـ"الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ".

الشيخ: وهو كما قال، فإنَّ الحافظ ابن كثير رحمه الله عُني بها، وذكرها في "البداية والنهاية"، وذكر ثلاثين حديثًا، أو واحدًا وثلاثين حديثًا، كلها تتعلق بالحوض؛ حوض النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر أدلةً كثيرةً في هذا الباب.

فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى صَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ.

وَعَنْهُ أَيْضًا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِي، حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمُ اخْتَلَجُوا دُونِي، فَأَقُولُ: أصَحَابِي! فَيَقُولُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِغْفَاةً، فَرَفَعَ رَأْسَهُ مُبْتَسِمًا، إِمَّا قَالَ لَهُمْ، وَإِمَّا قَالُوا لَهُ: لِمَ ضَحِكْتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّهُ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ، فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ أَعْطَانِيهِ رَبِّي فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدَ الْكَوَاكِبِ، يَخْتَلِجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ.

وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَفْظُهُ: هُوَ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْبَاقِي مِثْلُهُ.

وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنْ ذَلِكَ الْكَوْثَرِ إِلَى الْحَوْضِ.

الشيخ: المقصود أنه من أنهار الجنة، وعليه قباب اللؤلؤ، عليه جنابذ اللؤلؤ، وطينه المسك، كما جاء في الحديث، ويصب فيه ميزابان في الأرض يوم القيامة، يوم القيامة فيه ميزابان عظيمان في الأرض، يمتلئ من ذلك الحوض الذي ترده الأمَّة، وهذا الحوض العظيم في الأرض طوله شهر، وعرضه شهر، آنيته عدد نجوم السماء، يرده أهلُ الإيمان من هذه الأمَّة، ويشربون منه شربةً عظيمةً، وهو أحلى من العسل، وأبيض من اللبن، منظره طيب، وطعمه طيب، ويُذاد عنه أقوامٌ يوم القيامة؛ لأنهم بدَّلوا وغيَّروا، كما تُذاد الإبل الغريبة عن إبل الإنسان، حتى يقول الرسولُ ﷺ: أُمَّتي!، وفي روايةٍ: أصحابي! فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحْقًا، سُحْقًا أي: لمن بدَّل بعدي، وفي اللفظ الآخر: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117].

وهذه الأحاديث كلها في الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيدل ذلك على أنَّ الحوض حقٌّ، وأنه واقع يوم القيامة، وهذا قبل انتقالهم إلى الجنة والنار، هذا في العرصات عند اجتماع الناس، مُسلمهم وكافرهم، الناس يجتمعون في العرصات مؤمنهم وكافرهم وأسافلهم، الأنبياء الماضون كلهم مجتمعون، وقد جاء في بعض الرِّوايات أنَّ كل نبيٍّ له حوض ترده أمته، وحوض النبي ﷺ أعظمها وأكبرها وأوسعها، ويرده أهلُ الإيمان من هذه الأمة، ويُصدُّ عنه أقوامٌ أعرضوا عن دين الله، وكفروا بالله؛ ولهذا يُصدون عنه، ويُذادون عنه، نسأل الله السلامة والعافية.

س: ............؟

ج: محتمل، والأقرب والله أعلم أنه قبل كل شيء؛ لأنَّ الناس يقومون ظماءً عِطاشًا.

وَالْحَوْضُ فِي الْعَرَصَاتِ قَبْلَ الصِّرَاطِ؛ لِأَنَّهُ يُخْتَلَجُ عَنْهُ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ أَقْوَامٌ قَدِ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا يُجَاوِزُونَ الصِّرَاطَ.

الشيخ: قد ارتدَّ أناسٌ بعده ﷺ في عهد الصديق من الأعراب وأشباههم، ممن لم يرسخ الإيمانُ في قلبه، ولم يعرف حقيقة الإسلام كما ينبغي، فلهذا ارتدَّ جمٌّ غفيرٌ من العرب، وقالوا: لو كان نبيًّا ما مات، وجهلوا أو تجاهلوا أنَّ الأنبياء قبله ماتوا عليهم الصلاة والسلام، فجاهدهم الصديقُ والصحابةُ، وقتلوا مَن قتلوا على كفرهم وضلالهم، وهدى الله مَن هدى بعد ذلك من طوائف وقبائل العرب، من بني أسد، وبني حنيفة، ومن تميم، ومن غيرهم من أبناء العرب وصنوف العرب، فهؤلاء المشار إليهم في الحديث.

وقد حملت الرافضةُ الحديثَ على خيار الصحابة: كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير، وهذا من ضلالهم وجهلهم، بل إنَّهم هم الذين جاهدوا الكفارَ، هم الذين أرسوا دعائم الإسلام، هم الذين صبروا وجاهدوا، ولكن الرافضة من أجهل الناس وأضلّهم.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ. وَالْفَرَطُ: الَّذِي يَسْبِقُ إِلَى الْمَاءِ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَنِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ.

قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَنِي النُّعْمَانُ ابْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ مِنْ سَهْلٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَزِيدُ: فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِي! فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَقَالَ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي. سُحْقًا: أَيْ بُعْدًا.

وَالَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ: أَنَّهُ حَوْضٌ عَظِيمٌ، وَمَوْرِدٌ كَرِيمٌ، يُمَدُّ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ، مِنْ نَهْرِ الْكَوْثَرِ، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الِاتِّسَاعِ، عَرْضُهُ وَطُولُهُ سَوَاءٌ، كُلُّ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: أَنَّهُ كُلَّمَا شُرِبَ مِنْهُ وَهُوَ فِي زِيَادَةٍ وَاتِّسَاعٍ، وَأَنَّهُ يَنْبُتُ فِي خِلاله مِنَ الْمِسْكِ وَالرَّضْرَاضِ مِنَ اللُّؤْلُؤِ قُضْبَانَ الذَّهَبِ، وَيُثْمِرُ أَلْوَانَ الْجَوَاهِرِ، فَسُبْحَانَ الْخَالِقِ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.

الشيخ: هذه الإشارة الأخيرة تحتاج إلى نظرٍ، في الأحاديث الصحيحة مما نعلم ليس فيها ذكر هذه الأشياء، وإنما يصب فيها ميزابان من الكوثر، ولا يزال عظيمًا مُتَّسعًا يرده الناس، أما ما ينبت عليه من هذه الأشياء يحتاج إلى أحاديث صحيحةٍ، يحتاج إلى أدلةٍ صحيحةٍ؛ لأنَّ المقام ليس مقام سكنى، المقام مؤقت لأناس مُؤقتين، ثم ينتقلون من هذا المكان العظيم إلى دورهم، ولكنه شراب طيب عظيم، فلا يُستنكر أن ينبت عليه من الأشياء العجيبة، لكن إثباته يحتاج إلى دليلٍ صحيحٍ.

س: الكوثر؟

ج: نهر في الجنة، من الكثرة، نهر عظيم فيه خير كثير.

س: والصِّفة التي ذكرها؟

ج: أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أما أبرد من الثلج لا أتذكرها الآن، لكن على كل حالٍ هذه البرودة تليق بالمقام، إذا ثبت هذا في الحديث فهذا يدل على أن برودته لا تمنعهم من الشرب، ولا تُؤذيهم، وهو وإن كان في الدنيا الثلج له شدة وله قوة، ولكن إن صحَّت اللفظة فهو برد لا يمنعهم؛ لأنَّ أحوالهم في الآخرة غير أحوالهم في الدنيا، إن صحَّت اللفظة، أما قوله: أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، وريحه المسك، وطوله شهر، وآنيته عدد نجوم السماء كل هذا ثابت.

وَقَدْ وَرَدَ

فِي أَحَادِيثَ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا، وَإِنَّ حَوْضَ نَبِيِّنَا ﷺ أَعْظَمُهَا وَأَحْلَاهَا وَأَكْثَرُهَا وَارِدًا. جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ.

الطالب: هناك تعليق بعد "جعلنا الله منهم": حسن؛ أخرجه الترمذي، وقال: "غريب"، ثم ذكر أنه ورد مرسلًا، وقال: "وهو أصح"، ورواه الطبراني أيضًا كما في "المجمع"، وقال: "وفيه مروان بن جعفر السمري، وثَّقه ابنُ أبي حاتم، وقال الأزدي: يتكلَّمون فيه، وبقية رجاله ثقات". ثم وجدتُ ما يُقوي الحديث، فخرجتُه في "الصحيحة" (1589).

قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَبْدِاللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي "التَّذْكِرَةِ": وَاخْتُلِفَ فِي الْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ: أَيُّهُمَا يَكُونُ قَبْلَ الْآخَرِ؟ فَقِيلَ: الْمِيزَانُ، وَقِيلَ: الْحَوْضُ.

قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَوْضَ قَبْلُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَعْنَى يَقْتَضِيهِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَخْرُجُونَ عِطَاشًا مِنْ قُبُورِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُقَدَّمُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ.

الشيخ: الظاهر والله أعلم أنَّ العطش عامّ للمؤمنين وغيرهم؛ ولهذا يأتون إلى الحوض يشتهون الماء.

قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ "كَشْفِ عِلْمِ الْآخِرَةِ": حَكَى بَعْضُ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ التَّصْنِيفِ: أَنَّ الْحَوْضَ يُورَدُ بَعْدَ الصِّرَاطِ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ كَمَا قَالَ.

الشيخ: لا شكَّ أنه قبل الصراط، يأتيه الكافرُ والمسلمُ، لكن لا يمنع أنَّ هناك حوضًا آخر بعد الصراط يرده المؤمنون عند القنطرة التي يقفون عندها ويُحاسبون عندها، فإنَّ المؤمنين إذا جاوزوا الصِّراط يقفون عند قنطرةٍ بين الجنة والنار حتى يُهذَّبوا ويُنقوا ويُزال ما بينهم، ويدخلوا الجنةَ في غايةٍ من الصَّفاء؛ صفاء القلوب وسلامتها، فإن ثبت شيء فهو هناك، إن ثبت شيء بعد الصراط فهو لأهل الإيمان خاصةً.

س: .............؟

ج: مَن جازه دخل الجنة، فإذا عبروا عليه وقفوا في قنطرةٍ بين الجنة والنار حتى يقتص بعضُهم من بعضٍ، فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذن لهم في دخول الجنة.

ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِكَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ، بَلْ فِي الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ؛ أَرْضٍ بَيْضَاءَ كَالْفِضَّةِ، لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ، وَلَمْ يُظْلَمْ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ قَطُّ، تَظْهَرُ لِنُزُولِ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلَالُهُ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ. انْتَهَى.

الشيخ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ [إبراهيم:48].

س: ............؟

ج: هو الظاهر والله أعلم؛ ولهذا يأتون إلى الحوض يشربون الماء.

فَقَاتَلَ اللَّهُ الْمُنْكِرِينَ لِوُجُودِ الْحَوْضِ، وَأَخْلِقْ بِهِمْ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ وُرُودِهِ يَوْمَ الْعَطَشِ الْأَكْبَرِ.

.............

الطالب: ما الحكمة في كون عيسى عليه السلام في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وعيسى أفضلهم، فإنه من أُولي العزم؟ وما الحكمة في عدم ذكر نوح مع كونه من أولي العزم .......؟

فالجواب والله أعلم بالصواب .......

قَوْلُهُ: (وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُمْ حَقٌّ، كَمَا رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ).

الشَّفَاعَةُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْهَا مَا خَالَفَ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الشَّفَاعَةُ الْأُولَى، وَهِيَ الْعُظْمَى، الْخَاصَّةُ بِنَبِيِّنَا ﷺ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

الشيخ: وهذه الشَّفاعة هي التي حصل فيها الإجماع بين أهل السنة وبين أهل البدعة، أجمع المسلمون على هذه الشَّفاعة العظمى الأولى، وهي الشفاعة في أهل الموقف حتى يُقضى بينهم، هذا قال به أهلُ السنة والجماعة، وهكذا الخوارج والمعتزلة، ولم يختلف أهلُ القبلة فيها؛ أنَّ أمرها واضح، قد تواترت بها الأخبارُ عن رسول الله ﷺ؛ ولهذا لم يستطيعوا أن يُنكروها.

فِي "الصَّحِيحَيْنِ" وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ.

مِنْهَا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِلَحْمٍ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ مِنْهَا الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، ثُمَّ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ لِمَ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَبُوكُمْ آدَمُ.

الشيخ: جاء في الرِّوايات الأخرى: أنَّ هؤلاء هم المؤمنون، الذي يتكلم بهذا الكلام هم أهل الإيمان، قال: فيفزعون ويقولون.

فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ.

الشيخ: وهذا يدل على أنَّهم هم المؤمنون، هم الذين يعرفون هذه الأمور، أهل الإيمان؛ أن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته.

فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُه، نَفْسِي، نَفْسِي، نفسي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ.

الشيخ: .........

وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ نُوحٌ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي، نَفْسِي، نفسي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ.

الشيخ: فعلتُ بمعنى: فعلات، فعل إذا كانت اسمًا مُفردًا: جمرة وجمرات، وتمرة وتمرات، كذبة وكذبات.

نَفْسِي، نَفْسِي، نفسي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي، نَفْسِي، نفسي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، قَالَ: هَكَذَا هُوَ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَأْتُونِي، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ؛ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَقُومُ، فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي، يَا رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي، يَا رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي، فَيَقُولُ: أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لِمَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى.

الشيخ: يعني: مسيرة شهرٍ بين مصراعيه؛ لسعة الباب، وليأتين عليه يوم مليء من الزِّحام؛ لكثرة الدَّاخلين، جعلنا الله وإياكم منهم.

أَخْرَجَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" بِمَعْنَاهُ، وَاللَّفْظُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ إِيرَادِ الْأَئِمَّةِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَكْثَرِ طُرُقِهِ، لَا يَذْكُرُونَ أَمْرَ الشَّفَاعَةِ الْأُولَى فِي مَأْتَى الرَّبِّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، كَمَا وَرَدَ هَذَا فِي حَدِيثِ الصُّورِ، فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمُقَامِ، وَمُقْتَضَى سِيَاقِ أَوَّلِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَسْتَشْفِعُونَ إِلَى آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ النَّاسِ وَيَسْتَرِيحُوا مِنْ مُقَامِهِمْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سِيَاقَاتُهُ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى الْجَزَاءِ إِنَّمَا يَذْكُرُونَ الشَّفَاعَةَ فِي عُصَاةِ الْأُمَّةِ وَإِخْرَاجهُمْ مِنَ النَّارِ.

وَكَانَ مَقْصُودُ السَّلَفِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ الْحَدِيثِ هُوَ الرَّدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنَ النَّارِ بَعْدَ دُخُولِهَا، فَيَذْكُرُونَ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ النَّصُّ الصَّرِيحُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْأَحَادِيثِ.

وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الصُّورِ، وَلَوْلَا خَوْفُ الْإِطَالَةِ لَسُقْتُهُ بِطُولِهِ، لَكِنْ مِنْ مَضْمُونِهِ: أَنَّهُمْ يَأْتُونَ آدَمَ، ثُمَّ نُوحًا، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ مُحَمَّدًا ﷺ، فَيَذْهَبُ فَيَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَحْصُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: مَا شَأْنُكَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي خَلْقِكَ، فَاقْضِ بَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ : شَفَّعْتُكَ، أَنَا آتِيكُمْ فَأَقْضِي بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَأَرْجِعُ فَأَقِفُ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ انْشِقَاقَ السَّمَاوَاتِ، وَتَنَزُّلَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْغَمَامِ، ثُمَّ يَجِيءُ الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَالْكَرُوبِيُّونَ.

الشيخ: المحيطون بالعرش يُقال لهم: الكروبيون، لقب لهم.

وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ يُسَبِّحُونَ بِأَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ، قَالَ: فَيَضَعُ اللَّهُ كُرْسِيَّهُ حَيْثُ شَاءَ مِنْ أَرْضِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي أُنْصِتُ لَكُمْ مُنْذُ خَلَقْتُكُمْ إِلَى يَوْمِكُمْ هَذَا، أَسْمَعُ أَقْوَالَكُمْ، وَأَرَى أَعْمَالَكُمْ، فَأَنْصِتُوا إِلَيَّ، فَإِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ وَصُحُفُكُمْ تُقْرَأُ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَإِذَا أَفْضَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، قَالُوا: مَنْ يَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَنَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ فَيَقُولُونَ: مَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْ أَبِيكُمْ؟ إِنَّهُ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ رُوحَهُ، وَكَلَّمَهُ قَبْلًا، فَيَأْتُونَ آدَمَ، فَيَطْلُبُونَ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَذَكَرَ نُوحًا، ثُمَّ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ مُحَمَّدًا ﷺ، إِلَى أَنْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَآتِي الْجَنَّةَ، فَآخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، ثُمَّ أَسْتَفْتِحُ، فَيُفْتَحُ لِي، فَأُحَيَّا وَيُرَحَّبُ بِي، فَإِذَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَنَظَرْتُ إِلَى رَبِّي خَرَرْتُ لَهُ سَاجِدًا، فَيَأْذَنُ لِي مِنْ حَمْدِهِ وَتَمْجِيدِهِ بِشَيْءٍ مَا أَذِنَ بِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ لِي: ارْفَعْ يَا مُحَمَّدُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، فَإِذَا رَفَعْتُ رَأْسِي قَالَ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، وَعَدْتَنِي الشَّفَاعَةَ، فَشَفِّعْنِي فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ اللَّهُ : قَدْ شَفَّعْتُكَ، وَأَذِنْتُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ: ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.

الشيخ: حديث الصور هذا فيه ضعفٌ عند أهل العلم؛ لأنَّ فيه إسماعيل بن رافع الأنصاري، ضعيف عندهم، لكنه كأنه جمعه من روايات كثيرة من القصاص، لعله جمعه من روايات كثيرة، فلا يقتضي خروجه من طريقٍ واحدٍ، إنما المحفوظ ومما جاء فيه مسألة الشَّفاعة العظمى للاستراحة، وجاء فيه أيضًا: ثلاث نفخات، تقع في النُّفوس نفختان، نفخة الفزع والصعق، والثالثة: نفخة البعث والنُّشور، هذا هو الموجود في القرآن العظيم، وفي الأحاديث الصحيحة: نفختان، لكن زاد بعد نفخة الصور نفخةً ثالثةً، وزاد تفسير الشَّفاعة العظمى، وهو ليس بذاك، ولا مُنافاة؛ فإنَّ شفاعته وقوله: أمتي، أمتي، أمتي لا يمنع أن تكون شفاعته في الموقف؛ لأنَّ منهم أمته، ويُقضى بينهم معناه: القضاء بين الناس؛ لأنهم أفضل أمةٍ من الأمم، وقد وقفت في هذا الموقف العظيم، فالشَّفاعة لأمته حين يقول: أمتي، أمتي، أمتي، معناه: الشَّفاعة للجميع، فليس هناك ما يُوجب أنَّ هناك حذفًا.

فالحاصل أنَّ قوله: أمتي، أمتي أنهم الأهم والباقي تبع؛ فلهذا قال: أمتي، أمتي، أمتي، ثم شفعه الله في الجميع، وقضى بين العباد ، فشفاعته في أمته معناها شفاعته في الجميع، شفاعته في أن يُقضى بين الناس.

س: ..............؟

ج: ما تكلم على حديث الصور؟

الطالب: تكلم قال: ضعيف؛ أخرجه ابن جريرٍ في تفسيره، كما ذكر الشارح، من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وإسناده ضعيف؛ لأنه من طريق إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد ابن أبي زياد، وكلاهما ضعيف، بسندهما عن رجلٍ من الأنصار، وهو مجهول لم يُسمَّ، وقول الحافظ ابن كثير في تفسيره: أنه حديث مشهور .. إلخ. لا يستلزم صحَّته كما لا يخفى على أهل العلم. انتهى.

الشيخ: ............

س: شفاعته ﷺ في دخول أهل الجنة الجنة ليس من القسم الأول؟

ج: الشَّفاعة العُظمى أولًا، والشفاعة في أهل الجنة بعد الشفاعة الثانية، بعد القضاء بين الناس، الشفاعة في دخول أهل الجنة هي النوع الثاني من أنواع الشفاعة الخاصَّة له، والنوع الثالث: شفاعته في أبي طالب، هذه الثلاث خاصَّة به، والبقية مُشتركة.

النَّوْعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ مِنَ الشَّفَاعَةِ: شَفَاعَتُهُ ﷺ فِي أَقْوَامٍ قَدْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ، فَيَشْفَعُ فِيهِمْ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، وَفِي أَقْوَامٍ آخَرِينَ قَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ أَنْ لَا يَدْخُلُونَهَا.

الشيخ: وهذه ليست من خصائصه، هاتان الشَّفاعتان ليستا من خصائصه ﷺ، بل له ولغيره، الشَّفاعة لمن استوت حسناتهم وسيئاتهم، وفيمَن استحقُّوا النار ألا يدخلوها، فيها الأفراط، وفيها الملائكة، وفيها الصَّالحون.

النَّوْعُ الرَّابِعُ: شَفَاعَتُهُ ﷺ فِي رَفْعِ دَرَجَاتِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِيهَا فَوْقَ مَا كَانَ يَقْتَضِيهِ ثَوَابُ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ وَافَقَتِ الْمُعْتَزِلَةُ على هَذِهِ الشَّفَاعَة خَاصَّةً، وَخَالَفُوا فِيمَا عَدَاهَا مِنَ الْمَقَامَاتِ، مَعَ تَوَاتُرِ الْأَحَادِيثِ فِيهَا.

النَّوْعُ الْخَامِسُ: الشَّفَاعَةُ فِي أَقْوَامٍ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَيَحْسُنُ أَنْ يُسْتَشْهَدَ لِهَذَا النَّوْعِ بِحَدِيثِ عُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ حِينَ دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".

النَّوْعُ السَّادِسُ: الشَّفَاعَةُ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّهُ: كَشَفَاعَتِهِ فِي عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ عَذَابُهُ.

الشيخ: وهذا خاصٌّ به، النوع الأخير خاصٌّ به عليه الصلاة والسلام، وهو الشَّفاعة في أبي طالب، وهذا مُستثنى من قوله جلَّ وعلا: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] يعني: الكفرة، وقوله جلَّ وعلا: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، هذه الآيات عامَّة، جاء ما يدل على استثناء أبي طالب منها في التَّخفيف عنه فقط.

ثُمَّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي "التَّذْكِرَةِ" بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا النَّوْعِ: فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ. قِيلَ لَهُ: لَا تَنْفَعُهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، كَمَا تَنْفَعُ عُصَاةَ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.

الشيخ: هذا تأويل، والمعنى الثاني: الاستثناء، ومعناه واضح: فَمَا تَنْفَعُهُمْ يعني: نفعًا كاملًا، من باب نفع الخاصّ، مثلما قال المؤلفُ: التَّخفيف ليس نفعًا كاملًا.

س: والوجه السابع يدخل في الاستثناء من الآية؟

ج: ....... مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ .....

النَّوْعُ السَّابِعُ: شَفَاعَتُهُ أَنْ يُؤْذَنَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَ.

وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ أَنَسٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ.

الشيخ: وفي الرواية المشهورة: أنا أول شافعٍ، وأول مُشفع، وهذا أعم، يعني: أول شافعٍ للشَّفاعة العظمى عليه الصلاة والسلام.

النَّوْعُ الثَّامِنُ: شَفَاعَتُهُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَذَا النَّوْعِ الْأَحَادِيثُ.

الشيخ: وهذا أيضًا ليس خاصًّا به ﷺ، بل هو عام؛ يشفع فيهم الأنبياء والصَّالحون والملائكةُ والأفراط.

س: حظُّه أكثر من حظِّ الأنبياء والصَّالحين؟

ج: وحظه من كل شيءٍ أكبر عليه الصلاة والسلام، لكنه ليس خاصًّا به عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح أنه قال: يحد لي حدًّا فأُخرجهم من النار، ثم حدًّا، ثم حدًّا أربع مرات.

وَقَدْ خَفِيَ عِلْمُ ذَلِكَ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، فَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ، وَعِنَادًا مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى بِدْعَتِهِ.

الشيخ: ظنُّوا بالتَّخليد لجهلهم، وعقلاؤهم بلغتهم الأحاديث الصَّحيحة أنه يشفع في أهل الكبيرة، .....، ولكن أتباعهم لم يزالوا لا يُؤمنون بهذا، فقد بلغتهم الأحاديث، لكن ظنُّوا لجهلهم أنها تُخالف القرآن، قالوا: إنَّ الله يقول في القرآن: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، فظنُّوا أنَّ هذه الآيات في العُصاة، هذا من جهلهم، هذه الآيات في الكفَّار، هم الذين لا يخرجون من النار، ولهم عذاب مقيم، أما العُصاة فقد تواترت الأخبارُ بأنهم مهما طال مكثُهم في النار فإنهم لا يُخلدون فيها تخليدًا كاملًا، بل لا بدَّ لهم من خروجهم من النار؛ للنصوص المتواترة، حتى ولو أطلق على معصيتهم الخلود، مثلما في قاتل المؤمن بغير حقٍّ، قال الله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ [النساء:93]، وقال فيمَن يقتل نفسَه أنه يُعذَّب في النار خالدًا مخلدًا فيها، هذا الخلود ليس هو خلود الكفار، بل هو خلود خاصّ، فالعرب تُسمِّي الإقامة الطويلة: خلودًا، مقامك أخلد، يعني: طول، سمّوا الإقامة الطويلة: خلودًا، فكلما عظم الذنب واشتدَّ قبحه صارت إقامته في النار أكثر، ومعلوم أنَّ قتل النفس بغير حقٍّ من الكبائر العظيمة؛ فلهذا وصف أهلها بالخلود في النار، ولكنه خلود غير خلود الكفار.

فالخلود خلودان: خلود ليس معه خروج، بل هو خلود دائم أبد الآباد، فهذا خلود الكفار الذين قال الله فيهم: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، وقال في حقِّهم: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]، وقال في حقِّهم: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ:30]، وقال في حقِّهم: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، هؤلاء هم الكفرة.

أما العُصاة فخلودهم غير خلود الكفار، خلودهم مُؤقت، يُسمَّى: خلودًا لطوله، ولكنه ينتهي، هذا هو ما جاءت وتواترت به الأخبارُ عنه عليه الصلاة والسلام، وأجمع أهلُ السنة والجماعة على ذلك، بخلاف الخوارج الجهلة والمعتزلة ..........

وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ تُشَارِكُهُ فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ تَتَكَرَّرُ مِنْهُ ﷺ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.

وَمِنْ أَحَادِيثِ هَذَا النَّوْعِ: حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ "التَّوْحِيدِ": حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ، قَالَ: اجْتَمَعْنَا ونَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَذَهَبْنَا مَعَنَا بِثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ إِلَيْهِ، يَسْأَلُهُ لَنَا عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِذَا هُوَ فِي قَصْرِهِ، فَوَافَقْنَاهُ يُصَلِّي الضُّحَى، فَاسْتَأْذَنَّا، فَأَذِنَ لَنَا وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقُلْنَا لِثَابِتٍ: لَا تَسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، هَؤُلَاءِ إِخْوَانُكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، جَاءُوكَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ ﷺ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَى، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللَّهِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، لَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَى، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَيَأْتُونِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي، فَيَقُولُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ.

قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ قُلْتُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَوْ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ -وَهُوَ مُتَوَارٍ فِي مَنْزِلِ أَبِي خَلِيفَةَ- فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَتَيْنَاهُ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَنَا، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَاكَ مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَلَمْ نَرَ مِثْلَ مَا حَدَّثَنَا فِي الشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: هِيه. فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ، فَانْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ: هِيه. فَقُلْنَا: لَمْ يَزِدْ لَنَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ جَمِيعٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَا أَدْرِي: أَنَسِيَ أَمْ كَرِهَ أَنْ تَتَّكِلُوا؟ فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ، فَحَدِّثْنَا، فَضَحِكَ وَقَالَ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا! مَا ذَكَرْتُهُ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثَكُمْ بِهِ، قَالَ: ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي، لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الشيخ: قوله: "حدَّثني وهو جميع" يعني: وهو مُستكمل القوى قبل شدة الشَّيخوخة؛ لأنَّه رضي الله عنه وأرضاه عاش إلى مئة سنةٍ وسنتين أو ثلاثٍ، وكان مجيء معبد بن غيلان وأصحابه في آخر حياته رضي الله عنه وأرضاه.

وهذه أربع شفاعات يحدّ الله له فيها حدًّا، حدَّه الأول بالشَّعيرة، ثم بحبَّة الذرة أو الخردلة، ثم بأدنى أدنى حبَّة خردل، ثم بمَن قال: "لا إله إلا الله" في الرابعة التي قال لهم الحسن، والمعنى قالها وهو مُوحِّد، إذا قالها وأدَّى المعنى، وحَّد الله، ولم يقلها ونقضها، بخلاف اليهود والمنافقين ومَن شايعهم ممن يقول: لا إله إلا الله، ولكنه ينقضها بكفره وعناده، فإنها لا تنفعه هذه الكلمة: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، فهم يقولون: لا إله إلا الله، ويقولون: نشهد أنَّ محمدًا رسول الله، لكن يقولونها كذبًا، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، نسأل الله العافية.

وفي هذا الحديث -حديث الإمام أحمد- دلالة على أنه يشفع في أهل الكبائر؛ لأنه إنما يدخل النار أهلُ الكبائر، أما أهل الصَّغائر فإنه تُغفر لهم سيئاتهم بما تجنَّبوا من الكبائر، كما قال : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، وفي الحديث الصحيح: الصَّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفَّارات لما بينهن ما لم تُغْشَ الكبائر، فدلَّ ذلك على أنَّ الذي يدخل النارَ هم أهل الكبائر، والنبي يشفع فيهم كل شفاعاته، فله الشَّفاعة العظمى في أهل الموقف، وله الشَّفاعة في أهل الجنة حتى يدخلوها، وله الشفاعة فيمَن استحقَّ النار أن لا يدخلها، وله الشَّفاعات الأخرى السابقة، والشفاعة في أبي طالب بالتَّخفيف، وله هذه الشفاعة في أهل الكبائر.

والشفاعة في أهل الكبائر هي الشفاعة التي فيها إخراجهم من النار، بخلاف أهل الإيمان والتوحيد والسلامة، فإنَّ توحيدهم وإيمانهم وسلامتهم من الكبائر تُغنيهم عن الشَّفاعة في دخول الجنة، وفي استحقاق الجنة، وإن كانوا مع أهل الشَّفاعة في الإذن بالدُّخول.

وفي هذا من الفوائد أيضًا: أن الإيمان قد ينقص ويتضاءل حتى يكون أقلَّ من شعيرةٍ، وأقل من خردلةٍ، وأقل من ذرةٍ في القلب لضعفه؛ ولهذا يدخل النار صاحبُه بسبب تعاطيه الكبائر من الزنا والسرقة والربا وشرب الخمور، وأشباهها من الكبائر التي تُضعف الإيمان، حتى لا يقوى صاحبُها على الامتناع بها، بل شهوته تغلبه على اقتراف هذه الكبائر؛ لضعف الإيمان الرادع.

ثم هذه الشفاعة لا تخصُّه عليه الصلاة والسلام، بل يُشاركه فيها غيرُه من أهل الإيمان والملائكة والأفراط والرسل الآخرين.

وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ.

الشيخ: وجاء في الحديث الصحيح: يشفع المؤمنون عمومًا من العلماء والشهداء وغيرهم، يقول النبي ﷺ: يقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النَّبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحم الراحمين ، فيُخرج مَن كان في النار من بقايا أهل التوحيد الذين يقولون: لا إله إلا الله، وليس عندهم خيرٌ سوى نطقهم بهذه الشَّهادة، مع ما عندهم من توحيدٍ وإيمانٍ يمنعهم من مُشابهة اليهود والمنافقين، فيُخرجهم الله، وهم آخر مَن يبقى في النار من أهل التوحيد، يُخرجهم الله برحمته بعد شفاعة الشّفعاء ممن كان معدودًا من أهل التوحيد، ليس من أهل الشِّرك.

الطالب: قال في الحاشية: موضوع: رواه ابنُ ماجه، والعقيلي في "الضعفاء" في ترجمة عنبسة بن عبدالرحمن القرشي، وقال: لا يُتابع عليه. ورُوي عن البخاري أنه قال: تركوه. وقال أبو حاتم: كان يضع الحديثَ.

الشيخ: ورواية أبي يعلى لو صحَّت لا تخرج عن الأحاديث الصَّحيحة؛ لأنَّ العلماء والشُّهداء من خواصِّ المؤمنين.

س: أحسن الله إليك، تارك الصلاة وتارك الزَّكاة؟

ج: تارك الصلاة كافر عند المحققين من أهل العلم، أما تارك الزكاة فالصواب أنه ليس بكافرٍ، ولكنه عاصٍ معصيةً كبيرةً؛ ولهذا يُعاقب يوم القيامة، ثم يرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار، والصيام كذلك، والحج كذلك.

إنما الخلاف الكبير في الصلاة؛ فذهب قومٌ من أهل العلم -وهم أهل التحقيق- إلى كفره؛ للأحاديث الصحيحة التي وردت في ذلك، وإن لم يجحد وجوبها، أما إذا جحد وجوبها فهو كافر عند الجميع.

وقال آخرون: إنه إذا لم يجحد وجوبها يكون كفره دون كفرٍ، وهو المشهور من مذاهب الأئمة الثلاثة: مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، المشهور من مذاهبهم أنه كافر كفرًا دون كفرٍ، يُصلَّى عليه ويُغسَّل، ولا يكون كافرًا كفرًا أكبر.

والأقرب والأظهر قول مَن قال: إنه كفر أكبر.

س: الحج في الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]؟

ج: مَن كفر يعني: بجحده، جحد وجوبه وإنكاره، لا بتأخيره عند أهل العلم، مَن كفر بجحده وإنكار وجوبه. أما مَن أقرَّ به ولكنَّه تساهل فالمشهور عند أهل العلم أنه لا يكون كافرًا، بل يكون عاصيًا.

س: وقول عمر: "ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"؟

ج: في صحَّته نظر، ولو صحَّ فهو من باب الوعيد.

وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا قَالَ: فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ الْحَدِيثَ.

الشيخ: في لفظٍ آخر: إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله.