وَالْقَدَرُ الَّذِي هُوَ التَّقْدِيرُ الْمُطَابِقُ لِلْعِلْمِ يَتَضَمَّنُ أُصُولًا عَظِيمَةً:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْأُمُورِ الْمُقَدَّرَةِ قَبْلَ كَوْنِهَا، فَيَثْبُتُ عِلْمُهُ الْقَدِيمُ، وَفِي ذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ عِلْمَهُ الْقَدِيمَ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّقْدِيرَ يَتَضَمَّنُ مَقَادِيرَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَقَادِيرُهَا هِيَ صِفَاتُهَا الْمُعَيَّنَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا، قَالَ تَعَالَى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، فَالْخَلْقُ يَتَضَمَّنُ التَّقْدِيرَ؛ تَقْدِيرَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ، بأن يجعل له قدرًا، وَتَقْدِيرَهُ قَبْلَ وُجُودِهِ.
فَإِذَا كَانَ قَدْ كَتَبَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ قَدْرَهُ الَّذِي يَخُصُّهُ فِي كَمِّيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْكُلِّيَّاتِ دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ! فَالْقَدَرُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ الْقَدِيمَ وَالْعِلْمَ بِالْجُزْئِيَّاتِ.
الشيخ: وبهذا الشَّبه كرر الله علمه بكل شيءٍ، وكرر قُدرته على كل شيءٍ، ففي الآيات في القرآن الكريم ما لا يُحصى من الآيات: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]، وقوله سبحانه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45]، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، هذه الآيات وأشباهها لا تُبقي شبهة لمشبِّه.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَأَظْهَرَهُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ إخبارًا مُفَصَّلًا، فيقتضي أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلِمَ الْعِبَادَ الْأُمُورَ قَبْلَ وُجُودِهَا عِلْمًا مُفَصَّلًا، فَيَدُلُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ أَوْلَى بِهَذَا الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُعْلِمُ عِبَادَهُ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُهُ هُوَ؟!
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مُخْتَارٌ لِمَا يَفْعَلُهُ، مُحْدِثٌ لَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، لَيْسَ لَازِمًا لذاته.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ هَذَا الْمَقْدُورِ، وَأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّهُ يقدره ثم يخلقه.
قوله: (فَوَيْلٌ لِمَنْ صَارَ لله تعالى في القدر خصيمًا، أحرى للنَّظر فيه قَلْبًا سَقِيمًا، لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا، وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ أَفَّاكًا أثيمًا).
س: عندنا في بعض الكتب يقول: (فويلٌ لمَن صار قلبه في القدر قلبًا سقيمًا، لقد التمس ..)؟
ج: ............
اعلم أنَّ الْقَلْبَ لَهُ حَيَاةٌ وَمَوْتٌ، وَمَرَضٌ وَشِفَاءٌ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِمَّا لِلْبَدَنِ، قَالَ تَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] أَيْ: كَانَ مَيِّتًا بِالْكُفْرِ فَأَحْيَيْنَاهُ بِالْإِيمَانِ.
فَالْقَلْبُ الصَّحِيحُ الْحَيُّ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْبَاطِلُ وَالْقَبَائِحُ نفر منها بِطَبْعِهِ وَأَبْغَضَهَا، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، بِخِلَافِ الْقَلْبِ الْمَيِّتِ، فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، كَمَا قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : "هَلَكَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْرِفُ بِهِ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ".
الشيخ: وأصل هذا الأثر أنه قال له بعضُ الناس: يا أبا عبدالرحمن: هلك مَن لم يأمر بالمعروف وينهَ عن المنكر، فقال: "هلك مَن لم يعرف قلبه المعروف ويُنكر المنكر".
فلا بدَّ أولًا من كون الإنسان يعرف المعروف ويُنكر المنكر بقلبه، ثم ينتج عن هذا بعد ذلك الأمر والنَّهي، فإنَّ الأمر والنَّهي لا يكون إلا عن بصيرةٍ، وعن علمٍ، وعن هُدًى، فإذا كان القلبُ حيًّا نيرًا بالعلم والإيمان عرف المعروفَ وأنكر المنكر بما جعل الله فيه من القوة الإيمانية والبصيرة، وإذا كان جاهلًا لم يجز له أن يتقدم بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؛ لعدم وجود الأساس، وهو المعرفة بالمعروف والمعرفة بالمنكر، فإذا كان القلبُ سقيمًا لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، فكيف يأمر وينهى صاحبه؟!
لا يجوز له أن يأمر وينهى على غير علمٍ، على جهالةٍ، والله جلَّ وعلا بيَّن أنَّ الناس في ظلمةٍ وموتٍ، هذه حال الناس؛ أموات ليس عندهم بصيرة ولا نور إلا مَن رُزق البصيرة بما جاء به النبيُّ ﷺ، وقبله، واهتدى، فهذا هو الحي النَّير المهدي، أما مَن فقد هذا الوحي فإنه لا نورَ عنده، ولا حياةَ عنده؛ ولهذا قال : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ بدخوله في الإسلام، وقبوله الحقّ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يعني: بالوحي وما جاء به المصطفى ﷺ من القرآن والسنة: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] يعني: كالذي في الظُّلمات -ظلمات طبعه وجهله- لا سواء، هذا على نورٍ وعلى بصيرةٍ وعلى صراط مستقيمٍ، وذاك على غير هدًى، وفي ظلمةٍ دامسةٍ، لا يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، فالكافر ميت وحياته بالإسلام، وفي ظلمةٍ ونوره بما في القرآن والسنة.
ومن هذا الباب قوله جلَّ وعلا في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52]، فجعل الوحي روحًا ونورًا، فالروح يحصل به الحياة، والنور يحصل به البصيرة والعلم: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا يعني: من وحينا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، فجعل القرآن والسنة روحًا، ومَن لا روحَ فيه فهو ميت، فالروح القرآن والسنة، الوحي المنزل على الرسول ﷺ من السماء هذا هو الروح، فمَن قبله وآمن به واهتدى به صار حيًّا بعد الموت، وإذا تبصر وعلم وتفقه صار له نور بعد الظلمة، فالحياة والنور في قبول ما جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام، والأخذ به، والتَّفقه به، والظلمة والموت في ضدِّ ذلك وخلاف ذلك.
فما أولى المسلم وما أحق الإنسانية بأن تُشغل بهذا الأمر، وتنتبه لهذا الأمر، فجميع أنواع الإنسان وأنواع الجنّ وصنوفهم كلهم في ضلالٍ، كلهم في موتٍ، كلهم أموات في ظلماتٍ، فلا حياةَ لهم، ولا نور لهم، ولا بصيرة إلا بقبول الحقِّ الذي جاء به نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، والأخذ به، والتَّفقه فيه والتبصر، حتى يحصل لك بذلك الروح، يعني: الحياة الطيبة، وحتى تحصل له البصيرة في هذا النور، ومن هذا قوله جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24]، فالحياة الكاملة فيها النور والهدى، فالحياة بما جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام، الحياة بهذا الوحي، بهذا الإيمان، بهذا القرآن والسنة، والرسول دعا الناس إلى ما فيه حياتهم ونورهم ونجاتهم وهداهم، ودعاة الكفار يدعونهم إلى بقائهم في الموت، وبقائهم في الظلمة، ومن هذا قوله جلَّ وعلا: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، فالحياة الطيبة بالإيمان والنور والهدى والاستقامة، فمَن عمل الصَّالحات التي جاء بها المصطفى عليه الصلاة والسلام عن إيمانٍ، وعن قبولٍ للحق، وعن هدى، صارت له الحياة الطيبة في الدنيا وفي الآخرة، ومَن فاته هذا النور، وفاتته هذه الروح؛ بقي في ظلمته وجهالته وموته إلى أن ينقل من هذه الدار إلى دار الهوان ودار الجحيم، نسأل الله العافية ..........
الطالب: قال: لا أعرفه.
الشيخ: معروف، لكن لا أذكر الآن مَن رواه.
وَكَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمَرِيضُ بِالشَّهْوَةِ، فَإِنَّهُ لِضَعْفِهِ يَمِيلُ إِلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، بِحَسَبِ قُوَّةِ الْمَرَضِ وَضَعْفِهِ.
وَمَرَضُ الْقَلْبِ نَوْعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ: مَرَضُ شهوةٍ، ومرض شبهةٍ، وأردؤها مَرَضُ الشُّبْهَةِ، وَأَرْدَأُ الشُّبَهِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْقَدَرِ.
وَقَدْ يَمْرَضُ الْقَلْبُ وَيَشْتَدُّ مَرَضُهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ صَاحِبُهُ.
الشيخ: مرض الشَّهوة مرض أهل المعاصي: كالزنا والخمور، هذا مرض الشَّهوات، ومرض الشُّبهة مرض أهل البدع والكفر؛ لأنه نشأت بدعهم عن شكِّهم وريبهم وقلَّة علمهم.
وصاحب الشهوة أقرب إلى الهدى، وأقرب إلى التَّوبة، وصاحب مرض الشُّبهة أبعد، وهو المراد بقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة:10] يعني: أهل النِّفاق، نسأل الله العافية، وأما مرض الشهوة فالمذكور في قوله جلَّ وعلا: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] مرض الميل إلى النِّساء.
الشيخ: وهذه مصيبة عظيمة، فالإنسان قد يموت قلبه، قد يمرض ولا يشعر، الإنسان قد يموت قلبه، قد يقطع عليه، قد يسود عليه ولا يشعر؛ لأنه في غفلةٍ وصدودٍ وإعراضٍ، لا يُفكر في شيءٍ ينفعه في الآخرة، قد يكون كثير الجراحات، مثقلًا بالجراحات، مُثخنًا بالجراحات ولا يفطن، في عماه، وفي ظلمته من المعاصي الكثيرة المتراكمة، قد اسودَّ قلبُه بسببها، ولا يشعر بذلك؛ لأنه سكران في الشَّهوات، والسَّكران في الشَّهوات المحرمة أعظم من سكر الخمر؛ لأنَّ سكر الخمر يفيق صاحبُه بين وقتٍ وآخر وينتهِي، لكن مَن سكر بالشَّهوات والإقبال على الدنيا في الغالب لا يفيق إلا في عسكر الموتى، مع أهل النار، نسأل الله العافية، عندما يكون في قبره ويمسّه العذاب.
س: قوله: وعقائد باطلة؟
ج: على جهله.
فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ تَأَلَّمَ بِوُرُودِ الْقَبِيحِ عَلَيْهِ، وَتَأَلَّمَ بِجَهْلِهِ بالحقِّ بحسب حياته، ومَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلَامُ.
وَقَدْ يَشْعُرُ بِمَرَضِهِ، وَلَكِنْ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ تَحَمُّلُ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا، فَيُؤْثِرُ بَقَاءَ أَلَمِهِ عَلَى مَشَقَّةِ الدَّوَاءِ، فَإِنَّ دَوَاءَهُ فِي مُخَالَفَةِ الْهَوَى، وَذَلِكَ أَصْعَبُ على النَّفْسِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْفَعُ مِنْهُ، وَتَارَةً يُوَطِّنُ نَفْسَهُ عَلَى الصَّبْرِ، ثُمَّ يَنْفَسِخُ عَزْمُهُ وَلَا يَسْتَمِرُّ مَعَهُ؛ لِضَعْفِ عِلْمِهِ وَبَصِيرَتِهِ وَصَبْرِهِ، كَمَنْ دَخَلَ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٍ مُفْضٍ إِلَى غَايَةِ الْأَمْنِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ عَلَيْهِ انْقَضَى الْخَوْفُ وَأَعْقَبَهُ الْأَمْنُ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى قُوَّةِ صَبْرٍ وَقُوَّةِ يَقِينٍ بِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ، وَمَتَى ضَعُفَ صَبْرُهُ وَيَقِينُهُ رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَتَحَمَّلْ مَشَقَّتَهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ عَدِمَ الرَّفِيقَ وَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَيْنَ ذَهَبَ النَّاسُ؟! فَلِي أُسْوَةٌ بِهِمْ! وَهَذِهِ حَالُ أكثر الخلق.
الشيخ: هذا الكلام كله من كلام ابن القيم، ساقه المؤلفُ من كلام ابن القيم.
الشيخ: ومن هذا الباب قول بعض السلف: لا تستوحش من الحقِّ لقلة السَّالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وأبلغ من هذا قوله في الحديث الصحيح: والنبي ومعه الرَّجل والرَّجلان لم يستوحشوا، بعض الأنبياء ما يتبعه إلا رجل واحد، لم يستوحش، بل صبر على الحقِّ، بعضهم ما تبعه إلا رجلان، وكل قومه أبوا وردُّوا عليه ما جاء به، فهذان الرجلان لم يستوحشا، بل صبرا على الحقِّ وثبتا عليه حتى لقيا ربهما .
وهكذا في آخر الزمان في غُربة الإسلام؛ قد يكون الإنسانُ في بعض القرى أو في بعض القبائل ليس معه مُرافق، بل هو على الحقِّ وحده، فينبغي له الصبر، ويجب عليه التَّصبر، فإذا تيسر له الانتقال والهجرة إلى محلٍّ آخر أحسن من محلِّه فعل ذلك.
ومن هذا الباب قول النبي ﷺ لحذيفة لما قال: وهل بعد هذ الخير من شرٍّ؟ قال: نعم، دُعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها؛ لأن حذيفة قال: كان الناس يسألون عن الخير وكنتُ أسأل عن الشرِّ مخافة أن يُدركني، فقلت: يا رسول الله، كنا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير –يعني: الذي معك- فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال النبيُّ ﷺ: نعم، قلت: يا رسول الله، فهل بعد ذلك الشرِّ من خيرٍ؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتُنكر، قلت: يا رسول الله، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال: بعد هذا الخير الذي فيه دخن، وهو التَّغير، قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: قوم من جلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا، يعني: من العرب دعاة على أبواب النار، من الشيوعيين والاشتراكيين، وغيرهم من الإباحيين وأشباههم من دُعاة النار، قلت: فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، وهذا يشمل كل جماعةٍ، أي جماعةٍ من المسلمين في أي مكانٍ يلزمهم صاحبُ الحقِّ إذا وجدهم، ويلزم إمامهم –أميرهم- ولو كانوا قليلين في أي مكانٍ، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ يعني: ما وجدتُ أحدًا: لا جماعة: ولا إمامًا، ما وجدتُ أحدًا، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، يعني: جميع فرق الضَّلالة، ولو أن تعضَّ على أصل شجرةٍ حتى يأتي الموت وأنت على ذلك.
أمره أن يلزم الحقَّ ولو كان وحده، ولو خالفه الناسُ كلهم، وهذا واضح في لزوم الحقِّ، ومن هذا قول عمرو بن ميمون، عن ابن مسعودٍ: "الجماعة ما وافق الحقَّ وإن كنتَ وحدك".
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ فِي كِتَابِ "الْحَوَادِثُ وَالْبِدَعُ": حَيْثُ جَاءَ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، فَالْمُرَادُ لُزُومُ الْحَقِّ وَاتِّبَاعُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَمَسِّكُ بِهِ قَلِيلًا، وَالْمُخَالِفُ لَهُ كَثِيرًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وأصحابه، وَلَا نَنْظُرُ إِلَى كَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ بَعْدَهُمْ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: السُّنَّةُ -وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ- بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي، فَاصْبِرُوا عَلَيْهَا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ كَانُوا أَقَلَّ النَّاسِ فِيمَا مَضَى، وَهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ فِيمَا بَقِيَ، الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبُوا مَعَ أَهْلِ الْإِتْرَافِ فِي إِتْرَافِهِمْ، وَلَا مع أهل البدع في بدعتهم، وَصَبَرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ حَتَّى لَقَوْا رَبَّهُمْ، فَكَذَلِكَ فكونوا.
وَعَلَامَةُ مَرَضِ الْقَلْبِ عُدُولُهُ عَنِ الْأَغْذِيَةِ النَّافِعَةِ الْمُوَافِقَةِ إِلَى الْأَغْذِيَةِ الضَّارَّةِ، وَعُدُولُهُ عَنْ دَوَائِهِ النَّافع إلى دوائه الضَّار.
فهاهنا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: غِذَاءٌ نَافِعٌ، وَدَوَاءٌ شَافٍ، وَغِذَاءٌ ضَارٌّ، وَدَوَاءٌ مُهْلِكٌ.
فَالْقَلْبُ الصَّحِيحُ يُؤْثِرُ النَّافِعَ الشَّافِيَ عَلَى الضَّارِّ الْمُؤْذِي، وَالْقَلْبُ الْمَرِيضُ بِضِدِّ ذَلِكَ. وَأَنْفَعُ الْأَغْذِيَةِ غِذَاءُ الْإِيمَانِ، وَأَنْفَعُ الْأَدْوِيَةِ دَوَاءُ الْقُرْآنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ الْغِذَاءُ وَالدَّوَاءُ، فَمَنْ طَلَبَ الشِّفَاءَ فِي غَيْرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْجَاهِلِينَ وَأَضَلِّ الضَّالِّينَ.
الشيخ: وهذا شيء واضح، فإنَّ الجسم الصحيح يطلب ما يُلائمه، والمريض كذلك يطلب ما يُلائمه، فالمرض الحقيقي والصحة الحقيقية ما يتعلق بالقلوب، فإذا استقام القلبُ وصحَّ انتفع بالدواء المناسب، وإذا مرض بالكفر والنِّفاق والمعاصي والسّيئات صارت له أغذية أخرى تُناسبه مما يضرّه ولا ينفعه، فالغذاء النافع الملائم للقلب الصحيح غذاء الإيمان والتَّقوى والهدى والصلاح، ودواؤه النافع لما قد يقع له من انحرافٍ دواء القرآن والسنة، وما فيهما من الأوامر والزَّواجر، فإذا انحرف صار يتغذَّى بما يضره، ويتداوى بما يضرّه، ثم يتغذَّى بالخبائث، ويتداوى بالسموم وأنواع المضار؛ فيجني على نفسه ويضرها من حيث يظن أنه ينفعها ويُعطيها ما يُلائمها.
فأولى للمؤمن وأولى بعبد الله الذي يريد النَّجاة أن يُعنى بالغذاء الشرعي، الغذاء النافع، الذي يُقوي الإيمان في القلوب، ويُوجد أسباب السَّعادة من خوف الله ومُراقبته وتعظيم حُرماته والأُنس بذكره وطاعته، ويتعاطى الأدوية الشَّرعية التي تمنع من الشرِّ: من ذكر الله، وقراءة القرآن، والإقبال على طاعة الله، والاستغفار من الذنوب، والتوبة النصوح؛ حتى تُمحى عنه تلك الأدواء، ويحذر ما يضرّ قلبه من الكفر والنِّفاق وسائر المعاصي والسّيئات، فإنها أمراض خطيرة، وبعضها أشد من بعضٍ، وغذاؤها بالمزيد منها، نعوذ بالله، ودواؤها الضَّار أن يتداوى بما يزيدها شرًّا وقوةً في إهلاكه من المعاصي والسيئات وصُحبة الأشرار والأخذ بآرائهم الفاسدة، والإعراض عن الدَّواء النَّاجع المفيد.
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]، وَقَالَ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، و"من" فِي قَوْلِهِ: "مِنَ الْقُرْآنِ" لِبَيَانِ الْجِنْسِ، لَا لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].
فَالْقُرْآنُ هُوَ الشِّفَاءُ التَّامُّ مِنْ جَمِيعِ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَأَدْوَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يُؤَهَّلُ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِهِ، وَإِذَا أَحْسَنَ الْعَلِيلُ التَّدَاوِيَ بِهِ، وَوَضَعَهُ عَلَى دَائِهِ بِصِدْقٍ وَإِيمَانٍ وَقَبُولٍ تَامٍّ، وَاعْتِقَادٍ جَازِمٍ، وَاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ؛ لَمْ يُقَاوِمِ الدَّاءُ أَبَدًا، وَكَيْفَ تُقَاوِمُ الْأَدْوَاءُ كَلَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ الَّذِي لَوْ نَزَلَ عَلَى الْجِبَالِ لَصَدَّعَهَا، أَوْ عَلَى الْأَرْضِ لَقَطَّعَهَا؟!
فَمَا مِنْ مَرَضٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ سَبِيلُ الدِّلَالَةِ عَلَى دَوَائِهِ وَسَبَبِهِ وَالْحَمْيَةِ مِنْهُ لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا فِي كتابه.
وَقَوْلُهُ: (لَقَدِ الْتَمَسَ بِوَهْمِهِ فِي فَحْصِ الْغَيْبِ سِرًّا كَتِيمًا) أَيْ: طَلَبَ بِوَهْمِهِ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْغَيْبِ سِرًّا مَكْتُومًا، إِذِ الْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، فَهُوَ يَرُومُ بِبَحْثِهِ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26- 27] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَوْلُهُ: (وَعَادَ بِمَا قَالَ فِيهِ) أَيْ: فِي الْقَدَرِ (أَفَّاكًا) كَذَّابًا (أَثِيمًا) أَيْ: مَأْثُومًا.
الشيخ: يعني: إذا قال في القدر بما يُخالف الشرعَ المطهر، هذا المقصود، يعني: أراد بهذا التماس الغيبيات، أو أراد بذلك خلاف أمر الله: من نفي القدر وإنكاره، كما تفعله المعتزلة والقدرية النُّفاة، أو أراد بالقدر إثبات جبرة العبد، وأنه لا مشيئةَ له ولا اختيار، كما تقوله الجبرية، فالمراد بهذا مَن رام بالقدر شيئًا يخالف أمر الله، فإنه يعود بهذا أفَّاكًا أثيمًا، كذَّابًا آثمًا، أما مَن رام في آيات القدر وأحاديث القدر بيان الحقِّ والهداية إليه، فهو يعود بهذا مأجورًا مُوفَّقًا مهديًّا، قد وافق ما ينبغي، وأُرشد إلى ما ينبغي، فيكون بهذا مأجورًا، وقد عاد بخيرٍ كثيرٍ، وأجرٍ عظيمٍ؛ لكونه دلَّ على الخير، وأرشد إليه، وأخذ بالحقِّ وثبت عليه.
الشيخ: لا إله إلا هو في الوسطى؟
الطالب: نعم.
الشيخ: تكلم عليه بشيءٍ؟
الطالب: لم يتكلم بشيءٍ.
الشيخ: الحديث في "الصحيحين" بلفظ: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لَا إِلَهَ إِلَّا الله رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ قد تكون روايةً.
الطالب: قال: متفق عليه. هنا في نهاية الحديث: متفق عليه من رواية عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
س: كثفه؟
ج: كثف بالثاء والفاء، يعني: غلظ، وزنًا ومعنًى، وزنًا بالثاء، هذا الظاهر، وما رأيناها مضبوطة كما ينبغي، حتى أحمد شاكر فإنه ذكرها هكذا، وما وقف على المضبوط، لكن هذا هو مقتضى اللغة، ومعنى كثف: غلظ، ومتن، وثخانة.
الشيخ: يقال: كثف يكثف كثافةً، وكثيف يعني: غليظ.
ثُمَّ فوق ذلك ثمانية أوعال، بين ركبهن وأظلافهنَّ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
الشيخ: ويحتمل كَثْف -بفتح فسكون- بالصرف الميزاني، يحتمل، مثلما يقال: ضخم زيد، فهو ضخم، قد يحتمل هذا: غلظ فهو غليظ، يقال: جسم هذا غلظ كذا وكذا، فهو بين كَثف وبين كِثف، كثف بمعنى: غلظ، وبين كثيف، كلها جاءت بها اللغة، والمعنى مُتقارب.
الطالب: علَّق عليه قال: ضعيف الإسناد.
الشيخ: الحديث اختلف الناسُ فيه: فمنهم مَن حسَّنه كالذَّهبي رحمه الله، وجماعة حسَّنوه، وجماعة ضعَّفوه؛ لأنه من طريق عبدالله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، بعضهم زعم أنَّ عبدالله مجهول، وبعضهم حسَّن حديثه، والمعتمد فيه أنه حسن الحديث، وله شواهد، إنما الغريب فيه هو جعل الأوعال فيه، أما المسافات فله شاهد من حديث ابن مسعودٍ موقوفًا عليه بإسنادٍ جيدٍ، وهو بين الحسن والضَّعف ...........
س: الحديث حسن، من باب الحسن لغيره؟
ج: نعم، من باب الحسن لغيره.
س: إنما جاء ما يتعلق بالأوعال؟
ج: الزيادة هذه محل استنكار بعض أهل العلم؛ لأنه انفرد بها عبدالله بن عميرة، عن الأحنف، عن العباس، فالحديث يدور عليه.
الطالب: علَّق عليه: قال: ضعيف الإسناد، ولا يصح في أطيط العرش حديث.
الشيخ: هذا محل نظر؛ لأنَّ جماعةً من أهل العلم حسَّنوه أيضًا، وهو من رواية جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، وجبير هذا مقبول، وله شواهد من حديث: أطَّت السماءُ وحُقَّ لها أن تئطَّ؛ ما فيها موضع أربع أصابع ..، فالعرش لا يمتنع أن يئطَّ، وليس هناك مانع، والله ليس بحاجةٍ إليه ، لكن السند ليس بذاك.
وصنَّف ابن عساكر كتابًا سمَّاه "الأغلاط والتَّغليط -أو نحو هذه العبارة- في بطلان حديث الأطيط"، مؤلف مُستقل، والحديث سنده ليس بذاك؛ لأن جبيرًا ما هو مشهور بالرواية، ولا معروف بالثِّقة، ومداره عليه، أظنه قال في "التقريب": مقبول.
ووجه النَّكارة فيه أنه سبحانه ليس بحاجةٍ إليه، فكيف يئط؟! والأطيط يكون من الثِّقل، والله ليس بحاجةٍ إليه ولا إلى غيره، هو الذي أقام العرش: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25]، هو الذي أقام كل شيءٍ ، وهو في غنى عن كل شيءٍ، وليس بحاجةٍ إلى شيءٍ من خلقه ، فاستنكروا هذا، لكن العبرة بالسند، إذا صحَّ السندُ فلا وجهَ للاستنكار؛ لأنه لا مانعَ من أطيط مع الغنى.
الطالب: جبير بن محمد بن جبير بن مطعم مقبول، من السادسة (د).
الشيخ: هذا هو مداره عليه.
س: لكن وجه الشاهد من حديث أطَّت السماء أليس هذا متعلقًا بالملائكة؟
ج: بلى، لكن وإن كانت السَّماوات أعظم شيءٍ إحكامًا وقوةً فكونها تئطّ أو كون العرش يئطّ لا مانع؛ لأنَّ الله جلَّ وعلا هو الذي أمسكها ، وأطيطها لا يمنع من كونها ممسكة، عظيمة، قوية، الله أمسكها جلَّ وعلا، وليس يدل على أنَّ هذا ممتنع، فهي أطت كما أنها قوية ممسكة، فالعرش كما أنه ممسك قوي قد يئط من تعظيم الله، من خوف الله؛ لكبريائه، لا لأنه محتاج إليه، بل تئط من خوفها، ومن تعظيمها لله، والعرش من تعظيمه لله، من خجله، لا شكَّ في ذلك، الإنسان قد يتحرج، قد يرتعد، لا عن ثقلٍ عليه، ولكن لتعظيم وخجل، أو لأمرٍ آخر من الأمراض العارضة، فالعرش مخلوق من المخلوقات قد يئط لأسبابٍ كثيرةٍ، لا للثَّقل، ولا للحاجة. فإذا استقام السندُ فلا حاجةَ إلى التأويل.
س: أيش معنى الأطيط؟
ج: الأطيط هو الاهتزاز والحركة لثقل ما عليه، أو من رعدةٍ، أو من خوفٍ، أو من نحو ذلك، قريب من معنى الصَّرصرة، إذا حمل الإنسانُ شيئًا من الثِّقل، مثل: الشداد والمسامة وأشباهها، قد تكون لها حركة وصوت من ثقل ما عليها.
والسَّقف الضَّعيف كذلك إذا وُضعت عليه الأشياء الثِّقال.
وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ.
يُرْوَى: "وَفَوْقَهُ" بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: وَسَقْفُهُ.
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْعَرْشَ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ: الْفَلَكَ الْأَطْلَسَ، وَالْفَلَكَ التَّاسِعَ. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ لَهُ قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا قَالَ ﷺ: فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي...
.........
وَأَمَّا الْكُرْسِيُّ: فَقَالَ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة:255]، وَقَدْ قِيلَ: هُوَ الْعَرْشُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِ.
رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ "صِفَة الْعَرْشِ"، وَالْحَاكِمُ فِي "مُسْتَدْرَكِهِ"، وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّهُ قَالَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
الطالب: علَّق عليه: صحيح موقوفًا، وأما المرفوع فضعيف كما بيَّنتُه في تخريج كتاب "ما دلَّ عليه القرآنُ مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان" للألوسي، وقد طبعه المكتب الإسلامي.
الشيخ: لكن هذا قد يُقال فيه: إنه مما لا يُقال بالرأي، فله حكم المرفوع، وقد يقال: إنَّ هذا مما تلقاه عن بني إسرائيل من كتبهم، فإنَّ القول بأنه موضع القدمين يحتاج إلى نصٍّ صريحٍ ثابتٍ عن النبي ﷺ لا يحتمل، وأما هذا الأثر فمحتمل: قد يكون من أخبار بني إسرائيل، وليس من كلام النبي ﷺ، وليس مما سمعه ابن عباس، فإنَّ الله جلَّ وعلا فوق العرش بالنصوص القطعية، والكرسي تحت البحر الذي فوقه العرش، فيحتاج إلى نصٍّ صريحٍ صحيحٍ يدل على ما ذكره، وإلا فهو محل نظرٍ، ومحتمل أن يكون مما تلقاه عن بني إسرائيل، كما تلقى عبدالله بن عمرو أشياء كثيرة من أخبارهم.
س: .............؟
ج: كتاب الألوسي "ما دلَّ عليه القرآنُ مما يُعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان"، رأيته قديمًا، بيَّنْتُ فيه أغلاط الهيئة في دوران الأرض، ودوران الشمس حولها، نبَّهتُ على هذا، وذكرتُ شيئًا في الردِّ على مَن قال بدوران الأرض، كُتيب جمعناه وطبعناه، ذكرنا فيه الأدلة النَّقلية والحسية على سكون الأرض، وعلى دوران الشمس حولها، دوران الشمس، والألوسي تبعهم في هذا ونقل كلامهم .......، وتعليق الشيخ ناصر عليه ينفع كثيرًا؛ لما ذكر فيه من الأحاديث والآثار.
............
وَقَالَ السُّدِّيُّ: (السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ أبو ذرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ.
وَقِيلَ: "كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ"، وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمَحْفُوظُ عَنْهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ إِلَّا مُجَرَّدُ الظَّنِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ جِرَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ، كَمَا قِيلَ فِي الْعَرْشِ، وَإِنَّمَا هُوَ -كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ- بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ كَالْمَرْقَاةِ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْعَرْشِ وَمَا دونَه، محيطٌ بكل شيءٍ وفوقه، وَقَدْ أَعْجَزَ عَنِ الْإِحَاطَةِ خَلْقَهُ).
س: هل يكفي هذا الأثر عن ابن عباسٍ في إثبات أنَّ الكرسي موضع القدمين؟
ج: ما يكفي، الذي أعتقده أنه ما يكفي؛ لأنَّ هذا ليس بصحيحٍ ولا صريحٍ عن النبي ﷺ، وأما قول ابن عباسٍ هذا لا يكفي؛ لأنَّ هذا من الصِّفات -صفات الله جلَّ وعلا- ما يكفي فيها إلا نصٌّ من القرآن والسنة، ثم كلام ابن عباسٍ محتمل أن يكون مما قاله تابعًا فيه النبي ﷺ، ويحتمل أنه مما تلقاه عن بني إسرائيل، ومع الشك لا يثبت هذا.
س: .............؟
ج: مثلما قال جلَّ وعلا في الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة:255]، والكرسي الله أعلم بصفته وكيفيته، وهو مخلوق عظيم دون العرش، قال جماعة: إنه العرش، والصحيح عند أهل السنة أنه غير العرش.
س: ولا يثبت أنه موضع القدمين؟
ج: يحتاج إلى دليلٍ، الجزم بأنه موضع القدمين محل نظرٍ.
............
يحتاج إلى دليلٍ؛ لأنَّ المقام هذا مقام عظيم.
س: من المعلوم أنَّ الصحابة أعلم الناس بالكتاب والسنة، فكيف يتلقون عن بني إسرائيل؟
ج: قد تلقوا كثيرًا من أخبار الآخرة وأخبار الجنة وأخبار النار، وأخبار السَّماوات، وأخبار الأرض؛ لقول النبي ﷺ: حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
س: يُعمل بكلام .......؟
ج: أخبار بني إسرائيل على أقسامٍ ثلاثة:
- قسم وافق الكتاب والسنة فيُقبل.
- وقسم خالف الكتاب والسنة فيُطرح.
- وقسم لم نجد شيئًا يدل على مُوافقته أو مُخالفته؛ فيكون مما يُحكى ولا يُصدق ولا يُكذب، مثلما قال: حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ولا تُصدِّقوهم، وفي الحديث الآخر: ولا تُصدِّقوهم ولا تُكذِّبوهم، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [العنكبوت:46].
وهذا عند أهل العلم، إلا الشيء الذي دلَّ شرعنا على تصديقه أو تكذيبه، فالذي لا يُصدَّق في هذه الأمور هو الشيء الذي ما عندنا فيه دليل على صدقه أو كذبه، وبهذا تكون أخبارهم ثلاثة أقسام، كما نصَّ على هذا أبو العباس ابن تيمية وابن كثيرٍ وغيرهما.
س: اليهودية -أحسن الله إليك- التي قالت لعائشة: تعوذوا بالله من عذاب القبر. يدخل في هذا؟
ج: ...........
س: قوله: "سقف المخلوقات" في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: أنَّ الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فهو في كتابٍ، فهو عنده فوق العرش؟
ج: ......، ولكن لا يُنافي الكاتب عنده فوق العرش.
س: بالنسبة لعنده فوق العرش؟
ج: جزئي، مُستثنى من العموم .....، النص مُقدَّم على كلام السلف.
الطالب: قال الحافظ ابنُ حجر: بأن "فوقه" هنا بمعنى: دونه، كما قال الله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26] أي: فما دونها.
الشيخ: ..... أهل التفسير اختلفوا: فَمَا فَوْقَهَا يعني: الدَّواب التي فوقها، وما دونها: ما هو أصغر منها .......
الشيخ: وهذا يعمُّه قوله: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت:54]، وقوله سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8] إلى غير ذلك، فإنه هو الذي أمسك السَّماوات، وأمسك الأرض، وأقام الجميع: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25]، والسماء: كلّ ما علا وارتفع.
والعرش مما سما، والكرسي مما سما، فهو الذي أقام الجميع : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا [فاطر:41]، فهو الممسك لها، والقيم لها، والحامل لها بقُدرته العظيمة : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وهو الغني الكامل بذاته عن كلِّ ما سواه.
س: تفصيل هذا ........؟
ج: استنباطهم هذا من النصوص العامَّة؛ لأنَّ أهل البدع زعموا أنَّ هذا يلزم، فنفوا علوه واستواءه على العرش؛ لئلا يلزم من حاجةٍ إلى هذه الأشياء، وهذا باطل، لا يلزم منها شيء، لا يلزم أن تكون محيطةً به، ولا أن يكون محتاجًا لها، ولا أن تكون حاويةً له في جوفها، لا يلزم هذا كله؛ ولهذا قال ابنُ المبارك: "نعرف ربنا بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه" يعني: منفصل.
وَنُفَاةُ الْعُلُوِّ -أَهْلُ التَّعْطِيلِ- لَوْ فَصَّلُوا بِهَذَا التَّفْصِيلِ لَهُدُوا إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَعَلِمُوا مُطَابَقَةَ الْعَقْلِ لِلتَّنْزِيلِ، وَلَسَلَكُوا خَلْفَ الدَّلِيلِ، وَلَكِنْ فَارَقُوا الدَّلِيلَ، فَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] وغيرها: كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: "الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ".
وَيُرْوَى هَذَا الْجَوَابُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ.
الشيخ: وهكذا قال ربيعة ابن أبي عبدالرحمن أيضًا، شيخ مالك رحمه الله.
الطالب: قال: لا يصح، والصواب: موقوف على مالك، أو أم سلمة، والأولى أشهر.
الشيخ: والمشهور عن مالكٍ، ولكنه محفوظ عن أمِّ سلمة وعن ربيعة أيضًا من كلامهما.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَفَوْقَهُ"، وَفِي بعض النسخ: "محيط بكل شيء فوقه" بحذف الواو مِنْ قَوْلِهِ: "فَوْقَهُ".
وَالنُّسْخَةُ الْأُولَى هِيَ الصَّحِيحَةُ، وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
وَمَعْنَى الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَهَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَسْقَطَهَا بَعْضُ النُّسَّاخِ سَهْوًا، ثُمَّ اسْتَنْسَخَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ تِلْكَ النُّسْخَةِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَرِّفِينَ الضَّالِّينَ أَسْقَطَهَا قَصْدًا لِلْفَسَادِ، وَإِنْكَارًا لِصِفَةِ الْفَوْقِيَّةِ! وَإِلَّا فَقَد قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: "مُحِيطٌ" بمعنى: مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فَوْقَ الْعَرْشِ -وَالْحَالَةُ هَذِهِ- مَعْنًى!
الشيخ: يعني ما يبقى له معنى على ما بينا من أنَّ العرش سقف المخلوقات، ليس فوقه شيء يُحيط به، بل الله هو العالي فوق العرش، لكن القصد من هذا الكتاب الذي كتبه عنده سبحانه، هذا نصَّ عليه الرسولُ ﷺ، فقد ثبت في "الصحيحين" أنَّ الله كتب كتابًا عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي سبقت غضبي فهذا يُستدل به على العموم.
إِذْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَرْشِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مَا يُحَاطُ بِهِ، فَتَعَيَّنَ ثُبُوتُ الْوَاوِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
أَمَّا كَوْنُهُ مُحِيطًا بِكُلِّ شَيْءٍ، فقال تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت:54]، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126].
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِحَاطَتِهِ بِخَلْقِهِ أَنَّهُ كَالْفَلَكِ، وَأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ دَاخِلُ ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: إِحَاطَةُ عظمته، وسعة علمه وقُدرته، وَأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَتِهِ كَالْخَرْدَلَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: "مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إِلَّا كَخَرْدَلَةٍ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ".
وَمِنَ الْمَعْلُومِ -وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى- أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا إِذَا كَانَ عنده خردلة، إن شاء قبضها وأحاط قَبْضَتَهُ بِهَا، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا تَحْتَهُ، وَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ مُبَايِنٌ لَهَا، عَالٍ عَلَيْهَا، فَوْقَهَا من جَمِيعِ الْوُجُوهِ، فَكَيْفَ بِالْعَظِيمِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِعَظَمَتِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ؟! فَلَوْ شَاءَ لَقَبَضَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْيَوْمَ، وَفَعَلَ بِهَا كَمَا يَفْعَلُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَجَدَّدُ بِهِ إِذْ ذَاكَ قُدْرَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا الْآنَ، فَكَيْفَ يَسْتَبْعِدُ الْعَقْلُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَدْنُو سُبْحَانَهُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ؟ أَوْ يُدْنِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَمَنْ نَفَى ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي رُؤْيَةِ الرَّبِّ تَعَالَى: فَقَالَ لَهُ أَبُو رَزِينٍ: كَيْفَ يَسَعُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ وَاحِدٌ وَنَحْنُ جَمِيعٌ؟! فَقَالَ: سَأُنْبِئُكَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي آلَاءِ اللَّهِ: هَذَا الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، كُلُّكُمْ يَرَاهُ مُخْلِيًا بِهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، وإذا أفل تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
الشيخ: .......... يعني إذا أفل -أي القمر- مع سعته ومع عمومه الأرض واستوى عن الأرض، واطلع عليه الناسُ كلهم، وهو مخلوق من مخلوقات الله، ومن صغير مخلوقات الله ، فإذا أفل غاب عن الناس في آخر الشهر أو عند الغيم، فما للرب المطلع على كل شيءٍ، ويعلم كل شيءٍ، ومحيط بكل شيءٍ أعظم وأكبر.
هذا القمر الذي هو نير عن الشمس النّيرة العظيمة، إذا أصابها شيء من سحابٍ أو غيره ذهب هذا النور، أو كان عند غروبها هكذا عند وجود آفةٍ بها، مع عظمها بالنسبة إلى غيرها من المخلوقات الصغيرة؛ دلَّ ذلك على أنَّ لله دليلًا سبحانه، فهو يعلم كل شيء، ويطلع على كل شيء، ولا تخفى عليه خافية فوق ذلك وأعظم من ذلك .
الطالب: علَّق عليه: قال: ضعيف، وقول ابن عبد البر: "رويناه من وجوهٍ صحاحٍ" فيه نظر؛ فقد قال الذَّهبي في "العلو" مُعقبًا عليه: رُوي من وجوهٍ مرسلةٍ. ثم ذكرها. التَّعليق بعده: قال: ضعيف الإسناد فقط.
الطالب: طبعة شاكر فيها تعليق أيضًا: قوله هذا معنى جزء من حديث طويل رواه عبدالله بن أحمد في "مسند الإمام أحمد"، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"، ونسبه إليه وإلى الطبراني وقال: وأحد طرقي عبدالله إسنادها متَّصل، ورجالها ثقات. انتهى.
الشيخ: علَّق عليه عندك؟
الطالب: قال: ضعيف الإسناد فقط.
الشيخ: ظاهرة طرقه كما قال الهيثمي، وأظنه من طريق وكيع بن عدس، ووكيع وإن كان غير مشهورٍ، لكن صاحب "التقريب" قال فيه -كما أظن- أنه مقبول، والظاهر أنَّ له كلامًا، وابن القيم تكلم عليه في "حادي الأرواح" أو "إعلام الموقعين" في الهدي.
وقول الشيخ ناصر في "الصحيحة": "صحيح"، أو في "الضعيفة": "ضعيف" من كتبه، لا يعني أن يُؤخذ هذا مُسلمًا، فطالب العلم لا بدَّ أن يُراجع ويعتني، مثلما إذا ضعف الحافظُ ابن حجر وغير الحافظ أو الهيثمي، لا يُؤخذ كلامهم على الإطلاق، فكل واحدٍ له أوهام، وله أغلاط فيما يحكم عليه؛ تارةً يهم ويغلط في التَّصحيح، وتارةً يهم ويغلط في التَّضعيف.
فينبغي لطالب العلم أن لا يأخذه مُسلَّمًا إذا نقله عن هؤلاء: الحافظ ابن حجر أو الهيثمي أو غيرهما، أو الشيخ الألباني من باب أولى، لا بدَّ أن يكون طالبُ العلم عنده همَّة فوق ذلك، يُراجع ما ذكروا، ويُراجع في الأصول المعتبرة حتى تتبين له الحقيقة، فقد يُوافقهم، وقد يُخالفهم؛ لأنَّ الأدوات معروفة، ومصطلح الحديث معروف، وأسباب التَّصحيح والتَّضعيف معروفة، فلا بدَّ من العناية.
الطالب: وكيع بن عدس -بمهملات وضم أوله وثانيه، وقد يُفتح ثانيه، ويقال بالحاء بدل العين- أبو مصعب العقيلي -بفتح العين- الطائفي، مقبول، الأربعة.
س: نُراجعهم فيما يُضعفون من الأحاديث؟
ج: تراجع الأصول المعتبرة التي خرجت الحديث وروت الحديث، تُراجع حتى يعرف أصل الحديث: هل هو صحيح أو ضعيف أو الذي حكم عليه بالصحة أو الضعف قد وهم؟
س: لكن الغالب على الشيخ ناصر التَّساهل أو التَّشدد في حكمه على الحديث؟
ج: تارةً، وتارةً، تارة يتساهل، وتارة يتشدد، تارة يتساهل في التصحيح والتضعيف، وتارة يتشدد، والطريقة فيها بعض النَّظر.
وقد يحكم الإنسانُ على الحديث بما في ظنِّه، ويكون بعيدًا عن مُراجعة الطرق، ويحكم على الحديث بما في ظنِّه، ثم بعد المراجعة لو راجعه لاتَّضح له عدم صحَّة ما قال.
وَأَمَّا كَوْنُهُ فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ: فَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وَقَالَ ﷺ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ: وَالْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَقَدْ أَنْشَدَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ شِعْرَهُ الْمَذْكُورَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَقَرَّهُ عَلَى مَا قَالَ، وَضَحِكَ مِنْهُ.
الشيخ:
شهدتُ بأنَّ وعد الله حق | وأنَّ النار مثوى الكافرين |
وأنَّ العرش فوق الماء طافٍ | وفوق العرش ربّ العالمين |
الطالب: علَّق عليه وقال: إنه ضعيف. وقد تقدم قريبًا.
الشيخ: ظاهر كلام الشيخ ابن القيم صحّته.
س: علَّق حديث: والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله.
ج: ..........
الطالب: قال: ضعيف، وقول ابن عبد البر: "رويناه من وجوهٍ صحاحٍ" فيه نظر؛ فقد قال الذهبي في "العلو" مُعقبًا عليه: رُوي من وجوهٍ مرسلةٍ. ثم ذكرها.
الشيخ: كل هذا: لا كلام ابن عبد البر، ولا كلام الذهبي، ولا كلام الشيخ ناصر، طالب العلم يحكم عليه بميزانه.
وَكَذَلك أَنْشَدَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَوْلَهُ:
شَهِدْتُ بِإِذْنِ اللَّهِ أَنَّ مُحَمَّدًا | رَسُولُ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ مِنْ عَل |
وَأَنَّ أَبَا يَحْيَى وَيَحْيَى كِلَاهُمَا | لَهُ عَمَلٌ مِنْ ربِّه مُتقبل |
وَأَنَّ الَّذِي عَادَى الْيَهُودُ ابْنَ مَرْيَمٍ | رَسُولٌ أَتَى مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ مُرْسَلُ |
وَأَنَّ أَخَا الْأَحْقَافِ إِذْ قَامَ فِيهِمُ | يُجَاهِدُ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَيَعْدِلُ |
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَأَنَا أَشْهَدُ.
الطالب: علَّق عليه، قال: ضعيف، رواه ابن سعد في "الطبقات" بسندٍ ضعيفٍ ومُنقطعٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، وَفِي رِوَايَةٍ: تَغْلِبُ غَضَبِي. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ، قَالَ: بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَرَفَعُوا إِلَيْهِ رُؤُوسَهُمْ، فَإِذَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فَيَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شيءٍ من النَّعيم ما داموا ينظرون إليه.
الطالب: علَّق عليه: قال: ضعيف، وتقدم قول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "وإسناده جيد" غير جيدٍ؛ لما ذكرتُه هناك.
الشيخ: يُراجع، نظره إليهم سبحانه من فوقهم هذا ثابتٌ في الصحاح وغير الصحاح.
س: رواية ابن ماجه؟
ج: تُراجع، ما يكفي كلامه هنا، تُراجع رواية ابن ماجه.
س: وقال أحمد شاكر: "إسناده جيد" في هذا الموضع؟
ج: يُراجع السند، ........ التَّضعيف على حسب الأسانيد التي اطَّلع عليها العبد، فيقول: ضعيف بهذا السند، ..........
وَإِنْ تَجِدْ مَتْنًا ضَعِيفَ السَّنَدِ | فَقُلْ: ضَعِيفٌ أَيْ بِهَذَا فَاقْصِدِ |
وَلَا تُضَعِّفْ مُطْلَقًا بِنَاءً | عَلَى الطَّرِيقِ إِذْ لَعَلَّ جَاءَ |
فلا بدَّ من التَّحرز، فيُقال: إنه ضعيف بالنسبة للإسناد الذي عند ابن سعدٍ، أو بالنسبة للإسناد الذي عند أحمد، أو بالنسبة للإسناد الذي عند ابن ماجه، إلا إذا كان الرجلُ قد أحصى الأسانيد وتتبعها وخرَّجها، فهو محل الحكم عليه.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] بِقَوْلِهِ: أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، وَالْمُرَادُ بِالظُّهُورِ هُنَا: الْعُلُوُّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97] أَيْ: يَعْلُوهُ.
فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْأَرْبَعَةُ مُتَقَابِلَةٌ: اسْمَانِ مِنْهَا لِأَزَلِيَّةِ الرَّبِّ وَأَبَدِيَّتِهِ، وَاسْمَانِ لِعُلُوِّهِ وَقُرْبِهِ.
الشيخ: الأول والآخر يدل على أنه موجود دائمًا، وأنه لم يزل موجودًا ، وهكذا لا يزال موجودًا.
والظاهر: يدل على علوه وفوقيته، والباطن يدل على علمه الكامل وإحاطته بكل شيءٍ .
الطالب: علَّق قال: ضعيف، وتقدم.
الشيخ: تقدم لكم أنَّ هذا في إسناده جبير بن محمد، ليس بذاك المعروف، وإن قال الحافظُ فيه: مقبول. لكن المقام مقام عظيم، لا يُكتفى فيه بمثل هذا، وصنف ابنُ عساكر كتابًا سمَّاه "الأغلاط والتغليط في بطلان حديث الأطيط"، فالمقصود أنَّ إسناده ليس بذاك.
ولكن المعنى صحيح، المعنى: أنَّ الله فوق العرش، وعرشه فوق سماواته السبع، والعرش سقف المخلوقات وأعلاها، والله فوق ذلك .
بقي موضوع الاستشفاع بالله على خلقه، وأما الاستشفاع بالخلق على الله وكون المسلم يطلب من أخيه أن يدعو له، أو المسلمون يطلبون من إمامهم وخطيبهم أن يدعو لهم، فهذا لا إشكالَ فيه، وقد جاءت فيه النصوص عن النبي ﷺ، فالمعنى صحيح بدونه.
لكن الإشكال في قوله: يئط به أطيط الرَّحْل بالراكب، فإنه يُوهم لمن لا يفهم النصوص: أن الرب بحاجةٍ إليه، وأنه لو سقط لسقط ما عليه، من أطيطه، وهو الحركة والصوت من الثِّقل الذي فوقه.
ومعلوم أنَّ الله ليس بحاجةٍ إلى خلقه، حتى لو ما ثبت الأطيط، فقد يكون الأطيطُ ليس من الثِّقل، وليس من الحاجة، فقد يكون من جهة الخوف والتَّعظيم، كما يصير للإنسان عند رؤية مَن يحذره ويُعظمه رعشة ومخافة، وقد علم المسلمون قاطبةً بالإجماع أنَّ الله ليس بحاجةٍ إلى خلقه، وأنه هو الذي أقام العرش، وأقام السَّماوات، وأقام الأرض، كل هذا معلوم، ولكن الاعتبار بصحة الإسناد واستقامة الإسناد.
وأما أنه يُستشفع بالله على خلقه: فهذا هو الذي أنكره النبيُّ ﷺ، ولو صحَّ الحديثُ لكان الأمر واضحًا، وقد جاءت النصوص: مَن سألكم بالله فأعطوه، والسؤال بالله نوع من التَّشفع بالله، صحَّ من حديث ابن عمر: مَن سأل بالله فأعطوه، وفي قصة الأبرص والأقرع والأعمى في "الصحيحين": أسألك بالذي أعطاك البصر .. أعطاك اللون الحسن .. أعطاك المال، والسؤال بالله يُشبه الاستشفاع بالله، وتلك الأحاديث أصح منه وأثبت: حديث الأبرص والأقرع والأعمى .......
الشيخ: هذا صحيح، وهذا من جنس قصة زينب أيضًا وقولها: "زوَّجكنَّ أهاليكن، وزوَّجني الله من فوق سبع سماوات"، علو الله على سماواته واستواؤه على عرشه وارتفاعه فوق جميع خلقه هذا أمر مُسلَّمٌ ومُجمعٌ عليه بين أهل السنة والجماعة.
الطالب: علَّق عليه، قال: صحيح بدون قوله: فوق سبع سماوات، كذلك هو في "الصحيحين" و"المسند"، وأما هذه الزيادة فتفرد بها محمد بن صالح التَّمار كما في "العلو"، وقال: وهو صدوق. وفي "التقريب": صدوق يُخطئ. قلت: فمثله لا يُقبل تفرده، وإن صححه المؤلفُ وكذا الذهبي، وفي إثبات الفوقية أحاديث صحيحة تُغني عن هذا، وسيذكر المؤلفُ بعضها.
الشيخ: تُراجع الرِّوايات، فالذي أعرفه أنَّ هذه الزيادة ثابتة، المعلّق وهم.
أَخْرَجَهُ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ، وَأَصْلُهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ".
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَتَقُولُ: "زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ".
الطالب: علَّق عليه، قال: صحيح، وهو عند البخاري في "التوحيد" من حديث أنسٍ، قال: "فكانت زينب تفخر .." إلى آخره، فليس هو من "مسند زينب" نفسها كما يُفيده صنيع المؤلف رحمه الله.
الشيخ: يُراجع، قد تكون له طرق معروفة عند عمر، غير معروفة عند زيد، وكان الأولى بالمؤلف أن يحذف "صحيح من رواية البخاري ومسلم" .......
س: ما سبق أنَّ أحدًا استخدم مثل هذه العبارة: عند البخاري ومسلم؟
ج: ما أعرف، أقول: ما أتذكر ......
الطالب: علَّق عليه: ضعيف، أخرجه أبو سعيدٍ الدَّارمي في "الرد على الجهمية" من طريق أبي يزيد المدني عن عمر به، وقال الذهبي: وهذا إسناد صالح فيه انقطاع؛ أبو يزيد لم يلحق عمر. انتهى.
..........
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17]، قَالَ: "وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَقُولَ مِنْ فَوْقِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ".
وَمَنْ سَمِعَ أَحَادِيثَ الرَّسُولِ ﷺ وَكَلَامَ السَّلَفِ وَجَدَ مِنْهُ فِي إِثْبَاتِ الْفَوْقِيَّةِ مَا لَا يَنْحَصِرُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ لَمْ يخلقهم فِي ذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ خَارِجًا عَنْ ذَاتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ سُبْحَانَهُ بِفَوْقِيَّةِ الذَّاتِ، مَعَ أَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُخَالِطٍ لِلْعَالَمِ، لَكَانَ مُتَّصِفًا بِضِدِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ أَوْ مِنْ ضِدِّهِ، وَضِدُّ الْفَوْقِيَّةِ: السُّفُولُ، وَهُوَ مَذْمُومٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقَرُّ إِبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ وَجُنُودِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلْفَوْقِيَّةِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ نَفْيِهَا ثُبُوتُ ضِدِّهَا.
قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لِلْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا، فَمَتَى أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ ذَاتٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، غَيْرُ مُخَالِطٍ لِلْعَالَمِ، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ، لَيْسَ وُجُودُهُ ذِهْنِيًّا فَقَطْ، بَلْ وجُودُهُ خَارِجَ الْأَذْهَانِ قَطْعًا، وَقَدْ عَلِمَ الْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ كَذَلِكَ فَهُوَ: إِمَّا دَاخِلُ الْعَالَمِ، وَإِمَّا خَارِجٌ عَنْهُ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ إنكار ما هو أجلُّ وأظهر من الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّاتِ الضَّرُورِيَّةِ بِلَا رَيْبٍ.